أولاً: الختان
( أ ) معنى الكلمة: peritšmnw
1 - جاءت هذه الكلمة في الأدب اليوناني القديم بمعنى ”يقطع دائريًّا“ أو «يحز دائريًّا للقطع». واستخدمت في معنى «تقليم العنب». ولعل مَثَل الرب عندما شبَّه نفسه بالكرمة ونحن الأغصان، وأن الآب يقلِّم الأغصان لتأتي بثمر أكثر، إشارة غير مباشرة إلى الختان الروحي.
2 - ويشير ”استرابو“ (الحكيم اليوناني الشهير) إلى الختان بوضوح بصفته عادة يهودية مأخوذة من مصر. ولكن هذا أمر غير صحيح، وذلك بمقارنة الأصحاح الخامس من يشوع القائل إن ختان مَنْ تبقَّى من شعب إسرائيل قبل عبور الأردن كان يومئذ لرفع عار مصر عن الشعب.
(ب) الختان في العهد القديم:
1 - أصل الطقس: (تكوين 17): «وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي. أنتَ ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختن منكم كل ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيامٍ يختن منكم كلُّ ذكرٍ في أجيالكم. وَلِيد البيت والمُبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختاناً وليد بيتك والمبتاع بفضتك. فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبديًّا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختَن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي.» (تك 17: 9 - 14)
وبذلك فالختان كان بمثابة أول علامة عهد شخصي على مستوى العلاقة الداخلية غير المنظورة بين الله وبين كل فرد في شعب الله. وسُمِّي ”عهد الختان“ (أع 7: 8).
ولكن نجد العهد القديم يستخدم الختان ليس للإنسان فحسب، بل وللشجر أيضاً حاسباً أن الشجرة المغروسة جديداً تعتبر ”غلفاء“ أي غير مختونة (غير مقدَّسة) معنويًّا لمدَّة ثلاث سنوات، حيث يعتبر كل ثمرها ”أغلف“ أي نجساً لا يُؤكل، بل يُطرح. وفي السنة الرابعة تحسب الشجرة مقدَّسة بعدما يقدم طرحها للرب كتقدمة شكر، وبعد ذلك في السنة الخامسة تحسب حلالاً على الإنسان ومقدَّسة:
+ «ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غرلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء. لا يؤكل منها. وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قُدساً لتمجيد الرب. وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها. لتزيد لكم غلتها. أنا الرب إلهكم.» (لا 19: 23 - 25)
والمعنى هنا ينصبّ على تحويل الشجرة من غرس أرضي (شيطاني) عليه اللعنة الأُولى، إلى غرس سماوي (مقدَّس) حلَّت عليه البركة. وكأنها عملية جحد للشيطان تماماً كالذي يحتِّمه الطقس في المعمودية، تنتقل به الخليقة من معسكر الشيطان إلى معسكر الله.
وهذا يتضح أكثر في قصة موسى وزوجته صفورة وابنها البكر الذي ختنته في الطريق إلى مصر لتمنع عنه الهلاك، وكان دم ختانته على رجليه (القائمتين) علامة على التصاقه بالرب «فانفكَّ عنه، حينئذ قالت: عريس دم من أجل الختان.» (خر 4: 26)
والمُلاحَظ أن كلمة ”ختانة“ في اللغة السامية (الآرامية) القديمة تفيد معنى ”قطع الغلفة“، أو معنى ”العريس“، وقد استعملت كذلك منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد باعتبار أن الختانة هي علامة أو طقس الزواج. وقد انحدرت هذه المرادفة إلى اللغة العربية فـ”الختن“ هو ”العريس“، ولكن بمفهوم العريس الطاهر، أي الذي انفك عنه الشيطان بقطع غلفة النجاسة.
وفي أواخر العصر اليهودي اقتصرت الختانة الجسدية على مفهوم الدخول في شعب الله (كشعب اختاره الله وتزوجه لنفسه كابن بكر)، وقد اقتربت الختانة بأخذ الاسم الجديد الذي يلزم أن يكون مطابقاً لاسم أحد أفراد أسرته إمعاناً في تبعية الطفل لشعب الله.
وكان هذا الطقس، على العموم، في غاية الأهمية بالنسبة لليهودي المخلص لشعبه وإلهه، لدرجة أنه كان يهون جدًّا على الإنسان اليهودي أن يستشهد في سبيل تكميل ختانته لأن موت اليهودي بدون ختانة معناه الحرمان الأبدي من ميراث شعب الله.
2 - دخول طقس الختان في شريعة موسى مرتبطاً بالفصح:
وقال الرب لموسى وهارون هذه فريضة الفصح: كل ابن غريب لا يأكل منه، ولكن كل عبد مبتاع بالفضة تختنه ثم يأكل منه. النـزيل والأجير لا يأكلان منه.
وهنا ابتدأ الختان يأخذ صورة طقسية محضة ويتزحزح قليلاً قليلاً في التقليد اليهودي من وضعه الأصيل كعلامة عهد خاصة بين الله وكل فرد على المستوى الروحي والإيماني بحسب الترتيب الذي وضعه الله مع إبراهيم، حيث إبراهيم هو مركز إيمان وليس مركز طقس في الكتاب المقدَّس بعهديه.
