رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الابتعاد عن الله عسى هذه أروع نتائج الخطية جميعاً، أنها تبعدنا عن الله، مع أن غاية الإنسان العظمى هي أن يعرف الله، وأن يكون على صلة شخصية مع الله، ولعل أهم ما يدّعيه الإنسان في انتسابه للنبل هو أنه خلق على صورة الله، ولذلك فانه قادر على أن يعرفه، ولكن الله الذي قُصد بنا أن نعرفه، والذي يجب أن نعرفه، إنما هو كائن أدبي، انه الإله الغير المحدود في كل كمالاته الأدبية فهو إله قدوس وطاهر وبارّ وهو "العليّ المرتفع الساكن الأبد القدوس اسمه" ( أشعياء 57: 15) "ساكناً في نور لا يُدنى منه.." (1 تيموثاوس 6: 16) وحقاً "إن الله نور وليس فيه ظلمة البتة" حتى "إن قلنا أن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق" (1يوحنا 1: 6، 5) "...إلهنا نار آكلة" (عبرانيين 29:12، تثنية 24:4) " ومن منّا يسكن في نار آكلة؟ من منّا يسكن في وقائد أبدية؟" (أشعياء 14:33) "وعيناك أطهر من أن تنظرا إلى الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور" (حبقوق 13:1). إن جميع رجال الله الأتقياء، الذين ورد ذكرهم في الكتاب المقدس، ممن رأوا مجد الله، ارتعبوا وتحيروا، شعوراً منهم بخطاياهم وهاكم موسى عندما ظهر له الله في العلّيقة التي تشتعل دون أن تحترق "غطّى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله" (خروج 3: 1- 6) وأيوب الذي كلّمه الله "من الزوبعة" بكلمات التعظيم لجلاله الأقدس صرخ قائلاً: "بسمع الأذن سمعت عنك، والآن فقد رأتك عيني.. لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد" (42 : 5- 6) وأشعياء وهو يقف على عتبة مستقبله النبوي، رأى الله الملك: "جالساً على كرسيّ عالٍ ومرتفع".. ورآه محاطاً بالملائكة الساجدين الذين تغنّوا بقداسته ومجده فقال: "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين لأن عيني قد رأتا الملك ربّ الجنود" (6 : 1- 5) وها حزقيال عندما رأى رؤياه الغريبة عن الحيوانات ذوات الأجنحة، والبكرات السائرة معها، وفوقها عرش، وعلى العرش شبه كمنظر إنسان، ومنظر نار ولها لمعان من حولها، كمنظر القوس التي في السحاب يوم مطر، رآه وقال " هذا منظر شبه مجد الرب" ثم أضاف قوله: "ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم" ( 1: 26- 28) وهاكم شاول الطرسوسي، في طريقه إلى دمشق وهو ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب والمسيحيين، سقط على الأرض عندا أبرق حوله بغتة نور من السماء في نصف النهار، أفضل من لمعان الشمس، وكتب فيما بعد عن رؤياه للمسيح المقام قوله: "وظهر لي أنا" (أعمال 9: 1- 9، 1 كورنثوس 15: 8) ويوحنا الشيخ وهو منفى في جزيرة بطمس يصف بتفصيل وإسهاب، رؤيا يسوع المقام والممجّد الذي "عيناه كلهيب نار..ووجهه كالشمس وهي تضيء في قوتها" ثم يردف قائلاً: "فلما رأيته سقطت عند رجليه كميت" (رؤيا 9:1- 17). ولو رفع الستار الذي يحجب جلال الله الذي لا يُنطق به، لو رُفع لحيظة لما قدرنا أن نحتمل منظره.. ورغم معرفتنا الضئيلة بطهارة وسمو مجد الله القدير، إلا أننا نعرف ما يؤكد لنا بأن الإنسان الخاطئ إذا ظلّ في خطاياه، فلن يقدر أن يدنو من الله القدوس وثمة هوة سحيقة قائمة بين الله في قداسته وبرّه، وبين الإنسان في خطيته وشرّه!! "لأنه أية خلطة للبر والإثم وأية شركة للنور مع الظلمة؟" (2كورنثوس 6: 14) ولعلّنا نرى كيف تفصلنا الخطية عن الله، في طريقة تصميم خيمة الاجتماع والهيكل، وكلاهما كان منقسماً إلى قسمين: أولهما وأكبرهما: هو القدس وثانيهما وأصغرهما: هو قدس الأقداس، حيث نور المجد الإلهي، وهو الرمز المنظور لحضور