+ وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ، فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً!
+ وَرَفَضُوا فَرَائِضَهُ وَعَهْدَهُ الَّذِي قَطَعَهُ مَعَ آبَائِهِمْ وَشَهَادَاتِهِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَسَارُوا وَرَاءَ الْبَاطِلِ، وَصَارُوا بَاطِلاً وَرَاءَ الأُمَمِ الَّذِينَ حَوْلَهُمُ، الَّذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّبُّ أَنْ لاَ يَعْمَلُوا مِثْلَهُمْ. (2ملوك 17: 15) + «بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ» قَالَ الْجَامِعَةُ. «بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ الْكُلُّ بَاطِلٌ». (جامعة 1: 2) + ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ! (جامعة 2: 11)
لكننا نجد في هذه الأحداث أن الجوع والعوز جعل الابن هنا يسترد وعيه ليعود ليفكر في طياشة فعله ويستفيق لكي يعود ويتذكر حاله قبل انعزاله عن أبيه، فهو في كورة بعيدة جائع ولا يهتم به أحد ليعطيه ولو طعام الحيوان نفسه، لأن الإنسان الذي ذاق الغنى وتربى في بيت أبيه الصالح، هو وحده من يشعر بفقره وعوزه، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن من تربى وعاش فقيراً منذ البداية فهو لا يشعر بمثل شعور هذا الابن إطلاقاً، ففي وقت المحنة والجوع تذكر بيت أبيه الذي فيه حتى الخُدام والأُجراء لا يجوعون بل يتبقى عنهم الخبز، وهو الآن يهلك من الجوع الشديد، لأن طبيعة النفس الجوعانة أنها دائماً تجد كل مُر حلو في عينيها لأنها تُريد أن تشبع بأية طريقة، لذلك كان يشتهي أن يأكل طعام الخنازير.
ويلزمنا هنا أن نعي تعبير "وعاد إلى نفسه" لأنه يعني أنه وجد نفسه الضائعة لأنه استفاق من غفلته، فالمعنى هنا القصد منه الوصول، أو انفتاح البصيرة، أو نور تخلل الظلمة، والنور هنا بمثابة العودة للرشد، بمعنى أنه عاد إلى رشده، استنار عقله لأنه استيقظ من غفوته واسترد وعيه، لأنه مكتوب: فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة فيصادفكم ذلك اليوم بغتة (لوقا 21: 34)، لأن من المعروف أن الإنسان حينما ينشغل بمشاكل الحياة وهمومها فأنه ينغمس فيها فينسى حياته تماماً ويفقد أبديته، مثل من يشرب الخمر الكثير فيسكر ويغفو غفواً فينام نوماً ثقيلاً، ولا يستيقظ منه بسهولة إطلاقاً:
+ إذ الجسد الفاسد يثقل النفس والمسكن الأرضي يخفض العقل الكثير الهموم. (الحكمة 9: 15) + وهموم هذا العالم وغرور الغنى وشهوات سائر الاشياء تدخل وتخنق الكلمة فتصير بلا ثمر (مرقس 4: 19) + والذي سقط بين الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذاتها ولا ينضجون ثمراً (لوقا 8: 14)
+ هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم، فأن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا، قد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور، لنسلك بلياقة كما في النهار، لا بالبطر والسكر، لا بالمضاجع والعُهر، لا بالخصام والحسد؛ لذلك يقول استيقظ ايها النائم وقم من الأموات فيُضيء لك المسيح؛ البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات. (رومية 13: 11؛ أفسس 5: 14؛ رومية 13: 14)
لذلك علينا أن نعي قوة سرّ الاعتراف الحسن وفاعليته، لأننا أن لم نعي أولاً خطايانا ونعرفها بدقة فكيف نأتي لله الحي ونعترف بها، وكيف ندخل في سرّ الغفران الحاضر – في كل وقت بسبب فعل عمل مسيح القيامة والحياة – أن لم يكتمل الاعتراف أمام الله أبينا، لأن بدون اعتراف أمامه كيف نحصل على الشفاء: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يوحنا 1: 9)، لأن الإنسان الذي لا يعي مرضه ويذهب للطبيب الماهر فكيف يعالجه وهو لا يدرك ويعترف بأنه مريض حتى يتحدث للطبيب ويصف علته أمامه ويتقبل منه الدواء ويتناوله لأنه يعلم أنه علاجه الوحيد، لأن الرب حينما كان يسير وسط الجمع وكثيرين ينادونه كان يسأل كل واحد – على حده – ماذا تُريد؟، أترد أن تبرأ؟، فالمرضى لأنهم يعلمون أنهم مرضى كانوا يأتون إليه من كل مكان لينالوا منه الشفاء، أما من ساروا معه بلا هدف أو عوز حقيقي، لم يستفيدوا من وجوده وسطهم شيئاً قط، وظلوا كما هم على حالهم، بل وعندما تكلم عن تعبيته وحمل الصليب كثيرين تركوه ومضوا لحال سبيلهم.
لذلك علينا أن نقف أمام طبيب نفوسنا الصالح ونحن في منتهى الصدق، ولا نضع عذراً أو مبرراً لمرضنا القاتل لنفوسنا، لأن المريض ان انشغل ليبرر مرضه لن يُشفى ولن يجد علاج فعال، وأيضاً لا ينبغي – أبداً – أن ندَّعي أننا أخطأنا كنوع من التواضع لأنه نفاق، بل حينما نجد أننا أخطأنا فعلاً نعترف أمامه بصدق دون عذر أو تبرير، ولا ندَّعي شيئاً ليس فينا، لأن هذا الاعتراف بمثابة كذبة كبيرة – على أنفسنا بالطبع – تجعلنا نخسر دخولنا إلى حضرته، لأن الإنسان المُدعي المرض لا ينتبه إليه الطبيب أو يرعاه بل لا يهتم به إطلاقاً.