رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مواهب متعدّدة وروح واحد
12: 4- 11 هذا المقطع الذي نقرأ هو جزء من فصل واسع يبدأ في آ 4 وينتهي في آ 31، فيتحدّث عن النعم والخدم الروحيّة داخل جسد المسيح. فبعد المقدّمة (آ 4- 7) التي تعطي المعنى الأساسيّ، وسرْد مختلف المواهب (آ 8- 11)، يتحدّث النصّ عن استعارة الجسد (آ 12- 27). فالسؤال المطروح على بولس: ما هي العلامة التي تجعلنا نعرف أن هذه الموهبة هي من عمل الروح؟ فكل خبرة في الكنيسة يجب أن تُقيَّم بالنسبة إلى بناء الكنيسة في وحدة الروح. ونقرأ النصّ: (4) فالمواهب الروحيّة على أنواع، ولكن الروح الذي يمنحها واحد. (5) والخدمة على أنواع، ولكن الربّ واحد. (6) والأعمال على أنواع، ولكن الله الذي يعمل كل شيء في الجميع واحد. (7) كل واحد ينال موهبة يتجلّى فيها الروح للخير العام. فهذا ينال من الروح كلام الحكمة، وذاك ينال من الروح نفسه كلام المعرفة. (9) والروح الواحد نفسه يهب أحدَهم الايمان، والآخر موهبة الشفاء، (10) وسواه القدرة على صنع المعجزات، والآخر النبوءة، وسواه التمييز بين الأرواح، والآخر التكلّم بلغات متنوّعة، والآخر ترجمتها. (11) وهذا كله يعمله الروح الواحد نفسه موزّعاً نعمه على كل واحد كما يشاء. 1- سياق النصّ منذ بداية الرسالة، عرفنا أن الكورنثيّين «لا تُعوزهم موهبةٌ من المواهب» (1: 7). وتقدّم لنا ف 12- 14 تنوّعَ ووفرةَ هذه المواهب التي بها يعتني المسيح بكنيسته، ويؤمّن الحياة المشتركة فيها. أما الكورنثيّون فتعلّقوا، بشكل خاص، بمواهب "الكلام" و "المعرفة" (1: 5)، خلال الاحتفال بشعائر العبادة. وقد جعلوا فوق كل موهبة، موهبة التكلّم بالألسن. يحسّ الانسانُ إحساساً غريباً، فلا يعود يعي ما يقول، فيتلفّظ بكلمات يغيب مدلولُها عن السامعين. ولكن مثل هذه الظواهر المرتبطة "بإلهام" لم تكن دوماً عمل الروح القدس. فقد عُرفت أيضاً في العالم الوثنيّ، وفي روحانيّة العالم اليونانيّ المتأثّر بالعالم الشرقيّ. حين يخسر الانسان كامل وعيه، فهذا يعني أنه صار قريباً من الله، امتلأ من الله. فكيف نميّز الروح القدس الذي يتكلّم، من تصرف سيكولوجيّ حرّكه مناخٌ دينيّ اشتعل حماساً؟ هذا في العالم اليوناني. وفي كورنتوس، بشكل خاص، كان كل مؤمن يترك العنان لإلهامه دون أن يأخذ بعين الاعتبار ما يقوله الآخرون. فقادتهم هذه الحريّةُ المفرَطة إلى الضياع والفوضى في احتفالات العبادة. ثم إن تفضيل موهبة على موهبة، جعل الذين نالوا مواهب "أقلّ قدراً" ينحسدون من الآخرين. كل هذا دفع الرسولَ لكي يتدخّل. ظهرت "المواهبُ" في الكنيسة، ولبثت حيّة حتى القرن الثالث. حوالي سنة 400، رأى الذهبيّ الفم أن ف 12- 14 هي فصول يصعب فهمُها. ولكن "النبوءة" و"التكلّم بالألسن" تعود إلى الظهور بين الفينة والأخرى، ولا سيّما في مجموعات تعيش على هامش الكنيسة "المنظّمة". وهناك اليوم سببان رئيسيّان يعطيان ف 12- 14 أهميّة خاصة. الأوّل، ظهور