كلمة قانون هو كلمة يونانية (Kanon) استخدمت في العصور الأولى للمسيحية للتعبير عن الأسفار الموحى بها سواء في العهد القديم أو العهد الجديد وللتميز بينها، كأسفار موحى بها وكلمة الله، وبين بقية الكتب الدينية الأخرى غير الموحى بها. وفى دراستنا هذه تعنى بالتحديد قبول الكنيسة لكل سفر من أسفار العهد الجديد، على حدة، باعتباره كلمة، كلام الله الموحى به، وتأكيد صحة نسبة إلى كاتبه، أحد شهود العيان، واعتراف الكنيسة به فور تدوينه ونشره.
وكما بينا، أعلاه، فقد قبلت الكنيسة منذ البدء ما دونه الرسل شهود العيان بالروح القدس فور تدوينه ونشره مباشرة بفرح وبهجة وتهليل. وهذا القبول الفوري كانت له أسبابه ومبرراته التي لا يمكن أن تنكر على الإطلاق؟
أولًا : لأن الكنيسة، كانت قد تسلمت الإنجيل شفاهة وقبل أن يدون بأكثر من عشرين سنة وكانت تحفظ كل كلمة فيه عن ظهر قلب وتحافظ عليه بروحها.
ثانيًا : ولأن الذين سلموا الإنجيل الشفوي، الرسل شهود العيان، هم نفس الذين دونوا الإنجيل وكتبوه بالروح القدس، وهم أيضًا الذين سلموه لها مكتوبًا.
ثالثًا : كما أن أعضاء الكنيسة الذين استلموا من الرسل الإنجيل الشفوي هم الذين طلبوا من الرسل أن يدونوا لهم ما سبق أن سلموه لهم شفاهة، ومن ثم دون الإنجيل بالروح القدس أمامهم وبمعرفتهم فقبلوه بفرح وتهليل وحافظوا عليه بأرواحهم.
وكان الإنجيل (كل أسفار العهد الجديد) يقرأ فور تدوينه ونشره في الكنائس في اجتماعات العبادة والتعليم، ككلمة الله ونعمته الحقيقية التي يقومون فيها، كما يقول بطرس الرسول بالروح، وكإعلان الله وشهادة يسوع المسيح والذي يقود الإيمان به بكلامه، بكلام الله، إلى الحياة الأبدية، كما يقول الإنجيلي والرسول، وكإنجيل ابن الله والبشارة الأبدية للخلاص، وكتاب ميلاد وحياة وأعمال وتعليم يسوع المسيح كما يعلن الإنجيليون الثلاثة القديسون مرقس ومتى ولوقا و"الإيمان المسلم مرة للقديسين (35)"، كما يقول يهوذا الرسول (أخو يعقوب) (36)، ووصية الرب وإعلان يسوع المسيح وإنجيله الذي هو أساس ومصدر الإيمان المسيحي "كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في الرب لكي يكون إنسان الله كاملًا متأهبًا لكل عمل صالح (37)"، كما يقول بالروح بولس الرسول والذي يقول لتلميذه تيموثاؤس "أعكف على القراءة والوعظ والتعليم (38)". كان كل سفر يقرأ في الكنائس واجتماعات العبادة في الكنيسة التي كتب لها أولًا ثم تنسخ منه نسخ وترسل إلى الكنائس المجاورة، حيث كانت تتركز الكنائس المسيحية بكثافة في آسيا الصغرى وفلسطين وسوريا والإسكندرية وما حولها وشمال أفريقيا واليونان وروما، وكانت كل كنيسة تحتفظ بالسفر أو الرسالة التي كتب لها أصلًا وتحتفظ بنسخ من الأسفار التي كتبت وأُرسلت للكنائس الأخرى، يقول القديس بولس الرسول لأهل تسالونيكي:
"أناشدكم بالرب أن تقرأ هذه الرسالة على جميع الأخوة القديسين (39)"،
ويقول لأهل كولوسي:
"ومتى قُرئت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تقرأ أيضًا في كنيسة اللاودكيين والتي من لاودكية تقرأونها أنتم أيضًا (40)".
