وحتى حينما سأل يوحنا السيد المسيح سراً، لم يجبه بالاسم، لكى لا يلاحظ أحد.. بل أعطاه علامة فقط، وغالباً لم توجد فرصة لكى يخبر يوحنا أحداً بإجابة السيد المسيح قبل خروج يهوذا. لأنه خرج فوراً بعد إتمام تلك العلامة، وهذا ما أوضحه يوحنا فى إنجيله:
“وكان متكئاً فى حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذى قال عنه. فاتكأ ذاك على صدر يسوع، وقال له يا سيد من هو؟ أجاب يسوع هو ذاك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطى. فبعد اللقمة دخله الشيطان. فقال له يسوع ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة. وأما هذا فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا كلّمه به. لأن قوماً إذ كان الصندوق مع يهوذا، ظنوا أن يسوع قال له: اشتر ما نحتاج إليه للعيد، أو أن يُعطى شيئاً للفقراء. فذاك لما أخذ اللقمه خرج للوقت. وكان ليلاً. فلما خرج قال يسوع الآن تمجّد ابن الإنسان، وتمجّد الله فيه” (يو13: 23-31).
لو كان بطرس قد علم بالأمر قبل خروج يهوذا، لما كان قد سمح له أن يخرج. ولكن المرجح أنه علم من يوحنا بعد خروج يهوذا، وبعد مرور وقت كاف لا يسمح لبطرس بتتبعه.. ” ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة ” (يو13: 27)
الملاحظ هنا أن السيد المسيح قال هذه العبارة ليهوذا، على سبيل التوبيخ والإنذار للتوبة. لأن يهوذا هو الذى كان يتعجل أى فرصة مواتية، ليذهب سريعاً إلى رؤساء الكهنة الذين كانوا ينتظرون مجيئه بفارغ الصبر.
لم يقل له السيد المسيح “اذهب بسرعة لتسلمنى لليهود”. ولكن قال: “ما أنت تعمله” تاركاً له حرية الاختيار بين أحد أمرين:
إما أن يعمل عمل التوبة بسرعة فيتأهل للتناول من جسد الرب ودمه، إذ يترك عنه الخيانة ويبقى مع التلاميذ.
أو أن يخرج سريعاً ويخلى المجال، ليتمكن السيد المسيح فى العلية من تأسيس سر العشاء الربانى، الذى لا يستحق يهوذا أن يشترك فيه، وبحيث يتم ذلك قبل القبض على السيد المسيح فى البستان.
وقد اختار يهوذا -كما سبق السيد المسيح وأنبأ- الخيار الثانى. وخرج للوقت لأنه كان قد سلّم قلبه بالكامل للشيطان.. وبعد خروجه ومعه شيطان قلبه، بدأ السيد المسيح فى تقديس القربان إذ قال “الآن تمجّد ابن الإنسان وتمجّد الله فيه” (يو13: 31). لم تكن لقمة الفصح اليهودى التى أعطاها السيد المسيح ليهوذا قبل خروجه هى السبب فى دخول الشيطان فيه. أما قول الكتاب “بعد اللقمة دخله الشيطان” (يو13: 27)، فهو مرتبط بقوله السابق لهذا الأمر “وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا سمعان الإسخريوطى أن يسلِّمه” (يو13: 2).
كان السبب الحقيقى لدخول الشيطان فى يهوذا، هو إصراره على الخيانة، بالرغم من محبة السيد المسيح وتحذيراته له. وتخلى النعمة عنه فى نهاية الأمر لأنه لم يستحقها، بل رفضها وبإصرار.. والنعمة لا تفرض وجودها على أحد..
أليس هذا هو ما حذر منه السيد المسيح من التجديف على الروح القدس؟.. وهو ما ينتج عن رفض التوبة وبإصرار إلى النهاية؟!