3 - الخطأ الذي وقع فيه التقليد اليهودي
بخصوص أصل الختان ومستواه الروحي:
واضح من المنازعات التي حدثت في بداية البشارة بالإنجيل بين الأُمم غير المختونين، أن الفكر اليهودي كان قد تزحزح تماماً عن مفهوم الختان الروحي ومصدره الأصيل، وهو إبراهيم، إذ ظنوا أن مجرد العلامة في اللحم هي الختان، وأنه من وضع موسى وليس إبراهيم: «وانحدر قومٌ من اليهود وجعلوا يعلِّمون الإخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا» (أع 15: 1)، «وقد أُخبروا عنك أنك تعلِّم جميع اليهود الذين بين الأُمم الارتداد عن موسى قائلاً أن لا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد.» (أع 21: 21)
الرب يسوع يصحح وضع الختان أنه من إبراهيم وليس من موسى:
واضح جدًّا أن الرب يسوع لمح من حياة اليهود وتفكيرهم وتمسُّكهم بطقس الختان أنهم كانوا قد انحرفوا انحرافاً أكيداً عن معناه ومصدره الأصلي، لذلك نجده يصحح هذا التقليد بقوله: «أجاب يسوع وقال لهم: عملاً واحداً عملت فتتعجَّبون جميعاً (شفاء مريض بيت حسدا - مريض الـ 38 سنة)، لهذا أعطاكم موسى الختان، ليس أنه من موسى بل من الآباء (إبراهيم)، ففي السبت تختنون الإنسان، فإن كان الإنسان يقبل الختان (طقس إبراهيمي ثم موسوي) في السبت (والسبت طقس أهم إذ قد رتَّبه الله نفسه) لئلا يُنقَض ناموس موسى، أفتسخطون عليَّ لأني شفيت إنساناً كله في السبت؟ لا تحكموا حسب الظاهر!» (يو 7: 21 - 24)
وهنا يشير الرب إشارة في غاية الوضوح والعمق أن الختان الذي كان علامة خارجية لارتباط روحي داخلي بين الله والإنسان عند الآباء، صار عند الأجيال المتأخرة، وخصوصاً من بعد موسى، مجرَّد علامة خارجية خوفاً من نقض ناموس موسى وليس لاقتراب روحي أو قلبي إلى الله: كعهد علاقة إلهية والتصاق.
وشفاء الرب لمريض الثماني والثلاثين سنة بـ”كلمة“ يعبِّر عنه الرب: «لأني شفيت إنساناً كله». وهنا يجعل الرب كلمته الشافية شفاءً كليًّا أعلى من مستوى الختان، أي باعتبار الختان شفاءً جزئيًّا بالنسبة للشفاء الكلِّي الذي صنعه الرب مع المرض المزمن لأنه غفر خطاياه وشفاه، أي شفاه روحيًّا أولاً ثم جسديًّا!! في حين أن الختان كان يفيد الشفاء الجسدي وحسب.
وهكذا تكشف لنا هذه الآيات عن قيمة الختان في نظر المسيح بالنسبة للعمل الخلاصي الذي نـزل من السماء ليكمِّله لنا. فالختان في مضمونه الكلِّي على مدى العهد القديم كان في نظر الرب علامة ارتباط بين الإنسان والله، عجز الإنسان أن يتمِّم شروطها الروحية الداخلية، فانحصرت في حدودها الجسدية فقط، وبذلك فقدت عملها الشفائي الكلِّي أو الخلاصي. وهكذا ظلَّ مريض الثماني والثلاثين سنة مطروحاً عاجزاً مع أنه مختتن!! وكان مفروضاً أن اختتانه يُدخله ضمن وعد الله الذي يضمن له الشفاء، أو ربما يضمن له عدم المرض أصلاً وذلك إن كان يطيع أوامره ووصاياه.
المعنى الروحي العميق للختان في العهد القديم:
غُلْفة الشفتين:
لم يكن الختان يقتصر فقط في معناه العميق على أعضاء التذكير في الإنسان، فنحن نسمع موسى يقول لله: «كيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين (أي غير مختون الشفتين).» (خر 6: 12 و30)
وهنا ”غلفة“ الشفتين تفيد نجاسة الفم، وبالتالي ضعف الفم واللسان عن النطق بأقوال الله المقدَّسة، فتأتي الكلمات ضعيفة أو متلعثمة أو خاطئة!! وهذا يحقِّقه إشعياء النبي بوضوح: «فقلت ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود. فطار إليَّ واحد من السَّرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح ومسَّ بها فمي وقال: إن هذه قد مسَّت شفتيك فانتُزع إثمك وكُفِّر عن خطيتك.» (إش 6: 5 - 7)
غُلفة الآذان:
ونسمع إرميا النبي يقول لله: «من أكلِّمهم وأنذرهم فيسمعوا. ها إن أذنهم غلفاء (غير مختونة) فلا يقدرون أن يصغوا. ها إن كلمة الرب صارت لهم عاراً، لا يُسرون بها.» (إر 6: 10)
غُلْفة القلوب:
كذلك إرميا النبي يربط بين طهارة القلب ورضاء الله ربطاً شديداً في تعبير ختانة القلب ورفع نجاساته.
