رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
"عندهم موسى والأنبياء، فليستمعوا إليهم" (لوقا 16: 29) تدعونا الكنيسة في شهر نوفمبر تشرين الثاني للصلاة لراحة الموتى المؤمنين، للتّخفيفِ من عذاباتهم المطهريّة تكفيرًا عمّا ارتكبوا من خطايا وشرور، وقد تابوا عنها في حياتهم، وتصالحوا مع الله قبل موتِهم. غير أنّهم استحقّوا الخلاص الأبدي بفضل إيمانهم بالله والعملِ بموجب كلامه، وبفضلِ محبّتهم ومساعدتهم للإخوة المحتاجين عملاً بوصيّةِ المحبّة. إنَّ قمّةَ صلاتنا من أجلِ موتانا تقديمُ قداديس على نيّتهم، مقرونة بأعمالنا الصالحة، وتوبتنا إلى الله، وبأعمال الخير والمحبّة تجاه الفقراء والمُعوَزين والمتألِّمين. كما نضمّ مع صلاتنا أصوامَنا وإماتاتِنا. هذه كلُّها تُشكّل قرابينَ روحيّة، نضمُّها إلى قربانِ المسيح الفادي في ذبيحة القداس، فنستحقَّ رحمةَ الله لموتانا الذين يحتاجون إلى صلواتنا. مَثَلُ الغنيّ ولعازر دعوةٌ لنا لنجمعَ بين الإيمان والمحبة، مُتتلمذين للمسيح المعلم الإلهيّ، ومُلتزمين بتعليم الكنيسة المقدسة. هذا هو مضمونُ الجوابِ الإلهي للغني المُعذَّب في نار الهلاك الأبدي، على لسانِ إبراهيم: "عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم... وإن كانوا لا يسمعون لهم، فإنّهم، ولو قام واحدٌ من الأموات، لن يصدّقوا" (لوقا ١٦: ٢٩-٣١). "موسى والأنبياء" هم بالأمس واليوم وغدًا الكنيسة المقدسة المؤتمنة على التعليم الإلهيّ والمُلتزمة على نقل الحقيقة وعيش المحبة. "عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" "سماعُ كلام الله ومعرفةُ وصاياه يولِّد فينا الإيمان". فالإيمانُ إذًا من السماع، والسَّماعُ هو من المناداةِ بكلام المسيح، هكذا يُعلّمنا القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومة (رومة ١٠: ١٧). إذا آمنّا من كلِّ قلبنا وعقلنا، جسَّدْنا إيماننا بأفعالِ الرحمة ومحبّةٍ الناس، وبخاصّةٍ للفقراء والمحتاجين والمتألِّمين والمشوهين والمهجرين من بينهم. فالإيمان والمحبة ركيزتان تقوم عليهما تعاليم السيد المسيح والحياةُ المسيحيّة، بل كلُّ حياةٍ على وجه الدنيا. الإيمانُ نورٌ للعقل، والمحبةُ حياةٌ للقلب. الأنبياءُ: علّموا كلامَ الله الذي اكتمل بيسوع المسيح كلمةِ الله، وهو النبيُّ بامتياز، لأنّه الكلمةُ والمعلّم، الطريق والحق والحياة . موسى: نقل وصايا الله العشر المختصرة بوصيةٍ واحدة من يسوع، وهي محبةُ الله ومحبةُ الإنسان. بهذه الوصية المزدوجة يرتبطُ الخلاصُ الأبدي. ذاتَ يوم "سأل أحد علماء الشريعة يسوعَ: "ماذا أعمل لأرثَ الحياة الأبدية؟ أجابه يسوع: ماذا كُتب في التوراة؟ كيف تقرأ؟ فقال: "أحبب الربَّ إلهك من كلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك وكلّ فكرك. وأحبب قريبك حبّكَ لنفسك". فقال يسوع: بالصواب أجبت. إفعل هذا فتحيا" (لوقا ١٠: ٢٥-٢٧ وتثنية الإشتراع ٥: ٦). نكتسب من مَثَلِ الغني والفقير أمثولةً كبرى عن معنى الإيمان وارتباطِه بالمحبة. فالإيمانُ هو معرفةُ الحقيقة الموحاةِ من الله واعتناقُها (طيموتاوس الاولى ٢ :٤)؛ والمحبّةُ هي الوصيّةُ الجديدة التي أعطانا إياها يسوع بشرط أن تقترن بالرحمة. العلاقة الوطيدة بين الإيمان والمحبة إنّ معرفةَ الله بالإيمان هي الطريقُ إلى المحبة. عندما نقول بعقلِنا نعم لكلام الله ووصاياه ونقبلُها حقيقةً مُنيرة، ونقول لها أيضاً نعم بإرادتنا عاملين بموجبها، تصبح المعرفةُ الإيمانية مَحبّة مُعاشة. بقدر ما تزدادُ معرفتُنا الإيمانية لله ولكلامه ولتعليم الكنيسة، تزدادُ عندنا مبادراتُ المحبة. ولذلك المحبةُ تفترض الإيمان. وعندما نلتقي الله بالإيمان في شخص المسيح، تُولد فينا المحبةُ التي تفتحُ قلوبَنا على الآخر. المحبّةُ لا تُفرَضُ من الخارج، بل تنبعُ من الإيمان في داخل القلب. يقول لنا القديس بولس: "المحبة تحثّنا" (قورنتس الاولى ١٣: ١-١٣)، العالم اليوم بحاجة إلى معرفة الحقيقة وعيشِ المحبّة، فلا يجوز أن تُعاشَ الحياةُ بالفوضى، من دون العودة إلى التعاليم الإلهيّة التي تعلمنا إياها الكنيسة. مشكلةُ الغني أنّه لم يعرف لا الإيمان ولا والمحبة. ولم يتقاسم الخيرات مع لعازر الفقيرِ المطروحِ أمام بابِ بيته متضوّراً جوعاً ومضروباً بالقروح. لم يؤمن ويصدّق أنّ خيراتِ الأرض مرتّبةٌ من الله الخالق لجميع الناس، وأنّ الخيراتِ المتوفّرة بين يديه، دليلٌ على محبّةٍ من الله، لكي يكونَ هو بدورِه وسيطَ محبّته. يُمثّلُ الغنيَّ كلُّ صاحبِ سلطةٍ في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة، لأنّه يمتلك قدراتٍ متنوّعة هي بحدّ ذاتها وسائلُ للمساعدة. فالسلطة السياسية تمتلك قدراتِ الدولة ومالَها العام ومرافقَها ومؤسّساتِها، وهي مسؤولةٌ عن تأمين الخير العام الذي هو مجملُ أوضاع الحياة الاجتماعية التي تستطيع السلطةُ تأمينَها بنشاطها التشريعي والإداري والقضائي والاقتصادي، فيتمكّنَ الأشخاصُ والجماعات من تحقيق ذواتِهم تحقيقاً أفضل. إنَّ المسؤولين عن الشّأن الإقتصادي بكلّ قطاعاته، وعن تأمين سيره، إذا أساؤوا استعمال مسؤلياتهم ، كانوا مثل الغني في الإنجيل المُقدّس، الذي مارس الظلم والسيطرة على لعازر الفقير المتمثّل في هذه الحالة بالجماعات المتأثرة في معيشتها وكرامتها ومصيرها من الأزمة الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية والإنمائية. وكذلك كلُّ مَن يستعمل سلطته ونفوذه ليفتعل العنف والحرب ويمارسهما لأغراضٍ سياسيّة واقتصاديّة وسواها، ويقتل المواطنين الأبرياء ويهجّرهم ويدمّر بيوتهم، إنّما يُعيد دور الغنيّ في الإنجيل الذي كان مصيره الهلاك الأبدي. تعلّمنا الكنيسة أنّ لعازر الفقير صورةٌ عن يسوع المتألِّم، لعازر الحقيقي الذي نساعده عبر كلّ فقير متألِّم: "كنتُ جائعاً، عطشاناً، عرياناً، غريباً، مريضاً، سجيناً" (متى ٢٥: ٣٤-٤٠)، يسوع هو "لعازر الحقيقي" الذي تنبّأ عنه أشعيا قبل سبعماية سنة تقريباً فقال: "مزدرى ومتروك من الناس، رجلُ أوجاع وعارفٌ بالألم. ومثل من يُستر الوجهُ عنه. لقد حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا، فحسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلَّلاً" (أشعيا ٥٣: ٣-٤). ومثل لعازر المطروح على باب الغني مثقلاً بالجراح، يسوع "تألّم خارج باب المدينة" (عبرانيين ١٣: ١٢)، ورُفع على الصليب عرياناً، وجسده مخضّب بالدم ومثخن بالجراح. يُعلّمنا الآباء القدّيسون أنّ "لعازر الحقيقي" هو أيضاً الكنيسة المقدسة التي، على مثال المسيح يسوع، مؤسّسها ورأسها وهي جسده، تُزدرى من البعض، وتُهمَّش، وتُحتقر، وتُرفض. بل ثمّة من يسخر منها ومن تعليمها وليتورجيتها ويهزأ بها وبرعاتها. لكنّها ثابتة وفي حالة قيامة، لأنّها المسيح السرّي. يقول القديس أغسطينوس: "الكنيسة تسير في هذه الدنيا بثبات، وسط محن العالم واضطهاداته وتعزيات الله". هذه الكنيسة مُؤتمنة على كلام الله، وهي: "موسى والأنبياء" لعالم اليوم، مَن يسمع لها ولتعليمها يخلُص. ولقد ردّد الآباء القديسون: "لا خلاص خارج الكنيسة". إنّنا نصلّي من أجل راحة نفوس موتانا المؤمنين، ونُعزّي الحزانى وخاصّة الذين فقدوا أعزّاء لهم في هذه السنة، ونصلي لراحة الأنفس المطهرية وخاصةً المهملة، سائلين اللهَ الغنيَّ بالرحمة والرأفة، باستحقاقات آلامِ المسيح وأمِّه وأمِّنا العذراءِ مريمَ وبشفاعة القديسين، أن يُمتِّعَهم بالمشاهدةِ السعيدة في مجد الملكوت السماويّ. إنّها شركةُ القِدّيسين: أي كنيسةُ الأرضِ المجاهدة تتشفع كنيسةَ السماء الممجَّدة، من أجلِ كنيسة المطهر المتألِّمة. ونذكر في قدّاديسنا وصلواتنا كلَّ الضحايا البريئة التي تقع في هذه الأيام في عديد من البلدان بسبب الحروب والعنف والجوع... ونلتمس من المسيح الربّ أن يمنحنا نعمة الإيمان من سماع كلام الإنجيل وتعليم الكنيسة، وأن يُضرم في قلوبنا المحبة له ولإخوتنا الفقراء والمُعوزين، الحزانى والمتألّمين. فنستحق أن نرفع نشيد المجد والشكر للثالوث الأقدس، الآب والإبن والروح القدس من الآن وإلى الأبد. |
|