رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
عجزه عن أن يحاجج الله كَمْ بِالأَقَلِّ أَنَا أُجَاوِبُهُ، وَأَخْتَارُ كَلاَمِي مَعَهُ [14]. يقف أيوب في انسحاق أمام الله معترفًا أنه يعجز عن الدخول في حوارٍ معه. لكن كما يرى كثيرون ركز أيوب أنظاره على ضعفه، فانحدر نحو اليأس، عوض التطلع إلى مراحم الله الفائقة وحبه للبشرية، ونسي أن الله الكلي القدرة يشتاق أن يدخل في حوار مع خليقته، ولم يمنع الشيطان أن يحاوره، كما رأينا في الأصحاحين الأولين من السفر (1، 2). * من الجدير بالملاحظة أن هذا القديس (أيوب) قد عبر إلى دينونة نفسه حتى متى حلت دينونة الله لا تجد فيه شيئًا تمسك به. إنه يتطلع إلى ضعفه فيقول: "كم بالأقل أنا أجاوبه، وأختار كلامي معه" [14]. فإنه لا يتكل على برّه الذاتي، بل يلجأ إلى الرجاء وحده في استعطاف الله. لذا أضاف: "حتى إن كان لي شيء من البرً فإنني لا أود أن أجيب، بل أقدم طلبة لدياني [15]. وإذ يدرك استعطاف الله يضيف: "عندما أدعو يجيبني، فإنني أؤمن أنه لا يسمع صوتي" [16]. لماذا يتضاءل هكذا... لماذا يرتعب بمثل هذه الريبة المحزنة؟ عيناه مثبتتان على رهبة الديان... فيتضاءل أمام قوة العين الفاحصة. فإن كل ما يفعله يبدو له ضئيلًا. البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنِّي وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أُجَاوِبُ، بَلْ أَسْتَرْحِمُ دَيَّانِي [15]. قد يبرر الإنسان نفسه لأنه لا يعرف حتى حقيقة نفسه، وما بداخله. إنه لا يعرف الأخطاء الخفية التي قد لا يدركها الإنسان نفسه. هذا ما عبَّر عنه الرسول بولس بقوله: "لست أشعر بشيء في ذاتي"، أي لم يكن يشعر بشرٍ متسلط عليه، "لكنني لست بذلك مبررًا" (1 كو 4: 4). هكذا كان يخشى الرسول أنه إن برر نفسه يكشف له خطايا خفية لا يعرفها. هذا ما دفع أيوب أن يطلب الرحمة من الديان فاحص القلوب، ويرتمي على مراحمه لا على استحقاقاته الشخصية. ما يشغل ذهن أيوب ليس أن يتبرر في أعين الناس، فإنهم وإن كانوا يهينونه ويطرحونه أرضًا، ويسحقونه بأقدامهم، فإن الذي يدينه هو الديان الرحوم، الذي لن يقدر أن يتبرر أمامه بذاته، بل يطلب رحمته وحنوه الإلهي. * يقول (أيوب لبلدد): إنك تسب أيوب باطلًا. ماذا تنتفع، وأنت تطأ البار بقدميك؟ إني أرجئ الحكم لله، ملتجئًا إلى عنايته الإلهية وحنوه. إنه لا يصغي إلى ما يقال عني دون أن يفحص؛ لا يخضع لما قيل عني. لا يتهم الله أيوب كخاطئ، بل ولا يصغي لذلك، ذلك للسبب التالي: وإن كنت بارًا بمقارنتي بمن هم أبرار لكنني محتاج إلى نوع من حكم الله من جهتي وشهادة من العلا. إن كانت حياتي تتفق مع الحق الإلهي الذي للديان، فليس من يقدر أن يبطل قوة هذا الحق. الأب هيسيخيوس الأورشليمي البابا غريغوريوس (الكبير) لَوْ دَعَوْتُ فَاسْتَجَابَ لِي، لَمَا آمَنْتُ بِأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتِي [16]. يفسر البعض هذه العبارة: إنه إذ آمن سُمعت صلواته، ليس من أجل صلاته نفسها، لكن من أجل اسم الله القدوس الذي آمن به. "لا من أجلكم أنا صانع يقول السيد الرب، فليكن معلومًا لكم" (حز 36: 32). يري البابا غريغوريوس (الكبير) في حديث أيوب هنا صورة حيَّة للصراع المستمر في