شفاء المفلوج
ضمن معجزات الرب في كفر ناحوم وتخومها (التي تقع شمال غرب بحر أو بحيرة طبرية - بحر الجليل أو بحيرة جنِّيسارت)، كانت معجزة(1) شفاء المفلوج(2)، حيث عَبَر الرب وتلاميذه بالسفينة إلى كفر ناحوم ودخل واحداً من البيوت التي اعتادهـا لكي يُعلِّم ويكرز ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب (مت 4: 23؛ 9: 35)، ربما بيت بطرس وأندراوس (مت 8: 14؛ مر 1: 29) أو بيت متَّى(3).
في اقتضاب يذكر الكتاب المعجزة: مفلوج (أشلَّ) عاجز عن الحركة يَحُول بينه وبين الطبيب الشافي الجموع الكثيرة التي تزحمه فضلاً عن عجزه؛ هكذا سعى أصدقاؤه الأربعة (مر 2: 3) الذين حملوه على فراش (مت 9: 2)، ولكنهم تواجهوا مع الكثيرين مِمَّن جاءوا لسماع كلمة الله ومعهم طالبو الشفاء «حتى لم يَعُد يسع ولا ما حول الباب» (مر 2: 2). ولأنهم وضعوا في قلوبهم ألاَّ يعودوا خائبين، فلم يهزمهم الزحام، وتفتَّق ذهنهم على أن يصعدوا إلى سطح البيت حيث أزاحوا الآجر (وهو نوع من الطوب الآحمر) (لو 5: 19)، فانكشفت فتحة كانت كافية لأن يُنزِلوا مريضهم على فراشه من خلالها ليصير في الوسط قدَّام يسوع.
يقول الكتاب مباشرة: «فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: ثق يا بُنيَّ. مغفورة لك خطاياك» (مت 9: 2). وبينما انتظر المفلوج وأصحابه الشفاء، صدمت كلمات الرب الكتبة والفرِّيسيين المتربصين الذين قالوا (في أنفسهم – في قلوبهم) احتجاجاً: «لماذا يتكلَّم هذا هكذا بتجاديف. مَن يقدر أن يغفر الخطايا إلاَّ الله وحده» (مر 2: 7؛ لو 5: 21). ولكن فاحص القلوب والكُلَى (مز 7: 9) عَلِمَ أفكارهم، وأجاب قائلاً: «لماذا تُفكِّرون بالشر في قلوبكم؟ أيُّما أيسر، أن يُقال: مغفورة لك خطاياك، أم أن يُقال: قُمْ وامشِ؟ ولكن (قلتُ هذا) لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا» (مت 9: 6؛ مر 2: 10؛ لو 5: 24). «حينئذ قال للمفلوج: قُمْ احمل فراشك واذهب إلى بيتك!». وعلى الفور قام المفلوج وحمل فراشه ومضى إلى بيته. فأخذت الجميع حيرة ومجَّدوا الله قائلين: «ما رأينا مثل هذا قط» (مت 9: 6-8؛ مر 2: 11؛ لو 5: 24-26). والمعجزة - على تفاصيلها القصيرة - تكشف لنا عن كيف يتعامل الله مع مشاكلنا، وما ينبغي أن يكون عليه توجُّه صاحب المشكلة أو مَن يطلب من أجله، وعن المصدر الحقيقي للمشاكل والمصاعب التي يواجهها الإنسان.
أولاً: من ناحية الله:
1. فالله يعرف مَن يأتي إليه وما هي قضيته؟
فالمسيح كان جالساً يُعلِّم وحوله الجموع. وفجأة ينزل أمامه على فراش مفلوج يُدلِّيه من السقف أربعة رجال. ولكن الرب لم يُفاجَأ ولم يُبْدِ اندهاشاً لِمَا يجري، ولم يستفسر عن شيء، لأنه كان يعرف المريض والمرض، ولأنه أدرك صدق إيمانهم المنحصر في قدرته على الشفاء والإصرار على الوصول إليه. وهكذا استجاب، فأجرى المعجزة.
وقد كان الرب نائماً في قاع السفينة، وهي تتأرجح بين الأمواج والرياح، وما أن استنجد به تلاميذه حتى «قام وانتهر الرياح والبحر، فصار هدوء عظيم»، ولام تلاميذه على تخوُّفهم رغم أنه كان في وسطهم (مت 8: 23-26؛ مر 4: 35-39؛ لو 8: 23-27).
