رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الرؤية المسيحية للجسد نحن لسنا افلاطونيين اي اننا لا نعتقد بوجود ماهية تدعى النفس خالدة بحد نفسها ومستقلة عن الجسد الذي رآه افلاطون مجرد قميص يرمى عند الموت لتخلد النفس آليا0 ولذلك كانت النفس عند هذا الفيلسوف الكبير تنتقل من جسد الى جسد0 هذه التجسدات المتتالية هي ما سمته العرب تقمصا0 نحن نعتقد بالإنسان كيانا كاملا قابلا للموت0 ولهذا لم يفصل الله بين الروح والجسد لما قال لآدم: "اما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها0 لأنك يوم تأكل منها موتا تموت" (تكوين 2: 17)0 هذا الإنسان الواحد وضع الله فيه نسمة حياة، عطية من نعمته0 فالجسد والنسمة لا فراق بينهما ولا عزل0 والحياة الإلهية تتسرب الى كل الكيان البشري0 وكل الوظائف النفسية والروحية مرتبطة بالجسد0 وما يسميه العهد القديم "نِفِش" بالعبرانية (وتصبح بالعربية نَفس)، انما يدل على هذا المركب النفسي-الجسدي الذي يدل على الكائن الحي وكل تعابيره0 اما لفظة "بشر" التي يستعملها العهد القديم فتدل على التراب وهذا ما يفرق جذريا الانسان عن الله0 هذا الجسد الترابي في العهد القديم ليس مركزا للخطيئة0 هذا اخذ يتسرب للفكر الديني عن طريق التأثير الهليني0 في سياق الجسد خلق الله الانسان ذكرا وانثى (تكوين 1: 27)0 في احدى روايتي الخلق الواردتين في سفر التكوين استل الله حواء من ضلع آدم ولكن الله هو الذي خلقها بعد ان أوقع على آدم سباتا عميقا وليس لآدم إسهام في ظهور حواء0 ان صورة الخلق هذه ما هي الا قصة تعليمية أراد فيها الكتاب ان يتكلم عن التجاذب الحاصل بين الرجل والمرأة0 ففي الزواج يحقق الرجل والمرأة كلاهما دعوتهما الإنسانية0 المرأة شبيهة بالرجل، يقول الكتاب ويترك الإنسان أباه وامه ليلتصق بامرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا اي كيانا واحدا0 وفي تراث الأنبياء واحدى ذراه نشيد الأنشاد يصبح الواقع الزوجي صورة عن علاقة الله بشعبه وفي العهد الجديد صورة عن علاقة المسيح بشعبه اي الكنيسة0 لا يتغيير مفهوم الجسد في العهد الجديد كما لا يتغير مفهوم الزواج كوحدة انسانية ولا يصير البدن ابدا مولدا للخطيئة0 ستستمر لفظة الجسد معبرة عن الكيان البشري جميعا حتى ان بولس الرسول لا يتصور في الحياة الأبدية وجودا بلا جسد0 لذلك طرح بولس هذا السؤال: "كيف يقام الأموات وبأي جسم يأتون" وعن الجسد يقول: "يُزرع جسما حيوانيا ويقام جسما روحانيا" حتى يصل الى التأكيد: "الانسان الاول (اي آدم) من الأرض ترابي0 الانسان الثاني (اي المسيح) الرب من السماء... وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس ايضا صورة السماوي" (راجع 1 كورنثوس الإصحاح الـ 15)0 فكما قام السيد من بين الأموات نورانيا غير قابل الفساد والموت سنقوم على مثاله نورانيين ونبقى هكذا الى الأبد"0 فالله يخلد النفس والجسد معا0 لا تستمر الذات الواحدة الا بهذا الجسد المستعاد0 هو ليس جسدا آخر، خلقا ثانيا من لا شيء0 انه الجسد المتحول بالنعمة0 هناك هيكلية ما كيانية تستضيء بالنور الإلهي كما استضاء جسد المسيح بالقيامة0 ان ايماننا بقيامة الأجساد هو التأكيد القطعي على ان جسدنا لم يكن هنا عابرا -ولو فني الى حين- او مضافا على النفس او دونها اهمية0 اتحادهما كان هنا سرا ويبقى سرا في الحياة الأبدية0 هذا التعليم ورثته الكنيسة ولهذا يقتبل الإنسان كله المعمودية ويُمسح جسمه بالميرون المقدس ويتغذى كل كيانه بجسد الرب ودمه0 ولهذا أتى تعليم آبائنا ورددت هذا رتبة الجناز في الكنيسة المارونية ان جسد المسيح الذي اخذه المؤمنون في هذه الدنيا هو الذي يقيم اجسادهم في اليوم الأخير0 لكون الجسد البشري اتحد بالمسيح هنا يبعثه المسيح في اليوم الأخير0 كل الكيان الانساني يغتذي بالمسيح هنا وهناك0 رب قائل ان بولس الرسول يبدو وكأنه يقيم تناقضا بين العنصر النفسي فينا والعنصر البدني كما في قوله: "الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد" (غلاطية 5: 17)0 هنا لا بد من التنويه ان بولس يستعمل كلمتين باليونانية مختلفتين نقلتا بلفظة واحدة في العربية الجسد0 فيقول "سوما" للدلالة على الجسد البيولوجي و"ساركس" للدلالة على حالة الانسان في الخطيئة0 فهو لم يقصد ان البدن يشتهي ضد النفس0 هذا لا معنى له ولا أساس عند انسان يأتي من الفكر العبري0 وكلمة روح عنده لا تعني النفس التي هي