+ «اختتنوا للرب وانـزعوا غُرَل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أُورشليم لئلا يخرج كنار غيظي.» (إر 4: 4)
ويلاحظ هنا إن أرميا النبي يضيف الختانة لحساب الله «اختتنوا للرب». وهنا تعمُّق أكثر في المعنى اللاهوتي للختانة كعمل إلهي أو طقس روحي صرف، فهو إن كان يُجرى في لحم الجسد فهو يمتد إلى القلب والضمير ويوطد الصلة بالله!!
وإدراك صلة الختانة في اللحم بالطاعة لله يشدِّد عليه موسى منذ البدء «فاختنوا غرلة قلوبكم ولا تصلِّبوا رقابكم.» (تث 10: 16)
ويعود موسى أيضاً ويكشف عن معنى سرِّي تصوُّفي عميق للغاية للختان القلبي كعمل روحي يتم في الخفاء بجرح القلب نفسه جرح محبة أبدي: «ويختن الرب إلهك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا» (تث 30: 6). وهذا يفيد رفع كل أهواء وشهوات وتعلُّقات القلب بكل شيء في الدنيا فيصير القلب كله للرب!!
ونسمع أيضاً من الشهيد استفانوس أحد الشمامسة السبعة، وهو ينقل لنا صورة عن مفهوم الختان في العهد القديم الذي ورثه الأتقياء المختارون الذين قبلوا الروح القدس والإيمان بالمسيح، وذلك عند قوله: «يا قُساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان. أنتم دائماً تقاومون الروح القدس.» (أع 7: 51)
وهكذا يتضح أمامنا مقدار عمق معنى الختانة الروحي في العهد القديم. فالختان فهموه أنه ليس مجرد علامة في لحم أعضاء التذكير بقطع غلفة الذكر، بل يتعدى ذلك إلى الشفاه والآذان والقلوب. فأعضاء الإنسان كلها ذات غلفة، أي ذات غطاء جلدي يمنعها من الإحساس والاستجابة، وتحتاج إلى ختانة!!
فالشفاه الغلفاء لا تستطيع أن تبشر باسم الله وقوته وكلمته، حيث الغلفة هنا تفيد النجاسة. موسى كان يحس بأن شفتيه كانتا غلفاوتين. إشعياء النبي كذلك. من هنا كان الإحساس العميق بالحاجة إلى التطهير بالدم أو بالنار...
وكذلك الآذان الغلفاء، يصفها إرميا النبي بأنها لا تستطيع أن تصغي إلى كلمة الرب ولا أن تحترمها إذ تصير كلمة الرب وكأنها عار، تتحاشى سماعه، وإذا سمعتها لا تسرُّ بها!!
أما الشهيد استفانوس فيكشف لنا عن مفهوم القلب الأغلف غير المختون بأنه يقاوم الروح القدس، أي روح القداسة والطهارة، وأن هناك علاقة حتمية بين القلب الأغلف والأذن الغلفاء: فغلفة القلب تنشئ غلفة الأذن، وغلفة الأذن تنشئ غلفة القلب.
أما الغلفة فهي ترمز إلى الغلاف اللحمي، الذي يجعل القلب والآذان والشفاه حساسة للشهوة واللذة والنجاسة والانفعال بالغرائز اللحمية الحيوانية، فتنصدَّ عن كل ما هو طاهر ومقدَّس وروحي! ...
إذن، فكان معروفاً لدى الروحيين في العهد القديم أن طقس الختان كان عملاً روحيًّا يشير إلى قطع شهوة النجاسة بمفهومها المتسع، ليس من عضو الذكر فحسب، بل ومن القلب والأذن والشفاه ومن الإنسان كله، حتى يتطهَّر ويكون قريباً من الله متهيئاً لسماع كلمته والنطق بها والشهادة لها. وأخيراً يكون مستعداً للتعرُّف على المسيح نفسه عند مجيئه وظهوره باعتباره ”كلمة الله“ القدوس.
والله اختار عضو الذكر ليجري عليه الختان كعلامة عهد بين الله وإبراهيم ونسله، حتى ينتبه الإنسان أن عهد الله منذ البدء يقوم على الطهارة، ظاهرياً في اللحم وداخلياً في القلب وفي الأذن وفي الشفاه، تمهيداً لحلول كلمته وروح قدسه في هيكلنا.
