نحن لا نصوم للعذراء مريم
بقلم المتنيح الأنبا غريغوريوس
صوم العذراء مريم,ومدته خمسة عشر يوما,يبتدئ في اليوم الأول من شهر مسري القبطي وينتهي في السادس عشر منه,حيث تحتفل الكنيسة القبطية بعيد صعود جسد العذراء إلي السماء محمولا علي أجنحة الملائكة.
وهذا الصوم من الأصوام المستقرة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ويسمي أحيانا بـ (صوم عيد السيدة) (القوانين-لجامعه الصفي ابن العسال باب15) وهو أيضا معروف ومحترم في الكنائس الأرثوذكسية الأخري القديمة,وفي الكنائس التي تتبع الطقس البيزنطي كاليونان والروس ومن إليهم ويسمي عندهم أحيانا بـ (صوم شهر أغسطس)لأنه يقع عادة في شهر أغسطس.
وصوم العذراء من الأصوام المحترمة عند الأقباط,رجالا ونساء وأطفالا,ويصومه أكثرهم صوما نسكيا,فينقطعون فيه عن الطعام,ولا يأكلون فيه السمك,ولا الزيت,ولا ما يدخل الزيت في تصنيعه أو تركيبه كالطحينة,أو الحلاوة الطحينية أو الزيتون ولا يشربون شراب القهوة.
ويرجع السبب الأكبر في حفظ الأكثرين لهذا الصوم إلي محبتهم للعذراء مريم,التي يسمي هذا الصوم باسمها.فهم يكرمون الصوم الذي علي اسمها تكريما لها,وتقديسا لاسمها,واستشفاعا بها.ففي صوم العذراء تكثر النذور باسمها, استغاثة بها,وطلبا لصلواتها وضراعاتها أمام ابنها الحبيب,ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح.
علي أنه ينبغي أن نصحح هنا خطأ من يظن أن المسيحيين يصومون للعذراء مريم,فالمسيحيون مع احترامهم العميق للعذراء مريم,واعتبارهم لها أكثر من جميع القديسين,ومع إيمانهم بشرف مكانتها لأنها الملكة أم الملك,وأنها أسمي منزلة من الكاروبيم,والسيرافيم وجميع الملائكة ورؤساء الملائكة,إلا أنهم يعرفون أيضا أنها إنسانة منهم,وهي شرف جنسهم البشري,فلا يصلون إليها,ولا يصومون لها,ولكنهم يستغيثون بها,ويطلبون معونتها,بما لها من دالة ومكانة أمام الله,فهي الشفيعة المؤتمنة أمام المسيح الرب,وشفاعاتها كثيرة ومقبولة لديه.
وكعينة ونموذج لاستغاثة المسيحيين بالعذراء مريم,طلبا لشفاعتها وصلواتها وعظيم دالتها وشرف مكانتها,رتبت الكنيسة المقدسة أن يتلو المصلون في صلواتهم العامة والخاصة,الدعاء الآتي للعذراء مريم:
(السلام لك,نسألك أيتها القديسة الممتلئة مجدا,العذراء كل حين,والدة الإله,أم المسيح,أصعدي صلواتنا إلي فوق,إلي ابنك الحبيب ليغفر لنا خطايانا.
(السلام للتي ولدت لنا النور الحقيقي المسيح إلهنا,العذراء القديسة,اسألي الرب عنا,ليصنع رحمة مع نفوسنا,ويغفر لنا خطايانا.
(أيتها العذراء مريم,والدة الإله,القديسة.الشفيعة,الأمينة في جنس البشر,أشفعي فيا أمام المسيح الذي ولدتيه,لكي ينعم علينا بغفران خطايانا.
(السلام لك أيتها العذراء الملكة الحقيقية,الحقانية.
(السلام لفخر جنسنا,التي ولدت لنا عمانوئيل إلهنا,نسألك أن تذكرينا أيتها الشفيعة المؤتمنة,أمام ربنا يسوع المسيح,ليغفر لنا خطايانا).
