|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إن كان نجم إبراهيم أب الآباء قد تلألأ في سماء الروح إنما من أجل إيمانه الذي رفعه فوق الأحداث، فكانت العطايا تزيده شكرًا لله دون تعلق بها، والضيقات تزكية أمام الكل... لقد عاش سنوات غربته سلسلة من النصرات غير المتقطعة. الآن إذ فرح مع امرأته سارة من أجل إسحق ابن الموعد اللذين قبلاه في شيخوختهما عطية إلهية فائقة. فقد طلبه الرب منه ذبيحة حب. وبقدر ما قست التجربة جدًا تمجد إبراهيم وإسحق ابنه، فصارا يمثلان صورة حية لعمل الله الخلاصي خلال ذبيحة الصليب وإعلان قيامة المسيا.
1. امتحان الله لإبراهيم 1-2 2. إسحق في الطريق 3-8 3. إقامة المذبح وتقديم الذبيحة 9-14 4. تجديد الوعد الإلهي 15-19 5. أولاد ناحور 20-24 إن كانت الكنيسة تعتز بيوم "الخميس الكبير" أو "خميس العهد" الذي فيه نذكر تقديم السيد المسيح ذبيحة العهد الجديد لتلاميذه قائمة على الصليب، لم تجد الكنيسة صورة أوضح من تقدمه إبراهيم إسحق ابنه محرقة للرب كصورة حية لعمل الصليب، حيث يقدم الآب ابنه فدية عن خلاص العالم، لهذا جاءت "قسمة قداس خميس العهد" منصبة على ذبح إسحق. وستبقى الأجيال كلها ترى في هذا العمل الإيماني مثلًا حيًا وفائقًا يكشف عن ذبيحة السيد المسيح. يقول الكتاب: "وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم. فقال: هأنذا. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، وإذهب إلى أرض المريا واصعده هناك على أحد الجبال الذي أقول لك" [1-2]. امتحان الله لإبراهيم لا يعني عدم معرفة الله قلب إبراهيم، فإنه عارف بكل أسرارنا الداخلية، لكنه إنما سمح بالتجربة لكي يذكّيه أمام الكل ويعلن إيمانه التقوى الخفي، فيكون مثلا حيًا للآخرين. وكما يقول القديس أغسطينوس: [جُرب إبراهيم بتقديم ابنه الحبيب إسحق ليزكي طاعته الورعة، ويجعلها معلنة لا لله بل للعالم. ليست كل تجربة هي للومنا وإنما يمكن أن تكون لمدحنا[313]]. ويرى العلامة أوريجانوس أن هذه التجربة كشفت أعماق إبراهيم وأفكاره الخفية من جهة إيمانه بالقيامة، إذ يقول: [بالروح عرف الرسول بولس - على ما أظن - عاطفة إبراهيم وأفكاره، معلنًا إياها بقوله: "بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مُجرب، قدم الذي قبل المواعيد وحيده، الذي قيل بإسحق يدعى لك نسل، إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات" (عب 11: 17). لقد سلمنا الرسول أفكار هذا الرجل المؤمن، إذ كانت أفكاره هكذا من جهة إسحق، وهذه هي أول مرة يظهر فيها الإيمان بالقيامة، فقد ترجى إبراهيم قيامة إسحق[314]]. هكذا كشفت التجربة عن قلب إبراهيم أب الآباء كإنسان يؤمن بالقيامة من الأموات. إن كان إبراهيم قد دخل ليجرب أقسى تجربة يمكن أن يجتازها إنسان شيخ وهي تقديم الابن الوحيد المحبوب محرقة بيديه، فإن إبراهيم تمتع وسط التجربة برؤية ربنا يسوع المسيح قائمًا من الأموات خلال علامة معينة ملأت قلبه تهليلًا كقول الرب