مزمور 113 (112 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
تنازل الله الكلي جلال
يعتبر هذا المزمور موجزًا لممارسة العبادة. وهو مزمور ليتورجي، كان يُسبَّح به في عيد الفصح مع المزمور 114 قبل تناول الفصح، ويُسبَّح بالمزامير 115-118 بعد تناول الفصح. كما كان يُسبَّح به في عيد الخمسين وعيد المظال وتدشين الهيكل ورأس الشهر. لا يزال اليهود الأرثوذكس يُسبِّحون به في الفصح. قيل إن ربنا يسوع قبيْل ذهابه مع تلاميذه إلى بستان جثسيماني (مت 26: 30) سبَّح معهم المزامير 113-118.
من أشهر المزامير في اليهودية والمسيحية، يدعى "هلليل المصري" Egyptian Hallel. عبارة عن تسبحة رائعة لله الكلي الحب والكلي الجلال، عظمته لا تُقارن بأية عظمة. في تنازله لا يتجاهل إنسانًا ما، ولا يستخف بأحدٍ مهما كان مسكينًا وبائسًا أو ملقيًا في مزبلة.
يربط المزمور بين تسبحة حنة المُرَّة النفس (1 صم 2: 2-10)، وتسبحة العذراء مريم المُتهللة بتجسد الكلمة (لو 1: 47-55). إنه يكشف عن التناغم بين العهد القديم والعهد الجديد، بكون المخلص هو مركز العهدين، وهو كلمة الله الذي أخذ شكل العبد، وأطاع حتى الموت موت الصليب ليرفعنا إليه (في 2: 7-9).
مزامير هلليل Hallel Psalms
توجد ثلاث مجموعات منفصلة لمزامير هلليل:
1. هلليل المصرية Egyptian Hallel، وهي المزامير 113-118.
2. مزامير هلليل العظمى Great Hallel، وهي مزامير 120-136، تضم مزامير المصاعد.
3. مزامير هلليل الختامية، وهي مزامير 146-150.
كان يُسَبَّح بالمجموعتيْن الأولى والثانية في الأعياد السنوية (لا 23، عد 10: 10).
العبادة لله والتعرُّف عليه
إن كان هذا المزمور هو تسبحة لله الكلي الجلال، الذي في محبته للبشر يتنازل ليرفعنا إليه، فهو في الحقيقة يربط بين العبادة لله والتعرُّف على شخصه وسماته. فالعبادة تدخل بنا إلى معرفة أعمق، والتعرُّف عليه يدفعنا بالأكثر للتعبد له بروح التسبيح والتهليل.
يكشف لنا المرتل في هذا المزمور عن العبادة المتهللة:
أ. من الذين نعبده بالحق؟ [1]
ب. متى نعبده؟ [2] مع كل نسمة من نسمات حياتنا.
ج. أين نعبده؟ [3] في كل المسكونة، من المشارق إلى المغارب. أينما وُجدنا، سواء في البيت أو المخدع، أو أثناء العمل الخ.
د. لماذا نعبده؟ [4-9] لكي نعرفه، ونعرف أعماله العجيبة معنا، فنتقدم له ذبائح التسبيح. نختبر نعمته العجيبة، فتفيض نفوسنا بالشكر له بلا انقطاع.
1. من الذين يعبدونه؟
1.
2. متى نعبده؟
2.
3. أين نعبده؟
3.
4. جلال الله المعبود
4-5.
5. تنازل الله العجيب
6-9.
من وحي المزمور 113
1. من الذين يعبدونه
هَلِّلُويَا.
سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ الرَّبِّ.
سَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ [1].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "سبحوا أيها الفتيان الرب".
كان كل الشعب يُسبِّحون بالآية 1، بكونهم عبيد الرب، ليس فقط اللاويون والكهنة، وإنما كل الجماعة أو الشعب.
ماذا يعني بعبيد الرب سوى كل المؤمنين الذين يثقون في الرب، ويشتاقون أن يكرسوا كل حياتهم له. هنا نقصد بالتكريس ليس التفرغ للخدمة، وإنما تكريس القلب، فيشعر المؤمن في عبادته كما في عمله اليومي، بل وفي أكله وشربه ونومه أنه يحيا لمجد الرب.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذا هو موقف الكتاب المقدس من التسبيح. فهو ذبيحة يًسر بها الله أفضل من تقديم ثيران وكباش. إنها لا تكلف المؤمن شيئًا، لكن يلزم تقديمها بالشرطين التاليين:
أ. يقدمها الإنسان البار، فإن التسبيح لله لا يتحقق بالفم واللسان، وإنما بالحياة المقدسة في الرب. "التسبيح غير لائق في فم الخاطئ" (سيراخ 15: 9).
ب. لا يتم التسبيح بتقديم كلمات فحسب، وإنما يلزم أن يُمارس خلال الأعمال. وكما يقول السيد المسيح: "ليضئ نوركم قدام الناس" (مت 5: 16). هذا هو الأسلوب الذي يستخدمه الشاروبيم في التسبيح لله. هذا التسبيح سمعه إشعياء النبي، فقال: "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" (إِش 6: 5).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هكذا يلزمك أن تصير ملاكًا، وتسبح بهذه الكيفية. لهذا لا تستهن بهذه التسبحة. عوض هذا لنجعل حياتنا تقدم صوت (التسبيح) قبل أفواهنا. ليت سلوكنا ينطق بها قبل لساننا. بهذه الكيفية نستطيع أن نسبح الله حتى ونحن في صمتٍ. بهذا فإننا عندما نتكلم نعزف موسيقى تتناغم مع حياتنا[1].]
* الذبيحة الواجب تقريبها منا لله هي التسبيح، كقوله إن ذبيحة التسبيح تُمجِّدني... هذا يُعلِّم الأحداث في السن والمبتدئين في الإيمان، وأيضًا الأقوياء ذوي القوة الروحية الشديدة أن يُسبِّحوا الرب، لكن ليس بالقول الملفوظ بالفم فقط، بل وبالسيرة أيضًا.
* الكل عبيد لذاك الذي هو خالقهم، يفعلون كلمته، ويطيعون أوامره[2].
* عندما تسمعون غناءً في المزامير: "سبحوا أيها الفتيان الرب" (LXX)، لا تظنوا أن هذه النصيحة ليست موجهة إليكم، لأنكم قد عبرتم صبوة الجسد، والآن أنتم في زهرة سن البلوغ، أو صارت لكم الشيبة مع كرامة الشيخوخة. فإن الرسول يقول لكم جميعًا: "أيها الإخوة لا تكونوا أولادًا في أذهانكم، بل كونوا أولادًا في الخبث" (1 كو 14: 20؛ مت 18: 3).
أي خبث على وجه الخصوص سوى الكبرياء؟ فإن الكبرياء هو الذي يبدي العظمة الكاذبة، والذي لا يسمح للإنسان أن يدخل الطريق الضيق والباب الضيق. لكن الطفل يمكنه بسهولة أن يدخل من الباب الضيق، بهذا لا يدخل إنسان ملكوت ما لم يكن كالطفل[3].
2. متى نعبده؟
لِيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا،
مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ [2].
إن كنا نعمل بجدية وبسرعة من أجل تحقيق مصالحنا الزمنية، فهل ننشغل كعبيدٍ للرب بأعمال الرب في كرمه، يلزمنا أن نسبحه ما حيينا، وعندما نموت؛ نسبحه في أفراحنا، كما في أحزاننا.
يطالبنا المرتل أن نبدأ الآن بالتسبيح لله. نحسب كل نسمة نتنسمها هي تسبحة مفرحة، نقدمها ذبيحة حمد وشكر لله.
يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: هل لا يكون اسم الرب مباركًا إن لم نصلِ؟ يجيب أنه إذ يتبارك اسم الرب فينا، فالبركة هنا خاصة بنا، وذلك كقول الرسول بولس: "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم" (راجع 1 كو 6: 20). هذا ما أمرنا به الرب أن نصليه: "ليتقدس اسمك"، أي يتمجد اسمه في حياتنا. فكما يُهان حينما تكون حياتنا شريرة، هكذا يتمجد ويتبارك ويتقدس حينما نمارس الفضيلة[4].
* لماذا قيل: "من الآن؟"... أي من هذه اللحظة التي تنطقون فيها بهذه الكلمات. لتبدأوا التسبيح، ولتسبحوا بلا نهاية[5].