2. والله قادر على الحل:
فالمفلوج العاجز عن الحركة وربما الكلام، نال الشفاء على الفور. والرب يقول عن نفسه: «غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله» (لو 18: 27)، ومكتوب أنه: «القادر على كل شيء» (رؤ 1: 8؛ 4: 8؛ 11: 17؛ 15: 3؛ 16: 7؛ 19: 6).
ورغم كثرة الواقفين بباب الرب، إلاَّ أنه مهتمٌّ بكل واحد وقادر أن يسد أعواز الكل. وهو شَعَرَ بالمرأة نازفة الدم التي كانت قد تألَّمت من أطباء كثيرين وأنفقت كل ما عندها ولم تنتفع شيئاً، بل صارت إلى حالٍ أردأ، ولكنها اختطفت شفاءً كاملاً بلمسة واحدة لهُدب ثوب المسيح (مر 5: 19-22؛ لو 8: 43-48). ومكتوب أيضاً أنهم: «أحضروا إليه جميع المرضى وطلبوا إليه أن يلمسوا هُدْب ثوبه فقط. فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء» (مت 14: 36،35؛ مر 5: 26؛ لو 8: 43).
3. والله يستجيب لمَن يدعوه:
والرب لما «رأى إيمانهم» (أي إيمان أصدقاء المفلوج) تحنَّن ووهب المفلوج الشفاء الذي تاق إليه طويلاً. والصحة الكاملة عادت إليه حتى أنه بعد أن دخل محمولاً، خرج حاملاً فراشه!
وهو يُنادينا: «ادْعُني في يوم الضيق، أنقذك فتُمجِّدني» (مز 50: 15)، «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثَّقيلي الأحمال وأنـا أُريحكم» (مت 11: 28)، «اسألوا تُعطَوْا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم» (مت 7: 7؛ لو 11: 9). وهو واقف مستعد ليفيض بحنانه على المحتاجين المتوسِّلين إليه: «إنْ سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي» (رؤ 3: 20).
4. والله يُعطي بسخاء:
وهو يجول يصنع خيراً (أع 10: 38) لكل محتاج حتى بغير طلب. فالكتاب يُسجِّل كثيراً تحنُّن الرب على الجموع، وكان يراهم كغنم هائمة لا راعي لها (مت 9: 36؛ مر 6: 34)؛ كما اهتمَّ بالآلاف الذين بقوا معه ثلاثة أيام يتابعون تعاليمه وقد نفد طعامهم وقال عنهم: «إني أشفق على الجمع... ولستُ أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يُخَوِّروا في الطريق» (مت 15: 32)، وهو كثَّر لهم الخبز والسمك حتى «أكل الجميع وشبعوا» (مت 15: 37)؛ وهو أوقف جنازة وحيد الأرملة «فلما رآها الرب تحنَّن عليها، وقال لها: لا تبكي»، وتقدَّم ولمس النعش وأقام الشاب ودفعه إلى أُمِّه (لو 7: 11-15)؛ وهو لما رأى حماة بطرس مطروحة ومحمومة لمس يدها وأقامها بغير طلب (مت 18: 15،14؛ مر 1: 31،30؛ لو 4: 39،38)؛ بل إن المسيح هو الذي اتَّجه إلى مريض بركة بيت حِسْدا وسأله إذا كان يريد أن يبرأ، فلما عبَّر الرجل عن يأسه وسوء طالعه، بادره يسوع أنْ «قُم احمل سريرك وامشِ. فحالاً برئ الإنسان» (يو 5: 6-9). كما أنه كان أحياناً يهب شفاءً جماعياً للمرضى بغير تمييز (مت 8: 16؛ 14: 14). فهو يُعطي الجميع بسخاء ولا يُعيِّر (يع 1: 5)، وخيراته يُنعِم بها على الجميع: «فإنه يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين» (مت 5: 45). وهو في ذلك لا يُميِّز بين مؤمنيه وغيرهم، فهـو مُحب لكل خليقته، وهـو تحنَّن على الكنعانية وشفى ابنتها (مت 15: 21؛ مر 7: 24-30)، وشفى البُرص العشرة وضمنهم سامري غريب الجنس (لو 17: 11-19).
