|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
سلطان وسحر الشهوة
الراهب القمص كاراس المحرقى +++++++++++++++++ الواقع أنَّ جذور الشهوة متأصّلة في صميم الطبيعة البشريّة، فليس بِدعاً أن يكون لها سلطان علينا، حتى وإن بدت تافهة! فأمام سلطان الشهوة يخر أبطال لأجل سيجارة يُدخّنونها أو كأس خمر يرتشفونه! أو منظر مُثير يُشاهدونه! ألم يخر شمشون أمام شـهوته ويَنَمْ كالطفل الرضيع المدلّل على ركبتي دليلة؟! وكثيراً ما تبدو لنا الشهوة صغيرة بحيث إنَّها لا تستحق أن نقاومها، ولكن أليس من مستصغر الشرر تتولّد النار؟! إنَّ الشجرة الضخمة قد تصمد أمام الصواعق والعواصف والرياح المُدمّرة، ولكن ما أن تزحف جيوش النمل إليها، فسرعان ما تقرضها حتى تسوّيها بسطح الأرض! ألا ترانا مثل هذه الشجرة ننجو مـن أعاصير وعواصف الحياة.. ثمَّ ما أن تستسلم قلوبنا لنمل الشهوة حتى يلتهمنا التهاماً؟! أليس النمل من الضآلة بحيث يستطيع الإنسان أن يسحقه بين إصبعيه؟ إذا تملّكت الشهوة على إنسان أضعفته، وملأته دنساً، وجعلت منظره كالمدمن كئيباً، وضميره كالوثنيّ في انحطاط، وقلبه كالسارق في قلق دائم واضطراب.. فينام الإنسان وبين أجفانه الذابلة تتحرّك أشباح الظلمة، وعلى فراشه الحجريّ تتمايل خيالات الأحلام! وقد نكون على صواب إن قلنا: إنَّ الاستسلام لنداء الشهوة أو التعبّد لها هو بعينه الظلام، بل ظلام الجحيم! والحق إننا كثيراً ما نتكلّم عن نار الجحيم ونتباحث في تحديد طبيعتها هل هي نار ماديّة أم معنويّة..؟ ولكننا لا نتحدّث قط عن جحيم الشهوة ولا عن نارها المُدمِّرة، التي جعلت من سدوم وعمورة كومة رماد! فالشهوة تعني: لا فرح، لا سلام، لا عزاء.. وهذا هو عمق الجحيم! قديماً كان الصينيون عندما يُريدون تعذيب أسراهم، يضعونهم وهم مقيَّدين تحت صُنبور يقطُر منه ماء قطرة قطرة، وبمرور الوقت تصبح هذه القطرات المتساقطة على رؤوس الأسرى كأنَّها دقات مطرقة، وتدفع بأولئك المساكين دفعاً إلى الجنون! إنَّ الشهوة هى أشبه بقطرات الماء المتساقط ، ومن ثَمَّ فهى تدفع بالناس إلى الجنون، جنون الروح العاقلة التي قد خُلقت لتحيا مع الله، وها هي الآن تفر منه وتبتعد عنه بانغماسها في الشهوات! ويتساءل القدِّيس يوحنا الأسيوطيّ: " لأيّ سبب غرق الناس بالطوفان أيام نوح؟ هل لأنَّهم لم يعرفوا سير النجوم، أم لأنَّهم لم يسودوا على نظراتهم المضطربة؟! وما هو سبب احتراق مدينة سدوم بالنار والكبريت؟ أبسبب عدم مهارتهم في حساب الفَلَك، أم لأنَّهم لم يقمعوا شهواتهم النجسة؟! إنَّ كل اضطراب الناس في الشرور لم ينشأ عن عدم معرفتهم بالعلوم، بل عن عدم عنايتهم بإبطال شهواتهم الرديئة! فلو كان كل واحد يعتني بإبطال شهواته لعاشت المسكونة كلها مبتهجة في أمن وسلام " ! إنَّ كل ألم يُقابلنا لو فتّشنا عنه لوجدنا أنَّه من الشـهوة يتولّد ! إنَّ الشهوة كالشر بلا بداية، ففي البدء خلق الله كل شيء حسناً (تك31:1)، فالشهوة إذن دخيلة على طبيعتنا وهذا إنَّما يؤكّد ضعفها! ولكن هذا الشيء الضعيف قويّ جداً لأنَّه مرتبط بالإرادة، وإرادة الإنسان منذ أن سقط ميّالة للشر أكثر منه للخير، فإن لم نقمعها أعطت نتائج مُدمّرة! ألم يقل الكتاب المُقدَّس: " وَرَأَى الرَّبُّ إنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ فِكْرِ قَلْبِهِ يَتَّسِمُ دَائِماً بِالإِثْمِ " (تك6: 5). كما أنَّ الشهوة ما أن تجمح فسرعان ما يجمح معها الخيال فيصير الإنسان أشبه بسيارة تندفع بغير سائق، فهي تتحرّك كالسـهم بلا ضابط وتُهدد بالانفجار في أيّة لحظة! ولكنَّ الشهوة لا تغلبنا لأنَّها أقوى منَّا، فأنا بقوتي وتقواي.. إنسان ضعيف ولكن بنعمة الله " أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (فى13:4) بل تغلبنا الشهوة وتتملّك علينا بسبب: إهمالنا وتكاسلنا واستسلامنا لإغرائها ورغبتنا لتذوّق طعم ثمرها! النار من المادة