3. أين نعبده؟
مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا،
اسْمُ الرَّبِّ مُسَبَّحٌ [3].
لا يليق بنا أن نوجد في موضع لا نستطيع أن نناجي فيه إلهنا ونسبحه! نسبح الله أينما وُجدنا، سواء في الشرق أو الغرب، في النهار كما بالليل.
* ألا ترون كيف أبطل الطرق اليهودية وأنهاها، ونشر طريق حياة الكنيسة، وأعلن عن عبادتها؟[6]
* بعد أن ماتت حبة الحنطة ودُفنتْ بالآلام، فإنه من حبة واحدة صار محصول الكنيسة في العالم كله. ليس كما كان سابقًا اسم الله معروفًا في اليهودية وحدها، واسمه العظيم يُعبد في إسرائيل وحدها، وإنما من مشرق الشمس إلى مغربها اسمه يُسبَّح[7].
* تطلبون ذبيحة بين اليهود، لا تجدون ذبيحة على طقس هرون. تطلبون ذبيحة على طقس ملكي صادق، تجدونها ليس بينهم، بل يُحتفَل بها في كل العالم، في الكنيسة. "من مشرق الشمس إلى مغربها اسم الرب مُسبَّح" (مز 113: 3)[8].
* ليتنا نُسَبِّح الرب كأبناء، ونغني: "هلليويا"!
* قبل تجسد ابن الله كان اسم الله عظيمًا وممجدًا ومعروفًا في اليهودية فقط، وأما الأمم من مشرق الشمس إلى مغربها فما كانوا يعرفون الله، ولا يبتغون اسمه، بل كانوا في ضلالة الأصنام. لكن بعد تجسد ربنا، وقبول الأمم كرازة الرسل، صار اسم الله مُسبَّحًا من مشرق الشمس إلى مغربها، وعرفت كل الأمم علو جلاله، وحاولت أن تمجده.
4. جلال الله
الرَّبُّ عَالٍ فَوْقَ كُلِّ الأُمَمِ.
فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مَجْدُهُ [4].
إذ نتعرف على الرب، ونتلمس أعماله خاصة مع المساكين ومنكسري القلوب، تسبحه أعماقنا بلغة يصعب على اللسان التعبير عنها.
* ألا ترون مرة أخرى أن الأمم تتبنى عبادته، ليس أمة واحدة ولا اثنتان ولا ثلاثة، بل كل أمةٍ في العالم؟ أي شيء أكثر وضوحًا من هذا النص الموُحى به؟ الآن كيف يعلو فوق كل أمةٍ؟ هل لأننا نحن نمجده، ولا ننسب العلو إليه؟ حاشا![9]
مَنْ مِثْلُ الرَّبِّ إِلَهِنَا،
السَّاكِنِ فِي الأَعَالِي [5].
من محبته خلق الكائنات السمائية تشهد لقداسته وبرَّه، ويعمل في البشر ليقيم منهم أبناء يحملون صورته، لكنه يبقى فريدًا في علوه وسموه وقداسته وحبه! ليس من يعادله، ولا من ينافسه أو يُقارن به!
غاية هذه التسبحة إثارة مشاعر كل الشعب واهتمامهم واعتزازهم بالرب الإله السماوي.
* كيف يسكن في السماوات ذاك الذي يملأ السماء والأرض، وهو حاضر في كل مكان، قائلًا: "أنا إله من قريب، ولست إلهًا من بعيد" (راجع إر 23: 23). "من قاس السماء بيده، والسماء في شبره، ويحجز كرة الأرض" (راجع إش 40: 12، 22)...؟ إنه لا يتطلع إلى الأشياء التي على الأرض، كمن هو محدود في السماء، وإنما كمن هو حاضر في كل موضع ومُتاح لكل أحدٍ. ألا ترون كيف يرفع ذهن من يسمعه تدريجيًا؟[10]
* بالرغم من أن الإنسان قد صنع آلهته، إلا أنه صار أسيرًا لها حالما يتبعها متعبدًا لها... فما هي الأصنام إلا كما يقول الكتاب لها أعين ولا ترى؟[11]
5. تنازل الله العجيب
النَّاظِرِ الأَسَافِلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [6].
