مزمور 127 (126 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
عبادة الله باني البيت وحافظه
كانت أنظار اليهود في أورشليم تتركز على هيكل سليمان بكونه بيت الرب الذي ما كان يمكن تقديم ذبيحة مقدسة مقبولة لدى الله إلا فيه. كان الهيكل هو مركز العبادة المقدسة في العهد القديم، ومركز فرح وتهليل المؤمنين. لقد اشتهى داود النبي أن يبنيه، فأخذ وعدًا من الله أن يقوم ابنه ببنائه. لكن في الحقيقة الذي قام ببنائه وحفظ مدينة أورشليم التي تعتز بالبيت هو الله نفسه.
هكذا يشتاق المؤمن أن يعمل الله فيه، فيقيم هيكلًا جديدًا في قلبه، كبيتٍ إلهيٍ سماويٍ، ليس من عملٍ بشريٍ، بل هو عمل الله خلال مؤمنيه. الرب هو باني البيت الروحي وحافظه، وهو واهب الراحة والسلام، ومعطي البنين كجبابرة بأسٍ.
يدعونا الرب إلى خبرة الحياة السماوية، فجوهر العبادة هو إقامة بيت روحي للرب في القلب، فتتحرر أرض قلبنا من اللعنة، ولا تنبت شوكًا وحسكًا، بل تصير سماءً جديدة متهللة بالرب. إنه يعمل في النفوس الجادة غير المتكاسلة ولا مهملة ولا متواكلة، لكن يبقى الرب نفسه هو العامل فينا وبنا.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الحديث هنا يكشف عما حدث عند العودة من السبي إلى أورشليم، فقد وُجدت مقاومة شديدة، واستغرق بناء الهيكل الكثير من السنوات. هذا ما أشار إليه اليهود عندما قالوا: "في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل" (يو 2: 20) لم يتحدث اليهود هنا عن بنائه في أيام سليمان، وإنما في ذهن الذهبي الفم أنه عن بنائه بعد السبي، غير أن بعض الدارسين يرون الحديث هنا عن بنائه في أيام هيرودس. بني الهيكل في 46 عامًا، ويرى البعض أنه قد بدأ في أيام هيرودس حوالي عام 20/19 ق.م. فيكون قد انتهى البناء منه في حوالي 28 م. ويرى آخرون أنه قد بدأ هيرودس الكبير إعادة بنائه في السنة الثامنة عشر من ملكه[1] وانتهي من العمل الرئيسي في تسع سنوات ونصف، لكن تمت إصلاحات وإضافات للمبنى استمرت إلى سنوات طويلة. بدأ هيرودس العمل في السنة ١٦ قبل ميلاد السيد، والحديث هنا في السنة الثلاثين من ميلاده. فكأن عمر المبنى القائم ٤٦ عامًا. وقد استمر البناء بعد ذلك. موضحًا بذلك البناء الأخير للهيكل لأن بناءه الأول كمل على مدى عشرين سنة. وكأنه مع بداية خدمة المسيح كان اليهود في أكثر لحظات اعتزازهم بالهيكل المبني حديثًا.
1. الرب باني البيت وحافظ المدينة
1.
2. الرب واهب الراحة
2.
3. الرب واهب الأبناء الجبابرة
3-5.
من وحي المزمور 127
1. الرب باني البيت وحافظ المدينة
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِسُلَيْمَانَ
إنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ،
فَبَاطِلًا يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ.
إِنْ لَمْ يَحْفَظِ الرَّبُّ الْمَدِينَةَ،
فَبَاطِلًا يَسْهَرُ الْحَارِسُ [1].
تجسد كلمة الله وتأنس، لكي يحل بالإيمان في قلوبنا (أف 3: 17)، ينزع عن أرضنا الداخلية اللعنة، وعِوَض الشوك والحسك ينبت الحق (مز 85: 11). بقيامته بنى نفوسنا كهيكلٍ مقدسٍ له. ووهبنا روحه القدوس ساكنًا فينا. حقًا باني الكل هو الله (عب 3: 4)، و"نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع" (أف 2: 10).
كان اليهود يفتخرون ببناء الهيكل الذي شيده سليمان، وكان يُحسب أحد عجائب الدنيا السبع، ويراه اليهود أنه مركز الأرض كلها، مسكن الله وسط شعبه. أما ربنا يسوع فوجَّه نظرنا إلى قيامة جسده معلنًا أنه في ثلاثة أيام يقيمه (يو 2: 19-22).