تتولّد ثمَّ تعود وتحرق المادة، وهكذا أيضاً الشهوة تتولّد من الإنسان ثمَّ تعود فتحرقه! فالشهوة ليست إلاَّ رياح مُدمّرة، شلاّل اندفعت مياهه لتُغرق أرض قلوبنا، ناراً مُحرقة تدفع بصاحبها إلى التلظي بنيران اللذة، لتتركه رماداً يشهد بضعف الإنسان عندما يستسلم لنباح شهواته! ولمَّا كان التعارض على أشده بين النور والظلام، فليس بِدعاً أن يعجز البشر عن تحقيق خلاصهم إلاَّ إذا كفّوا عن الحياة الشهوانية واستغرقوا في أحضان المراحم الإلهية! وإن كان كثيرون قد استسلموا لنداء شهواتهم بحثاً عن سعادة توهموها! فهم لم يُدركوا أنَّ آلام الشهوة تفوق أفراحها إن كان لها أفراح كما يظنون! إذا تملّكت الشهوة عليك أضعفتك، وجعلتك عبداً لعادات رديئة وعبـداً للبشر تترجّى عطفهم وتتمنّى رضاهم، وكلَّما توهّجت فيك الشهوة وارتفعت نيرانها داخل قلبك، صرت عاجزاً عن إطفائها ومقاومة الضغط المُصاحب لها، فتنهار تحت ثقلها، أو تُصبح مُصاباً عصبيّاً أو جسديّاً! لأنَّ الحكيم يقول: " سحرُ الأَبَاطيلْ يُغشىْ الخَيرُ ودُوَارُ الشَهوةُ يَطيٍشُ العقلَ السَليم " (حك4 :12). إنَّ من يسعى وراء الشهوة يسعى وراء الألم وهيهات للإنسان أن يُعانق الشهوة ما لم يحترق بنيران الألم! والحق إنَّ شهوة واحدة لو تركها الإنسان ترعى في قلبه، لتحوّلت إلى خطية فعلية، أهلكته وقضت على أبديته، إذن فلنحترس لأنَّ الشبل سيأتي عليه يوم ويصير أسداً، والدودة ثُعباناً، والبذرة سرعان ما تنمو وتصير شجرة وشجرة الشهوة إذا نمت وترعرعت داخلك، غطّت بأغصانها الحواس وظللّت بأوراقها على القلب، أمَّا القلب المُغطّى بأوراق الشهوة فهو قلب مظلم لا يرى! وإن رأى فإنَّه لا يرى سوى الفساد، كما أنَّه جاف لا يشعر بالآخرين إنَّما يشعر بشيء واحد ألا وهو: اللذة! لقد حاول الإنسان في كل زمان أن يقضي على الكون، فاخترع وسائل التدمير وأشعل الحروب، لَعَلَّه يقضي على الإنسان عندما ظن أنَّه عدوه الأول! لكنَّه سرعان ما تحقق أنَّ أخطر خصومه هو ذلك المارد الذي يرقد في أعماقه، إنَّه العدو الجبَّار الذي ينخر في قلبه كالدودة في الثمرة! أو الثعبان الجَهَنّميّ الذي لا يكُف عن تغيير جلده! ويعقد اتفاقيات مع غيره من الشهوات ليكوّن جيشاً يُحارب به البشر! فهناك ترابطاً قويّاً بين الشهوات، ولهذا فإنَّ أقل ثغرة يفتحها الإنسان لأقل شهوة، سرعان ما يُتيـح للشهوات الأُخرى أن تنفذ إلى أعماق النفس، ومن نفس الفتحة التي تهاون الإنسان أن يسدّها ليمنع دخول الشهوات، فتصير الشهوة الواحدة تماسيح من الشهوات، ليُساعد بعضهم البعض، فالشهوات تُحِب حياة الجماعة! وإن بقيت شهوة وحدها تتضخم كسرطان، فالمرأة السامرية قيَّدتها شهوة الجنس فعاشت في القاع، ولم تقوَ على الطيران أو التحليق في السمائيات لأنَّ وحل الخطية كان قد غطَّاها وأثقل أجنحتها! وفي أحيان كثيرة تبدو الشهوة بمظهر الصديق المُعزّيّ والمُسلّيّ والمريح، إلاَّ أنَّها في الحقيقة عدو خائن! وإن ظهر بمظهر الصديق فهذا هو ثوب الرياء! فمن الخارج يبدو حسناً، وأمَّا الداخل فيحمل خُبثاً وانتقاماً.. فهو يُخطط لهلاكك ويسعى لفنائك! إنَّه عدو مُحقق للمتع واللذات، وهو على استعداد أن يُعطي وبسخاء إن أنت عاهدته ألاَّ تبتعد عنه، أو تخرج عن سلطانه، أو تتعبّد لآخر سواه! وقد يتعود الإنسان على شيء فلا يقدر أن يتخلّى عنه، وهذا هو بداية الطريق إلى الإدمان، فالمدمن لا يستطيع الاستغناء عن إدمانه لتحوّله إلى ضرورة مُسيطرة، وهو على استعداد أن يحصل على نشوته بأيّة وسيلة ممكنة، هنا تظهر الشهوة في كامل سلطانها، إذ بعدما تربّعت على عرش القلب، وسيطرت على الإرادة، وتملّكت على الفكر.. أصبحت السيِّد الآمر! وما على المدمن إلاَّ أن يُطيع! ولأنَّ الشهوة لا تُشبع بل هى تُزيد الإنسان جوعاً، فالمدمن يكون في حالة رغبة مستمرة أو ميل متواصل لزيادة الجرعة، من تلك المادة التي أصبحت سيّده! وذلك للحصول على أكبر قدر من النشوة، أو أطول مدة من النسيان، مما يوَّلّد لديه خللاً عقليّاً وعضويّاً يفقده قدرته على التحمّل فينهار تحت ثقل العادات السيئة، فتتعطل شخصيته، وتتدهور صحته، وتُصيب الأمراض جسده.. فما من إنسان عاش في الخطية إلاَّ وصرخ، وصوته صار أشبه بصراخ الوحش الذبيح! ويتساءل سليمان الحكيم: " لِمَنِ الْوَيْلُ؟ لِمَنِ الشَّقَاوَةُ؟ لِمَنِ الْمُخَاصَمَاتُ؟ لِمَنِ الْكَرْبُ لِمَنِ الْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ؟ لِمَنِ ازْمِهْرَارُ الْعَيْنَيْنِ؟ ثمَّ يجيب: " لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ الْخَمْرَ "، ولهذا أوصى بالابتعاد عن شهوة الإدمان والاحتراس من خِداعها إذ قال: " لاَ تَنْظُرْ إِلَى الْخَمْرِ إِذَا احْمَرَّتْ حِينَ تُظْهِرُ حِبَابَهَا فِي الْكَأْسِ وَسَاغَتْ مُرَقْرِقَةً فِي الآخِرِ تَلْسَعُ كَالْحَيَّةِ وَتَلْدَغُ كَالأُفْعُوانِ " (أم23: 29- 32). والحق إنَّ للعادة سلطاناً على الإنسان، ولهذا قال مار إسحق السريانيّ: " احترس من العادات أكثر من الأعداء" والعادة ليست قاصرة على المهارات الفكريَّة والحركيّة فقط، بل تشمل أيضاً الحياة الخُلُقِيّة، وقد أكّد معظم الآباء أنَّ اكتساب فضيلة من الفضائل عامل من عوامل تقويّة الشخصية وتكاملها، لأنَّ الفضيلة تُعطي نوعاً من الشبع الروحيّ والنفسي يجعل الإنسان مستقراً، أمَّا الرذيلة فتعمل على تفكك الشخصية، وإضعاف الإرادة على مقاومة الشهوات الجسدية، فينهار الإنسان ويقلق ويضطرب.. ومن هذه الحقائق نستنتج طريقة مُثلى لإصلاح الشخصيات المنحرفة ألا وهى: عدم مواجهة الانحراف أو نقطة الضعف مواجهة صريحة، إذ يُحتمل أن يُقاوم الشخص ويُعاند ويستمر في الخطيّة، فالأفضل معالجته بطريقة غير مباشرة، بإصلاح جوانب أُخرى من شخصيَّته، يكون لديه رغبة في إصلاحها، أو تنشيط غرائز أو رغبات خاملة لديه، وبالمُمارسة، وبعد فترة سوف تضعُف العادة المُسيطرة، وربَّما يتخلّص منها نهائياً! فتنشيط غريزة الأُمومة لدى المرأة، يحفظها من السقوط في بئر الخيانة، لأنَّ هذه الغريزة عندها أقوى بكثير من غريزتها الجنسيّة، فإذا تشبّعت بها فأنَّها لا تنحرف بسهولة، وهكذا.. والحق إنَّ كل إنسان يحمل في داخله شعوراً باطنياً، أو اقتناعاً خفيّاً، بأنَّ كل من يتجاوز الحياة الطبيعيّة، ويندمج في تلك الحياة المبتذلة، التي ليس فيها أيّ نمو أو تقدُّم، لابد من أن يتألّم، ولهذا لم يوجد خاطيء لم يعرف لحظات اليأس والوحدة.. ولكنَّه في وسط هذه الظلمات يسعى لينعم بأنوار الشهوة!! ولكنَّ الشهوة بلا أنوار، فيتعمق ظلامه ويتخبّط في الحياة، فالشهوة ظلام بلا أنوار، آلام بلا أفراح، وكل من يقول: إنَّ في الشهوة سعادة كمن يقول: إنَّ الدائرة مربَّعة أو المربَّع مستطيل! رأيت رجلاً ضعيف الجسد، تتراقص على وجهه أشباح الحزن، وتنبعث من عينيه نظرات موجعة، ومن صدره تخرج ظلمة حالكة.. فسألته قائلاً: ما الذي أصابك؟! وأين هى ابتسامتك التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك؟! أمَّا هو فنظر إليَّ نظرة عبد ذليل، أو سكَّير لم يفق من نشوته، وبصوت تتموّج في عباراته كل معاني اليأس والألم قال: إذا فقد الإنسان صديقاً عزيزاً أو مالاً كثيراً، فإنَّه يستطيع أن يجد من الأصدقاء ما يُعزّيه ومن المال ما يكفيه، ولكن إذا فقد الرجل راحة قلبه فأين يجدها؟! يمد الموت يده ويصفعك بشدة فتتوجّع، ولكن لا يمر يوم حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم فرحاً، ولكن إذا كان نصيبك من الوجود طـائراً، تُحِبَّه وتُطعمه حبَّات قلبك وتجعل ضلوعك له قفصاً، وبينما تنظر إلى طائرك وتغمر ريشه بشعاع حُبّك، إذ به قد فر من بين يديك، وطار ليُحلّق في السحاب ثمَّ هبط نحو قفص آخر.. فماذا تفعل؟! لفظ الرجل كلماته الأخيرة بصوت مخنوق متوجّع، ووقف على أقدامه مرتجفاً كقصبة في مهب الريح، ومد