إنه خالق كل البشرية، كل الأمم والشعوب والألسنة، لذاك يليق بالكل أن يجتمعوا معًا بروحٍ واحدةٍ ليمجدوه ويسبحوه.
الله في تواضعه ومحبته يتطلع إلى السمائيين ويرعاهم، كم بالأكثر يُظهر تواضعه باهتمامه بالبشر الذين على الأرض، ويرفعهم من المزبلة، ويُجلسهم مع السمائيين.
* "الناظر إلى المتواضعات في السماء والأرض"... فإنه يمجد المتواضعين، لا ليجعلهم متكبرين. فإنه يسكن في الذين يرفعهم إلى العلا، ويجعل منهم سماءً له، أي مسكنًا له. وإذ يراهم غير متكبرين، بل خاضعين له على الدوام، يتطلع وهو في السماء نحو المتواضعين الذين يقيمهم في العلا لسكناه[12].
* ما هي الأشياء التي يجب أن نتفكر فيها في بداية صلاتنا؟ لنصلِّ: "أبانا الذي في السماوات" (مت 6: 9)، قد "أخطأت يا أبتاه في السماء وقدامك، ولست مستحقا أن أُدعَى لك ابنًا" (لو 15: 18-19)... لنوجه أعيننا إلى أسفل بتواضع القلب، ونصرخ بدموع من أعماق قلوبنا إلى الله "الساكن في الأعالي، الناظر الأسافل في السماوات وفي الأرض" (مز 113: 5-6) ونقول: يا الله ارحمنا نحن الخطاة الغير مستحقين أن ننظر إليك (لو 18: 13) إلى أعلى سمائك. وامنحنا القدرة أن نمجد اسمك على الأرض كما هو في السماوات. لأنك أنت يا رب يا الله قدوس، ورحمتك دائمة إلى الأبد (مت 6: 9-10)[13].
الْمُقِيمِ الْمَسْكِينَ مِنَ التُّرَاب،ِ
الرَّافِعِ الْبَائِسَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ [7].
تنازل الله ليلتقي مع الجالسين في المزبلة، الخطاة، لكي يغفر لهم ويقدسهم ويُعدّهم للشركة مع السمائيين في التسبيح السماوي الأبدي.
مسيحنا السماوي هو "السامري الصالح" (لو 33:10 الخ.)، الذي لا يحملنا على حماره، بل على كتفيه، ويدخل بنا إلى فندقه السماوي، إلى كنيسته، كمستشفى، ويُقدِّم لنا علاجًا سماويًا.
دعا الله داود للعمل الملوكي وهو يرعى غنم أبيه، وشاول وهو يبحث عن حمير أبيه، وجدعون وهو يدرس الحنطة، والرسل وهم يصطادون السمك. اختار الجهال ليخزي بهم الحكماء، والضعفاء ليخزي الأقوياء، والفقراء ليخزي بهم الأغنياء.
هذا كله لا يقارن بعمله في الخطاة والزناة والعشارين ليقيم منهم رسلًا وقديسين وشبه ملائكة!
* ليت إله السلام (عب 13: 20) الذي جعل الاثنين واحدًا (أف 2: 13)، والذي يردنا كل واحدٍ للآخرين، الذي يقيم ملوكًا على العروش، ويرفع المساكين من التراب، والشحاذين من المزبلة (مز 113: 7)، الذي اختار داود خادمه، ونزعه من رعاية الغنم (مز 78: 70) مع أنه كان أقل أبناء يسى وأصغرهم (1 صم 17: 14)، الذي أعطى كلمة للذين يبشرون بالإنجيل (مز 147: 18) بقوة عظيمة لأجل كمال الإنجيل، ليته بنفسه يمسكني بيمينه. ليقودني بمشورته، وإلى المجد يأخذني (مز 73: 23- 24)، الذي هو راعي الرعاة (حز 34: 12)، ومُرشِد المرشدين[14].
