رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المعجزة والحياة الروحيّة
الأرشمندريت كاسيانوس عيناتي باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين. "سينظرون إلى الذي طعنوا" يو 19:37 / زخريا 12:10. أقصد بالحياة الروحيّة الحياة في الكنيسة، بالأحرى الحياة مع المسيح في الكنيسة، إذ لا حياة نحياها تكون روحيّة إذا لم تكن مرتبطة بكنيسة المسيح. والحياة الروحيّة ليست رهناً بعدد من السجدات أو من الأصوام أو من القطع المقروءة في فروض يوميّة، بل من خلال كلّ ذلك إكتشافٌ فَرِحٌ للكلمة الإلهيّة الحاضرة والفاعلة في داخلنا، بالأحرى اكتشاف لملكوت الله الذي نصبهُ المسيح في داخلنا. "ملكوت الله في داخلكم". هذا الاكتشاف هو بحدّ ذاته المعجزة الكبرى التي تتمّ على الأرض. وهذه المعجزة لا تتمّ إلاّ بواسطة الكنيسة وعلى ضوء تعاليمها تثبت المعجزات وتكون حقيقيّة. إذ تبقى الكنيسة المعجزة الكبرى التي أقامها الربّ يسوع على الأرض. بواسطتها تكون المعجزات لأنّها تعبّر عن حقيقة أزليّتها. الكنيسة عالميّة وأزليّة، بعالميّتها تقودنا إلى أزليّتها. وبالرغم من أنّ المسيح قد قال: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو 19:36) ولكن نرى أنّ هذه المملكة قد تكون عالميّة والربّ يسوع نفسه يُظهر لنا ذلك من خلال أمثاله وعجائبه التي تحدث في العالم المنظور. "فعندما سأله تلاميذ يوحنا من هو، أجاب وقال لهم: إذهبوا وقولوا ليوحنا: العميان يُبصرون والصم... وطوبى لمن لا يشكّ فيّ" (متى 11:5-6). ولكن من عالميّتها تقودنا إلى أزليّتها. المعجزات حقيقيّة وليست وهماً ولا حالات نفسيّة، وإنّما هي حالات تفوق الطبيعة البشريّة والعقل والمنطق البشري. ولكنّها تدخل وتتجلّى في عالمنا البشري لترفعه إلى الأسمى، إلى العالم الروحي، إلى الحقيقة. لترفعه من الأرض إلى السماء. لقد اقترب ملكوت السموات، ويظهر ذلك من خلال العجائب التي تحدث للبرص، للعميان، للصمّ، لكلّ أحدٍ آمن بأنّ المسيح هو ابن الله. الكتاب المقدّس بكامله هو معجزة روحيّة كبرى. الخلق في سفر التكوين هو أولى عجائب الله الكبرى. وأسفار العهد القديم مليئة بالعجائب والأعمال الخارقة التي تفوق الإدراك والفهم والتي مهما فلسفنا الأمور ونقّبنا في التاريخ تبقى هذه كلّها عجائب من الله هدفها الأسمى والأوحد أن تقودنا إلى معرفة الله السامية، ونكتشف من خلالها حضور الله بيننا. لكي لا نعيش "وكأنّه لا يوجد إله أمامه" (مز 9:24). وهذه العجائب تقودنا إلى عجائب أخرى في العهد الجديد كلّمنا بواسطتها الرب وقادنا إلى الإيمان الحقيقي بابن الله الحيّ المعطي لنا الحياة الأبديّة. والهدف الحقيقي من العجائب، إن في العهد القديم أو في الجديد، أن ندرك ونؤمن ونتيقّن أنّ الله هو أبونا ومخلّصنا. "نحن شعبه وغنم مرعاه" (مز 99:3). الأعجوبة تُبهر وتثير الإعجاب، ولكن ليس هذا هو المطلوب ولا هو هدف المعلّم الإلهي. لم يأتِ ليُبهرنا بأعمال عظيمة وعلامات خارقة وإنّما رأى حاجتنا الماسّة إلى أعمال ينبغي أن يعملها، فعملها وقادنا من سطحيّتنا إلى اكتشاف الكنز الإلهي المُخبّأ فينا. وهكذا بعد كلّ عمل مُعجز وباهر، كان يؤكّد لنا الغاية السامية: وهي الإيمان به كإله والسعي إلى العيش معه كملك، والغاية السامية غفران الخطايا والحصول على الخلاص واستعادة حالة النعمة التي