يديه إلى الأمام وكأنَّه يريد أن يقبض بأصابعه المعوجّة على شئ لكي يُمزقه، وقد تصاعد الدم إلى وجهه وصبغ بشرته بلون قاتـم واتّسعت عيناه، ثمَّ نظر إليّ وقد تغيّرت ملامحه وقال باكياً: إنَّها الشهوة! التي استسلمت لها كما يستسلم المرء لشعاع الشمس إلى أن يُصاب بالحمَّى! فأين الطائر النجس الذي توهّم أنَّه ملاك طاهر فأسكنه فردوس محبَّته؟! قد انقلب شيطاناً مُخيفاً، وهبط إلى الظلمة ليُعذّب كائناً آخر بآثامه، ويترك هذا مجرّد هشيم يتعذّب بجريمته! لو طُلب منّي أن أرسم صورة صادقة تُمثّل الشهوانيّة لرسمت اثنين ووضعت بينهما سيفاً! فالسيف يرمز للألم، كما يرمز للفصل أو القطع، فهما يظهران أمام الجميع كأنَّهما واحد في الفكر والمشاعر.. لكنهما في الحقيقة اثنان ولن يكوناً واحداً، بل دائماً وإلى الأبد سيكون بينهما فاصل! فنحن بإزاء شخصيتين معذَّبتين ابتليتا بنكبة الشهوة! والشهوة ليست إلاَّ هوى أليماً، أو انفعالاً قاتماً، فهي لا توجه الإنسان نحو التعلق بموضوع سامِ، وإنَّما تقتاده من حيث لا يدرى نحو الهلاك، ومعنى هذا: إنَّ من يتعاط جُرعة الشهوة لابد أن يكون مصيره الفناء! ولأنَّ الشهوة لا تشفق ولا ترحم، وهي تعرف كيف تستحوذ على قلب وإرادة الإنسان، فهي ما تكاد تشير بطرف إصبعها حتى يُسرع إليها الإنسان، بعدما صار أسيراً لها، مُقيّداً بحبالها! لأنَّ الشعلة التي تتقد في صدره تلتهم قواه وتُذيب عواطفه وميوله، ولَعَلَّ هذا هو السبب في أنَّ الحُب الشهوانيّ يقترن دائماً بمعاني: النار والاكتواء والعذاب والموت.. وهذا دليل على أنَّ جِراح العُشاق لن تبرأ إلاَّ إذا كفّوا عن أفعالهم القبيحة! إن أردت أن تعرف سلطان الشهوة، فانظر إلى المتألّمين من قسوة واستبداد هذا المارد، الذي بيده الخفيّة يقبض علي أرواحهم، وبالأُخرى يسكب في كبدهم سُمّاً وإن كان ممزوجاً بحلاوة اللذة! وتأمّل لسان حالهم وهو يقول: إنني لا أستطيع أن أعيش معها، ولكنني لا أستطيع أن أعيش بدونها، فالمرأة وإن كانت ساقطة، إلاَّ أنَّها تُمثّل في نظر الرجل الشهوانيّ المستحيل الضروريّ! فما أن يقترب إليها حتى يسعى للخلاص منها! وإذا ابتعد عنها فسرعان ما يصرخ أُريدها، وهكذا تستمر حياته من الوجود معها إلى الوجود بدونها ثمَّ الوجود معها ثانية.. هنا يظهر سلطان المرأة في إشعار الرجل الضعيف المستسلم لشهواته، بأنَّه في حاجة إليها على الدوام! إنَّها حالة حرب أو صراع بين طرفين، كل طرف يريد أن يستحوذ على الآخر ويجعله خاضعاً له، ولكن صراع حول ماذا؟! حول لذة خاطفة أو شهوة عابرة؟! ويصل الصراع إلى قمَّته عندما يحاول الشهوانيّ، أن يتملّك غيره بصورة مُطلقة، هنا تظهر العُقدة الرئيسيّة في مشكلة الشهوة ، فكل من الطرفين يُريـد أن يمتلك الآخر ويكون هو المتسلّط عليه دون غيره!! وقد استطاع الفيلسوف الفرنسيّ " مارسل " أن يجعل " ألبرتين " خاضعة له خضوعاً تاماً ليُزيل من نفسه الشكوك، ومع ذلك لم يظفر بما كان يأمل من طمأنينة، بل ظل الشك والقلق يراودانه فكان يجلس بجوارها، ويتمنّى لو استطاع أن يُسيطر على أفكارها ولكن دون جدوى! أمَّا حين كانت تغط في نوم عميق، فهنالك فقط كان يشعر بأنَّها مِلك له، وأنَّها خاضعة له خضوعاً تاماً، فهل مثل هذا حُب أم مرض أم جنون أم شهوة..؟! ولكنَّه السلطان الحقيقة التي لا يُنكرها أحد! والحق إنَّ ما تحمله الشهوة من ضعف ونقص وتفاهة وحزن وقلق.. كفيل بأن ينهي عليها من أول لحظة، فلو سألت سكّيراً عن شهوة الإدمان لأجاب: تافهة ومدمرة !! ولكن خداع الشهوة، وبريق ولمعان اللذة، وسحر وآمال المستقبل، كثيراً ما يجعل الإنسان يسقط في هذه البئر المالحة لَعَلَّه يرتوي! ولكن هيهات للماء المالح أن يروي وهو الذي يضاعف الشعور بالعطش!! وهكذا تظل حياة الإنسان أحلاماً وأوهاماً إلى أن يفاجئه الموت وينتهي! إنَّ في أعماق كل منَّا صحفيّاً خدَّاعاً، يُلّفق الأنباء، ويُموّه