نفسه: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو 8: 56). فإن كان بالإيمان انطلق بابنه نحو المذبح، فقد رجع من التجربة يحمل إسحق وكأنه قائم من الأموات، رمزًا للسيد المسيح الذبيح القائم من الأموات. يبدأ الكتاب عرض التجربة بالقول: "وحدث بعد هذه الأمور" [١]، وكأن الله لم يسمح لإبراهيم بالتجربة إلاَّ بعد أن ظهر له في بلوطات ممرا وأكد له الوعد من جهة إسحق، وبعدما صنع ميثاقًا مع أبيمالك مظهرًا له كيف أعطاه مهابة ورهبة حتى أمام الملوك. بمعنى آخر أعده لها بطرق كثيرة، وكما يقول الرسول: "لكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1 كو 10: 13). هيأ قلبه وفكره وأعد كل حياته لقبول التجربة، كما رافقه أثناء التجربة أيضًا بطريقة خفية وكان سندًا له، وفي النهاية تجلى في حياته بطريقة أو أخرى. وهكذا مع كل تجربة يقوم الرب نفسه بمساندتنا قبل لتجربة وأثناءها وبعدها، حتى يحقق غايته فينا إن قبلنا عمله في حياتنا. لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، مع أن الشريعة الموسوية فيما بعد حرمت الذبائح البشرية ؟ بلا شك كان الوثنيون يقدمون أبكارهم ذبائح لآلهتهم، وكانت هذه التقدمات لا تحمل حبًا من جانب مقدميها بقدر ما تكشف عن روح اليأس الذي يملأ قلوبهم، إذ كانوا يودون غفران خطاياهم بأي ثمن، كما كانوا يودون استرضاء آلهتهم المتعطشة إلى الدماء! لهذا فإن الله طالب إبراهيم خليله بهذه التقدمة ليعلن للوثنيين قلب إبراهيم المحب لله، إذ هو مستعد أن يقدم أثمن ما لديه، وفي نفس الوقت إذ قدم الله كبشًا عوض إسحق أعلن عدم قبوله الذبائح البشرية، ليس عن جفاف في محبة المؤمنين لله، وإنما في تقدير الله للإنسان، إذ لا يطلب سفك دمه وهلاكه! الله لا يطيق الذبائح البشرية، إذ هو محب للبشر، يشتهى حياتهم لا هلاكهم، مقدمًا ابنه الوحيد فديه عنهم، هذا الذي وإن صار إنسانًا لكنه وحده لا يقدر الموت أن يملك عليه ولا الفساد أن يقترب منه! يقول القديس أغسطينوس: [لم يكن إبراهيم يؤمن قط بأن الله يقبل الذبائح البشرية ومع ذلك عندما دوى صوت الوصية الإلهية (بتقديم إسحق) أطاع بغير جدال. كان إبراهيم يستحق المديح إذ كان يؤمن تمامًا أنه إذ يقدم ابنه محرقة يقوم ثانية، كقول الرب له عندما كان إبراهيم غير راغب في تحقيق رغبة امرأته بطرد الجارية وابنها "بإسحق يدعى لك نسل" (21: 12)... لذلك إذ كان الأب متمسكًا بالوعد منذ البداية الذي يتحقق خلال هذا الابن الذي أمر الله بذبحه لم يشك قط أن ذاك الذي كان قبلًا لم يترج ولادته يمكن أن يقوم بعد تقديمه محرقه[315]]. بمعنى آخر أدرك إبراهيم الفارق بين تقديم ابنه ذبيحة وبين الذبائح البشرية التي كانت تقدم للأوثان. هو آمن بالله الذي وهبه إسحق بعدما كان رحم سارة مماتًا وحسب ولادته أشبه بقيامة من الأموات فلا يصعب عليه أن يقيمه بعد تقدمته محرقة؛ أما الوثنيون فكانوا يقدمون أبكارهم استرضاءً لآلهتهم المحبة لسفك الدماء، يقدمونهم بلا رجاء! أخيرًا طلب إليه أن يقدمه محرقة على أرض المريا في الموضع الذي