خُلقنا فيهاومنح ذلك بأعجوبة قيامته من بين الأموات. فالمخلّع، يقول القدّيس لوقا، "قام وحمل السرير ومضى إلى بيته ممجدّاً الله" (لو 5:25). هذا والذين معه أقبلوا إلى يسوع طالبين إشفاء رجل مخلّع، ولكن يسوع لم يشفِه جسدياً فقط وإنّما شفى المرض الأصعب من هذا فقال له "ثق يا بُنيّ مغفورةٌ لك خطاياك" (لو 5:20). وبعد ذلك أمره أن يحمل سريره ويمشي والعجيبة أيضاً امتدّت إلى الذين كانوا معه. فيقول القدّيس لوقا: "فأخذ الدهش جميعهم ومجّدوا الله وامتلأوا خوفاً وقالوا لقد رأينا اليوم عجائب" (لو 5:26). فالعجيبة الخارجيّة تأتي في المرحلة الثانية، هي العلامة المنظورة لغير المؤمنين، من أجل الكتبة الذين لم يستطيعوا أن يؤمنوا. قام المخلّع وحمل السرير ليستطيعوا أن يؤمنوا بأنّه هو ابن الله. وإنّما العجيبة الأهمّ وهي المرتكزة على إيمان الجماعة: وهي الشفاء الحقيقي من الخطيئة التي هي بالحقيقة الإعاقة الوحيدة والتشويه الوحيد للمؤمن. لذلك يقول لوقا: أنّ المعلّم عندما رأى إيمانهم قال له مباشرة مغفورة لك خطاياك. العجيبة العظيمة التي أتى المسيح من أجلها، هي شفاء الطبيعة البشرية من حالة الخطيئة والعودة إلى الحالة الأولى، أي استعادة الصورة الأصلية لنستطيع أن نحقق المثال بالفضيلة. نفهم أن شفاء المخلّع الخارجي جاء بعد غفران خطاياه. وهذا الشفاء أصبح علامة فارقة لغير المؤمنين، وهو علامة ورمز لهذا التجديد الروحي للإنسان الداخلي الذي يستطيع المسيح وحده أن يفعله "لكي تعلموا أنّ ابن الإنسان له سلطانٌ على الأرض أن يغفر الخطايا" (متى 9:6) "ما الأيسر أن يُقال..." (مر 2:10). بالرغم من أنّ المعلّم يرى جيّداً، وقد رأى الإعاقة الجسديّة، وإنّما بالنسبة للمعلّم: الشفاء الصعب والأهمّ هو الشفاء من الخطيئة وبهذه الطريقة انتبه المخلّع إلى حقيقة مرضه ومن الآن وصاعداً يتعلّم كيف يُعالج هذا المرض. يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ: "بالمعجزة الخارجيّة، أي بالشفاء الجسدي، يريد المعلّم أن ينقلنا إلى أبعد من هذا، إلى الشفاء الداخلي، الشفاء الروحي". والقدّيس باسيليوس يقول: "الطبّ بكامله هو فنٌّ بشريّ تعاطاه المسيح والقدّيسون ليجسدوا فنّ الاعتناء بالنفوس". بالمعجزات التي أتمّها، رفعنا المسيح من الجسدانيات إلى الروحانيات. ليؤكّد لنا أن الجسد والروح (النفس) يرتبطان كلاهما ببعضهما البعض وأنّ إحساناته ليست فقط من ناحية واحدة ومن طرف واحد وإنّما من الطرفين. لذلك بعد أن شُفي الأبرص السامري عاد يُمجّد الله، وبعد أن شُفي الأعمى أيضاً مجّد الله، والسامري أرشد اليهود إلى الإيمان بابن الله: "أتريدون انتم أيضاً أن تؤمنوا به؟" (يو 9:27). وهكذا دوماً من الجسد إلى الروح، من المحسوس والمنظور إلى اللامنظور. يبدع القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ في وصف أعجوبة اللصّ على الصليب وعُمّال الساعة الحادية عشرة. وفي كلّ ذلك تظهر محبّة الله الغنيّة لنا. فكلّ غنى الله يُعطى لنا عندما نستطيع أن نؤمن وعندما نعبر إلى إنساننا الداخلي ونلتمس هناك الصورة الحقيقيّة التي صُوّرنا بها. يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ: اللصّ اكتشف ذاته وعرف مرضه وحاجته الماسّة إلى هذا الملكوت. عَبَر من خارجه إلى الداخل العميق. الأوّل كان يتطلّع بعينيه الحسيتين فيقول