وصل يسوع والتلاميذ إلى بلاد السامرة ليختصر الطريق إلى أورشليم حيث محطته الأخيرة. أنهكتة الطريق. جعله الحر ظمأً. وصلوا إلى ساحة المدينة.
يعرف يسوع جيداً أنه وطأ أرضاً يعتريها عداوة مريرة مع اليهود، لكنه أبى أن يسير بين غبار العداوة على رغم أنَّ الغبار قد اعتلى ثيابه. تابع التلاميذ طريقهم ليبتاعوا طعاماً.
هو إنسان ليس كأي إنسان، يعطش ولكن داخله مرتوي من الحب الإلهي. الشمس الحادة تزيد من إضناكه وعطشه. انتظرهم يسوع على حافة البئر، عطشان وليس لديه ما يروي عطشه من ماء البئر البارد.
واقتربت امرأة سامرية كانت تهم للمجيء إلى البئر حاملة على كتفها جرَّة ماء. لا نعرف اسمها ولكن هويتها تُعَّرف عنها. هي أيضاً عطشانة ولكن ليس إلى الماء.
مثل جرَّتها الفارغة من الماء، هكذا كان داخلها فارغاً من الماء الحقيقي الذي يمكن أن يروي روحها تماماً.
جاءت عند منتصف النهار عارفة أن الساحة تخلو من ثرثرة الآخرين والذين، الآن، يحتمون في منازلهم من حر الظهيرة.
تتجنبهم لأنهم بدورهم كانوا يتجنبوها. وصلت إلى البئر. خافت. ارتعبت. ولكنها تابعت واقتربت. فإذا بها تلقى نظرات مسمَّرة بها ولا تستطيع التراجع الآن. فقررت أن تتجاهل الأمر. هي اعتادت على هذه النظرات الغريبة.
لكن هذه المرة، النظرات كانت مختلفة عن سابقاتها. ازداد الاضطراب. هو رجل غريب. هو يهودي. هو رجل وهي امرأة. هي لوحدها. هي امرأة لوحدها أمام رجل غريب.
أما بالنسبة ليسوع، فالأمر يمكن أن يسبب إحراجاً حيث الشريعة تمنع المحادثة بين الرجل والمرأة في الآماكن العامة. هذا بالإضافة أنها ستعرضه للنجاسة وكيف بها كإمرأة خاطئة. تكلم.
كَسَرَ يسوع جدارَ الصمت، كسر جدار العداوة والعزلة الذي يفصل ما بين اليهود والسامريين والجدار الذي يفصل ما بين الرجل والمرأة. يسوع هو السباق في اجتراء المواقف البعيدة عن متطلبات الشريعة.
أعطني ماء لأشرب، سألها يسوع. ليست هي المرة الوحيدة حيث يسأل يسوع عن ماء ليشرب.
على الصليب صرخ قائلاً: أنا عطشان. لم يقصد يسوع رغبته للماء ليروي عطشه بقدر ما زال في داخله الرغبة بأن يجلب حب الله للعالم.
وفي مكان آخر قال لتلاميذه: كل من سقيتم أحداً كأس ماء فلي قد فعلتموه.
وبدورها أجابته السامرية: من أنت لأعطيك من ماء هذا البئر الذي أعطانا إياه أبينا يعقوب؟
أجابها يسوع: كل من يشرب من هذا الماء يعطش ثانيةً، أما مَن يشرب مِنَ الماء الذي أعطيه إياه، فلن يعطش ثانيةً.
وهنا نتساءل: من فعلاً كان عطشان إلى الماء؟ أيمكن أن تعطي المرأة السامرية يسوع ما لا تملكه؟
ما عند الإنسان يعطيه وما ليس عنده لا يمكن أن يعطيه. لا يمكن أن تعطي السامرية الحب لأنها لا تملك حباً لتعطيه. الحب الذي عندها هو لسد عطش ذاتها.
وبالتالي لا يمكن أن ينضح الرب منك للآخر إذا كنت لا تملكه في داخلك. إذا كنت تملك الخيرَ تعطي خيراً، وإذا كنت تملك شراً فداخلك ينضح بالشر، وإن كنت تزرع الحبَ فحباً سوف تحصد.
تكلم يسوع إلى السامرية. حاورها. ناقشها من دون تكلفة. دخل إلى قلبها.
كلماته البسيطة ولكنها جريئة بدَّدَت من مخاوفها. جاءت إلى البئر ربما لتنسى ماضيهأ أو محاولةً أن ترمي ماضيها في البئر.
ولكنها اعتادت الأمر وقد شبَّت على الخطيئة. جاءت وجرتها الفارغة إلى البئر. فارغةً داخلياً وروحياً. حياتها فارغة إلا من الخطيئة. أعتادت الأمر واعتادت حالة الفراغ الذي تعيشه من خلال جموحها للخطيئة. ولكن الفراغ باقٍ والعطش باقٍ.