القديس غريغوريوس النزينزي
* "لم يكن لهما موضع في المنزل" (لو 2: 7)، لأن الجحود اليهودي فاض في كل موضع. لم يجد له موضعًا في قدس الأقداس الذي يشرق بالذهب والحجارة الثمينة والحرير النقي والفضة. لم يُولَد في وسط الذهب والثروات، وإنما في مزبلة، في مذود (لأنه حيث يوجد مذود توجد أيضًا مزبلة). توجد خطايانا الدنسة مثلما في مزبلة. لقد وُلد في مزبلة لكي يرفع القادمين منها. "الرافع البائس من المزبلة" (مز 113: 7). وُلد في مزبلة حيث جلس أيوب أيضًا وبعد ذلك كُلل[15].
* الفندق هو المكان الذي يحلو لمن تعبوا من جراء السفر الطويل الاختلاء فيه. يصحبنا الرب إلى الفندق، إذ هو يرفع البائس من المزبلة، ويقيم المسكين من التراب (مز 7:113).
* لقد قرأ (الرسول بولس) أن إبراهيم عندما اعترف أنه نفاية ورماد وجد نعمة الله في تواضعه الشديد (تك 18: 27). وقرأ أن أيوب إذ جلس في كومة مزبلته استرد كل خسائره (أي 2: 8، 42: 10-17)، وقرأ نبوة داود: "يقيم الله المحتاجين من الأرض، ويرفع البائس من المزبلة" (مز 113: 7)[16].
* حقًا ما لم يحسب بولس نفسه مثل نفاية، ما كان قد اقتنى المسيح لنفسه[17].
* لقد رفع المسكين الذي هو معشر الوثنيين من السفليات والأرضيات، أي رفعهم من قذر الأصنام، وأضافهم إلى الرسل الذين هم رؤساء شعب إسرائيل.
لِيُجْلِسَهُ مَعَ أَشْرَافٍ، مَعَ أَشْرَافِ شَعْبِهِ [8].
* أي شيء يمكن أن يكون أكثر فقرًا من طبيعتنا؟ ومع هذا فإنه رفعها، وأقامها في السماء من البداية، وأجلسها على العرش الأبوي[18].
* ربما يبدو كما لو كنت أنطق بأمورٍ لا يصدقها من شاهد انحلالك وخرابك، فمن هذه الناحية أبكي منتحبًا، ولا أكف عن ذلك حتى أراك قائمًا في بهائك السابق مرة أخرى. فإنه وإن كان هذا يبدو مستحيلًا بالنسبة للبشر، لكن كل شيء مستطاع لدى الله. فهو "المقيم المسكين من التراب؛ الرافع البائس من المزبلة، ليجلسه مع أشراف شعبه" (مز 113: 7-8). وهو "المُسكن العاقر في بيت أم أولاد فرحه" (مز 113: 9).
إذًن لا تيأس من تغَيُّيرك تغيُّرًا كاملًا.
إن كان الشيطان لديه هذه القدرة، أن يطرحك أرضًا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلى أبعد حدود الشر؛ فكم بالأكثر جدًا يكون الله قادرًا أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت، بل أسعد من ذي قبل[19].
* لا تيأس، ولا تطرح الرجاء الحسن، ولا تسقط فيما يسقط فيه الملحدون. فإنَّه ليست كثرة الخطايا هي التي تؤدِّي إلى اليأس، بل عدم تقوى النفس. فتوجد فئة معيَّنة هي التي تسلك طريق اليأس عندما يدخلون طريق الشر، غير محتملين النظر إلى فوق، أو الصعود إلى فوق ممَّا سقطوا فيه.
هذا الفكر (اليأس) الدنس، يثقل على عنق النفس كالنير، فيلزمها بالانحناء، مانعًا إيَّاها من أن تنظر إلى الله. فعمل الإنسان الشجاع والممتاز أن يكسر هذا النير قطعًا، ويزحزح كل ضيقٍ مثبَّت فوقه، ناطقًا بكلمات النبي: "مثل عيني الأمَة إلى يديّ سيِّدتها، كذلك أعيننا نحو الرب إلهنا، حتى يتراءف علينا. ارحمنا يا رب، ارحمنا. فإننا كثيرًا ما امتلأنا هوانًا" (مز ١٣٤: ٢-٣).
يقول: "امتلأنا هوانًا" وتحت ضيقات لا حصر لها. ومع هذا لن نكف عن التطلُّع إلى الله، ولا نمتنع عن الصلاة إليه، حتى يستجيب طلبتنا. لأن علامة النفس النبيلة، هي ألاَّ تنحني من كثرة الكوارث التي تضغط عليها أو تفزع منها، ولا تتراجع بعد عن الصلاة دفعات كثيرة، بل تثابر حتى يرحمها الله كقول داود الطوباوي السابق.
