تجلي الطبيعة البشرية بالقيامة
بقلم: البابا شنودة الثالث 04/04/2010
أهنئكم يا أبنائي وأخوتي الأحباء بعيد القيامة المجيد, راجيا لكم جميعا ولمصرنا العزيزة كل خير وبركة من الهنا الصالح, ومصليا من أجل كل المشكلات في إفريقيا, وفي كل الشرق الأوسط, وفي الأراضي المقدسة وفلسطين, واله السلام قادر أن يفيض بسلامه علي الكل, وما لا يستطيعه البشر, يستطيعه الله القادر علي كل شيء.
وبعد... أريد أن أكلمكم اليوم عن عنصر مهم جدا من عناصر القيامة: وهو أنه في القيامة يتم تجديد وتجلي الطبيعة البشرية, وتجلي هذه الطبيعة يشملها جسدا وروحا وعقلا وفكرا, فتصبح بتجليها في حياة جديدة, مقدسة تماما, مختلفة عما كانت قبلا.
فمن جهة الجسد, نحن نقوم بأجساد نورانية روحانية, قد تخلصت تماما من المادة التي كانت متحدة بها في الحياة الأرضية, وبالتالي تتخلص من كل حروب المادة, وما يتعلق باللحم والدم.
وفي تجلي الجسد, لا يشعر الإنسان في الأبدية بأي جوع, أو عطش, أو تعب, أو مرض, ولا يقاسي من شهوات جسدية أو مادية, ولا من طياشة الحواس وشغبها وانحرافاتها... هذا من الناحية السلبية.
أما من الناحية الإيجابية, فإن الحواس في تجليها تري ما لا يري, أو ما لم تكن تراه من قبل, فتري أرواح القديسين الذين سبقوها إلي عالم المجد, وتري الملائكة الذين لم ترهم من قبل, وكلهم أرواح لا يرون إلا بتجلي البصر البشري, وفي تجلي الحواس تسمع الطبيعة البشرية ما لم تكن تسمعه من قبل: من التسابيح السمائية, وأناشيد الملائكة, وأصوات الأبرار من كل البلاد, وعلي مر كل العصور, تسمعهم وتتكلم معهم, وهذا لا تحدث إلا بتجلي الطبيعة البشرية.
الروح أيضا تتجلي, ولا تخطيء أبدا إلي الأبد, لقد كانت تخطيء عندما كانت متحدة بالجسد, يجرها أحيانا معه في شهواته, وفي اتجاهاته المادية, كما تحيطها المادة بإغراءات كثيرة وحروب.
أما في القيامة فقد تخلصت من هذا كله وتحررت ومنحها الله إكليل البر فصارت بارة علي الدوام, وأصبحت تتغذي بالحب الإلهي, وتنمو به يوما بعد يوم, وصارت متعتها الحقيقية هي عشرة الله وملائكته وقديسيه.
وما أجمل قول السيد المسيح عن الحياة في الأبدية, إذ يقول عنها: تكونون كملائكة الله في السماء, أي في طهارة الملائكة البعيدة عن كل الشهوات الجسدية, وكذلك خفة الملائكة الذين يتحركون في لمح البصر إلي أبعد مكان, دون أن يقطعوا وسطا في الطريق. في تجلي الطبيعة البشرية, يتجلي العقل أيضا والفكر والمعرفة, فلا تجول أية فكرة خاطئة في العقل, إذ تكون الطبيعة البشرية قد وصلت في تجليها إلي نقاوة العقل نقاوة كاملة, ويصبح في بساطة أبوينا الأولين قبل السقوط في الخطيئة.
أما عن المعرفة, ففي التجلي لا يعرف الإنسان سوي الخير فقط, لقد كان في القديم في ازدواجية متعبة, من الخير والشر, والحلال والحرام, وما لايليق, يتأرجح ما بين وضع وعكسه, أما في تجلي الطبيعة البشرية, فأصبحت معرفتها قاصرة علي الخير فقط, وزالت منها كل معرفة لكل أسماء الشر ومرادفاته, ومحيت من ألفاظ القاموس البشري الجديد كلمة الخطيئة, وما يتبعها من كلمات الفساد, والظلم, والزنا, والدعارة, والقتل, والخداع والكذب والسرقة... وما إلي ذلك. مع محو الماضي الأثيم كله من ذاكرته مع كل أخباره وقصصه وذكرياته, كما تمحي صور الناس الأشرار, أعداء أو أصدقاء, وبعبارة مختصرة: ينسي كل ما تركز في العقل الباطن, وفي الذاكرة, ويصبح للطبيعة البشرية في التجلي عقل باطن جديد طاهر لا يحوي إلا البر, كما يكون لها قاموس جديد للألفاظ, ليست فيه كلمات الخطيئة علي الإطلاق, بل كل ألفاظ جديدة بارة.