ونظرًا لأن معظم رسائل بولس كانت هي أول ما كتب من أسفار العهد الجديد فقد كانت هي الأكثر انتشارًا في الكنيسة وكان يوجد منها مجموعات كبيرة في الكنائس كثيرة، وهذا ما يؤكده القديس بطرس سنة 64م بقوله "كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس.. كما في الرسائل كلها". ثم جمعت الأناجيل الأربعة في بداية القرن الثاني معًا، وجمعت أيضًا الرسائل الجامعة التي للقديسين ويعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا مع سفر الأعمال في مجموعة واحدة.
ويؤكد سفر الرؤيا، الذي رآه القديس يوحنا الإنجيلي بالروح ودونه أيضًا بالروح القدس، على حقيقة انتشار وثبات عادة قراءة الإنجيل في الكنائس، ويؤكد الوحي الإلهي أن سفر الرؤيا نفسه قد أعطى بالروح القدس وكتب أصلًا للقراءة العامة: "طوبى للذي يقرأ وللذين يسمعون أقوال النبوة ويحفظون ما هو مكتوب فيها لأن الوقت قريب (41)". ويتكرر في السفر عبارة "من له أذن للسمع فليسمع ما يقوله الروح للكنائس (42)"، في ختام الرؤيا يؤكد الروح أيضًا أن الرؤيا قد أعطيت لتكتب وتقرأ ويحذر من الإضافة والحذف إلى كلمة الله: "لأني أشهد لمن يسمع أقوال نبوءة هذا الكتاب عن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوءة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا الكتاب (43)". والوحي الإلهي يؤكد هنا بصورة مطلقة على قداسة كلمة الله في هذا السفر، سفر الرؤيا، وبالتالي في كل أسفار العهد الجديد (الإنجيل)، فقد كتبت جميعها بوحي الروح القدس ويحذر من تسول له نفسه أن يضيف على كلمة الله أو يحذف منها بالهلاك الأبدي.
وقد انتشرت كل أسفار العهد الجديد (الإنجيل) في كل البلاد التي انتشرت فيها الكرازة المسيحية، خاصة مدن أسيا الصغرى وفلسطين وسوريا ومصر وقبرص واليونان وروما، كما وصل الإنجيل للقديس متى إلى الهند في حياة الرسل على يد القديس توما، كما وصلت الأسفار إلى شمال أفريقيا وانتشرت فيها بكثافة وسرعة في حياة الرسل أيضًا، وذلك لاحتياج الكنائس في هذه البلاد إليها ولسهولة المواصلات في الإمبراطورية الرومانية التي امتدت على شواطئ البحر المتوسط في آسيا وأفريقيا وأوربا. كما أن الإنجيل بأوجهه الأربعة دون وكتب في بلاد متعددة وانتشر منها إلى البلاد المحيطة حتى وصل إلى الهند على يد القديس توما، وانتشر الإنجيل للقديس مرقس من روما والإسكندرية، وانتشر الإنجيل للقديس لوقا من إنطاكية واليونان، وانتشر الإنجيل للقديس يوحنا من أفسس بآسيا الصغرى وكان موجودًا ومنتشرًا في مصر بعد تدوينه ونشره بحوالي ثلاثين سنة، مما يدل على أنه وصل إلى مصر قبل ذلك بفترة، وكانت الأناجيل الثلاثة الأولى موجودة مع القديس يوحنا قبل تدوينه للإنجيل الرابع فأشار إلى ما جاء بها بصورة موجزة ودون الكثير من أقوال وأعمال السيد المسيح التي لم تدون فيها، وكان الإنجيل للقديس لوقا موجود مع القديس يوحنا قبل تدوينه للإنجيل الرابع فأشار إلى ما جاء بها بصورة موجزة ودون الكثير من أقوال وأعمال السيد المسيح التي لم تدون فيها، وكان الإنجيل للقديس لوقا موجود مع القديس بولس وأشار إلى وجوده مع القديس تيموثاؤس تلميذه وأقتبس منه (أنظر 1تى 18:5 مع لو 7:10) قبل سنة 65م، كما كانت رسالة القديس بطرس الثانية مع القديس يهوذا أخو يعقوب واقتبس منها (أنظر 2بط 2:13 مع يه 17). وقد انتشر الإنجيل المكتوب أولًا على أيدي الرسل أنفسهم وفى حياتهم، وكان القديس يوحنا الذي عاش إلى نهاية القرن الأول شاهدًا على ذلك.