بالنسبة للسامرية، البئر كان وسيلةً للهروب من ذاتها، لنسيان ماضيها. أما بالنسبة ليسوع، البئر كان غاية للقاء مع الإنسان الغارق في بئر الفراغ والعطش، ليملأه من محبة الله.
استمر الحوار. اذهبي وادعي زوجك وارجعي إلى هنا، سألها يسوع. ليس لي زوج،
أجابته السامرية. بالصواب أجبت. لم يحاكمها يسوع وما أدانها. لم يأتِ يسوع ليحاكم العالم وإدانته.
أليس هو من قال: لا تدينوا لئلا تدانوا. لقد اتخذتِ خمسة أزواج وهذا الرجل ليس بزوجك. لم يبغضها يسوع ولم يكرهها.
كان بالحري به أن يرجمها بحسب الشريعة لتكون أمثولةً لغيرها. طبعاً يبغض يسوع الخطيئة ولكنه لا يبغض الإنسان الخاطئ أو الخاطئة.
شعرت بإحراج ما، فغيَّرت الموضوع وسألته عن العبادة. فأجابها يسوع: الله روح وهو لا يحد بالعبادة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم.
العباد الحقيقيون يعبدون الله بالروح والحق. إلى أين يريد الإنجيلي يوحنا أن يوصلنا؟ الموضوع الحق هو إلى ماذا يريد يسوع أن يصل مع الإمرأة السامرية.
لقد بدأ الحوار عن الماء والعطش فإذا بالحوار ينتهي باعترافها عن مجيئ المسيح. قادها يسوع من خلال طلبه للماء: اسقيني، إلى تحديها في قبول الماء الأبدي الذي يعطيه.
أوضح لها حالتها الإجتماعية دون إدانتها، وحادثها عن العبادة بالروح والحق وأخيراً أكَّد لها أنَّه هو المسيح المنتظر: أنا هو، أنا الذي يكلمك.
يسوع بذلك يؤكد عن حقيقته الإلهية، تماماً مثلما أجاب الرب موسى من العليقة: أنا هو الذي هو.
النتيجة: لم تعد الإمرأة السامرية بحاجة إلى الماء. لقد أروت ظمأها من كلام يسوع. تركت جرَّتها عند حافة القبر.
جرت مسرعة تطرق أبواب منازل مدينتها: لقد وجدت مشيحا أي المسيح. لم تعد خائفة، مضطربة، خجولة من ماضيها.
جاءت إلى البئر فارغة من أية حياة تذكر وعادت بعد لقائها بالمسيح ملآنة بالحب.
من يجد المسيح لا يخف.
من يرى المسيح لا يضطرب.
من يحب المسيح لا يخجل.
عبرة إنجيل اليوم هي أنَّ المسيح هو السبَّاق في الإنفتاح على دور المرأة ووضعيتها ليس فقط في الأمور الإجتماعية إنما بنوع خاص في الأمور الروحية أيضاً
(نذكر هنا أنَّ المجدلية كانت الإنسان الأول كإمرأة في إعلان بشارة قيامة المسيح من بين الأموات).
تشبه المرأة السامرية في الإنجيل الشعب الموسوي الذين عطشوا في الصحراء بعد خروجهم من أرض مصر.
أرادوا العودة إلى الوراء، إلى أرض العبودية، إلى حيث الأصنام تُعبَد. عطشهم إلى الماء هو نتيجة عدم امتلاءهم من رحمة الله التي حرَّرتهم من ظلم الفرعون وعبوديته.
قبل أن نجيء إلى البئر لنملأ الجرة ماءً، علينا أن نملأ ذواتنا من الحب الإلهي.
كشف المسيح للسامرية عن مكنونات رحمة الله من دون إدانتها ومحاكمتها.
لم يبادرها بأفكار العداوة والكراهية والعزلة. شقَّ الطريق إلى قلبها من خلال المحبة الروحية التي لا تقف عند حدود الإنسان الخاطئ.
انتشلها من بئر الفراغ والعطش وأقامها في أرض عبادة الله بالروح والحق. كان يسوع الرجل السابع عندما لاقته السامرية عند البئر.
الرجال الستة السابقون كانوا تعبيراً عن حب ناقص، كانوا يملأون نفسها بحبها لذاتها.
أما يسوع، فقدَّم لها حباً كاملاً إلهياً. الحب البشري ناقص ما لم يمتلئ بالحب الإلهي. أعلنت وجاهرت واعترفت السامرية بأنها وجدت المسيح،
بأنَّها الآن قد امتلأت من محبة المسيح الإلهية، وبأنها ترتوي من إيمانها بالمسيح. والذين رأوها وسمعوها وعاينوها، آمنوا بدورهم بالمسيح المخلص. ونحن؟