يظهره له... ويرى البعض أن الجبل الذي أقام فيه إبراهيم المذبح ليقدم عليه ابنه هو بيدر أرونه اليبوسي (2 صم 24: 24،1 أي 21: 24)، أي في المكان الذي بُني عليه الهيكل حيث كانت الذبائح تقدم بلا انقطاع تنتظر مجيء الذبيحة الفريدة التي لحمل الله ربنا يسوع المسيح. وفي التقليد السامري أن أرض المريا في منطقة جبل جرزيم شمال أورشليم. ويقول الأب قيصريوس أسقف Arles أن جيروم الكاهن يؤكد خلال لقاءاته مع شيوخ اليهود أن السيد صُلب في ذات الموقع الذي فيه قُدم إسحق محرقة[316]. أما كلمة "مريا" فتعني (الرب راء أو معد)، حيث أعد الرب كبش المحرقة؛ وربما تعني (الرب معلم)... فقد علمنا عن الحب العملي خلال ذبيحة ابنه الوحيد! "فبكَّرَ إبراهيم صباحًا وشّد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه ومعه إسحق ابنه وشقق حطبًا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله" [٣]. إذ سمع إبراهيم الأمر الإلهي مع ما بدا كمتناقض لمواعيده السابقة في طاعة قام لينفذ الأمر. انطلق للعمل "باكرًا" في الصباح دون تراخ من جانبه، وبغير جدال أو شك في مواعيد الله. كان إبراهيم عجيبًا في طاعته كما كان ابنه أيضًا " الشاب " عجيبًا في استسلامه بين يدي أبيه... فقد أسرع إبراهيم للعمل حسب الأمر الإلهي وإسحق معه لا يعارضه في شيء. يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على عدم استشارة إبراهيم لزوجته سارة في هذا الأمر، بقوله: [إبراهيم الذي كانت له زوجة عجيبة عندما أراد تقديم ابنه أخفي ذلك عنها، مع أنه لم يكن يعلم ماذا حدث، لكنه قد صمم أن يقدم ابنه... إن كان لنا شخص عزيز لدينا كعضو في العائلة ليتنا لا نظهر له أعمال محبتنا ما لم تحتم الضرورة[317]]. أما عن دور إسحق الإيجابي بطاعته لأبيه في الرب فيعلق عليه القديس أمبروسيوس، قائلًا: [خاف إسحق الرب إذ كان بالحق ابن إبراهيم، فخضع لأبيه حتى لم يرد أن يرفض الموت حتى لا يخالف إرادة أبيه، يوسف أيضًا مع أنه حلم بأن الشمس والقمر والكواكب تسجد له مع ذلك خضع لإرادة أبيه في طاعة كاملة (تك 37: 12)[318]]. هكذا إذ كان إبراهيم مطيعًا للرب بحب فائق بلا جدال وهبه إسحق مطيعًا له بحب حقيقي بلا جدال، وكأن الله كافأ إبراهيم في ابنه قبل أن يمتعه بالمكافأة الأبدية. والعجيب في إبراهيم إنه شقق الحطب في الصباح الباكر قبل أن يخرج، حتى لا يوجد عائق يمنعه عن تحقيق أمر الرب له. هذا الحطب إن كان يشير إلى الصليب الذي يعلق عليه إسحق الحقيقي، فإذ شققه إبراهيم بيديه قبل خروجه إنما يرمز لإعلانات الآب عن الصليب خلال الرموز والنبوات في العهد القديم قبل أن يحمله السيد المسيح، ويرتفع هو عليه كمحرقة! لقد كشف الله عن سر الصليب بطرق متنوعة وإن كانت عيون الكثيرين قد انطمست عن معاينته. "وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد" [٤]. سار إبراهيم لا يومًا ولا يومين بل ثلاثة أيام حتى رأى الموضع من بعيد، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [أن اليوم