لا يتجاهل ربنا يسوع تعب البنَّائين، لكنه يؤكد أنه لا يتحقق البناء بدونه. فبدون النعمة الإلهية تصير كل مجهوداتنا باطلة، وقد تكررت كلمة "باطل" ثلاث مرات في هذا المزمور الموجز.
الرب هو الخالق الذي وحده له القدرة على بناء بيته في أعماق قلوبنا، وبعنايته بنا يحفظنا كمدينته المقدسة، ويهبنا ثمار الروح القدس (الأولاد)، لكن ليس في حياة المستهترين والمتراخين.
بنى قايين مدينة باسم ابنه، وأراد البعض بناء برج بابل، وأحاط أهل أريحا مدينتهم بأسوار حصينة، لكن لأن كل هذه الأعمال بدون مسرة الله لم تدم. لهذا يقول المرتل: "إن لم يحفظ الرب المدينة، فباطلًا يسهر الحراس". المدينة هنا تشير إلى الجماعة الكنسية التي تحتاج إلى حماية إلهية من الشرور المتنوعة، والمخاطر التي تهددها، والناس الأشرار، لكن باطلًا يسهر الحارس إن لم يحرس الرب المدينة. فبمعزل عنه لا نجد عونًا ولا حماية ولا بركة.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله سمح بالمقاومة وامتدادها لمدة طويلة لكي يدرك الراجعون أنهم محتاجون إلى معونة الله حتى بعد تحررهم من السبي البابلي.
يرى القديس أغسطينوس أنه كما لا يستطيع الجسد أن يعمل بدون الروح، هكذا لا يستطيع الإنسان أن يعمل بدون نعمة الله، فهو الذي يبني البيت بنا ويحرس المدينة. ويقولالقديس يوحنا كاسيان بأن الآباء النساك الأولين يرون أن من مبادئ السيرة الروحية أنه من المُحال أن يقتني أحد نقاوة القلب أو كمال الفضيلة ما لم يؤمن أولًا بأن اجتهاده كله وأتعابه جميعها ليست بكافية فيما يطلبه، بل هي باطلة بدون معونة الله ونعمته، فهو وحده واهب الخير.
* مهما كنت أيها الراعي حذقًا ويقظًا في عملك، فلا يمكنك أن تنسب النجاح إلى خدمتك وإلى قوتك الشخصية واجتهادك في العمل. إذ أن الرب هو الذي يحفظ النفوس وحده، ونعمته تسهر عليها[2].
* "إن لم يحرس الرب المدينة فباطلًا سهِرَ الحراس" (مز ١٢7: ١)... إنَّنا نحرسكم في عملنا كوكلاء لله، لكنِّنا نحن أيضًا نود أن يحرسنا معكم.
إننا كما لو كنَّا رعاة بالنسبة لكم، لكنِّنا أيضًا في رعاية الله، إذ نحن خراف زملاء لكم.
إننا معلِّمون بالنسبة لكم، لكنِّنا بالنسبة لله فهو السيِّد الواحد، ونحن زملاء لكم في مدرسته.
إن أردنا أن يحرسنا الله الذي تواضع من أجلنا وتمجَّد لكي يحفظنا. فلنتَّواضع نحن أيضًا. فلا يحسب أحد أنه شيء، فإنَّه ليس لأحدٍ شيء صالح ما لم يكن قد أخذه من الله الذي هو وحده صالح.
* هذا هو البيت الذي نبنيه بالحياة الفاضلة الحية، والذي يبنيه الله بمعاونته لنا لكي نحيا في حياة فاضلة، إذ "إن لم يبنِ الرب البيت فباطلًا يتعب البناؤون" (مز 127: 1)[3].
* [عن (مز 127: 1) "إن لم يبن الرب البيت"]: مثل هذه البركة قد تكون فوق حدود اختيارنا، فإن قوة الرب هي التي تضع الأساس الذي يعمله البنّاء، وهي التي تعمل معه حتى الانتهاء منه، الأمر الذي لا يقوى على تنفيذه بنفسه... ذلك مثل الزراعة التي تأتي بمحصولٍ وفيرٍ، فتحقق ما هو تحت سلطان الزارع مثل مهارته في عمله، وما هو ليس تحت سلطانه معتمدًا على العناية الإلهية مثل وجود مناخ ملائم ونزول مطرٍ كافٍ. هكذا أيضًا بالنسبة للخير الذي يسعى لأجله الإنسان العاقل، فإنه يعتمد على أعماله ومجهوداته التي يقدمها بمحض اختياره، كما على القوة الإلهية التي تؤازر من يختار الحياة الأسمى هدفًا له. فإننا في حاجة إلى اختيارنا نحن مع المؤازرة الإلهية ليس فقط في تحقيق الكرامة والصلاح، وإنما للاستمرار فيهما[4].