مبدأ الحركة في الانسان0 الروح وهي pneuma في اليونانية تعني حالة الإنسان الذي يعيش في نعمة الروح القدس (نفسا وجسدا معا) والجسد يعني الانسان كله الذي يحركه الشر0 فما من تناقض عند بولس بين الجسد والنفس ولكنه بين حالة القداسة وحالة الخطيئة0 وبهذا المعنى يتكلم يوحنا ايضا اذا قال: "الروح هو الذي يحيي0 اما الجسد فلا يفيد شيئا" (يوحنا 6: 36)0 بناء على هذا يكون الزواج مقدسا اذ يقول صاحب الرسالة الى العبرانيين: "ليكن الزواج مكرما عند كل واحد والمضجع غير دنس" (13: 4)0 وعندما يتذكر بولس في رسالته الى اهل افسس سفر التكوين عن الخلق يقول: "من اجل هذا يترك الرجل اباه واماه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحداً، حتى يصل الى تسمية الزواج سرا عظيما (5: 31و32)0 لا حاجة هنا الى التذكير بأن بولس في كلامه عن الكنيسة يسميها جسد المسيح في غير موضع كما يسمي القرابين جسد المسيح0 فلو كان الجسد البشري على شيء من الدنس بحد نفسه لما استعار هذه الكلمة ليتكلم عن الكنيسة او سر المناولة الإلهية0 هكذا سار الفكر الكنسي0 لا احتقار للجسد0 فقد وقفت الكنيسة منذ البدء -وتجلى هذا بنوع خاص عند القديس إيريناوس اسقف ليون في القرن الثاني- وقفت هذا الموقف0 فقد تصدى إيريناوس في كتابه ضد الهرطقات لبدعة الغنوصية او العِرفان وكانت تقول بأن الجسد سيء وموطن الظلام0 كما تصدت الكنيسة فيما بعد للمانوية التي علمت ثنائية الجسد والروح من حيث ان الاول سيء والثاني صالح0 لم تتعرف الكنيسة الى هذا الفصام بين الجسد والنفس0 وبقيت الكنيسة شديدة التكفير لبدعة البوغوميل bogomils وقد ظهرت في شرقي اوربا واخذت عنها بدعة الـ cathares في فرنسا وكانت هاتان البدعتان تحتقران الجسد0 وانبعث هذا التيار الخافض قيمة الجسد حتى احتقاره في روسيا0 ونشأ في كل هذه البدع نزعتان يتناقض ظاهرهما وهو ان كل بدعة كانت تبيح النسك الكامل او الفسق الكامل0 الحقيقة ان الغلو في التشديد وكذلك الاستهتار يجمعهما عنصر واحد وهو ان الجسد ليس بشيء0 فلكونها كذلك تهمله بتخطيه الكامل او باستعماله بلا حدود0 غير ان الكنيسة قبلت الرهبانية التي يعلو فيها الانسان جسده ولا يلغيه لكونه يريد ان يستبق الملكوت الآتي "حيث لا يزوجون ولا يتزوجون"0 والراهب لا يرى نفسه اقدس من المتزوجين0 فلهذا هبة ولذاك هبة0 وعلى كل منهما العفة0 هناك عفة رهبانية بمحاولة التخطي لاستعمال الجنس وفي الزواج عفة زوجية بمرافقة امرأة واحدة والاستعفاف عمن عداها وذلك مع محاولة عدم الاستغراق في الشهوة ورؤية المرأة على انها كيان كامل قادر على كل المواهب الروحية وعلى كمال التقديس ضمن الحياة الزوجية المقدسة0 والكنيسة ترفع من شأن الجسد لكونه شركة في العبادة0 انه ينتصب او يسجد وينحني امام الايقونة ويقبلها0 يشترك في العبادات بكل حواسه: يعطى مسحة المرضى بالزيت0 يأكل العنب المبارك في عيد التجلي في الكنيسة الارثوذكسية0 يتناول البيض المبارك في الكنيسة في الفصح0 يشم البخور0 يستمع الى الألحان وليس فقط الى الكلمات0 وفي بعض الكنائس يمارس الرقص الديني في حضرة الله0 يرسم المؤمن إشارة الصليب على جسده ويبارك الكاهن بالإشارة نفسها المؤمنين0 كل ذلك للدلالة على ان الجسد يصبح لغة في الكنيسة كما سيصبح لغة بين الرجل والمرأة في الحياة العائلية0 هكذا المصافحة او القبلة بين الأصدقاء0 هو لغة ايضا في الرقص الإيقاعي، موطن جمال في الرياضة البدنية الراقية0 ينكسر بالمرض ويعلمك التواضع0 يشيخ ويهديك الى الحلم والغفران للطائشين0 يتجعد الجبين فتفهم ان وجه الله وحده لا يزول واذا ارتضيت بالصبر انك عائد الى التراب يضمحل امامك المجد الباطل0 لك في نفس تائبة مطمئنة سمحاء ان تجعله سلما ترتقي بها الى السماء ولك في نفس فاسقة ان تنحدر به ونحدر به الى الجحيم0 يمكن ان يصبح بالنعمة هادئا كليا او ان يصير مطرح العاصفة0 الحقيقة ان الجسد ليس بشيء بلا قلب طهور والحقيقة ايضا ان لك ان تقرأ النور على وجوه القديسين |
29 - 05 - 2012, 05:41 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
..::| العضوية الذهبية |::..
|
موضوع جميل ربنا يباركك
|
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
هامان صورة للجسد: صورة واضحة للجسد في شراسته |
ما هى الرؤية المسيحية لخلق الكون ؟ |
الحشمة حسب الرؤية المسيحية الأصيلة |
الرؤية المسيحية للجسد |
الرؤية المسيحية للحياة |