الثالث إنما يشير إلى قيامة السيد المسيح، وكأن إبراهيم قد دخل مع الرب في القبر وعاش معه آلامه حتى انبثق نور قيامته في فجر الأحد (اليوم الثالث) فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد. كانت عيناه قبلًا منخفضتين نسبيًا ومتذللتين، ربما حاربه العدو بسارة التي تركها الآن في الخيمة ولم يخبرها عن خروجه مع ابنه ليذبحه، ربما حاربه بابنه... لكن على أي الأحوال لم يتوقف إبراهيم عن السير في الطريق ثلاثة أيام، وكأنه ببني إسرائيل الذين طلب إليهم الرب أن يقدموا ذبيحة على مسيرة ثلاثة أيام (خر 5: 3)، إذ لا تقبل ذبيحة خارج دائرة قيامة ربنا يسوع المسيح. هكذا في اليوم الثالث رأى إبراهيم علامة القيامة بطريقة أو بأخرى فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ما هو هذا الموضع إلا السيد المسيح نفسه الذي فيه يرى إسحق ابنه قائمًا من الموت معه وبه أيضًا! سبق لنا الحديث عن سرّ الأيام الثلاثة[319] التي خلالها ننعم لا بذبيحة إسحق بل ذبيحة السيد المسيح القائم من الأموات. ويرى القديس أكليمنضس الإسكندري أن هذه الأيام الثلاثة التي يليق بنا أن نجتازها لنعاين الموضع من بعيد إنما هي: التطلع إلى الأمور الصالحة، شهوات النفس الحسنة، أدرك النفس للأمور الروحية. وكأن النفس لا تقدر أن تعاين سر ذبيحة الصليب ما لم تتطلع إلى الصالحات وتشتهيها في أعماقها وتدركها، أما الذي يفتح العينين لمعاينة هذا السر فهو السيد المسيح نفسه، إذ يقول: [تنفتح عينا الفهم بواسطة المعلم الذي قام من الأموات[320]]. هكذا وسط التجربة وبين ضغطات الألم، وعند كثرة الهموم، امتلأت نفس إبراهيم تعزية انفتاح بصيرته الداخلية في اليوم الثالث لمعاينة سرّ المصلوب القائم من الأموات، فتهلل في داخله إذ رأى يوم الرب (يو 8: 56). تحول أتون التجربة إلى ندى سماوي بظهور السيد المسيح المصلوب القائم من الأموات أمام بصيرة إبراهيم أب الآباء. "فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما" [٥]. يقول الأب قيصريوس: [الخادمان اللذان أمرهما إبراهيم بالبقاء مع الأتان يشيران إلى الشعب اليهودي الذي لم يسطع أن يصعد ويبلغ إلى موضع الذبيحة، إذ لم يريدوا الإيمان بالمسيح. الآتان تشير إلى المجمع اليهودي، والكبش الموثق في الغابة بقرينه يبدو أنه يرمز إلى الرب، لأن المسيح أوثق بين الأشواك بقرون إذ علق على خشبة الصليب وسُمر بالصليب[321]]. لقد شاهد الغلامان إسحق ورأيا الخشب يشققه إبراهيم لكنهما لم يستطيعا الانطلاق إلى حيث قُدم إسحق ذبيحة، وكأنهما بالشعب اليهودي الذي رأى السيد حسب الجسد ونظر الصليب لكنه لم يقدر إدراك قوة الصليب. وكما يقول الرسول بولس: "نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا لليهود عثرة ولليونانيين جهالة... لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس" (1 كو 1: 23، 25). لقد جلس الغلامان مع الحمار ولم ينطلقا مع إبراهيم وإسحق لينظرا سرّ الله، وهكذا كل إنسان يرتبط بالفكر الترابي ويحيا