* لاحظوا إننا نقول بأنه ليس شيء ما يتم بدون عنايته ولم نقل بدون إرادته؛ فقد تحدث أمور كثيرة بخلاف إرادته، لكن أمرًا ما لا يتم بدون عنايته التي بها يهتم ويوزع ويقسم الأنصبة، ويمنح ويتمم كل ما يحدث[5].
* نتعلم من هذا (مز 127: 1) أنه ليس لأن الله هو الذي يبني، يجلس الإنسان خاملًا، وأن الله يبني له البيت. وإنما لأنه يعمل ويهتم قدر إمكانياته البشرية، لكن الله يزيل كل العقبات ويتمم العمل. هكذا يدعى الإنسان للعمل قدر ما يستطيع في جديةٍ، لكن الله هو الذي يكلل العمل بالنجاح. لهذا يليق بالإنسان بحقٍ وفي تقوى أن يترك إتمام عمله لله، وليس لإنسانٍ بشريٍ آخر. على هذا بولس غرس، وأبولس سقى، والله هو الذي كان ينمي، إذ ليس الغارس شيئًا، ولا الساقي، بل الله الذي ينمي (1 كو 3: 6-7). بنفس الطريقة يمكننا القول إن هذا يعتمد لا حسب مشيئة إنسان أو جهاده إنما على مراحم الله[6].
* لِمَ تتألم، لأن لا بيت لنا ولا ستر ولا أناس؟ أليس من الأفضل لنا أن نسكن في باني بيتنا وبحراسة حارس بلدتنا؟ فإن لم يكن لداود موضع للراحة حتى وجده (وجد الله راحته)، فكيف نطلب نحن الراحة خارجًا عنه[7].
* لقد جعل الله كل مقاومة الشيطان في حدود استطاعة إرادة الإنسان وحريته، ولكنه لم يعطِ الإنسان قوة كاملة يستطيع أن يسيطر بها على انفعالاته النفسية وشهواته، لذلك قال: "إن لم يبنِ الرب البيت، فباطلًا يتعب البناؤون، وإن لم يحفظ الرب المدينة، فباطلًا يسهر الحارسون" (مز 1:127).
القديس أبا مقاريوس الكبير
* شرح الرب نفسه سبب عماده: "اسمح الآن، لأنه ينبغي لي أن أكمل كل برّ" (مت ٣: ١٥). من بين مراحمه الكثيرة بناؤه الكنيسة، فبعد الآباء والأنبياء نزل الابن الوحيد وجاء ليعتمد. هنا تظهر بوضوح الحقيقة الإلهية التي ذكرت بخصوص الكنيسة، وهي إن لم يبن الرب البيت فباطلًا تعب البناءون (مز 126: 1)، إذ لا يستطيع الإنسان أن يبني أو يحرس. "إن لم يحرس الرب المدينة، فباطلًا سهر الحراس". إني أتجاسر فأقول إنه لا يستطيع الإنسان أن يسلك في طريقٍ، ما لم يكن الرب معه يقوده فيه، كما هو مكتوب: "وراء الرب إلهكم تسيرون، وإياه تتقون" (تث ١٣: ٤)؛ "الرب يقود خطى الإنسان" (حك ١٢٠: ٢٤)[8].
* هذه الكلمات تبعث التواضع، وتستأصل الشر المستطير الذي هو الكبرياء، الذي جعل لوسيفر كوكب الصبح المنير يهوي ويسقط أرضًا[9].
* لم يكن البيت الذي بناه (سليمان) مؤمنًا (أي لم يحقق الإيمان) مثل الكنيسة التي هي الهيكل الحقيقي لله، لأنها لا تتكون من حوائط، بل من قلوب المؤمنين، أما هيكل سليمان فلأنه مبني بإيادٍ، فبالأيادي يسقط[10].