الحقائق، ويختلق الشائعات، ويمزج الحق بالباطل! إنَّه الشهوة الساحرة، التي لـو أمسَكَت قلماً وكتبت قصة حياة صاحبها لخدعته وخدعت الآخرين معه، لأنَّها سوف تخلط بين الحقيقة والخيال، وهى دائماً تُرجّح كفّة الخيال! فما من ثعبان أو وحش قبيح الخلقة، إلاَّ وجعلت منه الشهوة صورة جميلة ترتاح لها العيون! حقاً إنَّ الشهوة هي التي تجعل الإنسان يستمتع بكافة المتع ويتفنن في ابتداع وتذوق شتّى اللذات! ولكنَّ الشهوة مع ذلك هي صديق الإنسان الخائن، الذي حتماً سيغدر به! وقد يتغنَّى الإنسان بجمال وحنان الشهوة.. ولكنَّه سرعان ما يكتشف خِداعها، فيجد نفسه مدفوعاً إلى القول: بأنَّ الشهوة هي تلك القوة الساحقة، التي لا بد أن يواجهها الإنسان، أو هي ذلك الوحش الكاسر الذي لابد من إسالة دمه قبل أن يتمكّن منَّا ويفترسنا، وكل من يقول: إنَّ الشهوة ينبوع فائض دائم التدفق بماء السعادة! هو إنسان متوهّم ويحيا في الخيال، فالشهوة مستودعاً محدوداً مستواه دائماً في انخفاض! وهذه الدائرة السحرية التي يحيا في داخلها الشهوانيون لن تدوم لأنَّها دائرة من الوهم والخيال! يجب أن نعترف بإنَّ قصور اللذات ليست سوى مغائر يختبيء فيها الذل والألم والشقاء، هي قبور مُكلّسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء زينتها، وتنحجب في زواياها أنانيّة الرجل، هي قصور تتشامخ افتخاراً بالفساد ولو كانت تشعر بأنفاس الغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض.. فما من إنسان عاش في قصور الشهوة إلاَّ وشعر بألسنة النار المُحرقة تلسع أضلعه، وبالمجاعة الروحيّة تقبض على نفسه فتوجعها، وبالقيود التي تجعله يحسد عصافير السماء علي حريتها! والحكيم هو من يُدرك أنَّ كل يوم يصرفه في وهم اللذة هو كذبة هائلة، يخطّها الرياء بأحرف ناريّة على جبهته! فما المنفعة لو عاش الإنسان في قصر فخم ولكن غُرفه مُلوثة بأقذار الخنازير، وبين جدرانها المكسوّة بالحرير تقطن الخيانة بجانب الرياء؟! أو كالأبرص الساكن بين القبور، يخشاه الجميع ولا يقترب منه إلاَّ مثله من المرضى المعذَّبين؟! ولكنَّ المشكلة إنَّ الشهوة تبدو دائماً كأوتار جِيتار مستعدة أن تعزف لنا أمتع لحن في الوجود! ففي أحيان يبدو الشيطان كأنَّه رجل مُهذب تطيب لنا معاشرته! والمرأة الجاهلة البسيطة تبدو بمظهر الشخصيّة الحكيمة الفريدة ذات النظرات العميقة! والجمال الرخيص يبدو جذاباً يؤثّر في كثيرين ويلهيهم عن التماس الفضيلة! فلو كانت الشهوة ذميمة بهذا الشكل، كريهة المنظر، باعثة على النفور، لَمَا كانت هناك مشكلة، بل لأفلس الشيطان وفقد كل عملائه، ولم يعد لبضاعته رواج بين البشر! ولهذا كثيراً ما يُغلّف بأغلفة برَّاقة حتى تستهوي العملاء وتجذبهم لشرائها! ألا تدلنا التجربة على أنَّ ما يضر الكبد قد يحلو مذاقه للفم ؟! ألم يقل سليمان الحكيم : " الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ " (أم17:9)، والواقع أنَّ الإنسان في مرحلة الإغراء لا يفطن إلى نتائج الخطية، لأنَّ الشهوة تكون قد أعمت عينيه بضبابها الكثيف، فلا يرى منها سوى اللذة! أمَّا العيوب فربما يُحوَّلها إلى محاسن، إلاَّ أنَّ هذه العيوب سرعان ما تظهر على السطح بعدما كانت راسخة في القاع، ليكتشف الإنسان خِداع الشهوة ويقف على حقيقتها المُرّة! وكأنَّها هي حقائق جديدة يكتشفها لأول مرة! وقد يستبدل الإنسان شهوة بشهوة، على أمل الحصول على ما هو جديد ! ولكن نتائج الخطيّة ثابتة لا تتغير بتغير المكان أو الأشخاص... فلذة الإدمان كالقمار أو كالجنس، فالفراغ والملل والقلق... نتائج ثابتة لكل خطية!! ويتساءل الإنسان: كيف أحببت هذا الشيء التافه؟! كيف سجدت لهذا الوثن؟! كيف تحوّلت إلى قزم بعد أن كنت عملاقاً؟! إنَّها الشهوة التي ينتظر منها الإنسان أن تُعطيه كل شيء ثمَّ سرعان ما يكتشف أنَّها أخذت منه كل شيء! إنَّ الشهوة أشبه بلص ماكر أو صيّاد خبيث، يُحارب