ثانياً: عن خدمة المرضى،
والتوسُّل لأجلهم:
يُسجِّل الكتاب أن المفلوج قُدِّم للرب مصحوباً بإيمان أصدقائه، من هنا فإنَّ الرب عندما «رأى إيمانهم»، غفر للمفلوج خطاياه، وأقامه صحيحاً معافًى. وإذا كان هناك مَن يقول: "تكلَّم حتى أراك"، أي أنَّ كلماتك تُقدِّمك للناس وتكشف عن شخصيتك؛ فهكذا يمكن القول إنَّ موقفنا وقت التجربة يعكس حقيقة إيماننا: هل هو ثابت صادق أصيل تُلهبه الضيقة، أو هو ادِّعاء كاذب ينهار من ضربة واحدة.
+ فشفاء المفلوج كتتويج لمسعى وإيمان أصحابه، يُقدِّم مثالاً صريحاً لقيمة خدمة وشفاعة الآخرين وإيمانهم وتوسُّلاتهم وصلاتهم(4). فصاحب المشكلة أو التجربة قد لا يكون واعياً أصلاً أو ضعيفاً غير قادر على الطلب، فيتقدَّم عنه آخرون بإيمانهم، والله يستجيب. بل إنَّ الرب أقام موتى استجابةً لتوسُّل أهلهم أو دموعهم: كابنة يايرس (مت 9: 18-26؛ مر 5: 21-43؛ لو 8: 41-56)، وابن الأرملة (لو 7: 11-15)، ولعازر أخي مريم ومرثا (يو 11: 33،21،3).
+ من هذا المنطلق فإنَّ الكنيسة، آباءً وخداماً وشعباً، تُصلِّي من أجل المرضى والمتألِّمين والمتضايقين (كما صلَّت بلجاجة من أجل بطرس الرسول، فخرج من سجنه: أع 12: 3-10). والكتاب يحثُّنا أن «احملوا بعضكم أثقال بعض» (غل 6: 2)، «صلُّوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفَوْا» (يع 5: 16)، وأيضاً أن يُصلِّي الشعب من أجل الآباء والخدَّام: «مُصلِّين في ذلك لأجلنا نحن أيضاً ليفتح الرب لنا باباً للكلام» (كو 4: 2)، «أيها الإخوة صلُّوا لأجلنا» (1تس 5: 25).
+ ما أنبل خدمة المرضى وكل مَن هم في ضيقة، وهي التي تعكس غِنَى المحبة المسيحية في أشرق صورها. وكما أنَّ المسيح هو الطبيب الشافي الذي يُنهِض الإنسان صحيحاً من مذلَّة المرض وأوجاعه؛ كذلك فالمؤمنون بالمسيح يسيرون على نهجه طاعةً لوصيته: «كنتُ مريضاً فزرتموني» (مت 25: 36)، يخدمون المرضى، ويتابعون علاجهم، ويحتملون معهم وطأة المرض ونفاد الصبر، ويجتهدون في التخفيف عنهم وتعزيتهم وتشجيعهم ورفع معنوياتهم وتسليتهم، والصلاة من أجلهم، وإحاطتهم بكل ألوان الرعاية بغير تذمُّر أو تململ، وهي خدمة تقود أصحابها لوراثة الملكوت (مت 25: 34).
وطوبى لكل طبيب أو جرَّاح أو ممرض – رغم التعوُّد على التعامُل مع المرضى والمرض – وهو يُقدِّم قائمة الدواء أو يُجري الجراحة أو يتابع الحالة، يُرفق بها الرحمة والبسمة والمساندة والأناة، ولهم هذا الوعد: «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» (مت 5: 7).
ثالثاً: عن الإيمان وضرورته:
الإيمان ضرورة للتمتُّع بتدخُّل الله في تجاربنا، سواء كان إيمان المُجرَّب أو مَن يطلب من أجله. وهكذا كان الرب يسأل: «أتريد أن تبرأ؟» (لمريض بركة بيت حسدا - يو 5: 6)، «أتؤمن بابن الله؟» (للمولود أعمى - يو 9: 35)، «أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟» (للأعميين في كفر ناحوم – مت 9: 28). والقديس بولس صادف في لسترة رجلاً مُقعداً من بطن أُمه «وإذ رأى أنَّ له إيماناً ليُشفَى، قال بصوت عظيم: قُمْ على رجليك منتصباً. فوثب وصار يمشي» (أع 14: 8-10).