* يلزمنا أن نسأله، وله هو أن يهبنا ما نسأله إياه. علينا أن نبدأ، وهو يتمم. يليق بنا أن نقدم ما في استطاعتنا، ويتمم هو ما نعجز نحن عن أدائه. لأنه "إن لم يبن الرب البيت فباطلًا يتعب البناؤون، وإن لم يحفظ الرب المدينة، فباطلًا يسهر الحراس"، يأمرنا الرسول أن نجاهد حتى ننال[11].
* الذين يؤمنون أن الأمور البشرية تقودها العناية الإلهية لا ينسبون شيئًا تحقق بواسطة البشر إلى مجهودهم الذاتي. "إن لم يبن الرب البيت باطلًا يتعب البناءون. وإن لم يحرس الرب المدينة باطلًا يتعب الحراس" (مز 127: 1). إنه لا يقول إنه لا يجوز لأحدٍ أن يبني، أو لأي أحدٍ أن يحرس المدينة، بل يليق بهذا أن يتذكر بأنه إن لم يعطِ الله نجاحًا للمجهود المبذول، فإن كلًا من المجهود والذين يصارعون لأجله يصيرون بلا نجاحٍ. إنه من جانبنا لنا أن نبدأ، ولكن من جانب الله أن يهب النجاح. نحن نبدأ نبني البيت، والله يعيننا ويكمل العمل. نحن نحرس مدينتنا، ونراعي القرار بأن نحرسها، لكن الله هو الذي يحفظها دون أن تُدمر أو تُهزم من المعتدين عليها. هذا عبَّر عنه سفر الأمثال: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك" (أم 4: 23). مع هذا فإنك وإن كنت بنفسك تحفظ قلبك بك احتراسٍ، لكنك تقول لله: "أنت أيها الرب تحرسنا وتحفظنا" . هذا الفكر يؤكده بولس إذ يقول: "فإن ليس لمن يشاء، ولا لمن يسعى، بل لله الذي يرحم" (رو 9: 16). إنه لا يمنع الركوض نحو تحقيق أهدافنا في السعي وأن ترغب فيها، وإنما يمنعنا من أن نظن أننا نبلغها بمجهودنا الذاتي. كثيرون من الذين كان لهم هذا التوقع وُجدوا غير ناجحين في جهودهم[12].
كيف نتمسك بالوديعة ونحفظها؟ "بالروح القدس الساكن فينا[13]".
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس في قدرة نفس بشريّة أن تحفظ أمورًا عظيمة كهذه؛ لماذا؟ لأنه يوجد لصوص كثيرون يتربصون لها، وظلمة كثيفة، وشيطان على الأبواب يدبر خططًا ضدها! كيف إذن يمكننا أن نحفظها؟ بالروح القدس؛ بمعنى إن كان الروح ساكنًا فينا، إن كنا لا نطرد النعمة يقف (الله) معنا. فإنه "إن لم يبن الرب البيت فباطلًا يتعب البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلًا يسهر الحراس" (مز ١٢٧: ١). هذا هو حصننا، هذه هي قلعتنا. هذا هو ملجأنا! إن كان الروح ساكنًا فينا وهو حارسنا، فما الحاجة للوصية؟ لكي نتمسك بالروح، ولا نجعله يهجرنا[14].]
* لقد ذهب بولس إلى هنا وهناك كطائرٍ ذي أجنحة. وبفمٍ واحدٍ (بالتبشير) حارب ضد العدو... كان الخيام (بولس) أقوى من الشيطان... إذ نال العربون، وحمل خاتم الزواج.
رأى كل البشر الله قد خطب طبيعتنا، ورأى الشيطان ذلك وتقهقر. رأى العربون (الروح القدس) وارتعب منسحبًا، رأى ملابس الرسل فهرب (أع ١٩: ١١). يا لقوة الروح القدس. لقد أعطى سلطانًا لا للروح ولا للجسد فحسب، بل وللثوب أيضًا، وليس فقط للثوب بل وللظل[15].
2. الرب واهب الراحة
بَاطِلٌ هُوَ لَكُمْ أَنْ تُبَكِّرُوا إِلَى الْقِيَامِ مُؤَخِّرِينَ الْجُلُوسَ،
آكِلِينَ خُبْزَ الأَتْعَاب.
لَكِنَّهُ يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْمًا [2].