البشر بأطايبه لا ليُفرَّحهم بل ليسقطهم فيصطادهم! فهو يضع العسل على الفـم أولاً وباليد الأُخرى يمسك كأسه المسموم، فإذا تذوقوها وسكروا من نشوتها، يسقيهم من أوجاعه وسمومه بغير شبع! فما أرهبها تلك الشهوة عندما تخدع الإنسان فتجعل حياته ليلاً أسوداً، يحمل كلام أسود، وذكريات باهتة سوداء، نعترف بأنَّ ليل الشهوة لا يعرف الحُب أو الحنان وإن ظهر كقطرات مبللة بالشهد، أو شعاع مغسول بماء السماء، فهذا هو ثوب الخِداع! فالشعاع مُبلّل بالدموع والشهد ممزوج بالسموم! فما المنفعة من أن تقضي ليلة كلها خمر وانحلال ثمَّ في الصباح تجد الحزن والألم والمرض.. بجانبك على الفراش؟! ولو أردنا أن نُعطي تشبيهاً للشهوة لقلنا: إنَّ الشهوة مثل الشجر على الطريق، يبدو في ضوء القمر وهو مُغلّف بالثلوج كأنَّه شمعدان من الفضة، تُضيء فروعه ويشع نوراً من غير نار، لا شك أنَّه منظر جميل ولكن جماله لا يدوم، فالثلج سرعان ما يذوب والقمر يغيب، وتبقى الأشجار عارية لا يتبقى منها سوى أفرع بلاثمار! أليس النائم يرى في حُلمه طعاماً؟! بل ألا يرى نفسه وهو يأكل من هذا الطعام؟! لكنَّه عندما يستيقظ يتألم جوعاً! هكذا الشهوة لا تُشبع ولا تروي إنساناً! لأنَّها كألوان الماء التي يرسم به الفنان ولكنَّها لاتروى نفسه العطشانة! قرأت قصة تحكي عن طيار مصريّ التقى في إحدى سهراته بفتاة شقراء، تربّعت من أول لقاء على عرش قلبه، الذي نبض في قوّة حتى إنَّ صوت نبضاته علا على صوت ضميره وعقله!! وفى ليلة مُظلمة من لياليهم السوداء المُبطّنة بأنفاس الموت، وبعد أن تغلغلت " ربيكا " في حياة " عباس " أخذت تقول له وهى تبكي: لابد أن نفترق فلن يسمح لك أحد بالزواج مني.. كما يجب أن أعود إلى وطني الذي أخفيته عنكَ..! وفى لهفة يتساءل عباس: أخفيته! لماذا؟! ما هو إذن وطنك؟! وهنا كانت المفاجأة التي لم يتوقّعها، إنَّها فتاة يهودية!! ومن المستحيل أن يُسافرا معاً! ولكنَّ الثعبان البشرىّ كان قد لف ذيله الطويل حول عنقه! والشهوة لها سحرها وعباس يملك نقطة ضعف!! وبينما هو يُفكّر خرجت عليه الجاسوسة بفكرتها الماكرة، ويفزع عباس من الفكرة، فلم يتصور نفسه وهو يقود طائرة مصرية إلى أرض العدو!! ولكن مع استمرار العزف على الوتر الضعيف انهارت مقاومته واتَّخذ أسوأ قرار في حياته ألا وهو: خيانة الوطن! وسافرت " ربيكا " وهى تهمس في أُذنِه: سأكون في انتظارك عندما تصل بالطائرة المصريّة! ويصل الطيَّار المصريّ إلى إسرائيل، وكم كانت صدمة اليهود عنيفة وهم يستقبلونه في المطار، فقد هرب إليهم بطائرة أُخرى غير التي كانوا يريدونها! أمّا صدمة عباس فكانت أكثر عنفاً، إذ أدرك أنَّه قد وقع في الفخ، وأن ربيكا لن يراها لأنَّها جاسوسة! وهو الآن لا يتعدى كونه خائناً هارباً! ويطلب عباس مغادرة إسرائيل، وتستجيب السلطات الإسرائيليّة لطلبه ويذهب بالفعل إلى الأرجنتين، وهناك يلتقي بفتاة حسناء تُشبه ربيكا، وتتكلّم الإنجليزيّة، ثمَّ في إحدى السهرات طلبت منه أن يذهبا إلى المنزل لتكملة السهرة هناك، فما أن وصل حتى أغلقت عليه الباب ثمَّ قالت له بلهجة مصرية: أهلاً وسهلاً بك هنا يا عباس حلمي!! فانتفض جسده مرتعباً وتراجع صارخاً: من أنتِ؟! ومع آخر كلماته انقض عليه رجال المخابرات المصرية، وحقنوه ثمَّ شحنوه في صندوق إلى مصر، وفى مصر انهار الخائن عندما صدر الحكم بإعدامه. فشهق عباس كما شهقت الشجرة عندما رأت الفأس قادماً نحوها ليشق جبينها! فبنقطة ضعف ترك عباس وطنه، وبنفس نقطة الضعف عاد الخائن لا ليحيا وإنَّما ليموت، ومن الذي قتله؟ سحر الشهوة وبريق ولمعان اللذة!! إنَّ الإنسان عندما يكون في ضيقة أو محبطاً.. فغالباً ما يبحث عن لذة لعلَّه يجد راحته! وهنا تبدو اللذة ساحرة إلاَّ أنَّ سحرها ليس إلاَّ سراباً زائلاً أو ضباباً خفيفاً عابراً فوق سطح البحر أو فقاعة هوائية كبيرة أو بقعة لامعة فوق قوس قُزح!! فما من لذة تحققت إلاَّ وأصابت الإنسان بالتقزز أو الإعياء أو النفور! والحق إنَّ الألم هو الظاهرة الدائمة المصاحبة لكل الشهوات! فقبل اللذة هناك ألم الانتظار، وبعد اللذة يتولّد شعور مرير بخيبة الأمل! ولا شك أنَّ هذا الإحساس الذي يشيع في كل اللذات، هو الذي يخلع عليها ضرباً من المرارة، كما أنَّ الإنسان إذا اعتاد حياة اللذة، تصير حياته انتقالاً من شهوة إلى شهوة، فتتحول الحياة إلى اجترار بعض الأحاسيس الشهوانية التافهة دون أدنى إحساس بالمباديء والقيم الإنسانية إذاً فرحلة الصعود اللاهث نحو اللذة، هي ارتقاء قمة جبـل تخرج منه سياط من النار، ويختبيء في جحوره المُظلمة وحوش وأفاعٍ سامة..! ويُعد أخطر ما في الشهوة أنَّها انفعال مظلم يطمس بصيرة الإنسان ويتفنن في خديعته، وكأنَّما هي ساحرة ماكرة كدليلة التي خدعت شمشون! ألا تعمي الشهوة الإنسان عن رؤية خالقه؟! ألا تجعل اللذة الإنسان يعشق حياة الكهوف المظلمة والأوكار المغلقة؟! لا تتعجبوا إن قلت لكم: إنَّ الشهوة تعمي الإنسان عن رؤية شرور الحياة نفسها! فكم من نفوس تعيش في الشرور وهى مستعبدة لشهوات كثيرة؟ وبينما هم غارقون في بحر آثامهم وقد أتلفت الشهوة كل حياتهم، لا ينظرون لعيب فيهم! وكثيراً ما ترتفع بنا الشهوة في سماء الأوهام وتُحلّق بنا في أجواء الخيال، إلاَّ أنَّ هذا الوهم لا يدوم، فسرعان ما تنتهي بنا الشهوة إلى مواجهة الألم بل الموت باعتباره الخاتمة الطبيعية لتلك الحياة المبتذلة. والواقع أنَّ من يعشق الشهوة عليه أن يعشق الموت أيضاً، أو هو لابد له من أن يعانق شياطين الظلام أو ينشد أناشيد الليل السوداء، لأنَّه يتعبّد لذلك الهوى المُظلم بل الشديد الظلام! فالنار والظلام والدود.. تنطبق على كل الشهوات كما يقول القديس غريغوريوس السينائيّ، ولكي يحيا الإنسان مع الله عليه أن يقطع قيود الشهوات لينبت عوضاً عنها أعضاء أُخرى روحانيّة وعلى قدر ما يضمحل الإنسان العتيق يظهر نور الإنسان الجديد! وليست مبالغة منّي لو قلت لكم: إنَّ الشهوة تُمثّل لكثيرين ذلك الشيء الخطير، الذي يجذب من بعيد دون أن ينتقل من مكانه، إنَّها كالعنكبوت الذي عن طريق الغواية والإغراء يؤثّر في الشهوانيين وهو قابع في مكانه، فتنتقل إليه الفريسة بمحض إرادتها، فينقض عليها ويأسرها بين خيوطه! قال وهو ينظر من وراء نقاب الشهوة، متبعاً لذاته، ملاحقاً نزواته، في تلك الأزقة المظلمة، حيث يختمر الهواء بأنفاس الفساد، قال: أتقدر هذه المرأة الجميلة أن تكون شريرة في يوم ما؟! هل بإمكان هذا الوجه الشفّاف أن يستر نفساً شنيعة وقلباً قاسياً؟! هل يمكن لثعبان مخيف أن يختبيء في جسم طائر جميل بديع الشكل؟! لأنَّه قد ظن أنَّ أميرة الحُب التي تملّكت قلبه لا يمكن أن تُعد له إلاَّ العش الهاديء الجميل.. ولكنَّه ما أن سقط فسرعان ما اكتشف أنَّ العش الهادئ بين جدّرانه تسكن الثعابين، والقصر الهاديء ملئ بالأشباح! والأيام التي كانت تبدو بيضاء لياليها مبطّنة بالسواد، ولهذا يطلب الفرار والخروج من بين هذه القضبان! ولكن هيهات للطير أن يطير ما لـم يكن له جناحان، وما التوبة النقية والصلاة الطاهرة إلاَّ جناحا الطيور البشريّة، واللذان بدونهما لا يقوى الإنسان على الطيران أو التحليق في السمائيات! إنَّ الشهوة ساحرة، ولكنَّها مُملّة! وقد يرغب إنسان أن تدوم لذته، ولكن بقاء شعلة اللذة متوهّجة على الدوام أمر مستحيل! فمهما سعى الإنسان وبحث عن نشوته، ومهما أقام الولائم وشرب نخب انتصاراته الشهوانيّة، فإنَّ أضواء الولائم ما تكاد تنطفيء، وما يكاد الرأس التي لعبت به نشوة الشهوة يفيق، حتى يستيقظ المسكين على تلك الحقيقة المؤلمة ألا وهى: إنَّ الشهوة لا تُشبع ولا تدوم، لأنَّ البشر في نمو وتطور مستمر، وكل ما في الحياة خاضع لقانون التغيُّر، فالشهوة هي الأُخرى لابد أن تخضع لمثل هذا القانون، ومن هنا يسعى الإنسان إلى التجديد والتنويع المستمر حتى يتغلّب على