لحساب بطنه وشهوات جسده يكون كمن يجلس مع الحمار، لا يقدر أن ينطلق لمعرفة أسرار الله الروحية التي ترفعه إلى السمويات. "فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحق ابنه وأخذ بيده النار والسكين وذهب كلاهما معًا" [6]. كان إسحق شابًا، يرى البعض أن عمره حوالي 25 عامًا، لذا وضع إبراهيم الحطب عليه وذهب كلاهما معًا إلى الموضع الذي أظهره له الرب. وكما يقول الأب قيصريوس: [عندما حمل إسحق الخشب للمحرقة كان يرمز للمسيح ربنا الذي حمل خشبه الصليب إلى موضع آلامه. هذا السر سبق فأعلنه الأنبياء، كالقول: "وتكون الرئاسة على كتفيه" (إش 9: 5، 6). فقد كانت رئاسة المسيح على كتفيه بحمله الصليب في اتضاع عجيب. إنه ليس بأمر غير لائق أن يعني بالرئاسة صليب المسيح، إذ به غلب الشيطان، ودعى العالم كله لمعرفة المسيح والتمتع بنعمته[322]]. ويقول القديس أغسطينوس: [حمل إسحق الخشب الذي يقدم عليه محرقة إلى موضع الذبيحة كما حمل المسيح صليبه[323]]. أما القول: "فذهب كلاهما معًا" فتشير إلى أن هذه الذبيحة هي ذبيحة إبراهيم كما هي ذبيحة إسحق. قدم إبراهيم ابنه الوحيد خلال الحب الفائق، وقدم الابن ذاته خلال الطاعة الكاملة، فحسبت الذبيحة لحساب الاثنين معًا. هكذا مع الفارق نقول أن ذبيحة السيد المسيح هي ذبيحة الآب الذي قدم ابنه فديه عنا. وهي ذبيحة الابن الذي أطاع حتى الموت موت الصليب... هذه ذبيحة الحب التي قدمها الآب في ابنه الوحيد الجنس، هذا ما أكده السيد المسيح نفسه بقوله: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16)، وأيضًا يقول الرسول بولس: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟!" (رو 8: 32). وكما أن السيد المسيح في صلبه قدم ذبيحة الآب في ابنه، فإنه قدم أيضًا نفسه، إذ قيل: "الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غل 2: 20)، "كما أحبنا المسيح أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة طيبة" (أف 5: 2)، "كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها" (أف 5: 25). إن كان القول: "وذهب كلاهما معًا " يشير إلى انطلاق الآب والابن إلى الصليب ليقدما ذبيحة الصليب، يقدمها الآب بإرادته المحبة للبشر، ويقدمها الابن المحب بطاعته العملية، فإن العبارة أيضا تشير إلى انطلاق الله والكنيسة معًا نحو الصليب، فالله يعلن حبه للإنسان بتقديم ابنه فديه عن البشرية، والكنيسة تعلن حبها للآب خلال رأسها المبذول، فيشتم الآب في ذبيحة الصليب رائحة سرور ورضا هذه ذبيحة الكنيسة التي تبذل حياتها أيضًا خلال اتحادها بالمسيح يسوع الباذل حياته! إذ سار إسحق مع إبراهيم نحو المذبح، بدأ الابن يسأل أباه: "يا أبي... هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟!". وكما يقول العلامة أوريجانوس: [في هذه اللحظة تتجسم في كلمة الابن (يا أبي) أقسى مواقف التجربة. تصوروا إلى أي درجة يستطيع صوت الابن الذي سيذبح أن يثير أحشاء أبيه؟! لكن إيمان إبراهيم الثابت لم يمنعه من الإجابة