إن كنت ابن الله خلّص نفسك وإيانا وإلى آخره من الأقوال السطحية الخارجيّة. أمّا الثاني فقال: "أُذكرني في ملكوتك". اللصّ الثاني تطلّع بعينيّ نفسه فاكتشف الحقيقة. وصارت الأعجوبة. من حالة اللعنة، من حالة العذاب، من الشقاء، انتقل إلى الفردوس. انتقل بالنعمة الإلهيّة إلى الفردوس. امتلأ من الحضور الإلهيّ لأنّه أبصر في المسيح المصلوب المُهان المجروح العطشان، اكتشف فيه الإله الأزلي القادر على كلّ شيء. وملك اليهود تمجّد جدّاً بعينيّ اللصّ فاصبح ملك المجد لذلك قال له: "أذكرني في ملكوتك". هذا اللصّ لم يستمع إلى أقوال الناموس، لم يكن بين الرسل عندما كان المسيح يجترح العجائب معهم، لم يتعلّم أقوال الأنبياء. إذ إنّ الذين كانوا معه كلّ يوم ورأوا عجائبه واستفادوا من معجزاته وإحساناته قالوا عنه: "هو يُضلّ الشعب" (يو 7:12) وقالوا أيضاً "إنّ به شيطاناً وقد جنّ". وأمّا اللص فقد رأى الربّ في إنسان مسمّر على الصليب جائع، خائر، مُهان، مُغطّى بالبصاق، ومُلطّخ بالقتل، على جسده آثار الجَلَدات وكلّ مظاهر الضعف البشري. بالرغم من كلّ ذلك، اخترقت عينا اللصّ كلّ الحواجز الخارجيّة، ومن منظره إلى الصميم الداخلي، فرآه إلهاً ملكاً حقيقياً، تفوق قدرته كلّ قدرات العالم. فعَبَر من العالم الحسّي إلى العالم الإلهي، إلى العالم الحقيقي فقال له: "أذكرني في ملكوتك". تصرّفٌ جديدٌ وغريبٌ يُعلّمنا إيّاه اللصّ: يرى صليباً فيتذكّر الملكوت. ماذا رأى ممّا جدير بالملك؟ إنسان مصلوب، ملطوم على وجهه، مُهان، مُدمى، مُغطّى بالبصاق، متروك وحيد؟ قل لي أيّها اللصّ، هل ما تَراه يدلّ على علامات ملكيّة؟ ولكن لتتأكّدوا أنّه تتطلّع إليه بعين الإيمان، "تطلّع إلى الذي طعنوه" ورآه بإيمانه، مجتازاً كلّ المظاهر الخارجيّة، رآه إلهاً. ولذلك عندما تطلّع بعينيه الداخليتين رآه الإله، لذا وبسرعة فائقة، دون أن ينتظر، لم ينظر إلى أعماله، لم يفحص أصوامه ولا تنهّداته، ولا تمزيق ثيابه ولا مسوحه ولا زهده ولا بساطة الكلمات التي قيلت. ولكن كما أنّ نظر اللصّ اخترق ودخل إلى الأعماق الإلهيّة، كذلك بالمقابل نظرُ الإله اخترق ونفذ إلى قلب اللصّ، فسمع هذا الأخير: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23:43). أرأيتم كيف أنّ المعجزة تتطلّب إيماناً؟ والمعجزة الحقيقيّة تقودنا إلى الإيمان بابن الله، وتقودنا إلى العيش معه، وإلاّ تكون سبباً للضلال. فملكوت السموات مليء بالمرضى والعرج والعميان والمخلّعين (لو 14:21). يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ في شرحه لحادثة الفتيان الثلاثة (دانيال 3) أنّه كان بمقدور الفتيان أن يكونوا أحراراً وأن يرضخوا لأمر الملك ويفرّوا من النار. من جهة ثانية "بإيمانهم كان الله قادراً أن يُطفئ سعير النار المُتأجّج، ولكنّه يريد أن يُظهر لنا أن بالرغم من قوّة النار وبالرغم من شدّة ألسنتها "زفت وزرجون" فهي لم تمسّهم البتّة. لقد فضّلوا أن يبقوا في الأتون مُستعبدين للنار الخارجيّة على أن يكونوا عبيداً للملك الوثني. النار لم تمسّهم بل كان هناك ندى يلفّهم فاستطاعوا أن يكونوا أحراراً في وسط الاستعباد. فهؤلاء يصدق فيهم قول الرسول بولس (1كو 7:20-22): "إن أمكنك أن تنال الحرية فالأحرى أن تغتنمها، لأنّه من دُعيَ في الربّ عبدٌ فهو مُعتق للربّ. وكذلك من دُعي وهو حرٌّ هو عبدٌ للمسيح". أستخلص من هذا العرض: في وسط الاستعباد نكتشف الحريّة. ينبغي أن لا تطلّبوا معجزات بمفهوم معيّن. الحياة الروحيّة هي المُعجزة الكبرى. والذين يعيشون بالروح، ببساطة الإيمان، يرون عجائب الله المنظورة والغير المنظورة في كلّ ساعة وفي كلّ لحظة وفي كلّ عمل وقول. صنع الله عجائب وما زال يصنع، ونحن نعيش في عالم عجائب الله. لكنّنا لا نستطيع أن نراها ولا أن نكتشفها بسبب عدم إيماننا، أو نقصانه. نتّكل على أفكارنا، نتّكل على وجودنا، نتّكل على قوّتنا أكثر ممّا نتّكل على نعمة الله. أفكارنا لا تكتمل ووجودنا لا يُصبح حقيقياً وقوّتنا باطلة بدون النعمة الإلهيّة. النعمة الإلهيّة تتعاون مع إرادتنا الصالحة وتتحوّل حياتنا إلى عجيبة كبرى. إلى حضور دائم لله وتجسّد لأعمال الله فينا. إذاً: العجائب والآيات التي من الله "تقودنا إلى يسوع الناصري الرجل الذي أُشير لكم إليه من الله بالقوّات والعجائب والآيات التي صنعها الله على يديه فيما بينكم كما تعلمون" (أعمال 2:22). والعجائب والآيات التي لا تقودنا إلى يسوع الناصري هي مؤدّية إلى الموت. وهي من الشيطان لأنّه "سيقوم مُسحاءٌ كذبة وأنبياء كذبة يعطون علامات وعجائب لكي يُضلّوا المختارين أيضاً إن أمكن" (متى 24:25). وأخيراً أُريد أن أقول لكم أنّ العجائب خارج الحياة الروحيّة قد يكون مصدرها إنسان الخطيئة ابن الهلاك كما يقول الرسول بولس (2تسا2:9)، يكون مجيئُه بعمل الشيطان، بكلّ قوّة وبالعلامات والعجائب الكاذبة، وبكلّ خُدعة ظلمٍ في الهالكين لأنّهم لم يقبلوا محبّة الحقّ ليخلُصوا. ولذلك يُرسل الله إليهم عمل الضلال حتى يُصدّقوا الكذب ويُدانوا... فإننا وإن نقلنا الجبال وغيّرنا مدار الشمس ولكن لم نصل بنظرنا إلى المسيح الإله المطعون على الصليب، فلن ننتفع شيئاً لأنّه وحده بتدبيره الخلاصي: تجسّده، صلبه، موته وقيامته وصعوده ومجيئه الثاني المجيد، إستطاع أن ينفعنا، فقَلَب بعجائبه حياة الذين آمنوا به وحوّلها من وقتيّة إلى أبديّة، ومن مائتة إلى أزليّة. وصيّتي إلى مُحبّي العجائب والطالبين علامات في حياتهم: إنّ كلمة روحيّة واحدة وبسيطة جدّاً تستطيع أن تُحقّق مُعجزة كبيرة. ولكن كيف سيكون هذا وقلوبنا نزرعها باشواك الشكّ والحشريّة وبكثافة الكلمات الباطلة؟ أفكارنا دنسة، نتخبّط بشهوات جسديّة تُعمي عيوننا وتُغلق علينا الباب للوصول إلى إنساننا الداخلي. نُصلّي عند الحاجة، وصلواتنا مُختصرة جدّاً، نؤدّيها بأفكار مُبلبلة، مُتهكّمين بأشياء وأشياء. نًُقبل إلى الأسرار الإلهيّة بدون استعداد ولا أيّ مُبادرة لتطهير عقولنا وقلوبنا، والحقيقة أننا لا نبتغي الإتحاد بالله بقدر ما نبتغي الإلتصاق بشخصنا. لذا اسمحوا لي بأن أصرُخ وإيّاكم إلى الربّ بدون انقطاع: "أيّها الربُّ ربُّنا عجِّب مراحمك للمتّكلين عليك، لنصير بعجائبك بكليّتنا إليك وأنت لنا". واسمحوا لي أن نصرخ مع الرسل: "يا ربّ زِد إيماننا" (لو 17:5). أُذكّركم بقول الرسول بولس "مرضى بأمراض صعبة ويموتون في المرض... لِعلمنا بأنّ الذي أقام الربّ يسوع سيُقيمنا نحن أيضاً مع يسوع ويجعلنا معكم... وإن كان إنساننا الظاهر ينهدم فإنساننا الباطن يتجدّد يوماً فيوماً... فإنّنا نعلم أنّه إذا نُقض بيتُ مسكنِنا الأرضي فلنا بناءٌ من الله بيتٌ لم تصنعهُ الأيدي، أبديّ في السموات" (2كور 4:16 ? 5:1) |
|