وعلى المؤمن ألاَّ يفقد رجاءه إن تأخرت الاستجابة أو ظهرت العقبات، بل عليه أن يُواصل الطلب واثقاً بغير ملل. فرئيس المجمع الذي جاء يطلب من أجل ابنته يأتيه - وهو يُكلِّم الرب - مَن يُخبره بوفاة وحيدته وألاَّ يُتعب المعلم، فيكون ردُّ الرب: «لا تخف. آمن فقط، فهي تُشفَى» (لو 8: 50،49). والأعميان في أريحا، اللذان سمعا أن الرب يسوع مجتاز، صرخا - ليجتذبا انتباه الرب - طالبَيْن الشفاء، ولما انتهرهما الجمع «فكانا يصرخان أكثر»، وبمثابرتهما نالا الشفاء وما هو أكثر، فقد نَعِمَا بتبعية الرب (مت 20: 29-34؛ مر 10: 46-52؛ لو 18: 35-43).
على أنه مِن صِدْق الإيمان أيضاً أن نخضع لمشيئة الله: «لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لو 22: 42)، واثقين «أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله» (رو 8: 28)، وراضين باختيار الله: فقد تكون إجابته بالرفض، ويكون الله قد استجاب بالفعل ولكنه قال لا.
رابعاً: عن المشكلة أو التجربة:
الرب وضع يده على سرِّ الشقاء الإنساني عندما بادر المفلوج بالقول: «يا بُنيَّ مغفورة لك خطاياك» (مت 9: 2؛ مر 2: 5؛ لو 5: 20) قبل أن يهبه الشفاء(5). فالخطية هي التي فصمت علاقة الإنسان بالله، فاقتحم حياته الاضطراب والنقص في علاقته بنفسه والآخرين وبالكائنات من حوله. والكتاب يؤكِّد أنَّ «كل أحد يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تُنتج موتاً» (يع 1: 15،14). والقديس يعقوب يُشير أيضاً إلى علاقة المرض بالخطية عندما يقول: «وصلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يُقيمه، وإن كان قد فعل خطية تُغفر له» (يع 5: 15).
فمحبة الذات وشهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة والطمع والكراهية ومجافاة الله، هي الطريق الأكيد للتعاسة وسيطرة الخوف؛ وهكذا ينزلق الإنسان إلى التجربة، مما ينعكس بالتالي على الجسد وأداء وظائفه وانهيار مناعته واجتياح الأمراض له.
والرب جاء لعلاج الإنسان مما أصابه وشفائه جسداً ونفساً وروحاً: «لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب، بل المرضى. لم آتِ لأدعو أبراراً، بل خطاةً إلى التوبة» (مت 9: 13؛ مر 2: 17؛ لو 5: 32،31). وبالنسبة للمؤمن، فالتجربة تكون قد حقَّقت غرضها، إذا انتهت على أيِّ حال، بالتمسُّك بالله أكثر، وبفحص الحياة الداخلية، ومراجعة النفس، وتجديد التوبة.
وقد تكون تجربة المرض الثقيل على وجه أخص، إيذاناً بالانطلاق من هذا العالم، ويقتضي الإيمان هنا التسليم، بل والترحيب بها كحافز إلهي للاستعداد والتهيُّؤ للقاء الرب. وهكذا «تكون تزكية إيمانكم، وهي أثمن من الذهب الفاني مع أنه يُمتحن بالنار، توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح» (1بط 1: 7،6).
ويا لفرح البشرية التي أذلَّتها الخطية، وصرعتها الأهواء، وأصابتها بالأمراض والأوجاع والآلام؛ فقد جاء مخلِّصها الذي يقول: «لأني لم آتِ لأدين العالم، بل لأخلِّص العالم» (يو 12: 47)، «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويُخلِّص ما قد هلك» (مت 18: 11؛ لو 19: 10).
وها هو القديس بولس يقول مبتهجاً: «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول: أنَّ المسيح يسوع قد جاء إلى العالم ليُخلِّص الخطاة الذين أولهم أنا» (1تي 1: 15). والقديس يوحنا يكتب مؤكِّداً على رجاء كل الخطاة في المسيح يسوع: «وإن أخطأ أحدٌ فلنا شفيعٌ عند الآب، يسوع المسيح البارُّ. وهو كفَّارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو 2: 2،1).