رتم اللذة المُمل ولكن دون جدوى، لأنَّ نتائج الشهوة ثابتة وهى لا تتغيّر، لا بتغيير المكان أو الأشخاص أو اللذات!! ويتساءل الإنسان عندما يستسلم لنباح شهواته: إلى أين تسيرين بي أيتها الساحرة الماكرة؟! حتى متى أتبعك على هذه الطريق الوعرة، المنسابة بين الصخور، المفروشة بالأشواك، المتصاعدة بأقدامنا نحو الأعالي حيث ضباب الوهم، الهابطة بأنفسنا إلى أعماق الجحيم؟! قد تمسّكت بأذيالك البالية، وسرت وراءك مُحدّقاً إلى ما فيكِ من جمال، متعامياً عن مواكب الأشباح المُتطايرة حول رأسي! قفي بي لحظة أيتها القاسية المتوحِّشة لأرى مساوءك، فقد مللت السير خلفك، وارتعدت روحي من مخاوف الطريق، لأننا بلغنا المُلتقى حيث يُعانق الموت الحياة! لقد كنت بالأمس طائراً حراً، أتنقّل بين الحدائق وأسبح في الفضاء، وأجلس علي أطراف الغصون عند المساء متأمِّلاً في السماء، بل كنت كالحُلم أسعى تحت أجنحة الليل، وأدخل من شقوق النوافذ إلى مخادع البشر لأرى أفراحهم وابتساماتهم، فقد كنت لا أشعر بالحزن لا فيّ ولا في الآخرين! واليوم وقد أصغيت إلى ندائك، واستجبت لأوهامك، وتسمّمت بأفكارك، أصبحت مثل أسير أجرَّ قيودي حيث لا أدري، بل صرت مثل سكّير أستزيد من الخمرة التي سلبتني إرداتي، وأُقبّل اليد التي تطاولت عليّ وصفعت وجهي! ويستيقظ النائم الغفلان إن استيقظ على تلك الحقيقة المُفزعة ألا وهى: إنَّ الشهوات التي سعى بقوّة لتحقيقها بحثاً عن لذات كاذبة هي قيود وسلاسل ذهبية، يجرَّها الإنسان مبتهجاً بلمعانها ورنين حلقاتها، بل هى أقفاص ابتدأ الإنسان بإعداد أسلاكها منذ القدم، غير عالم أنَّه لا ينتهي من صنعها، إلاَّ ويجد نفسه أسيراً مسجوناً في داخلها! فهل يستطيع أن يجمع قواه التى خارت؟ هل يقدر أن يُحطّم القيود التي قيدت قدميه؟ هل يقدر أن يسحق الكأس التي منها شرب السُم الذي استطيبه؟! إنَّ الذين يعيشون عاكفين على شهوات العالم ولذات الجسد، يُشبهون رجلاً له ثلاثة أصدقاء، يتفانى في إكرام اثنين أمَّا الثالث فيستهين به! وبينما هو على هذه الحال جاء إليه جنود الملك يُطالبونه بدين سيدهم، فذهب إلى صديقه الأول يطلب مساعدته، فقال له: إنّي لم أكن لك صديقاً في يوم ما ولست أعرف من أنت، لأنَّ لي أصدقاء آخرين ينبغي منذ اليوم أن أُرافقهم وأُحافظ على ودّهم أكثر منك، وكل ما أستطيع أن أعمله لك هو إعطاؤك قطعة صغيرة من القماش تجتاز بها الطريق، ولكن ثق أنَّها لن تُفيدك بشيء! فتألّم الرجل من كلام صديقه، فذهب إلى صديقه الثاني فخاطبه قائلاً: إنَّ لي هموماً كثيرة، ولكنني سأُرافقك قليلاً وإن كان ذلك لن ينفعك ثمَّ أعود إلى بيتي لأهتم بشئوني! فلمَّا خاب أمله ذهب إلى صديقه الثالث الذي لم يكن يهتم بأمره إلاَّ قليلاً، وقال له والخجل يعلو وجهه: لست أدري بأي وجه أُلاقيك وبأي لسان أُناجيك لأنّي لم أُحسن إليك، ولكنني الآن في ضيقة، وأترجّى مساعدتك بعد أن خابت آمالي في صديقيّ الآخرين! فأجابه بفرح: إنك صديقي وأنا لا أنسى ما صنعته معي من الجميل ولو كان يسيراً، وها أنا أسبقك إلى حضرة الملك ولا أُسلّمك إلى أيدي أعدائك، فاطمئن الآن ولا تحزن! أمَّا الصديق الأول فهو: حُب المال الذي متى جاء الموت لا يأخذ منه الإنسان سوى الكفن! والصديق الثاني هو رمز للزوجة والأولاد وباقي الأصدقاء والأحبَّاء، الذين يُشيَّعوننا إلى القبر ثمَّ يعودون إلى الاهتمام بشئون منازلهم وأعمالهم! وأمَّا الصديق الثالث فهو رمز للأعمال الصالحة التي تسبقنا لتشفع فينا أمام الله! |
10 - 08 - 2014, 06:01 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
..::| مشرفة |::..
|
رد: سلطان وسحر الشهوة الراهب القمص كاراس المحرقى
ربنا يبارك خدمتك
|
||||
10 - 08 - 2014, 01:42 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: سلطان وسحر الشهوة الراهب القمص كاراس المحرقى
مشاركة جميلة جدا ربنا يبارك حياتك |
||||
|