فالاختتان في العهد القديم هو تماماً عملية تكريس كامل لله بكل الأعضاء، داخلياً وخارجياً!! ليصير الإنسان على مستوى عهد الله وقداسة الله «سر أمامي وكُن كاملاً» (تك 17: 1)، أو كما وضعها العهد الجديد على فم المسيح: «كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت 5: 48). ولذلك اعتُبر المسيح أنه خادم الختان!! لأنه الوحيد الذي تمَّم الختان على أعلى وأكمل مستواه، الروحي والجسدي معاً، بأن كان مقدِّساً أو مكرِّساً جسده ونفسه لله كليًّا من أجلنا: «لأجلهم أقدِّس أنا ذاتي.» (يو 17: 19)
وكان كذلك حتى يمكن أن يكمِّل الله فيه كل وعد الختان وعهده لنا، فيظهر فيه صدق وعد الله للإنسان منذ إبراهيم!! «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبِّت مواعيد الله.» (رو 15: 8)
وهكذا قبل إبراهيم الختان ليكون أباً لكل من يؤمن بالله ويدخل عهده ويصير من أهل بيت الله، وليس كالغريب أو النـزيل. ولكن لم يستطع أحد أن يحقِّق عهد الختان هذا ويثبت أهليته لله. وبقي صدق الله معلَّقاً من حيث وعده بقبول الإنسان ليكون من أهل بيته حتى مجيء المسيح، لأنه حتى ولا موسى نفسه استطاع ذلك، إذ قيل عنه أنه «كان أميناً في كل بيته كخادم ... أما المسيح فكابن.» (عب 3: 5 و6)
توارث الختان ثم توقُّفه:
كان في تأسيس عهد الختان الذي صنعه الله مع إبراهيم ما يشير بوضوح إلى أعماق سر الختان من جهة هدفه الروحي، وذلك حينما جعله يشمل ختانة الأطفال المولودين: «ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت، والمبتاع بفضة، من كل ابن غريب ليس من نسلك ... في ذلك اليوم عينه خُتِن إبراهيم وإسماعيل ابنه وكل رجال بيته وِلْدان البيت والمبتاعين بالفضة من ابن الغريب خُتنوا معه.» (تك 17: 12 و26 و27)
هنا يتجه الختان إلى الأثر أو المعنى الروحي الذي يتجاوز العلامة الخارجية، فهو ميراث يرثه الصغير ابن الثمانية الأيام بمقتضى إيمان أبيه، مجاناً؛ فينضم إلى شعب الله ويرث كل مواعيد الآباء وبركتهم، حتى ولو كان ابناً لعبد مشترى بالفضة غريباً عن رعوية إسرائيل، طالما كان هذا العبد أميناً لصاحب البيت وأميناً لإله إسرائيل ببرهان طاعة وصايا الله وأوامره.
وهكذا بمقدار ما للخطية من أثر توارثي، صار لبر الإيمان من أثر توارثي كذلك، وذلك بواسطة الختان الذي هو في حقيقته ختم مجَّاني لميراث بر الإيمان الذي ناله إبراهيم بسخاء الله وجوده. كما يحدِّد بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية: «وأخذ علامة الختان ختماً لبر الإيمان الذي كان في الغرلة، ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون وهم في الغرلة، كي يُحسب لهم أيضاً البر.» (رو 4: 11)
كذلك بالرغم من أن تكميل طقس الختان في لحم الغرلة كان يعطي الطفل المولود ابن ثمانية أيام كل حقوق الرعوية في شعب إسرائيل، إلا أن هذه الحقوق تتوقَّف كلها إلى أن يثبت المختون طاعته لوصايا الله عند بلوغه السن الذي يطالب فيه بتكميل الوصايا. وهذا نراه متركِّزاً بشدَّة في وصية الله لإبراهيم كشرط أساسي في تكميل كل بنود عهد الختان: «سر أمامي وكُن كاملاً فأجعل عهدي بيني وبينك.» (تك 17: 1 و2)
إذن، فكانت الطاعة لوصايا الله هي التي تجعل عهد الختان قائم المفعول دائم الأثر، وهكذا كان مفهوم الختان في العهد القديم، روحيًّا بمقدار ما كان لمفهوم الطاعة لوصايا الله! ...
وهكذا نرى أن عهد الختان كان يورَّث بالإيمان ويثبَّت بالطاعة:
+ «اختتنوا للرب وانـزعوا غرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أُورشليم لئلا يخرج كنار غيظي، فيحرق وليس مَنْ يطفئ بسبب شر أعمالكم.» (إر 4: 4)
+ «فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس. ولكن إن كنت متعدِّياً الناموس فقد صار ختانك غرلة.» (رو 2: 25)
ومن هنا يصبح الختان عديم المنفعة تماماً إزاء العجز عن تكميل الناموس. فإن كان قد بلغ العجز عن تكميل الناموس في نهاية العهد القديم إلى أقصى حالاته وعمَّ كل الشعب بلا استثناء: «الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس مَنْ يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (رو 3: 12)، يكون بذلك قد بلغ عهد الختان إلى حالة عديمة الفعل والأثر وتوقف نهائياً: «ها أيام تأتي يقول الرب وأعاقب كل مختون وأغلف» (إر 9: 25). وقد تم تهديد الله هذا بالحرف الواحد.
فنقرأ في السفر الأول للمكابيين في نهاية أيام حكم الملوك السلوقيين، وبالذات في أيام الملك أنطيوخس الرابع (175 - 163ق.م.)، أنه صدر حكم يمنع ختانة اليهودي، وكان أن الأم التي تختن ولدها تقتل: «والنساء اللواتي كُنَّ يختّنَّ أولادهن أماتوهنَّ حسب الأمر ... وكان على إسرائيل غضب عظيم جدًّا.» (1مك 1: 60)
وهكذا وضحت مشيئة الله أن ينـزع من إسرائيل في أواخر الأيام الختم، أو علامة الختان التي هي علامة تبعية الشعب لله، وحلَّ بدلها الغضب واللعنة في الحال والتبعية لملك الأُمم، إشارة إلى زوال مُلك الله عنهم.