حياة المؤمن، فإنه بالنعمة يدعو الله فيستجيب له، حيث يلتهب قلبه بحب الإلهيات لكن وسط هذا السمو العجيب تقتحم الأفكار الزمنية الفكر، فيجد المؤمن نفسه كمن سقط، فيظن أن الله لا يسمع صوته. * كثيرًا ما يلتهب الذهن بنار الحب الإلهي، ويرتفع ليرى السماويات والأسرار الخفية. ينتقل الذهن إلى العلا، وُيجرح بالحب الكامل، ويصير متغربًا عن الأمور السفلية؛ لكنه بعد ذلك إذ يُضرب بتجربة مفاجئة تنحني النفس التي سندها الله بهدفٍ واضحٍ، وتُجرح بتجربةٍ تهاجمها. إنها تقف في حيرة تتردد بين الممارسات الصالحة والشريرة، ولا تستطيع أن تخبر أي الجانبين أقوى. كثيرًا ما يحدث أنها تقف في دهشة كيف تقتني الحقائق العلوية بينما تصارع مع الأفكار الشريرة. مرة أخرى تحتاج أن تعرف كيف تتسلل إليها الأفكار الشريرة بينما تنقلها غيرة الروح القدس بقوةٍ إلى الأمور السامية. هذه الحركات المتناوبة (بين الأفكار السماوية والشريرة) يراها المرتل بحق عندما يعلن: "يصعدون إلى السماوات، يهبطون إلى الأعماق" (مز 107: 26)... يرتعب الذهن من تحركاته هذه، ومن الأمور التي يخضع لها لا إراديًا، حتى يظن في نفسه أنه مطرود ومرذول. البابا غريغوريوس (الكبير) ذَاكَ الَّذِي يَسْحَقُنِي بِالْعَاصِفَةِ، وَيُكْثِرُ جُرُوحِي بِلاَ سَبَبٍ [17]. شعر أيوب بأنه لم يرتكب خطايا غير عادية، مع هذا حدثت له نكبات غير عادية، فقد هبت عواصف التجربة لا لتزعجه وإنما لتسحقه. فقد جرحته النكبات بكثرة بلا سبب. يرى بعض المفسرين أن أيوب هاجم العدالة الإلهية بقوله "بلا سبب"، لكن البعض يرى أن أيوب كان في ذهول لأنه لم يسقط في تعدٍ صارخ، ولا ارتكب خطية في نظر الناس أنها جريمة كبرى. * "ذاك الذي يسحقني بالعاصفة" [17]... دُعيت بالحق "عاصفة"، لأنها تُعلن باضطراب العناصر. وكما يشهد المرتل بقوله: "يأتي إلهنا ولا يصمت؛ نار قدامه تحرق، وحوله عاصف عنيف" (مز 60: 3). يقول نبي آخر أيضًا: "الرب في الزوبعة، وفي العاصف طريقه" (نا 1: 3). في هذه الزوبعة لن ينكسر البار، لأنه يخشى على الدوام ويخاف لئلا ينكسر. البابا غريغوريوس (الكبير) مرة أخرى، يقول: "حفظت طريقه ولم أحد، من وصاياه لم أبرح" (أي 23: 11، 12). إنه يحفظ طرق الله ولم يحد عنها إذ لم ينسها، بل كان يتقدم راكضًا فيها، بالرغم من أنه ضعيف، وأحيانا يتعثر ويسقط. ومع هذا فهو يستمر في الطريق، يخطئ أقل فأقل حتى يبلغ حالة الكمال، حتى لا يعود يخطئ. * قال هذا عن اليهود الذين في اعتدادهم بذواتهم احتقروا النعمة، ولم يؤمنوا بالمسيح أنه يقول بأنهم أرادوا أن يُقيموا برّهم، هذا البرّ الذي من الناموس، لا أنهم ينفّذون الناموس، بل يقيمون برّهم في الناموس، عندما يحسبون في أنفسهم أنهم قادرون على تنفيذ الناموس بقوتهم، جاهلين برّ الله (رو 10: 3)، لا البرّ الذي لله بل البرّ الذي يمنحه الله للإنسان . القديس أغسطينوس لاَ يَدَعُنِي آخُذُ نَفَسِي، وَلَكِنْ يُشْبِعُنِي مَرَائِرَ [18]. يتعرض كل إنسان لآلام بين حين وآخر، أما أيوب فلم تتركه الآلام يتنفس، ولم يفارقه المر. وفي هذا كله لم يعرف ما هي العلة. * "لا يدعني آخذ نفسي، ولكن يشبعني مرائر" [18]. كثيرًا ما يسمح للتجارب أن تحل بي، فلا أستطيع أن آخذ نفسي. إذ كثيرًا ما يجلب العدو