رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مصارعة يعقوب مع الملاك (تك 32: 24-32) ورد في الكتاب المقدس مثل رائع للتغيُّر، وهو مصارعة يعقوب مع الملاك.وهذا المثل فيه توضيح بديع للطريق الذي يضعه لنا الإنجيل، أَلاَ وهو الدخول في معركة داخلية مع الذات بغرض نوال المصالحة وتغيُّر القلب. فيعقوب وعيسو توأمان تصارعا أولاً في بطن رفقة (تك 25: 22)، ثم «كبر الغلامان. وكان عيسو إنساناً يعرف الصيد، إنسان البرية؛ ويعقوب إنساناً كاملاً يسكن الخيام» (تك 25: 27). وبعد ذلك أخذ يعقوب مكان عيسو حينما سلبه حق البكورية والبركة الأبوية. + ففي المرحلة الأولى، نجد أن عيسو قد عاد من الحقل وهو مجهد جداً وقد قَبـِلَ أن يبيع حقه في البكورية ليعقوب مقابل أكلة عدس. + وفي المرحلة الثانية، نجد أن يعقوب قد سرق البركة الأبوية التي كان إسحق ينوي منحها لعيسو، الأمر الذي جعل عيسو يمتلئ بالكراهية تجاه أخيه ويضمر الانتقام لنفسه (تك 27: 41). بدء التغيُّر: إقصاء القوة التدميرية في الإنسان: + وبناءً على نصيحة رفقة، هرب يعقوب من وجه أخيه إلى لابان الذي استعبده لمدة 20 سنة، بعدها أراد يعقوب أن يرجع إلى بيته إلاَّ أنه لم يكن بعد قد حصَّل شيئاً يُذكر. ولكنه بعدما سمع صوت الله قائلاً له: «ارجع إلى أرض آبائك وإلى عشيرتك فأكون معك» (تك 31: 3)، قرر أن يعود إلى عائلته، الأمر الذي يُحتِّم عليه المواجهة مع غضب أخيه. وهنا وجدت عناية الله الفرصة مواتية لتغيير قلب يعقوب عن طريق منحه بركة إلهية تتمثل في إقصاء قوته الذاتية، وهذا الإقصاء تمَّ بطريقة مُدهشة بواسطة الملاك الذي صارعه حتى مطلع الفجر، حيث ضربه على حُقِّ فخذه. ولكنه في النهاية منحه تلك البركة العظيمة والتي بها تحوَّل قلبه تماماً، فمات فيه العتيق يعقوب، ووُلد إنسان آخر جديد هو إسرائيل. لذلك قال له الله: «لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل.» (تك 32: 28) إمكانية تحوُّل القلب: لقد تقابل يعقوب مع القوة التدميرية الكامنة بداخله، وذلك من خلال تقابله مع الله وجهاً لوجه? (تك 32: 30)، وهذا التقابُل حرَّر يعقوب من الخوف المسيطر عليه حتى أنه ذهب لملاقاة أخيه: «وسجد إلى الأرض سبع مرات.» (تك 33: 3) هذه الفقرة من الكتاب المقدس ذات مغزى واضح، إذ أنها تتعرَّض لعملية تحوُّل القلب، كما أنها تُظهر لنا وبقوة أن عدونا ليس خارجياً، وإنما هو كامن في داخل نفوسنا. فالحرب، إذن، ليست هي التحرُّر من الخارجي، ولكن بالأحرى من الداخلي. وتحوُّل القلب هو تحوُّل في النظرة، فيعقوب لم يَعُدْ يرى في عيسو شخصاً قاتلاً، وإنما رأى فيه شخصاً حاملاً لصورة الله (قارن تك 33: 10). ويعقوب الذي قَبـِلَ عمل الله في قلبه أصبح الآن معتمداً على البركة الإلهية، وأصبح لديه اليقين بأنه مُبارَكٌ ومحبوب من قِبَل الله. ولذلك تقدَّم في ثقة ومحبة ليتقابل مع عيسو. أثر تحوُّل قلبنا في تحوُّل قلب الآخر أيضاً: أما بالنسبة لعيسو فقد تجرَّد من وحشيته نتيجةً لاتضاع يعقوب الذي سجد أمامه على الأرض. فتحوُّل يعقوب، إذن، تبعه تحوُّل أيضاً في فكر عيسو حتى أنه ترك غضبه «وركض للقائه وعانقه ووقع على عنقه، وبكيا.» (تك 33: 4) الوداعة نتيجة التحوُّل: واتضاع يعقوب يتفق مع معنى الوداعة الذي ورد في التطويبات. فالوداعة