ولكن أهمية الختان ظلت عند اليهود أقوى من الموت حتى وفي أعصب أوقات اضطهادهم. وكان يهون عليهم الاستشهاد في سبيل تكميلها، لأن الختان كان في صُلب الإيمان بمثابة ختم يلازم اليهودي بعد الموت، فهو ختم فداء لما بعد الموت. فالأغلف في حياته هكذا يكون في موته: «كلهم قَتْلى، ساقطون بالسيف، الذين هبطوا غُلْفاً إلى الأرض السفلى.» (حز 32: 24)
ختان المسيح في اليوم الثامن:
يقول بولس الرسول إن المسيح وُلِدَ «تحت الناموس» (غل 4: 4) لكي يكمل حرفية الناموس لأجلنا ويفتدينا من لعنته، حيث الإشارة هنا تتضمَّن الخضوع لعملية الختان في اليوم الثامن، كما كان يأمر بها الناموس، حيث أخذ أيضاً اسمه الذي كان قد تسمَّى به سابقاً.
أما بخصوص تتميم ختان اللحم والتدقيق في تكميل ذلك في اليوم الثامن بحسب الناموس، ففي ظاهره لا يعطي أية قيمة عملية، ولكن إذ يحمل هذا بالنسبة للمسيح بالذات أبعاداً روحية وسريَّة عميقة، لذلك ينبغي جدًّا الانتباه إلى دقائق هذه الأمور لما تحوي من استعلان للحق الإلهي.
وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير عمود الدين:
[لأن في اليوم الثامن (أي يوم الأحد) قام المسيح من الأموات وأعطانا الختان الروحي، وذلك بمقتضى ما أمر به الرسل القديسين: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19)، ونحن نؤكِّد هنا أن الختان الروحي يتم أساساً في المعمودية، حيث يجعلنا المسيح شركاء أيضاً في الروح القدس.]([1])
ويبدو أن البابا كيرلس الكبير هنا ينقل لنا تقليداً رسوليًّا ردَّده من قبله الشهيد يوستين في محاوراته مع تريفو:
[إن الوصية بطقس الختان التي تأمر بأن يعتمد الأطفال في اليوم الثامن، كانت رمزاً أو مثالاً للختان الحقيقي للخلاص من الخطية والشر، بواسطة قيامة الرب يسوع المسيح من الأموات في اليوم الأول من الأسبوع (الأحد)، الذي بالرغم من بقائه معتبراً الأول لكل الأيام إلا أنه يُدعى الثامن (لأنه أتى بعد السبت بحدث جديد فأكمل بعد مرور الأسبوع بسبعة أيامه عملاً لم يدخل أصلاً في حدود الأيام السبعة خصوصاً في أيام الخلقة القديمة).]([2])
ويعود القديس كيرلس الكبير ويشرح كيف يختنَّا المسيح بالروح القدس، بقوله:
[وعن هذا أيضاً، فإن يشوع القديم، الذي كان قائداً بعد موسى، هو مثال فإنه أولاً قاد بني إسرائيل عبر الأردن ثم في الحال توقَّف وختنهم بسكاكين من صوان؛ هكذا نحن بعد أن نعبر الأردن (أي المعمودية) يختنَّا المسيح بقوة الروح القدس لا مطهِّراً الجسد، ولكن قاطعاً بالأحرى النجاسة أو الفساد الذي في أنفسنا.]([3])
ثم يعود القديس كيرلس ويكشف عن مدى ارتباط خلاصنا بختانة المسيح في اليوم الثامن معتبراً أن المسيح اختتن لنا ونحن اختتنا فيه؛ فتمَّ لنا بختانة المسيح وفي ختانة المسيح، الخلاص!
[في اليوم الثامن، إذن، اختُتن المسيح وتقبَّل اسمه (يُدعى اسمه يسوع أي المخلِّص). لأنه عندئذ، أي بهذا، خلصنا بواسطته وفيه. كما قيل: «وبه أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية، بختان المسيح، مدفونين معه في المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه» (كو 2: 11 و12). أي أنه كما كان موت المسيح من أجلنا وكانت قيامته، كذلك كانت ختانته.]([4])
انتهاء عهد الختان:
وبتأسيس المعمودية التي يتم فيها الختان الروحي للإنسان، حيث يخلع جسد الخطية، ويلبس الجديد بالروح القدس، ويتم الختم الإلهي لتبعية الله بالاتحاد بالمسيح؛ انتهى عهد ختان اللحم.
وفي ذلك يقول القديس كيرلس أيضاً:
[ولكن بعد ختانة المسيح انتهى هذا الطقس إلى الأبد، وذلك بدخول المعمودية التي كان طقس الختان يرمز لها. لأن بسبب المعمودية لا نعود نمارس طقس الختان بعد. لأن الختان حسب ما يبدو لي كان يخدم ثلاث غايات:
الغاية الأولى: تخصيص نسل إبراهيم بعلامة أو بختم لتمييزهم عن بقية الشعوب الأخرى جميعاً.
الغاية الثانية: أن الختان كان يحمل صورة نعمة وفعالية المعمودية الإلهية حيث كان يُحسب قديماً أن المختون هو عضو في شعب الله بهذا الختم، هكذا أيضاً كل مَنْ يعتمد الآن يكون قد حصل في داخله على المسيح الختم، وبذلك يُكتب ضمن شعب الله المختار.
