الراهب القمص بطرس البراموسي
مفهوم الصوم
مفهوم الصوم الصحيح:
يختلف الكثيرين في فهم الصوم..
* فالبعض يركز على الممارسات الجسدية من ناحية الامتناع عن الطعام (الانقطاع).
* والبعض يركز على الامتناع عن بعض الأطعمة (الصوم النباتي).
* والبعض الآخر يركز على الممارسات الروحية فقط.
ولكن أفضلهم مَنْ يدمج كل هذه مع بعضها، ويفهم ويعي مفهوم الصوم بفهمه الصحيح.. فهيا بنا ندخل إلى العمق، لنرى ما هو مفهوم الصوم الصحيح.
الصوم هو العودة إلى حياة الفردوس الأولى
فعندما خلق الله آدم وحواء ووضعهما في الفردوس، كان طعامهما من الأطعمة النباتية، قائلًا لهم: "مِنْ جميعِ شَجَرِ الجَنَّةِ تأكُلُ أكلًا، وأمّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّر فلا تأكُلْ مِنها، لأنَّكَ يومَ تأكُلُ مِنها موتًا تموتُ" (تك2: 16-17).. ولم يوصهم أن يذبحوا حيوانات ويأكلوا لحومها.
وعاش آدم وحواء حسب هذه الوصية حتى أخطأوا، ووقعوا في معصية الله ومخالفة وصيته، وطُردوا من الجنة، وعاشوا هم ونسلهم على نفس هذه الأطعمة حتى فساد الأرض كلها، وإتيان الله بالطوفان على العالم في عهد نوح.
* بعد فناء البشرية الأولى الفاسدة وخروج نوح من الفلك، بدأ الله بالسماح له بأكل اللحوم.. "ولتَكُنْ خَشيَتُكُمْ ورَهبَتُكُمْ علَى كُل حَيَواناتِ الأرضِ وكُل طُيورِ السماءِ، مع كُل ما يَدِبُّ علَى الأرضِ، وكُل أسماكِ البحرِ. قد دُفِعَتْ إلَى أيديكُمْ. كُلُّ دابَّةٍ حَيَّةٍ تكونُ لكُمْ طَعامًا. كالعُشبِ الأخضَرِ دَفَعتُ إلَيكُمُ الجميعَ. غَيرَ أنَّ لَحمًا بحَياتِهِ، دَمِهِ، لا تأكُلوهُ" (تك9: 2-4).
* الإنسان الأول كان مخلوقًا نباتيًا، وحتى الحيوانات التي يطلق عليها الآن حيوانات مفترسة كانت تأكل العشب الأخضر والنباتات.. بدليل أنها عندما دخلت الفلك مع نوح كانت تأكل من نفس الأكل الذي كان يأكله نوح وبنوه.. "وأنتَ، فخُذْ لنَفسِكَ مِنْ كُل طَعامٍ يؤكلُ واجمَعهُ عِندَكَ، فيكونَ لكَ ولها طَعامًا" (تك6: 21).
* فبممارسة الصوم نكون قد رجعنا إلى صورتنا الأولى التي خُلقنا عليها، وهي الصورة النباتية.. نأكل نفس الأكل الذي كنا نأكله في الفردوس.. وبتهيئتنا لأجسادنا في فترات الصوم وأكلنا أكلًا نباتيًا نقترب من الفردوس الذي طردنا منه بسبب الأكل ومخالفة وصية الله.
تعالوا بنا نرى ما يقوله مار اسحق لنا عن هذه النقطة:
"إن أول قضية وُضعت على طبيعتنا في البدء كانت ضد تذوق الطعام.. ومن هذه النقطة سقط أول جنسنا، لذلك فإن أولئك الذين يجاهدون من أجل خوف الله يجب أن يبدأوا البناء من حيث كانت أول ضربة. مُخلِّصنا الصالح حينما أظهر نفسه للعالم عند الأردن ابتدأ من هذه النقطة.. فحينما اعتمد قاده الروح إلى البرية مباشرة، وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة، وكل الذين يريدون أن يتبعوا خطواته عليهم أن يضعوا أساس جهادهم على مثال عمله".
مفهوم الكنيسة عن الصوم:
الصوم هو حرمان عن بعض الأطعمة،
يتدرج حتى يصبح زهدًا اختياريًا.
وهذا ما تعلمه لنا الكنيسة.. وهو أن في بداية ممارسة أي "ممارسة روحية" تبدأ بما نُسميه (التغصب). ففي بداية ممارستنا للصوم يجب أن نحرم الجسد مما يتلذذ به، أو يرغب فيه، أو ما يفضله عن غيره.. ثم بعد ذلك يتدرج هذا الحرمان مع كل واحد منا إلى أن يصبح الإنسان ممتنعًا عن هذه الأطعمة رغبة ومحبة في الصوم، وأيضًا لأنه يصبح زاهدًا فيها بكامل إرادته.
الصوم ليس إضعافًا للجسد..
بل قمعًا وإذلالًا لإنعاش الروح.
فنحن نصوم ليس لكي نضعف الجسد ونهينه، أو نصل به إلى حالة لا يقوى على ممارسة الحياة، ويصبح الإنسان طريح الفراش بسبب ضعفه الجسدي بكثرة الصوم والإفراط فيه بدون إفراز وحكمة.. ولكن الصوم المصحوب بإرشاد أب الاعتراف يعتبر قمعًا لثورات الجسد، كما يقوم رجال الأمن بقمع أي ثورات ضد النظام أو السلام أو الأمن أو غيره.. هكذا الصوم يقمع تمرد الجسد على الروح.. فإذا لم نقمع هذه الثورة يتغلب الجسد على الروح وتضعف الروح، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى.. وهذا ما يجعلنا نضع الصوم من أهم الممارسات التي تنعش وتقوي الروح.