وفي تجلي المعرفة, يبدأ أن يكون للإنسان معرفة بالله, أقصد المعرفة الحقيقية العميقة, فنحن الآن لا نعرف عن الله إلا اسمه, دون أن نعرف الجوهر: نعرف مثلا أن الله كامل, ولكن ما كنه هذا الكمال؟ هذا لا نعرفه, نعرف أن الله عظيم, ومع ذلك لا نعرف ما كنه هذه العظمة نعرف أن الله أبرع جمالا من بني البشر, ولكننا لا نعرف ما كنه هذا الجمال, كل ما نعرفه عن الله هو مجرد أسماء كثيرة, دون أن ندرك كنهها!!
ولكن في الأبدية, حين تتجلي طبيعتنا البشرية, فإن معرفتنا سوف تتجلي, حينما يكشف لنا ذاته أو بعضا من ذاته, فنصبح في ذهول من عجب وروعة مما لا نستطيع أن ندركه, حينئذ يوسع الله مجال إدراكنا حتي نستوعب عنه ما هو أكثر... ومع ذلك كل ما ينكشف لنا من مجد الله وجلاله وجماله وكماله, يجعلنا في غاية الذهول والعجب, والعجز عن الإدراك, فيوسع الله ادراكنا أكثر وأكثر حتي يمكننا أن نقترب من فهم ذاته الإلهية, ونحن لا نفهم! أما متي سنعرف الله كما هو, فهذه هي الحياة الأبدية بطولها غير المحدود التي لا تكفي لمعرفته مهما تجلت معرفتنا! علي أننا كلما نعرف عن الله أكثر, نزداد في محبته وإجلاله.
ومع تجلي معرفتنا, نبدأ في أن نعرف أشياء أخري عن الملائكة بكل طغماتهم وصفوفهم وعملهم, ويحتاج هذا بلا شك إلي مدي طويل, ثم تتوسع معرفتنا بجميع الأنبياء والرسل والشهداء والعباد والنساك وسائر الذين أرضوا الرب منذ البدء, فنفرح بهذا, ونبتهج بعشرتهم, وتزداد معرفتنا سعيا وراء فهم كل أسرار الملكوت.
وكل هذا يعمر عقلنا الواعي وعقلنا الباطن بأخبار البر التي تتعلق بكل هؤلاء, وكل ما عملوه في محبة الله وإرضائه, وبكل هذا نتعلق بالبر وبالخير, ويصبح طبيعة فينا, لسنا نجاهد لإدراكها كما كان يحدث في الحياة الأرضية.
وأخيرا وأنا أتكلم عن تجلي الطبيعة البشرية, أريد أن أذكر بعض أمثلة لتبسيط هذا الموضوع:
يحدث أحيانا في أيامنا هذه أن يكون فكر شخص صافيا تخرج منه أفكار في منتهي الروعة, كأن يؤلف قصة أو رواية في منتهي الإبداع, تترك تأثيرا عميقا في الكل, أو شخص ينظم قصيدة تعتبر من أمهات الشعر في خيالها وموسيقاها وعميق معانيها.. فتقول عن هذا الشاعر أو ذلك القصصي إنه كان في حالة تجل.
وقد نقول عن إنسان إنه في حالة تجل, إذا كان الله قد وهبه موهبة معينة بقدرة غير طبيعية في لون من الفن أو الموسيقي أو الرسم أو النحت أو في صناعة ما, فينتج انتاجا نادرا نقول عنه إنه نوع من التجلي, ولكن كل هذه الأمثلة تدل علي تجل مؤقت أما التجلي الذي يكون للطبيعة البشرية بعد القيامة, فهو دائم وثابت.
ما أعظم التجلي الذي يكون لطبيعتنا في الأبدية, ولكن ما قلناه ينطبق علي الأبرار الذين يصلون إلي السماء, وهم في حالة من النقاوة تؤهلهم لمجد هذا التجلي.
ليتنا إذن نستعد لكل ذلك بحياة مقبولة أمام الله.
|