أما الغاية الثالثة: فهي تفيد رمزيًّا أن الشخص المؤمن قد تأسَّس في النعمة قاطعاً أولاً بأول كل الشهوات الجسدية وإماتة كل الأوجاع بعمل الإيمان الجراحي أي القاطع، وليس بقطع اللحم، إنما بالنسك المجتهد وبتطهير القلب مختتناً بالروح وليس بالحرف، الذي مدحه لا يحتاج، كما يقول بولس الرسول، إلى حكم بشري وإنما يعتمد على شهادة من فوق.]([5])
وهكذا نجد أن العماد حلَّ محل الختان بصورة أكمل وأشمل وبأثر روحي عميق وفعَّال. فبالمعمودية، كما يقول بولس الرسول، خلعنا جسم الخطية بأكمله وليس جزءًا منه، ولبسنا المسيح وصرنا فيه وبه خليقة جديدة كميلاد ثانٍ من السماء، وأصبحنا رعية مع القديسين، أهلاً وأحباء في بيت الله، وملوكاً وكهنة مع المسيح لله!...
ولكن لا ينبغي أن يتوه عن بالنا قط أن كل بركات المعمودية بحدودها الباهرة اللانهائية، إنما هي امتداد ”للختان“ عبر المسيح! فالختان - كما رأينا - سبق أن تصور فيه كل أسرار الحاضر؛ من أجل ذلك لم يحجم المسيح عن أن يخدم هذا السر في صورته الرمزية بحسب الوعد الأول، ليمنحنا الانفتاح اللانهائي على بركاته الأُولى والأخيرة «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبِّت المواعيد التي أُعطيت للآباء.» (رو 15: 8)
وبولس الرسول يرى أن الإنسان الجديد العابد بالروح والمتحد بالمسيح هو الآن بحد ذاته ”ختان كامل“ أو ”أوج الختان“ في أعلى مفهوم روحي له «لأننا نحن الختان، العابدين الله بالروح والمفتخرين في المسيح يسوع وغير المتكلين فيه على الجسد.» (في 3: 3 ترجمة حرفية)
ثانياً: عيد الختان
أما بخصوص زمن التعييد لهذه المناسبة المقدَّسة، فالمعروف أنه كان مرتبطاً بعيد الميلاد ارتباطاً جوهريًّا، بحيث لم توافق الكنيسة منذ البدء على أن تخصِّص له عيداً منفصلاً عن الميلاد. وزمن عيد الميلاد لم تحدِّده الكنائس كلها في زمن واحد.
فمعروف أن كنيسة روما في الغرب كانت تُمارس عيد الميلاد، وربما عيد الختان منذ زمن بعيد، كما يقول العلامة ترتليانوس، إذ عَثَرَ عُلماؤها في القرون الأُولى على أرشيف الحوادث المدنية التي حوت ذكر حوادث الاكتتاب أيام أوغسطس قيصر، وفيها اسم يسوع ونسبه وميعاد ميلاده وخلافه، والتي منها استدلَّت الكنيسة على ميعاد ميلاد المخلِّص، وبالتالي حدَّدت زمن عيد الميلاد والختان:
[أو كيف يُسمح للمسيح أن يدخل إلى المجمع إذا كان غير معروف سابقاً أو كان ظهوره مفاجئاً ولا يُعرف من أي سبط هو ومن أي بلدٍ ومَنْ هي عائلته؟ وأخيراً تسجيله في الاكتتاب الذي عمله أوغسطس قيصر، وهو الشاهد الصادق على ميلاد الرب، المحفوظ في أرشيف روما. كذلك وبكل تأكيد كان هناك شهود يتذكَّرون إن كان قد اختتن على أيديهم أم لا حتى يُسمح له بالدخول إلى أماكنهم المقدَّسة.]([6])
ويؤكِّد هذه الحقيقة القديس يوحنا ذهبي الفم في عظته التي ألقاها في 25 ديسمبر سنة 376م، حيث يُعلن فيها ضمناً بدء ممارسة كنيسة أنطاكية لعيد الميلاد منفرداً عن عيد الغطاس، اعتماداً على مراسلات جرت له مع كنيسة روما التي كانت قد سبقت أنطاكية في تحديد زمن العيد بوقت كثير. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
[والحقيقة أنه لم يمضِ حتى الآن سوى عشر سنوات منذ أن تعرَّفنا بوضوح على هذا اليوم (يوم الميلاد 25 ديسمبر). وبالرغم من ذلك، ها هوذا قد ازدهر هذا اليوم وانتشر بسبب غيرتكم وكأنه قد تسلَّم لنا منذ البدء. وهكذا لا يخطئ الإنسان لو هو قال إن هذا العيد جديد وقديم معاً، جديد لأننا هوذا قد عرفناه حديثاً، وقديم لأنه هكذا اكتسب مساواة مع الأعياد القديمة ...
وهذا اليوم كان معروفاً منذ البدء عند رجال الغرب، غير أنه وصلنا أخيراً منذ مدة وجيزة فقط ... (وهنا يبدأ يوحنا يقص قصة الأرشيف المدني في روما كمصدر تعرف منه رجال الكنيسة على هذا اليوم) ... ومن هؤلاء الذين كانت لديهم معلومات دقيقة عن الموضوع في روما قد تسلَّمنا بدورنا تحديد هذا اليوم، لأن قاطني هذه المدينة كانوا متمسِّكين بهذا اليوم منذ البدء، ومن التقليد القديم، وهم الذين أرسلوا لنا هذه المعلومات].