حركات تشدّد على مواهب الروح، ولا سيّما "موهبة الألسن" و"موهبة الشفاء". الثاني، اكتشاف تنوّع الخدم في الكنيسة. فحين نقرأ الرسائل البولسيّة، نحسّ أننا فقراء في المواهب. ولكن يجب أن نبحث اليوم عن مواهب مماثلة لما عرفته الكنيسة الأولى. فخبرة كورنتوس وتعليم الرسول، يجعلاننا نتردّد أمام حريّة مفرَطة في النبوءة والتكلّم بالألسن. فالنظام في شعائر العبادة، والوضوح في الكرازة، يفضَّلان على الكلام المتلبّد الغامض، هذا إن لم يكن مستغرباً وخفيفاً. فحريّةُ الروح القدس تظهر في شكل آخر مثل شهادة الكنيسة في حمل البشارة والاهتمام بالمرضى وتربية المعاقين. فالمواهب متعدّدة جداً ولا تنحصر في تلك التي أوردها بولس في رسالته هذه. 2- المواهب خدم (12: 4- 7) إن مواهب الروح هي "خِدَم"، هي أعمال ونشاطات. يعطيها المسيح (آ 4). وفي النهاية، يعطيها الله نفسه (آ5 )، لأن "كل هبة صالحة تنزل من فوق، من عند أبي الأنوار" (يع 2: 17). ويشير الرسولُ في الوقت عينه إلى وحدة عمل الله، ووفرة الوسائل التي يستخدمها. أجل، الاله الثالوث هو الينبوع الوحيد لكل العطايا التي ننالها، ولكل المتطلّبات التي تُفرضُ علينا. تتجلّى عطيّة الروح بالنسبة إلى كل مؤمن بشكل إمكانيّة تساعده على عمل يعمله، على خدمة يقوم بها. وهذه القدُرات وهذه المهامُ موزّعة على الجميع. فما من أحد يمتلك جميع المواهب. وما من أحد يستطيع أن يعمل جميع الأعمال ويقوم بكل الخدم. فحصّةُ كل واحد محدودة. وما من أحد إلاّ ونال موهبة من المواهب. أمّا هدفُ هذا التنوّع فليس من أجل صالح الفرد. بل من أجل خير الكنيسة (آ 7). لهذا، لا أعزل موهبة من المواهب وأحسبها خاصتي، ولا أتمسّك بقدرة من القدرات لكي أنعم بها وحدي. والمواهب لا تُعطى لكي تقسم الكنيسة، بل من أجل الخير العام، بحيث يحسّ كل واحد أنه يقدر أن يعطي ممّا أعطاه له الله، ويقدر أن يأخذ ممّا وهبه الله للآخرين. فالمواهب تعود إلى أصل واحد، وتتطلّع إلى هدف واحد: فلا تعارض، ولا مزاحمة. إذن، لماذا الحسد بين المؤمنين بعد أن اختلفت المواهبُ التي نالوها. أكّد الرسول في ثلاث عبارات متوازية (آ 4- 6) أن تجليّات الحياة الجديدة، هي مختلفة وموزّعة بين أعضاء الجماعة المسيحيّة. وما يوحّدها هو الأصل الذي خرجت منه، والهدف الذي تصبو إليه. وتأتي هذه المواهب حسب مخطّط ثالوثيّ: الروح القدس، الربّ يسوع، الله الآب. في آ 1، تكلّم الرسول عن تجليات الروح (الأمور الروحيّة). وفي آ 4، تكلّم عن المواهب الموزّعة في الجماعة. فالمواهب هي تجلّيات الروح كما تقول آ 4 ب، ولكن اللفظ أوسع من المواهب التي ذكرها الرسول. فهناك قدراتٌ أعطيت للكنيسة لتستطيع أن تحيا حياتها وتمارس رسالتها (روم 12: 6- 8). وحين أحلّ الرسول لفظاً (المواهب) محلّ لفظ آخر (تجلّيات روحيّة)، بدأ ينتقد جماعة سُحرت بمظاهر حماسيّة يراها الناس، فنسيَتْ الهدفَ الذي لأجله مُنحت هذه المواهب. وننتقل في آ5 إلى الخدمة. نحن لا