الأحد الأول للصوم الكبير | أحد الاستعداد
** الأحد الأول للصوم الكبير. أحد الاستعداد. (مت 6: 20)
تركز الكنيسة في هذا الأسبوع على الاستعداد، وتتحدث عن الصدقة والصلاة والصوم كممارسات تقوية، وعن أبانا الذي في السموات، وعن عدم الاتكال على المال، والبعد عن الرياء والغش والعصيان (أش 1: 3).
فهدف الكنيسة هو العبادة بلا رياء، والعمل في خفاء، والاتكال على الله، والتوبة الإيجابية وأعمال البر، فنرى ملكوت الله وتتدفق فينا الحياة الإلهية.
نسمع المسيح نبع الحياة ينادينا لكي نجعل كل كنوزنا في السماء ويحذرنا من محبة المال، (لا تقدرون ان تخدموا الله والمال، لا تهتموا لحياتكم.. اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم.. فلا تهتموا بالغد).
ويجوز أن نسمى هذا الأسبوع "أبانا الذي في السموات"، حيث نشعر باهتمام الآب بنا، فلا نعود بعد نهتم بالعالم موجهين أنظارنا نحو السماء.. إن سبب الأمراض النفسية والعصبية والقلق والخوف والرعب من المستقبل، هو أن كنزنا في الأرض حيث قبض الريح.
وترفعنا الكنيسة لكي ننشغل بالسماء حيث كنزنا الحقيقي، فنرى الله ونحيا في أحضانه، بعيدًا عن كنوز الأرض التي يفسدها السوس وتتعرض للصدأ وطمع اللصوص، نحيا في عبادة (الصدقة في الخفاء -لقاء الصلاة والحب الداخلى- الصوم والنسك ببهاء وسرور) سماوية نقية نسمع فيها للمشورة الإلهية بأن السماء والأرض تزولان (مت 24: 35).
وتلفت الكنيسة أنظارنا إلى مراحم الله لنلتزم بها، وتطالبنا لنصالح خصمنا ونبعد عن المنازعات، وتكون طبيعتنا هي العطاء بسخاء كطبيعة داخلية تنبع عن حنين مستمر لنقل ممتلكاتنا إلى السماء فيتحول كنزنا إلى فوق.
والصوم هو وضوح الرؤيا ووضوح الهدف حتى لا يضيع العمر ولا تفنى السنين، بل نسعى نحو غايتنا السمائية وننشغل بأيدينا، ولأننا لا نقدر أن نعبد الله ونحب المال في ذات الوقت، لذلك قصدت الكنيسة في أحد الاستعداد أن تختار هذا الإنجيل لتسألنا عن سلامة الإيمان وسلامة القلب، وكل من لا يحترس لنفسه يكون نصيبه مع امرأة لوط، والغنى الغبي، وحنانيا وسفيرة، لذلك نصلى في مديحة الأحد (كونوا في المال زاهدين واتجروا في العشر وزنات ولا تسلكوا في الأمور بوجهين فالله يعلم ظاهرها وخافيها).
وتوصينا الكنيسة في إنجيل هذا الصباح بالتسليم (قال لا تهتموا بالغد بالمرة فالغد بشأنه يهتم، واطلبوا ملكوت الله وبره والباقي يزاد لكم ويتم).
وفيما نتجمع حول الكنز السماوي وطلب ملكوت الله، لابد أن نقتنى البصيرة الداخلية (العين البسيطة) التي تجعل الجسد نيرا، له هدف سماوي لا يتذبذب بين النور والظلمة (فلا تكونوا ذي لسانين والشرائع لا تحابوا فيها) فالعين يشبهها الآباء بالقائد إن سقط أسيرا ماذا ينتفع الجند بالذهب؟ وبربان السفينة الذي إن بدأ يغرق ماذا تنتفع السفينة بالخيرات التي تملأها؟!