يترجمها البعض: "باطل هو أن تبكروا (قبل الفجر)"، لذا يرى البعض أنه يليق بالمؤمن ألا يتعجل الزمن، فلا يظن أنه يتمتع بالمكافأة وسط ظلمة الحياة الزمنية، إنما يترقب بزوغ فجر الأبدية، حيث يتمتع بالنور الأبدي، ويرى الله وجهًا لوجه. لنسلك برجاء في إشراق الأبدية، ونتمتع بشركة المجد الأبدي في حينه.
مسيحنا بقيامته في فجر الأحد وهبنا الحياة المُقامة، وهبنا الراحة الحقيقية، فهو يعطي حبيبه نومًا، ليس نوم الكسل والتراخي، بل يعني بالنوم الأمان والسلام الداخلي وعدم القلق. وقد نام الابن الحبيب الوحيد على الصليب كأسدٍ غالبٍ، محطمًا قوة الشيطان. كما نام أيضًا في السفينة وسط عاصفة ليهبنا سلامه وسط عواصف هذه الحياة.
باطلًا يتعب الإنسان إن ظن أنه قادر أن يتمتع بالراحة قبل قيامة رب المجد، وإشراق شمس البرّ علينا.
لقد أراد سمعان بطرس أن يبكر قبل قيامة المسيح، قائلًا: "إني أضع نفسي عنك"، فرفض السيد ذلك وحسبه باطلًا، قائلًا له: "اذهب عني يا شيطان" (مت 16: 23).
خلق الله الإنسان محبوبه ليشاركه مجده، وليكون في سلامٍ. هكذا يدعو المرتل الإنسان "حبيب الله".
* انهضوا من بعد جلوسكم، أي قوموا من بعد موتكم... لأن الرب قام عنا (بموته)، ثم قام ليعطينا أن نقوم على مثاله. بقيامته أعطانا عزاءً وراحة[16].
* لم ينهض الرب قائمًا من بين الأموات إلا بعد أن أعطى أحباءه نومًا، لأن هؤلاء الذين ماتوا كانوا على الرجاء، فجاء الرب وحقق رجاءهم بقيامته، وحوَّل موتهم إلى رقادٍ (نومٍ) سوف يعقبه يقظة أبدية، وهكذا نرقد على الرجاء[17].
* يمكننا أن نهرب من فخ هذا الرمح الأكثر شرًا، إذا كنا عندما نشعر بأننا أحرزنا نجاحًا أو تقدمًا في أية فضيلة نقول كلمات بولس الرسول: "لست أنا بل نعمة الله التي معي" "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا")1 كو 10:15)، و"أن الله هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل من أجل مسرته" (في 13:2). يقول ينبوع خلاصنا نفسه: "الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 5:15)، "وإن لم يبنِ الرب البيت فباطلًا تعِبَ البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة، فباطلًا يسهر الحراس، وباطل هو لكم أن تبكروا إلى القيام" (مز 1:127، 2)، "إذن ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل الله الذي يرحم" (رو 16:9)[18].
* عندما يعين الله، ماذا يعطي؟ يعطي نومًا عذبًا، وراحة، وحياة بلا مخاطر مملوءة أمانًا. فعندما يعطيهم نومًا يهبهم راحة. عندما يصد المهاجمين، لا يعطيهم فقط بناء المدينة، ولا حراستها، بل ينالون أكثر من هذا أن يصيروا والدين لأطفال كثيرين، وينالون بركاتً أسرية متزايدة[19].
3. الرب واهب الأبناء الجبابرة
هُوَذَا الْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ،
ثَمَرَةُ الْبَطْنِ أُجْرَةٌ [3].
كان العبرانيون يحسبون البنين بركة من قِبَل الرب: "مباركة تكون ثمرة بطنك" (تث 28: 4)، "ويزيدك الرب خيرًا في ثمرة بطنك" (تث 28: 11).
إن كان البنون حسب الجسد هم هبة من قبل الرب، فبالأكثر البنون الذين يتمتعون بنعمة التبني كأبناء لله هم عطية الرب.
* الكنيسة أيضًا أمنا الحبيبة تلد بنين صالحين. تأملوا كيف تلد. إنها تلد بالمعمودية التي هي رحم الكنيسة لكي كل من يريد أن يُولد من جديد يدخل بطن أمه ثانية ويولد منها. هذه المعجزة لم يقدر نيقوديموس معلم إسرائيل أن يفهمها[20].