الله، وكان الحجاب يفصل بين الاثنين، وهو عبارة عن ستار كثيف يحجب قدس الأقداس، ولا يجوز لأحد أن يدخل إلى حضرة الله، سوى رئيس الكهنة، الذي يدخل مرّة واحدة في السنة، في يوم الكفارة العظيم بشرط أن يقدّم دم ذبيحة الخطية، وما كان يجري أمام الشعب قديماً، قام بتعليمه كتبة العهدين القديم والجديد فإن الخطية تفصلنا تماماً عن الله، ويسمي الكتاب هذا الانفصال بالموت "الموت الروحي" أو انقطاع النفس تماماً عن الله محييها "لأن أجرة الخطية هي موت" (رو 6: 23) وزد على ذلك، فإن النفس التي ترفض يسوع المسيح في هذا العالم، والذي فيه وحده تجد الحياة الأبدية، فإنها سوف تموت أبدياً في الدهر الآتي.. ولا يخدعنّكم أحد فإن جهنم حقيقة واقعة مرعبة، تكلم عنها يسوع نفسه، وأطلق عليها اسم "الظلمة الخارجية" (متى 25: 30) لأنها انفصال غير محدود، عن الله الذي هو نور - كما يسميها الكتاب المقدس "الموت الثاني" و"بحيرة النار" وهي عبارات تصف رمزياً، فقدان الحياة الأبدية، وعطش النفس المفجع الناتج عن ابتعاد النفس كلية من حضرة الله (رؤيا 20: 14 ، 15 ؛ قابل لوقا 16: 19 – 31). ولم يقتصر الكتاب المقدس وحده، على التعليم عن هذا الانفصال عن الله بسبب الخطية، ولكن اختبار البشر أنفسهم يثبت ذلك ولا أزال أذكر حتى الآن، مقدار ارتباكي وحيرتي وأنا ولد صغير، عندما وقفت أصلّي وحاولت أن اخترق إلى حضرة الله – وما استطعت أن أفهم لماذا ظهر الله كما لو كان محتجباً وراء السحب ولم أقدر أن أدنو منه وبدا كأنه بعيد عني كثيراً جداً، وقد عرفت السبب الآن لأن أشعياء أعطاني الجواب في قوله: "ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنه عن أن تسمع، بل آثامكم صارت فاصل بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع" (أشعياء 59: 1، 2) وقد نجرّب أن نقول لله كما جاء في مراثي أرميا (3: 44) "التحفت بالسحاب حتى لا تنفذ الصلاة". وحقيقة الأمر أن الله بريء من هذا السحاب، واللوم كله علينا، لأن خطايانا قد سترت وجهه عنا، كما تحجب السحب الشمس، وان كثيرين من الناس اعترفوا أمامي، بأنهم جازوا في مثل هذا الاختبار المقفر المؤلم أن في الحوادث الطارئة أو الخطر أو الفرح أو الإعجاب بالجمال فقد ظهر الله قريباً منهم، ولكنهم مراراً وتكراراً يحسّون بابتعادهم المرير عن الله، ولا يدرون لذلك سبباً، سوى أن نفوسهم متروكة وليس هذا مجرد شعور أو إحساس فقط، ولكنه حقيقة واقعة- وإلى أن تُغفر خطايانا وتُطهّر آثامنا، نظل غرباء وبعيدين- وتبقى نفوسنا هالكة ضالة وليس لنا شركة مع الله لأننا "أموات بالذنوب والخطايا" التي نرتكبها (أفسس 2: 1). هذا هو سبب قلق الناس في عصرنا الحاضر، ففي قلوب البشر جوع، لن يسده أو يشبعه سوى الله نفسه، وفي نفوسهم فراغ لن يملآه إلا الله وحده، ولعلنا نرى الدلائل التي تنبئ عن شدة قلق الإنسان، وافتقاره إلى عنصر الرضى والاكتفاء، فيما نراه بين سعي متواصل جرياً وراء الأخبار المثيرة العاطفية في الصحف، أو القصص الغرامية المتطرفة، أو الحوادث الإجرامية في دور السينما، أو في أعمدة التلفزيون المرتفعة إلى السماء وغيرها..وقد يكون بعض هذه الأشياء بريئاً في ذاته، لكنّ الخطر هو الإسراف والمبالغة في تقدير أهميتها، عند الملايين من البشر، يقلل من شعور الإنسان بعطشه نحو الله، وبانفصاله عنه تعالى، ولعل القديس أوغسطينوس كان على حق، في كلماته التي بدأ بها اعترافاته، وأكثر من تكرارها بين الفينة والفينة وهي: "لقد خلقتنا لنفسك، وستظل قلوبنا قلقة حتى تستريح في شخصك". يا له من موقف مفجع ومؤلم للغاية! لأن الإنسان لم يصب الهدف ولم يحقق المصير، الذي خلقه الله لأجله. |
|