هي حنوٌّ على كل الخليقة، وهو ما تم التعبير عنه في الحوار الذي دار بين الأخوين المتصالحين. فبعدما قَبـِلَ عيسو هدايا يعقوب، قال له: «لنَرْحَل ونذهب وأذهب أنا قدَّامك. فقال له (يعقوب): سيدي عالمٌ أن الأولاد رخصة والغنم والبقر التي عندي مُرضِعة، فإن استكدُّوها يوماً واحداً ماتت كل الغنم» (تك 33: 12و13). فيعقوب قد دخل أرض الأحياء لأنه واجه ضعفات نفسه، واجه هشاشة موقفه، فأصبح حسَّاساً لضعف الآخر. لذلك سار مع الضعفاء من عشيرته لكي يكون سنداً لهم وقت الضيق. للخدَّام: الخدمة يجب أن تكون مصحوبة بالوداعة: وهذا الموقف السابق، موقف يعقوب من الضعفاء، يوضح أن الخدمة يجب أن تكون مصحوبة بالوداعة أي بالحنوِّ على المخدومين، وعلى هذا الأساس قامت الرهبنة في العصور الأولى واستمرت إلى الآن. فالراهب هو مَن يضع نفسه عن البشرية كلها في وداعة حقيقية. وعلى هذا فمَن أراد أن يقوم بخدمة أيًّا كان نوعها، فليتحلَّ بالوداعة. في الوداعة، لا مكان للغضب والكراهية والانتقام: ومن جهة أخرى يمكن القول بأن مَن دخل في المفهوم الإنجيلي للوداعة يكون بالطبع خالياً من سيطرة الغضب والكراهية والانتقام على حياته. فلأنه يضع ثقته بين يديِّ الله، لم يَعُدْ له الغرض في أن يكون، بل في قبول ما هو كائن. وهذا الوضع الروحي يلزمه بالطبع يقظة روحية لكي يستطيع الإنسان أن يحتفظ بوداعته، لأن الشهوات والميول تبقى كامنة داخل النفس تنتظر الوقت الذي تتحرر فيه من عقال الوداعة لتعاود السيطرة على النفس مرة أخرى. الوديع هو الشخص القريب من كل أحد: لقد لمست محبة الله قلب يعقوب فجعلته يتعامل مع الآخر من منطلق هذه المحبة، أي أن يعقوب أصبح وديعاً وقريباً من كل أحد، أصبح يرى الآخر من منظار الله. لذلك أصبح يفرح بالمواهب التي حَبَا الله بها هذا الآخر. ويُعلِّق القديس غريغوريوس النيسي على قول داود في (مز 27: 13): «... أرى جود الرب في أرض الأحياء»، بأن جنة عدن قائمة في كل وقت، إن اكتشفنا نحن الخيرات الموجودة من حولنا وفرحنا بما وهبه الله لإخوتنا. الوداعة تقود الإنسان إلى معرفة مقاصد الله: فالنفوس الوديعة فقط هي التي تكتشف أن الكل هو هبة من الله. وهذه النفوس تمتلكها الدهشة والفرح معاً كلما تأملت عطايا الخالق لخليقته. فبالحقيقة إنها ترث الأرض - كما جاء في التطويبات - لأنها عرفت كيف تتعامل مع الخليقة كهبة إلهية، عرفت كيف ترى الجمال ببساطة إنجيلية، عرفت كيف ترى في الأحداث العارضة معنىً عميقاً وتجديداً لصالح الكنيسة. لهذا، فبساطة القلب التي مصدرها الوداعة - وليس الجهل - تصل بالإنسان إلى أن يكون حكيماً حقيقياً من خلال تأملاته في مقاصد الله من الأحداث صغيرها وكبيرها، لأن الشخص حينئذ يكون مشدوهاً بتسيير الله العجيب للكون بما فيه، حتى أنه يُفسِّر كل الأشياء، ليس من خلال رؤيته الشخصية، ولكن بإرجاعها إلى مقاصد الله التي تقود الكل في طريق الكمال. فالنفس الوديعة تصبح مع الوقت مُعَلِّماً يستطيع أن يستخلص من الحوادث المادية رؤية صحيحة تمنع الناس من التخبُّط يميناً ويساراً في تفسير الأحداث المحيطة بنا. ولسان حال النفس الوديعة هو التسبيح بغرض تمجيد الله على حضوره في كل شيء. فأرض الأحياء، إذن، هي مكان التأمُّل في محبة الله وعنايته، ومكانها هو حيث يوجد الودعاء |
|