القديس أغسطينوس
في رسالة لتعزية السيدة سالفينا Salvina في انتقال رجلها، استخدم القديس جيروم هذه العبارة، قائلًا لها: [عوض زوج واحد، تقبلتِ طفلين، وبهذا فإن عاطفتكِ تكون أكثر موضوعية عن قبل[21]].
كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ،
هَكَذَا أَبْنَاءُ الشَّبِيبَةِ [4].
إذ يقدم السيد المسيح روحه القدوس كسيفٍ خارج من فمه أو كسهمٍ إلهي يجعل من مؤمنيه حاملي روحه "كسهامٍ بيد جبارٍ، هكذا أبناء الشبيبة" [4].
يرى القديس أغسطينوس أن أبناء الشبيبة الذين هم كالسهام بيد جبارٍ، هم التلاميذ والرسل الذين صوبهم السيد المسيح حين أرسلهم مبشرين كالسهام، وشتتهم في كل الأرض. انطلقوا كأنهم قُذفوا بيد جبارٍ وهو الله. "إلى كل الأرض خرج صوتهم، وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم" (رو 10: 18). دُعوا أبناء الشبيبة، لأنهم كرزوا بروح القوة، ولم يُصبهم ضعف الشيخوخة حتى النفس الأخير، إذ كان الروح القدس يجدد مثل النسر شبابهم.
كما يرى القديس أغسطينوس أن هذا القدير (الجبار) الذي يطلق سهامه بيده نحو الأرض كلها هو المخلص نفسه الذي قيل عنه: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض مُلكًا لك" (مز 2: 8)
* كيف يمتد هذا المُلك، ويزداد في أقاصي العالم؟ لأنه: كسهامٍ بيد القدير (الجبار)".
تنطلق الأسهم من القوس، وكلما كانت اليد قوية تطير الأسهم إلى أماكن أبعد. أية سهامٍ أقوى من تلك التي للرب. فمن القوس أطلق رُسله. ولم يُترك موضع لم تنطلق إليه الأسهم بيدٍ قديرةٍ كهذه، ولم تبلغ إليها. لقد بلغت إلى أقاصي الأرض... الرسل أبناء الأنبياء كانوا مثل سهام في يد القدير. إذ هو القدير، فقد صوبها بيدٍ قديرة بلغوا إلى أقاصي الأرض[22].
القديس أغسطينوس
* السهام مرعبة، لكن ليس في ذاتها، وإنما عندما يمسك بها إنسان قوي، يقتل بها مهاجميه، هكذا يكون هؤلاء[23].
طُوبَى لِلَّذِي مَلأَ جُعْبَتَهُ مِنْهُمْ.
لاَ يَخْزُونَ بَلْ يُكَلِّمُونَ الأَعْدَاءَ فِي الْبَابِ [5].
كانت المحاكمات تُقام غالبًا عند باب المدينة. ولعله هنا يقصد باب الفردوس، كما يقول القديس جيروم[24]، حيث لا يُوجد ما يشتكي به العدو على المؤمنين الحقيقيين في الغردوس.
هؤلاء الذين كرزوا بروح القوة لم يخشوا المقاومة، بل كانوا يكلمون الأعداء في الباب. هذه كانت عادة الملوك الأقوياء الذين لا يخشون الأعداء، فمتى أُرسل إليهم سفراء من قِبَل الأعداء لا يسمحون لهم بالدخول من أبواب المدينة، بل يرسلون لهم من يلتقي بهم خارج باب المدينة.
الجعبة: هي وعاء توضع فيه السهام (إش 49: 2)، يحمله رماة السهام على ظهورهم، وفتحته إلى الكتف اليمنى متى كانوا مشاة. أما إذا كانوا في مركباتهم، فكانوا يعلقونها بجانب المركبة.
يرىالقديس أغسطينوسأنجعبة التلاميذ أو الرسل هي عقولهم المقدسة، والسهام هي كلمة الله، أما الأعداء فهم أعمال إبليس الشريرة والمقاومة لكلمة الله. كما يرى أن الذي يملأ جعبته أو رغبته منهم، هم الذين لا يشتهون العالم وغناه، وإنما يشتهون الإيمان الحي الذي يكرز به الرسل. أما الباب هنا فهو السيد المسيح الذي قال: "أنا هو الباب" (يو 10: 9)، الذين يقبلون كرازة الرسل يدخلون منه إلى المدينة، أما الذين يرفضون كرازتهم به فيبقون خارج المدينة، حتى يُغلق الباب.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أنه لا يليق بالمؤمن أن يسمح للأعداء، أي الأفكار الشريرة، أن تدخل إلى مدينته أي فكره أو قلبه، بل يقاومها قبل أن تتسلل إلى أعماقه.