والعين البسيطة هي التي لا تنظر في اتجاهين ولا تتضارب أهدفها بل يكون لها هدف واحد وفكر واحد بسيط وفريد غير منقسم ولا متذبذب، تلك العين البسيطة التي لا تعرج بين السماء والأرض لأن حب المال يجرى ورائه كثيرون، فيتسبب في بؤسهم واستعبادهم له، وكل من يخدمه (أي المال) يخضع للشيطان القاسي المهلك، ويصير مهلكا حينما يسحب القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه حيث ظلمة القلق والارتباط بشكليات العالم، فعوض الاهتمام بالحياة ذاتها ينشغل بالأكل والشرب، وعوض الاهتمام بالأبدية ينشغل بالعالم والأمور التافهة.
كفانا عروجًا بين الفريقين، ولنحيا في الكنيسة أمنا ساعيين نحو خلاصنا ولنردد مع القديس أغسطينوس شفيع التائبين "لقد خلقتنا يا رب متجهين إليك وستظل قلوبنا قلقة إلى أن تستريح فيك".. إنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
ولنتأمل الذين كان يذكرهم بولس الرسول بالخير، والآن يذكرهم باكيًا إذ أحبوا العالم الحاضر وغنى هذا الدهر وهم أعداء صليب المسيح،وينبهنا القديس يوحنا الرسول: من أراد أن يكون محبا للعالم فقد صار عدوا لله، ولكن إن أردتم أن تتعلموا احتقار أباطيل العالم. اسألوا إبراهيم أب الآباء الذي كان يمتلك خيرات كثيرة ولكنه كان يرفع وجهه إلى اله السماء وينظر إلى الميراث الأبدي والمدينة التي لها الأساسات.
اسألوا داود النبي الذي لم تشغله مهام الملك، ولا هموم الغنى عن شركته الحقيقية مع الله، وكان يسأل ويلتمس أن يسكن في بيت الرب ويتفرس في هيكله المقدس.
اسألوا الرسل الحواريين الأطهار الذين تركوا كل شيء وحسبوه نفاية وخسارة من أجل فضل معرفة المسيح، وصاروا كفقراء، ولكنهم يغنون كثيرين، وكأن لا شيء لهم وهم يملكون كل شيء.. (ها قد تركنا كل شيء وتبعناك)، اسألوا القديس أنطونيوس العظيم الذي باع 300 فدان وتبع الرب، هل أعوزه شيء في كل أيامه التي عاشها حتى بلغ 105 سنة؟ اسألوا الأنبا بولا أول السواح الذي ترك العالم والأقرباء والميراث، اسألوا الغرباء الصغار مكسيموس ودوماديوس اللذين تركا الملك والغنى والكراسي.
لقد أوصانا الرب بالبعد عن اهتمامنا الباطل بالعالم (لا تهتموا) من أجل التطلع للحياة الأبدية (أهدنا إلى ملكوتك)، لأنه من منا إذا اهتم يقدر أن يزيد عن قامته ذراعًا واحدًا، لأنكم أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد، لأنه ما هي حياتنا؟ إنها بخار يظهر قليلا.. فلا تكون أفكارنا مرتبطة بالأرضيات، نعمل ولا نهتم، ينصب اهتمامنا على ما هو أعظم لأجل بلوغنا الحياة الأبدية الدائمة.
وتمتعنا بالأحضان الأبوية في هذا الصوم يجعلنا نتدرب على الاتكال والتسليم ويقينية الإيمان والرجاء الذي لا يخزى.. أحيانًا كثيرة نكتئب ونحزن ونرتبك وننسى إننا في يد الله الذي يحوط على كنيسته بسور من نار، وأعطاها الوعد الإلهي أن كل أله صورت ضدها لا تنجح وكل لسان يقوم عليها في القضاء تحكم عليه، وإنه هو في وسطها فلا تتزعزع إلى الأبد، وتعلمنا الكنيسة في تقليدها الليتورجي أن نصلى في تسليم كامل لله (اقتتنا لك يا الله مخلصنا لأننا لا نعرف آخر سواك اسمك القدوس هو الذي نقوله فلتحيا نفوسنا بروحك القدوس).. فلنتأمل طيور السماء التي يقويها الآب السماوي، واثقين إنه يعلم احتياجاتنا، فالارتباك بالأمور المنظورة هو نصيب من بلا رجاء في الحياة العتيدة، والذين بلا مخافة من جهة الدينونة المقبلة.