عذابات عليً، "إنني مملوء مرائر". أيضًا زوجتي وأصحابي هم الذين يسفهونني بسبهم لي وحديثهم معي بحقدٍ. لهذا أشعر بأن هذا يحل بي من عند الله الذي يسمح له أن يحلّ بي، مع أن في استطاعته أن يمنعه عني. ومع هذا لن أكف عن الشهادة لعدل الله وقوته (مز 71: 19). بعنايته الإلهية يحفظ كل الأمور في يده. لا يجسر إنسان له حس صالح أن يفتري على أحكامه، إذ هي صادر عن البار القدير. الأب هيسيخيوس الأورشليمي إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْقَوِيِّ يَقُولُ: هَأَنَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُحَاكِمُنِي؟ [19] يتطلع أيوب إلى الله فيراه دون منازع القوي، ليس من يقدر أن يقف أمامه. هو يتكلم فيفعل (حز 22: 14). أما من جهة القضاء فليس من سلطة أعلى، ولا من محكمة عليا تستمع إلى احتجاج إنسان، هو ديان الكل، فوق كل الخليقة. * "إذ هو قوي يحكم؛ فمن إذن يقاوم حكمه؟" [19]... تعلن لنا الشمس عنه كما تعلن غيرها من المخلوقات، كم هو عظيم وقدير، ولا تقدر أن تعصى أمره (مز 104: 19). كذلك يعلن القمر عنه وهو ينمو (حتى يصير الهلال بدرًا) وينمحق (حيث يتضاءل بعد اكتماله) حسب قانونه. يعلن البحر أيضًا عنه حيث لا يتعدى الحدود المعينة له، ويقاوم الرمل عنف الأمواج. هذا هو السبب الذي لأجله لا يستطيع أحد أن يقاوم أحكامه، وأن يعصاها. على أي الأحوال، إن كنتم تتحدثون عن الأحكام التي يدين بها البشرية، من له الجراءة أن يقاومه؟ فإن كنتم تتحدثون عن إبراهيم، فقد قال عن نفسه: "أنا تراب ورماد" (تك 18: 27). وداود بنفس الروح قال: "آثامي قد طمت فوق رأسي، كحملٍ ثقيلٍ أثقل مما أحتمل" (مز 38: 4). إنه لا يكف عن أن يتغنى بقيثارته ما يعلنه إشعياء الشهير: "ويل لي، لأني إنسان بائس، نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب يحتفظ بتعاليم دنسةه" (راجع إش 7: 5). لهذا يضيف المصارع: "إن بديت بارَا يتدنس فمي" [20] كيف يكون هذا؟ أنصتوا: ليس من السهل عل شخصٍ ما أن يكون بلا لوم في الأعمال والكلمات. لهذا بحق يضيف: "وإن بديت كاملًا، فإني بالتأكيد أحمق". الأب هيسيخيوس الأورشليمي القديس أغسطينوس إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي؟ وَإِنْ كُنْتُ كَامِلًا يَسْتَذْنِبُنِي [20]. أما من جانب أيوب فإن برر نفسه يتحول دفاعه إلى إثم، ويُحكم عليه من كلماته، لأن الله عارف بخبايا القلب التي قد لا يعرفها الإنسان نفسه. "إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا". إن حسب أيوب نفسه كاملًا، يحسب هذا اتهامًا لله، وذنبًا يرتكبه كمتكبر جاهل بأعماقه. * إنني افتخر لأنني أخلص، وليس لأنني بلا خطايا، بل لأن الخطايا قد غُفرت. إنني لا أفتخر لأني نافع أو لأن أحدًا ما نافع لي، وإنما لأن المسيح هو شفيعي (محامي) أمام الآب، لأن دم المسيح سفك من أجلي. القديس أمبروسيوس كَامِلٌ أَنَا. لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي. رَذَلْتُ حَيَاتِي [21]. يتطلع أيوب إلى شيخوخته فيرى في نفسه أنه كهل، لا ينتفع بطول السنين التي عاشها، فقد أنتجت لا شيء! إنها سنين مرذولة بلا ثمر. هذه أحاسيس الإنسان الذي يتطلع إلى حياته خارج دائرة حب الله ونعمته واهب الثمر! |
|