أما في كنيسة مصر، فنستقي تحديد بدء عيد الميلاد (ومعه عيد الختان) من مصادر متعددة، وأهمها الآتي:
أولاً: الدسقولية (أي تعاليم الرسل) وهي من مدونات القرن الثالث:
18: [يا إخوتنا تحفَّظوا في يوم الأعياد التي هي عيد ميلاد الرب، وأكملوه في اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع الذي للعبرانيين، الذي هو اليوم التاسع والعشرون في الشهر الرابع الذي للمصريين. ومن بعد هذا الإبيفانيا، فليكن عندكم جليلاً لأن فيه بدأ الرب أن يظهر لاهوتيته في معموديته في الأردن من يوحنا. واعملوه في اليوم السادس من الشهر العاشر الذي للعبرانيين الذي هو الحادي عشر من الشهر الخامس الذي للمصريين. وليتقرَّب في الميلاد والغطاس ليلاً لا لكراهية الصوم بل لتمجيد العيد].
ويُلاحَظ هنا أنه ذكر كلمة ”يوم الأعياد“، مما يفيد أنه في يوم واحد كان يُقام عيد للميلاد والغطاس معاً. كذلك فإن تشابه العيدين في طقسهما المسائي يوحي بذلك.
ثانياً: القديس أثناسيوس الرسولي:
وينقل عنه العالِم كوتيلييه من إحدى مخطوطاته التي لم يُذكر اسمها قول أثناسيوس:
[لأن ربنا يسوع المسيح وُلِدَ من العذراء القديسة مريم في بيت لحم في 29 من شهر كيهك، بحسب المصريين، في الساعة السابعة، الموافق الثامن من يناير.]([7])
ثالثاً: من كلمندس الإسكندري، حيث يبدو كلمندس متردِّداً في قبوله:
[والأمر العجيب أنه توجد جماعات حدَّدت بالفعل سنة ميلاد الرب وأيضاً اليوم الذي وُلِدَ فيه المخلِّص وهي السنة الثامنة والعشرون لأوغسطس قيصر، في اليوم الخامس والعشرين في الشهر التاسع([8]) (ديسمبر) (الموافق 28 كيهك).
كذلك نعلم أن أتباع باسيليدس يعيِّدون أيضاً ليوم عماده، ويمضون الليل كله ساهرين في القراءات، ويقولون إن عماد الرب كان في السنة الخامسة عشر لسلطنة طيباريوس قيصر، في اليوم الخامس عشر من شهر طوبة.]([9])
وهكذا تأتينا هذه الأخبار المبكِّرة جدًّا بخصوص تعييد العيدين: الميلاد والغطاس، كل بمفرده في مصر، ولكن ليس مؤكَّداً إن كان هذا من قبل الكنيسة الرسمية الأرثوذكسية الجامعة. ولكن الإشارة هنا إلى أن تعييد العماد بمفرده كان لبعض الجماعات المنشقة مثل باسيليدس.
رابعاً: عن كاسيان: سنة 360 - 450م:
ثم يعود كاسيان ويؤكِّد لنا أن الكنيسة في مصر كلها كانت لا تزال في أيامه تعيد لعيد الميلاد والغطاس معاً في عيد الإبيفانيا، حيث تأتي كلمة ”الإبيفانيا“ بصيغة الجمع، أي تشمل عدَّة ظهورات:
( أ ) الظهور في الجسد «الله ظهر في الجسد».
(ب) ظهور النجم للمجوس، وهو إشارة إلى استعلان الله للأُمم.
( ج ) استعلان بنوَّته لله في العماد بصوت السماء.
( د ) استعلان لاهوته بمعجزة قانا الجليل.
[وفي إقليم مصر، هذه العادة قديمة بالتقليد حيث يراعى أنه بعد عبور ”الإبيفانيا“ التي يعتبرها الكهنة في هذا الإقليم الزمن الخاص بمعمودية الرب، وأيضاً ميلاده بالجسد، وهكذا يعيِّدون لكلا التذكارين أي لكلا ”السرّين“، ولا يعيِّدونهما منفصلين كما هو في أقاليم الغرب. ولكن في عيد واحد في هذا اليوم.]([10])
ونفس هذه الحقائق يسجِّلها إبيفانيوس أسقف قبرص.
والمعروف لدى العلماء أن أول مَنْ عيَّد ”الإبيفانيا“ للميلاد والغطاس معاً هي كنيسة الإسكندرية منذ العصر الرسولي، ويُقال إن هذا التقليد مسلَّم للكنيسة من القديس يعقوب أخي الرب. ومنها انتقلت إلى روما والغرب. وهناك حدث في الربع الأخير من القرن الرابع، انفصال العيدين، وعيَّدت كنائس الغرب للميلاد في 25 ديسمبر. ومن الأمور الطريفة أن في عيد الغطاس عند الغرب، لا تزال الكنيسة هناك تحتفظ بتذكار زيارة المجوس!!([11])
كذلك من الأمور الطريفة أن الغرب احتفظ باسم عيد ”الإبيفانيا“ في نطقه اليوناني، أما الميلاد فبنطقه اللاتيني؛ مما يفيد أن عيد الإبيفانيا مأخوذ بطقسه واسمه من الشرق، أما التعييد للميلاد منفرداً عن الغطاس فهو من ترتيب الغرب.