الْمُسْكِنِ الْعَاقِرَ فِي بَيْتٍ،
أُمَّ أَوْلاَدٍ فَرْحَانَةً!
هَلِّلُويَا [9].
ما قيل هنا تحقق بالنسبة لكثيرات مثل حنة أم صموئيل، وسارة أم إسحق، ورفقة وراحيل، ووالدة شمشون، وربما ألوف من شعب بني إسرائيل عبر الأجيال. ولا يزال يتحقق مع كثيرات حتى يومنا هذا. تحقق أيضًا مع أليصابات والدة يوحنا المعمدان.
* أمر كهذا حدث مع الكنيسة، فقد كانت عاقرًا، وصارت أمًا لأبناء كثيرين. لهذا يقول أيضًا إشعياء: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تتمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل" (إش 54: 1)، مخبرًا مسبقًا بما يحدث مع الكنيسة[20].
* الإله الذي نزع عُقْم سارة ورفقة وحنة وأليصابات وغيرهن من العواقر، هو نفسه نزع عُقْم هذه أيضًا (جماعة الأمم)، وجعلها ساكنة ومستقرة في كنيسته المقدسة وكثيرة الأولاد. أعني بالمعتقدات المستقيمة والأعمال الصالحة تفرح (الكنيسة) بهم فرحًا دائمًا. لأنه مكتوب في نبوة إشعياء قول الله من أجل جماعة الأمم: "ضيّقُ علي المكان، وسعي لي لأسكن. فتقولين في قلبكِ: من ولد لي هؤلاء وأنا ثكلى وعاقر، منفية ومطرودة، وهؤلاء من ربَّاهم. هأنذا كنت متروكة وحدي. هؤلاء أين كانوا" (إش 49: 20-21). وأيضًا: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل" (إش 54: 1).
* حقًا إن الأم الفرحانة هي الأم العذراء التي بفعل الروح تحمل الأطفال العديمي الموت. تلك دعاها النبي عاقرًا بسبب عفتها فقط[21].
من وحي المزمور 113
لتملأ حياتي بروح التسبيح!
* هب لي بساطة الطفولة،
فتصير عيناي حمامتين!
تتركز بصيرتي على قدرتك وحكمتك وأبوتك،
فتتهلل أعماقي بك،
ويتحول كل كياني إلى قيثارة.
* لأسبحك بكل كياني،
بلساني كما بحياتي!
ليتقدس اسمك فيّ،
فأصير أنشودة مفرحة!
أسبحك الآن، وكل أوان إلى أبد الأبد!
يمتزج تسبيحك بكل حياتي،
أسبحك في وسط أفراحي، بل وفي وسط آلامي.
* أينما وجدت، في المشارق كما في المغارب،
في يقظتي كما في نومي،
في الكنيسة كما في البيت، بل وفي الشارع،
لا تتوقف أعماقي عن التسبيح الدائم لك!
* تسبحك نفسي المنسحقة،
لأنك وأنت أعلى من كل علو،
قريب إلى نفسي أقرب من الكل.
تتطلع أيها السماوي إليّ.
تنظر إلى مسكنتي،
تقيمني من المزبلة،
وتجلسني وسط الطغمات السماوية.
* أشكو إليك نفسي المنكسرة.
فقد حلّ بي العقم،
فلا أحمل ثمر الروح.
أعطيت للعواقر أبناء،
فصرن أمهات لأبناء كثيرين.
عوض العار، وهبتهم بهاءً ومجدًا.
عوض العقم، ملأت بيوتهم بأبناء مقدسين.
من يهبني ثمر الروح القدس سواك؟!
من ينزع عني مذلتي سوى نعمتك.
تحول برية قلبي إلى جنة سماوية.
تفجر في داخلي ينابيع روحك القدوس.
تلهب أعماقي بنيران الحب الإلهي.
تقيم ملكوتك المفرح في داخلي.
تضمني إلى خورس السمائيين،
فلا تتوقف أعماقي عن التسبيح لك!