كذلك يوجهون إلي العذراء مريم,تحية تسمي في المصطلح الكنسي بـ (مقدمة قانون الإيمان)يقولون في مطلعها(نعظمك يا أم النور الحقيقي,ونمجدك أيتها القديسة والدة الإله,لأنك ولدت لنا مخلص العالم,أتي وخلص نفوسنا) ثم ينتقل المصلي إلي توجيه الخطاب إلي المسيح الرب قائلا
المجد لك يا سيدنا وملكنا المسيح,فخر الرسل,إكليل الشهداء,تهليل الصديقين,ثبات الكنائس,غافر الخطايا,نكرز ونبشر بالثالوث القدوس,لاهوت واحد,نسجد له ونمجده,يارب ارحم,يارب ارحم,يارب بارك آمين).والمعروف أن واضع مقدمة قانون الإيمان هو القديس البابا كيرلس الأول عمود الإيمان,بطل ورئيس مجمع أفسس المسكوني في عام431للتجسد.
المسيحيون إذن لا يصومون للعذراء مريم وإنما صومهم كصلواتهم,هو لله,وهو عبادة لخالقهم ومخلصهم وفاديهم.أما أن يسمي الصوم بصوم العذراء,فلأنه ينتهي بعيد صعود جسدها الطاهر إلي السماء علي أجنحة الملائكة,وذلك بعد موتها,وخروج روحها من جسدها,وقد أسلمت الروح بيد ابنها وحبيبها يسوع المسيح ربنا,الذي نزل من السماء خصيصا لهذا الغرض ومعه الملائكة ورؤساء الملائكة.وكان ذلك أيضا بحضور الآباء الرسل الأطهار,وعذاري جبل الزيتون اللائي كن قد اتخذن العذراء مريم رائدة لهن وقدوة ونموذجا,وبها تأسست أول جماعة للعذراء في تاريخ العهد الجديد.
وتذكر مصادرنا الكنسية,أن صوم العذراء أو صوم عيد السيدة,كانت تهتم به كثيرا البنات العذاري,وعندما تأسست أديرة للراهبات ,كانت البنات يخرجن من بيوتهن إلي الأديار,ويقضين فترة الصوم كلها متعبدات مصليات,في خلوة روحية,يرتلن التراتيل الروحية,ويقرأن في الكتب المقدسة والكتب الروحية,ويعشن طوال يومهن في تعبد وتهجد وتأمل وصلاة.
البنات اللائي يتزوجن ويلدن الأولاد,يصمن هذا الصوم,صوم العذراء في بيوتهن,بعبادة ونسك.ولما كانت الأم هي المعلم الأول للطفل,لذلك لا غرو إذا نشأ الأطفال منذ نعومة أظفارهم علي احترام صوم العذراء وتقديسه,فللأم المسيحية الفضل في تنشئة الأولاد والبنات علي هذه الفضيلة الروحية.ومن الأولاد والبنات تنشأ عائلاتنا المسيحية وتتفرع وتتشعب إلي أسر وعائلات بالتزاوج والتكاثر وولادة الأولاد.
وليس بدعا أن يسمي هذا الصوم بصوم العذراء,فمن بين أصوامنا العامة(صوم الرسل).وقد سمي كذلك لأن المعروف والمستقر في تقليدنا أن الآباء الرسل تلاميذ المسيح هم أول من صاموا هذا الصوم,فدعي باسمهم.فقد قال المسيح له المجد(ستأتي الأيام حين يؤخذ العريس منهم,فعندئذ سيصومون)متي9:15,مرقس 2:20,لوقا5:35,أعمال13:2.كذلك سمي هيكل الرب(بهيكل سليمان)لأن سليمان هو الذي بناه,كما سمي الهيكل الثاني بهيكل(زربابل)زكريا4:9.وعندما رمموا الهيكل الأخير في عصر هيرودس,سمي كذلك بهيكل (هيرودس)...بل إن شريعة الله سميت أيضا بـ (شريعة موسي) 1الملوك2:3, عزرا 3:2, نحميا8:1, دانيال9:11, ملاخي4:4,لوقا2:22, لأن موسي هو الذي تلقاها من الرب,وأبلغها إلي بني إسرائيل.
ومن الأقباط عدد لا يكتفي بأن يصوم المدة المقررة لهذا الصوم,وهي خمسة عشر يوما,وإنما يضيف إليها أسبوعا يسبقها أو أسبوعا يلحقها,ومنهم من يمد فترة الصوم إلي عيد رأس السنة القبطية(أول توت) فتصير مدة الصوم بالنسبة لهم35 أو36 يوما.
وقد قال الصفي ابن العسال في كتاب(القوانين) المعروف بـ (المجموع)(ومن صام زائدا عن المفروض والمستقر شيئا ,فله ثوابه)(الباب 15).