إذ تنيح الأنبا اسحق البابا الحادي والأربعون (من رجال القرن السابع) حدث خلاف بين كهنة كنيسة القديس مار مرقس الرسول بالإسكندرية وكهنة كنيسة الإنجيليين بالمدينة. فقد مال الأولون إلى ترشيح القمص يوحنا بدير الزجاج بكونه رجلًا عالمًا كاتبًا، بينما الآخرون رشحوا القمص بقطر بدير تفسر بكونه رجلًا فاضلًا. مال الكُتاب الأقباط إلى القمص بقطر الذي رشحه كهنة كنيسة الإنجيليين، وكان عددهم مائة وأربعين كاهنًا، بينما كان الفريق الأول يساعده الكاتب المتولّي وكتب تادرس أرخن مدينة الإسكندرية إلى الوالي يذكر له أن القمص يوحنا بدير الزجاج هو الذي وقع عليه الاختيار ليكون بطريركًا. استدعى الوالي القمص يوحنا، فذهب وكان معه بعض كهنة الإسكندرية والأرخن تادرس كما كان معه تلميذه سيمون. سُرّ الوالي بالقمص يوحنا، إذ كان شخصًا بهيًّا في المنظر، وإذ سأل الوالي الأساقفة عن سلوكه مدحوه. لكن أحد الأساقفة قال: "هذا لا ينبغي أن يكون لنا بطريركًا". فصمت بقية الأساقفة، عندئذ سأله الوالي: "من تراه يصلح للبطريركية؟" أجابه أن المستحق لهذه الرتبة سيمون. استدعاه الوالي وإذ سأل عن جنسه قيل له أنه سرياني من أهل الشرق. فقال للأساقفة: "أما كان الأفضل أن تختاروا لكم بطريركًا من بلادكم؟" أجابوه: "الذي اخترناه أحضرناه بين يديك، والأمر لله ولك". عندئذ سأل الوالي سيمون عن القمص يوحنا، وهل يليق أن يكون بطريركًا. أجابه: "لا يوجد في كل مصر ولا في الشرق من يستحق هذه الرتبة مثل يوحنا، فهو أبي الروحي منذ صغري، وسيرته كسيرة الملائكة". تعجب الوالي من كلامه، حينئذ قال الأساقفة والكُتاب الأراخنة: "ليحيي الله الأمير لنا سنيًا طويلة، سلّم الكرسي لسيمون فهو مستحق للبطريركية". وإذ سمع الأمير ذلك عن شهادتهم لرجل غريب سمح لهم بإقامته بطريركًا، فمضوا به إلى كنيسة الإنجيليين لسيامته. كان ذلك في عهد خلافة عبد الملك بن مروان، وقد امتنع سيمون كثيرًا عن قبول السيامة وأخيرًا قبل ذلك وكان أبوه الروحي يوحنا متهللًا جدًا بسيامة تلميذه. في دير الزجاج:
كان القديس سيمون سرياني الجنس وقد قدمه والده إلى دير الزجاج الذي فيه جسد القديس ساويرس الإنطاكي الكائن غربي مدينة الإسكندرية، فترهب به وتعلم القراءة والكتابة وحفظ أكثر كتب الكنيسة، ورسمه البابا أغاثون قسًا. وقد ذاع صيت فضائله وعلمه. سيامته بطريركًا:
لما انتخبوه للبطريركية وكُرِس بطريركًا دعا إليه معلمه الروحاني وأوكل إليه تدبير أمور البطريركية، وتفرغ هو للصوم والصلاة والمطالعة. وكان يعيشً على الخبز والملح بالكمون والبقول حتى اخضع النفس الشهوانية للنفس العاقلة الناطقة. علاقته بأبيه الروحي:
خلال محبته وثقته في أبيه الروحي، القمص يوحنا، جعله وكيلًا له، متصرفًا في كل الأمور. كان يستشيره ويسير حسب نصيحته، وعاش الاثنان في محبة كاملة لمدة ثلاث سنوات حتى انتقل القمص يوحنا فكفّنه البابا بنفسه وأخذ بركته، وبنى له قبرًا متسعًا، وطلب أن يدفن فيه معه. علاقته بكرسي إنطاكية:
كتب رسالة إلى يوليانوس بطريرك إنطاكية وأرسلها مع أساقفته، ففرح بها البطريرك وقرأها في كنيسته، وبعث بدوره رسالة كما أكرم الأساقفة الذين جاءوا حاملين إليه الرسالة. محاولة قتله:
عاش البابا كراهبٍ ناسكٍ فلم يكن يأكل سوى الخبز والملح المخلوط بكمّون وبعض البقول ويشرب ماءً. وكثيرًا ما كان ينفرد بعيدًا عن الأساقفة والكهنة لإتمام قوانين الصلاة. لاحظ أن بعض الكهنة قد أفرطوا في معيشتهم فوبّخهم على ذلك. فابغضه البعض وأرادوا الخلاص منه. وقد أجرى الله على يديه آيات عظيمة، منها أن أربعة كهنة من الإسكندرية قد حنقوا عليه فتأمروا على قتله، واتفقوا مع أحد السحرة فأعطاهم سمًا قاتلًا في قارورة وقدموها للبطريرك على أنها دواء ليستعمله، فأخذها وبعد التناول من الأسرار الإلهية شربها فلم تؤذه. وإذ فشلوا في مؤامرتهم رَكَّبوا سمًا آخر قاتلاُ ووضعوا منه في التين، واحتالوا على المكلف بعمل القربان حتى منعوه ذات ليلة من عمله وذهبوا إلى البطريرك في الصباح وقدموا له التين هدية وألحوا عليه حتى تناول جانبًا منه. فلما أكله تألم من ذلك ولزم الفراش مدة أربعين يوما. وحدث أن الملك عبد العزيز حضر إلى الإسكندرية وسأل عن البطريرك فعرفه الكتبة النصارى بما جرى له، فأمر بحرق الأربعة كهنة والساحر فتشفع فيهم البابا البطريرك راكعًا أمامه، متوسلًا بدموع كثيرة، فتعجب الملك من حبه ووداعته ثم عفا عن الكهنة وأحرق الساحر ليكون مثلًا.ازداد هيبة ووقارًا في عيني الملك وسمح له بعمارة الكنائس والأديرة، فبنى ديرين عند حلوان قبلي مصر. طلب سيامة أسقف للهند:
حاول وفد قادم من الهند أن يذهب إلى سوريا ليقوم بطريرك إنطاكية بسيامة أسقفٍ لهم، حيث كانت الهند تابعة له. وإذ لم يستطع الوفد الوصول إلى سوريا طلبوا من البابا سيمون أن يقوم بالسيامة فخشي ببأس الوالي، واعتذر لهم بأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بدون إذن الوالي. فخرج الوفد من عنده واجتمع بهم مجموعة من الخلقيدونيين فأخذوهم إلى بطريرك الملكيين، فسام لهم أسقفًا من مريوط وكاهنين، وساروا سرًّا في الطريق إلى الهند. بعد عشرين يومًا قبض عليهم قوم من العرب في الطريق، فهرب القس الهندي وعاد إلى مصر، وأوثفوا الثلاثة وأحضروهم إلى الخليفة مروان في دمشق، وإذ علم أنهم من مريوط ومصر اقتص منهم وأرسلهم إلى ابنه عبد العزيز والي مصر موبخًا إيّاه على عجزه من معرفة الأمور الجارية في بلاده، وأخبره بان بطريرك الأقباط المقيم بالإسكندرية قد بعث بأخبار مصر إلى الهند مع رُسل من قبله، وأمره بضربه مائتي سوطًا وتغريمه مائة ألف دينارًا يرسلها إليه بسرعة مع الرسل القادمين إليه. وصل الوفد الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وكان البابا بحلوان بصحبته أحد الأساقفة فاستدعاه وهدّده بالقتل إن لم يعترف بالحقيقة، فروى له أن قسًا هنديًّا داء وطلب سيامة أسقف وأنه رفض السيامة بدون إذن الوالي. لم يصدقه الوالي وهدده بهدم جميع الكنائس وقتل الأساقفة، فطلب البابا منه أن يسأل الذين قُبض عليهم، ولم يخبره بان بطريرك الملكيين قام بالسيامة. طلب البابا مهلة أسبوعًا ليدعو الله فيكشف له الحقيقة، فظن الوالي أن البابا يريد أن يهرب أو ينتحر وأعطاه مهلة ثلاثة أيام. ظهر القس الهندي واعترف بكل ما حدث بعد أن أخذ وعدًا من الوالي بالعفو عن المذنبين. ألقى الوالي القبض على بطريرك الملكيين وتشفع فيه البابا فعفا عنه. وبعث الوالي إلى والده يؤكد له براءة البابا. مع القس مينا:
كان هذا البابا قد عين قسًا اسمه مينا وكيلًا على تدبير أمور الكنائس وأموالها وأوانيها وكتبها، فأساء التصرف وبلغ به الأمر أن أنكر ما لديه من مال الكنائس. وحدث أنه مرض فانعقد لسانه عن الكلام، ولما سمع البابا البطريرك بذلك حزن وسأل الله أن يشفيه حتى لا تضيع أموال الكنائس. ثم أرسل أحد تلاميذه إلى زوجة ذلك القس ليسألها عن مال الكنائس، فلما أقترب من البيت سمع الصراخ والبكاء وعلم أن القس توفى فدخل إليه وانحنى يقبله، فعادت إليه روحه وجلس يتكلم شاكرًا السيد المسيح ومعترفًا بأن صلاة القديس سيمون عنه هي التي أقامته من الموت، وأسرع إلى البابا البطريرك نادمًا باكيًا وقدّم ما لديه من مال الكنائس. كان في أيامه قوم يتسرّون على نسائهم فحرمهم حتى رجعوا عن هذا الإثم. أقام على كرسي البطريركية سبع سنوات وسبعة أشهر ثم تنيّح بسلام.العيد يوم 24 أبيب.