ننال موهبة لننعم بها وحدنا، أو لكي نمتلك اسماً وشهرة، أو لنفتخر بها تجاه الآخرين. المواهبُ هي أداةُ خدمة في الكنيسة: من أجل البناء (14: 4- 5). مواهب متنوّعة يوحّدها الربّ يسوع، ربّ الكنيسة: هو يُشرف عليها وينظّم استعمالَها. وإذ عاد بولس بالمواهب، التي هي خِدَم، إلى الربّ يسوع، هيّأ الطريق للكلام عن جسد المسيح وعن مسؤوليّة أعضاء الجسد وتضامنهم داخل الكنيسة. والمواهب هي أعمال (طاقات) أو قوى تفعل في الكنيسة. ففي ذاتها وفي ما تفعله، تعود إلى ينبوعها الأول، الله الآب. هل يُشير النصّ إلى المعجزات التي يمكن أن تجري في الكنيسة؟ هذا ما لا يقوله النصّ، الذي يتكلّم عن فعل الله "العامل" (الذي يعمل)، عن الله الخالق الذي يتجلّى خلقُه في كل مكان، سواء في الكون أو في مصير الأفراد، أو في الكنيسة وكل عضو من أعضائها. هو يعمل كل شيء في الكل. إذن، لا ينحصر عمله في فئة دون أخرى، في شخص دون آخر. هو يعمل في الجميع. وهو يعمل كلَّ شيء، لأن عملَه يحيط بالكون وبكل واحد منّا. ونقرأ في آ 7 "تجلّيات الروح" (يتجلّى فيها الروح) التي توجز "المواهب" و"الخدم" و"الأعمال". فالروح هو الشخص الفاعل. وإذ يفعل، يعطي النتائج التي تدلّ على حضوره وعمله. يبدأ الرسول فيتحدّث عن "كل واحد". فكل واحد في الجماعة نال موهبة من المواهب، ولكنه لم ينلها من أجل نفسه، بل من أجل الكنيسة. وهكذا تنتهي الآية مع عبارة "الخير العام". هنا يكون موقعُ التواضع الذي تحدّث عنه الرسول في فل 2: 3: "(كونوا) منزّهين عن التحزّب والتباهي، متواضعين في تفضيل الآخرين على أنفسكم". 3- المواهب متعدّدة (12: 8- 10) يقدّم الرسول أكثر من تعداد لهذه المواهب. في آ 8- 10، يذكر تسع مواهب. في آ 28- 30 يذكر ثماني هي مواهب الرسل والأنبياء والمعلّمين وصانعي المعجزات وحاملي الاسعاف والمهتمّين بالإدارة والمتكلّمين باللغات. وفي روم 12: 6- 9، يذكر الرسول سبع مواهب: النبوءة، الخدمة، التعليم، الوعظ. العطاء، الرئاسة، الرحمة. وفي أف 4: 11، هناك خمس مواهب مذكورة يحملها الرسل، الأنبياء، المبشّرون، الرعاة، المعلّمون. كل من هذه اللوائح تعطي أمثلة، وهي لا تستنفد ما في الكنيسة من مواهب. وترتيبُ المواهب يختلف بين لائحة وأخرى. ليس من قبيل الصدف أن يذكر الرسولُ أولاً المواهب التي تحرّك عقل الانسان، ويذكر أخيراً موهبة التكلّم بالألسن، التي قدّرها الكورنثيّون تقديراً كبيراً. هناك مجموعة أولى من المواهب تشير إلى التعليم والكرازة حول مقاصد الله (آ 8). "فالحكمة" (2: 7- 8) تدلّ على ما تدلّ عليه "المعرفة" (كو 2: 3). وهناك مجموعة ثانية من المواهب تتعلّق بالعمل: الإيمان، الشفاء، صنع المعجزات. الإيمان كموهبة خاصّة من مواهب الروح القدس، ليس الإيمان الذي يبرّر وينال الخلاص (روم 1: 7؛ 2: 22؛ 5: 1)، بل ذاك الذي يحصل على المعجزات (13: 2؛ مت 17: 20). فمعجزات الشفاء في الكنيسة، تدلّ على قدرة المسيح (أع 3: 1- 10؛ 5: 16). وما هي "أعمال القدرة" التي تتميّز عن الأشفية؟ هناك من فكَّر بانتصار على الشياطين (مت 12: 22- 29)، أو بعقاب الأشرار (أع 5: 5 -9 ؛ 13: 11)، أو بقوّة العزيمة التي أظهرها بولس في أوقات المحنة (أع 27: 1 ي). وهناك من قال: إجراء العجائب، القدرة على صنع المعجزات. "والنبوءة" معجزة بشكل كلام. هي موهبة كلام لحثّ الآخرين وتنبيههم (14: 3- 4). و"تمييز الأرواح" يتيح للمؤمن أن يعرف إن كان أمام نبيّ صادق أم نبيّ كاذب. مثلُ هذا الوضع واجهته مراراً الجماعات المسيحيّة في القرن الأول المسيحيّ (2 بط 2: 1 ي؛ 1 يو 2: 26- 27؛ 4: 1- 3؛ رؤ 2: 14- 15). وأخيراً، يورد بولسُ التكلّم بالألسن. ففي نظر الكورنثيين، هذه اللغة الغامضة هي موهبة عجيبة، تدلّ دلالة كبيرة على عمل الروح. لا يُنكر الرسول أن تكون هي أيضاً موهبةً من مواهب الروح. وهو لا يحرّمها. ولكن قيمتها محدودة إن لم ترافقها موهبة الترجمة (ف 14). أما الآن، وبعد أن عدّد الرسول مختلف المواهب، عاد إلى أصلها المشترك. الروح هو الذي يعطيها مجاناً، لا حسب رغبة المؤمن أو استحقاقاته. يعطيها حسب حاجات الكنيسة. جعلَنا بولسُ على مستوى الفكر اللاهوتيّ مع الحكمة التي تكشف مسيرة مخطّط الله، والمعرفة بطابعها النظري إلى الأمور. وذكّرنا بموهبة الشفاء من المرض، كما بإخراج الشياطين، على مثال ما أوصى يسوع تلاميذه حين أرسلهم: اشفوا المرضى، أطردوا الشياطين (مت 10: 8). أما التمييز فيمكن أن يكون أيضاً فهمَ نبوءة غامضة، بحيث تلتقي هذه الموهبةُ مع ترجمة الألسن، فتحتفظ بما هو صالح وتترك الرديء (1 تس 5: 21). ما نلاحظ في هذا التعداد هو تكرار لفظ "الروح": بالروح، حسب الروح، في الروح. هكذا يفهم الكورنثيون أن المواهب تعبير عن غنى الروح في الكنائس، وأن البشريّ الذي يمكن أن يمتزج بها دون أن يخضع له، لا يمكن أن يكون من الله، بل من الشرّير. ويختتم الرسول كلامه فيشدّد أيضاً على عمل الروح: هو الذي يوزّع مواهبه كما يشاء، لا كما نرغب نحن. فحريّة الروح السامية تضع حداً للمزاحمات البشريّة والنظرات التي تبتعد بنا عن الهدف الذي أعطيت لأجله المواهب. فنحن لا نتكبّر إن نلنا موهبة تُعتبر "كبيرة" في الجماعة، ولا نيأس إن نلنا موهبة لا تظهر أمام الناس. هنا نتذكّر دورَ الأعضاء في جسم الانسان، كما في الكنيسة جسد المسيح. المهمّ أن يأخذ كلُّ واحد دوره، ويفهم مسؤوليّته المرتبطة بالموهبة التي نالها. خاتمة حدّثنا بولس عن المواهب العديدة في الكنيسة. وبقيت مواهبُ أخرى لم يذكرها. فهي ستُعطى للكنيسة ساعة الروح يشاء وكما يشاء. يبقى أن يعرف كلُّ واحد الموهبة التي نالها، لكي يجعلها في خدمة الكنيسة وبناء الجماعة، ويقدّر في الوقت عينه موهبة الآخر التي نكمّل موهبته. فكما الأذن تكمّل العين، واليدُ الرجل، والقلبُ الدماغ، هكذا تتناسق المواهبُ في الكنيسة من أجل الخير العام، ومن أجل خير كل واحد داخل الجماعة. فالهدف النهائيّ هو أن يؤول كلُّ شيء لمجد الله |
|