بكلمة رقيقة: "هأنذا يا ابني"!![324]]. في الإيمان بالقادر أن يقيم من الأموات قال إبراهيم: " الله يرى له الخروف يا ابني" [٨]. وقد رأى الآب الحمل الحقيقي، يسوع المسيح، الذي قدمه ليس فديه عن إسحق وحده بل عن العالم كله. في قوله: "الله يرى" يوضح إبراهيم ثقته الكاملة في خطه الله الخلاصية التي ليست من صنع إنسان لكنها بتدبير إلهي، الله وحده يراها، بطريقته الخاصة الفائقة. كل شيء قد أعد فقد بلغ إبراهيم الموضع الذي رسمه الله، والمذبح قد بنى، والحطب الذي حمله إسحق قد رتب، وربط إسحق بيدي أبيه ووضع على المذبح فوق الحطب، ومدّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبحه... كانت الأمور تسير في جو من الهدوء الداخلي، إبراهيم يؤمن بالله الذي لن يتخلى عن مواعيده، وإسحق في طاعته يمتثل للذبح ولم يبق إلاَّ لحظات ليُذبح الابن ويُقدم محرقة. لقد حُسب إبراهيم أنه قدم ابنه إذ كان مسرعًا في العمل بلا خوف، وقبلت تقدمته حتى وإن لم تتحقق بطريقة حرفية، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [بحق قدم الأب ابنه، فإن الله لا يطلب الدم بل الطاعة اللائقة[325]]. وحُسب إسحق ابنًا للطاعة إذ قبل الصليب بإيمان، وكما يقول القديس جيروم: [إسحق في استعداده للموت حمل صليب الإنجيل قبل مجيء الإنجيل[326]]. وفي اللحظة الحاسمة وسط الهدوء الشديد إذ بملاك الرب ينادى إبراهيم: "إبراهيم إبراهيم"... "لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني" [11-12]. قول الرب "الآن علمت"، كما يقول القديس أغسطينوس: [لا تعني أن الله لم يكن له سابق علم بما في قلب إبراهيم، إنما أراد أن يعلن لإبراهيم نفسه أعماقه الداخلية [327]]، فصار إبراهيم مكشوفًا لنفسه كمحب لله، ومكشوفًا للأجيال كلها أن سرّ عظمة إبراهيم عدم تعلقه بالحياة الزمنية. رأى إبراهيم كبشًا موثقًا بقرنيه في الغابة، واصعده محرقة عوضًا عن ابنه، وكأنه رمز للسيد المسيح الذي علق على خشبة الصليب وسُمر بذراعيه المفتوحين لأجل خلاص العالم. دعي إبراهيم الموضع " يهوه يرأه " أي (الله يُرى)، هكذا ترأى الله لإبراهيم في موضع الذبيحة، إذ فيه تمت المصالحة بين الله والإنسان، وصار لنا حق رؤيته كأبناء لنا موضع في حضن الآب خلال الذبيحة يرفعنا الروح القدس وينطلق بنا إلى الأحضان الإلهية لننعم برؤية إلهية، لا على مستوى البصيرة الزمنية، إنما رؤية الاتحاد مع الله والتمتع بشركة أمجاده أبديًا. من هنا صار المذبح في كنيسة العهد الجديد يمثل السماء عينها... موضع لقاء الله مع الإنسان في الابن الذبيح. أولًا: يرى العلامة أوريجانوس أن الوعود السابقة كانت بالأكثر تميل إلى تأكيد أبوة إبراهيم لأهل الختان وإن كانت لم تتجاهل أبوته الروحية لجميع المؤمنين من كل الأمم والشعوب، أما الوعد هنا فأبرز بالأكثر أبوته الروحية. إذ يقول: ["إذ كان يليق به أن يكون أبًا للذين هم من الإيمان" (غل 3: 9) ويدخل الميراث خلال آلام المسيح وقيامته... كان الوعد الأول يخص الشعب الأول حيث كان (الصوت الإلهي) في الأرض، إذ يقول الكتاب: "ثم أخرجه إلى خارج - خارج الخيمة - وقال له أنظر إلى السماء وعّد النجوم إن استطعت أن تعدها، وقال له هكذا يكون نسلك" (تك 15: 1). أما في تجديد العهد فيُظهر الكتاب أن الصوت جاء من السماء (22: 11). الأول جاء من الأرض والثاني من السماء. ألا يبدو في هذا وجود رمز لحديث الرسول: "الإنسان الأول من الأرض ترابي، والإنسان الثاني الرب من السماء" (1 كو 15: 47)؟ الوعد الخاص بشعب الإيمان يأتي من السماء أما الخاص بالشعب الآخر (اليهودي) فمن الأرض[328]]. ثانيًا: إن كان الوعد الإلهي يشير بالأكثر لميراث الأرض فجاء الصوت من الأرض، والثاني يمس رجال العهد الجديد لميراث أبدي فجاء الصوت من السماء... فإن الأخير جاء مثبتًا بقسم إلهي، الأمر الذي أثار مشاعر الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين (عب 6: 17). ثالثًا: إن كان الله يجدد العهد معنا إنما لكي يعلن التزامنا نحن أيضًا بتحديد العهد معه كقول العلامة أوريجانوس[329]: [فالمؤمن إذ يدخل مع الله في ميثاق داخل مياه المعمودية، فيه يجحد إبليس وكل أعماله ويعلن قبوله لله وأعماله الخلاصية وعضويته الحقة للكنيسة وانتظاره الحياة الأبدية، يجدد هذا العهد يوميًا بالتوبة المستمرة، قائلًا في صلاة باكر: "لنبدأ بدءًا حسنًا "، حاسبًا كل صباح بداية جديدة لحياة أعمق مع الله مخلصه. إذ جدد الله وعوده لإبراهيم رجع إلى غلاميه وذهب معهما إلى بئر سبع ليسكن هناك إن كانت بئر سبع كما رأينا تشير إلى مياه المعمودية وعمل الروح القدس خلالها وفيها، فإذ قدم إبراهيم الذبيحة وتمتع بالوعود الإلهية انطلق إلى غلاميه كما إلى جسده الخاضع له بطاقاته ومواهبه ليستقر كل أيامه عند مياه المعمودية، متذكرًا عمل البنوة الإلهية، ومتجاوبًا مع عمل الروح القدس. كأن المعمودية ليست طقسًا يمارس في بداية الطريق لينتهي وإنما هي حياة يعيشها المؤمن كل أيام تغربه، يدخل إلى المياه ليلتقي مع السيد المسيح المدفون القائم من الأموات فيحيا كل أيامه بالروح القدس ينعم بهذه الحياة، وكأنه يسكن في بئر سبع مع إبراهيم، أي في مياه المعمودية. حين نُسبى بالخطية نجلس كما على أنهار بابل لنبكى متذكرين صهيون، تعجز ألسنتنا عن النطق بكلمات التسبيح والترنم بترنيمات صهيون (مز 137)، أما وقد قبلنا الإيمان بذبيحة إسحق الحقيقي وتمتعنا بالوعد الإلهي الجديد فنسكن في بئر سبع عند مياه المعمودية مع غلماننا نسبح الرب بالقلب كما باللسان. لعل انطلاق الغلامين إلى بئر سبع مع إبراهيم وإسحق في نهاية المطاف يشير إلى عودة اليهود إلى الإيمان بالسيد المسيح الذي لم يستطيعوا قبلًا معاينة سرّ ذبيحته... فينطلقوا في آخر العصور إلى مياه المعمودية ويقبلوا من قد جحدوه. ذكر الكتاب أولاد ناحور أخ إبراهيم من زوجته ملكة ليكشف عن قرابة رفقة لزوجها إسحق، والدها ابن أخ إبراهيم، أي هي ابنة ابن عمه، فإن كان الكتاب يهتم برجال الإيمان ونسبهم فهو يهتم بالمؤمنات ونسبهن ودورهن في تاريخ الخلاص. |
|