* يرى الجامعة أن الثروات تُحفظ للشر بالنسبة لمن يقتنيها، لأن فقدانها يسبب له قلقًا عظيمًا للغاية وعدم سلام. بالحقيقة إنها تُفقد، لأنها تُترك هنا، وتصير بلا نفع للذي هو ميت. لهذا فإن الإنسان الميت قد شعر بقلقٍ من جهتها ولم يجد راحة. لقد ترك ما قد يسبب له خزيًا، ولا يقدر أن يأخذ معه ما لم يقدر أن يحفظه (لو 12: 20-21). إنه بعيد للغاية من ذاك الذي كُتب عنه: "طوبي للذي ملأ جعبته منهم. لا يخزون، بل يكلمون الأعداء في الباب" (مز 127: 5). ميراثه هو الرب، مكافأته هي نسل العذراء مريم، وهو يُمجد بالتسابيح الصادرة عن الحكمة[25].
* "طوبى للذين يملأون جعبتهم منهم"، بمعنى هذه هي المزايا التي لهم: قوة الجسد، ومهابة لا تُقاوم، وبركات عائلية، وأمان، وجمال المدينة، ونصرة، ونُصب تذكارية في الحرب. لهذا يعلن أيضًا طوبى لأولئك الذين يتمتعون بهذا الخير (الوفرة)، فإنهم يتسلحون ... إنهم لا يخفون وجوههم عن بصيرة أعدائهم، بل يذهبون للِّقاء معهم في شجاعة عظيمة بمظهرٍ سامٍ، وثقةٍ في تنظيم المعركة، لأن الله يؤكد مساعدتهم في كل هذه الطرق[26].
من وحي المزمور 127
لتقم هيكلك في محبوبك!
* من كان يظن أن هيكل سليمان بكل عظمته يُهدم؟
لكن ما يُبنى بالأيادي، بالأيادي البشرية يُهدم،
أما ما يبنيه رب الجنود،
فيتحدى الزمن، ويخلد إلى الأبد.
لتمد يدك، وتقيم هيكلك فيّ.
فلا يقدر عدو أن يقترب إليه،
ولا الزمن أن يحطمه.
* نزلت يا مخلصي إلى أرضنا.
لا لتردنا إلى جنة عدن المفقودة،
بل تقيم منا جنة روحية سماوية.
بروحك القدوس تقيم منا هيكلًا مقدسًا.
فيُسمع في داخلنا صوت الفرح والتهليل.
* ليحرسني روحك الناري،
ويقودني إلى ملكوتك الأبدي،
تدخل أيها المحبوب في قلبي العزيز جدًا لديك،
تقيم فيه وتستريح،
إذ تستريح أستريح أنا أيضًا بك وفيك،
تعطي حبيبك نوم الراحة الأبدية.
* بقيامتك حطمت الموت، ووهبتنا الحياة المُقامة.
جعلتنا أحباء لك، تهبنا الراحة الحقيقية.
صارت حياتنا سبتًا لا ينقطع.
مادمت في داخلنا، يحل سلامك علينا وفينا!
* أنت باني البيت وحارس المدينة.
نعمتك تعمل فينا وتحوط حولنا.
تصير كسور نارٍ، لا تقدر سهام العدو أن تخترقه.
* وهبتنا ثمر الروح كبنينٍ مباركينٍ،
أقمت منا شهودًا لك نجتذب نفوسًا إليك.
ويتذوق الكثيرون عذوبة البنوة لك.
* سكناك تحول بريتي إلى جنة مثمرة.
تمتلئ حبًا وفرحًا وسلامًا وصلاحًا.
يمتلئ قلبي كما عقلي بسهامك الجبارة.
تصير كلمتك الفعّالة قائمة في داخلي.
فلا يجرؤ عدو الخير أن يقرع باب قلبي!
* يقف إبليس وكل قوات الظلمة في خزي،
إذ لا موضع لهم فينا في حضورك، يا أيها القدوس!
لأنك وأنت الغيور مقيم فيّ!