خامساً: البابا الإسكندري تيموثاوس الأول (378 - 384م):
يسجِّل لنا المؤرِّخ جناديوس في كتابه عن التاريخ الكنسي، أن البابا الإسكندري تيموثاوس هذا ألَّف كتاباً على ميلاد ربنا بحسب الجسد. ويظن المؤرِّخ أنه كُتب أو قُرئ في عيد الإبيفانيا([12]).
ومن هذه الإشارة يبدو واضحاً أن كنيسة الإسكندرية كانت تعيِّد للميلاد متميِّزاً عن الغطاس، ولو أن ذلك كان في يوم واحد وعيداً واحداً، وكانا يُسميان معاً بالإبيفانيا. ويُعتبر هذا الكتاب الذي ألَّفه تيموثاوس بابا الإسكندرية الثاني والعشرون عن الميلاد أول مؤلَّف كنسي عن الميلاد قاطبة.
وهكذا كما ابتدأ الميلاد يأخذ مجاله المتميِّز كعيد قائم بذاته منذ القرن الثاني في مصر، هكذا ابتدأ عيد الختان يأخذ وضوحه المتميِّز معه جيلاً بعد جيل؛ لأن الكنيسة بدأت تهتم بتسجيل كل حوادث الإنجيل مبكِّراً جدًّا، فنحن نقرأ للقديس مار أفرآم السرياني (الذي تنيَّح سنة 373م) تحديده أيضاً لعيد البشارة هكذا:
[لأن في العاشر من مارس كان الحبل به وفي السادس من يناير كان ميلاده.]([13])
سادساً: البابا كيرلس الكبير عمود الدين (412 - 444م)،
والأسقف بولس من ”أميسا“:
مذكور في تسجيلات مجمع أفسس سنة 431م، أن الأسقف بولس من أميسا ألقى عظة في حضور البابا كيرلس الكبير الإسكندري عن ميلاد ربنا يسوع المسيح، حدَّد فيها ميلاد المسيح باليوم التاسع والعشرين من شهر كيهك (الذي كان يوافق 25 ديسمبر)([14]).
وعنوان العظة كالآتي:
[عظة لبولس أسقف أميسا ألقاها في اليوم التاسع والعشرين لشهر كيهك في الكنيسة العظمى بالإسكندرية بحضرة المطوب كيرلس على ميلاد ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح].
ومن هذه العظة يتضح أن عيد الميلاد كان له وجود مستقل عن عيد الغطاس في زمن كيرلس الكبير! وكان قد تحدَّد له يوم معيَّن خلاف يوم الإبيفانيا.
ولكن المعروف أن هذا تم بحذر شديد، لأن التقليد المألوف الجاري في الكنيسة كان يعتبر أن عيدي الميلاد والغطاس يكوِّنان مفهوماً واحداً ”لطبيعة الله الكلمة المتجسِّد“.
كذلك فمجرد تقسيم العيدين يُعتبر تقسيماً لمفهوم طبيعة المسيح، الأمر الذي أثار حفيظة شعب القسطنطينية عندما أجرى غريغوريوس النـزينـزي (اللاهوتي) هذا التقسيم وجعل الميلاد منفصلاً عن الغطاس، فهاج الشعب محتجاً معتبراً ذلك إساءة لمفهوم لاهوت المسيح.
تحديد عيد الختان:
ومن الأمور الثابتة في الكنيسة أن الإشارة إلى عيد الختان كانت قديمة في الكنيسة، وكانت تستتر تحت كلمة ”الأوكتاف Octave“ أي ”الثامن“، وهو اليوم الثامن من بعد الميلاد، أي الموافق للختان. وقد اختير هذا الاصطلاح تحشُّماً واحتراماً لجلال المختتن.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكنيسة كانت تعتبر الختان مكمِّلاً للميلاد، فلا يصح أن يُعيَّد للختان عيداً منفصلاً عن الميلاد، فأضافت ”اليوم الثامن“ أي ”الأوكتاف“ إلى عيد الميلاد بالرغم من إقامة تذكاره في يوم آخر غير يوم الميلاد.
وهذا الأمر سبق أن لاحظناه أيضاً في تمسُّك الكنيسة بالجمع بين عيدي الميلاد والغطاس معاً، باعتبارهما يكوِّنان مفهوماً واحداً لمسيح واحد مولود في بيت لحم وفي الأزلية، بحيث لا يمكن فصل ميلاده في بيت لحم عن ميلاده الأزلي.
وقد ظلَّ هذا الاصطلاح ”الأوكتاف“ معمولاً به في الكنيسة مدَّة طويلة، حيث بدأ قليلاً قليلاً يأخذ اسمه الطقسي ”عيد الختان“ بوضوح. ومن قراءات اليوم الثامن من بعد الميلاد، تظهر الفصول الخاصة بختانة المسيح، وذلك في أقدم القطمارسات.
أما أقدم وثيقة في الكنيسة بلغت إلى علمنا حتى الآن، فهي تحمل عظة عن ”عيد الختان“، وهي من أعمال ”زينو“ أسقف فيرونا من القرن الرابع([15])، قيلت في ”أوكتاف“ الميلاد، أي في اليوم الثامن من الميلاد.