رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
«أيُّها الشيطان، أين شوكتك؟ » (الجزء الثاني) 2. أصل الشرّ في الفكر اليهوديّ القديم أ- في البحث عن أصل الشرّ في أثناء خضوع فلسطين للحكم الفارسيّ من العام 538 إلى 331 ق.م. اتّصل الفكر اللاهوتيّ اليهوديّ بالفكر اللاهوتيّ الفارسيّ القديم الذي كان يؤمن بوجود إله خير وإله شرّ. ولكن، لم يكن بوسع اللاهوتيّين اليهود التسليم بتلك النظرة الفارسيّة، لأنّ إيمانهم يقوم على وحدانيّة الله الصارمة. ... ب- خطيئة الملائكة في الأزمنة القديمة، اعتبر شعب العهد القديم الله إلهًا قريبًا منه. ولكن في العصور الأخيرة قبل المسيح، ابتعد الله أكثر إلى حدٍّ أنّ الشعب كان يتحاشى لفظ اسمه، بل استخدم ألفاظًا أخرى للإشارة إليه. في كتابات العهد القديم الأولى، كان الله نفسه يكلِّم البشر: لقد كلَّم آدم وحوّاء، وتكلّم مع موسى والأنبياء. وفي المقابل، في الكتابات اللاحقة، كان يُرسل ملاكًا لكيما يوصل رسالةً إلى الإنسان. وفي العهد الجديد أيضًا هي الملائكة التي تُعلن للناس مقاصد الله: فهذا ما حصل مع مريم ويوسف، ومع رعاة بيت لحم، ومع النسوة صبيحة القيامة. ونحن نعرف هذا الأمر من خلال الأناجيل حيث نقرأ في الغالب "ملكوت السموات" بدلاً من "ملكوت الله". قد يبدو ذلك لأوّل وهلة غنى لصورة الله وإعلاء من شأنها؛ فالله إله يملك على جيش سماويّ، على ملايين وملايين الملائكة! ولكن في الحقيقة نحن إزاء إفقار لتلك الصورة. فمن الله الحاضر مباشرة في كلّ مكان على وجه الأرض، مَن هو قريب قربًا شخصيًّا ومحبًّا ودائمًا من كلّ إنسان، انتقلنا إلى الله الذي يفكّر بعظمته إلى حدّ أنّه لا يدخل بعدُ بعلاقة بالبشر إلاّ من خلال وساطة مرسلين. لقد خُلقت بالتالي فسحةُ فراغ مهمّة بين الله البعيد المتعالي والإنسان. ومُلئت تلك الفسحة بكائنات وسيطة لم تكن لا الله ولا الإنسان: إنّها الملائكة. وقد فسح هذا التغيير المجال لإيجاد حلٍّ مقبول لمسألة الشرّ: إذا كان من المستحيل التسليم بوجود إله خير وإله شرّ، فلماذا لا يكون هنالك أرواح خيّرة وأرواح شريرة؟ لا يأتي بالتالي الشرّ من إله شرّير، بل من أرواح شريرة. ولكن من أين أتت هذه الأرواح الشرّيرة؟ لا يمكن أن تكون أبديّة، لأنّ الله وحده أبديّ. إنّه الله إذًا من خلقها. ولكن هل يمكن الله "الخيّر" أن يخلق أرواحًا "شريرة"؟ لم يبق إلاّ مخرج واحد: لم يخلق الله إلاّ أرواحًا "خيّرة". ولكنّ بعضها ارتكب الخطيئة؛ فكانت النتيجة أنّ الله عاقبها وطردها؛ وهذه كانت الأرواح "الشريرة". ومن هنا الكلام على "ملائكة ساقطة". وفي هذا الخصوص، انصرف الشعب اليهوديّ قديمًا إلى كلّ أنواع الافتراضات التي بقيت ضروبًا من التخّيلات. وثمّة تفسير لاقى انتشارًا واسعًا، رأى خطيئة الملائكة في الرغبة الجسديّة. ونجد هذا التفسير مفصّلاً بوجه خاصّ في كتاب أخنوخ الأوّل وفي كتاب اليوبيلات المنحولَين. فعندما خلق الله البشر وأنجب هؤلاء بنات جميلات وجذّابات، ضاع بعض الملائكة برفقة بنات الأرض. وترتبط هذه الأسطورة برواية ميثولوجيّة ترد في تكوين 6: 1-4، تتكلّم على دخول أبناء الله على بنات الناس ومنهنّ أنجبوا عمالقة. فكان أن قُيِّد الملائكة الخاطئون عقابًا لهم؛ وترتّب عليهم انتظار الدينونة الأخيرة في زنزانة مظلمة، وحينذاك يرمون في جهنّم الأبديّة. ونجد صدى لتلك الطريقة في فهم الأمور في العهد الجديد أيضًا. فنقرأ في رسالة يهوذا: "أَمَّا المَلائِكَةُ الَّذينَ لم يَحتَفِظوا بِمَنزِلَتِهِمِ الرَّفيعة، بل تَرَكوا مُقامَهم، فإِنَّ اللهَ يَحفَظُهم لِدَينونةِ اليَومِ العَظيم مُوثَقينَ بِقُيودٍ أَبَدِيَّةٍ في أَعماقِ الظُّلُمات" (آية 6). وفي رسالة بطرس الثانية، تُذكر خطيئة الملائكة أيضًا، إضافة إلى ذكر نوح والطوفان، ودمار سدوم وعمورة وخلاص لوط، ونستنتج منها أنّ الله يعاقب الفجّار ويخلّص الأتقياء (2: 4-9). فضلاً عن ذلك، إلى جانب خطيئة الرغبة الجسديّة، عرفت المخيّلة اليهوديّة البدائيّة تفسيرًا آخر لإدانة الملائكة، يستمدّ عناصره من تعليم العهد القديم القائل بأنّ الله خلق الإنسان على صورته. تبعًا لذلك التفسير الأسطوريّ، خُلق آدم على صورة الله على نحوٍ أشدّ روعة من جميع الملائكة. ولا يتوقّف الأمر عند ذلك الحدّ، بل يطلب الله إلى الملائكة توقير آدم بصفته صورته نفسها. فأطاع الملاك ميخائيل والملائكة الآخرون الذين كانوا تابعين له. أمّا الشيطان وملائكته فرفضوا الطاعة. فطردوا بنتيجة ذلك من السماء إلى الأرض، في حين أنّ آدم تابع تنعّمه في الجنّة. غير أنّ الشيطان الذي خسر سيادته بسبب الإنسان، لم يطق نعيم آدم، وامتلأ حقدًا وحسدًا. فسعى لتحريض آدم على عصيان الله فيكون له مصيره عينه. وإذ أخفق في مسعاه لدى آدم، نجح لدى حوّاء. في الكتاب المنحول بعنوان حياة آدم وحوّاء، يتمّ وصف الشيطان والسقوط كما يلي: "فتَقدّمَ إذًا ميخائيل وصاح بجميع الملائكة: قدّموا الإكرام إلى صورة الله ومثاله، كما أمر السيّد! وكان ميخائيل أوّل مَن كرّمها. ومن ثمّ خاطبني وقال: قدّم الإكرام إلى صورة الله ومثاله! فأجبته: لست بحاجة إلى إكرام آدم. وإذ حثّني على القيام بذلك، قلت له: لماذا تضايقني؟ ومع كلّ ذلك، لن أكرّم أحدًا أصغر منّي وأدنى منّي. لقد خُلقت أنا قبله. قبل أن يُخلق هو، خُلقت أنا. هو مَن يجب عليه تكريمي. وعندما سمع ذلك الملائكةُ الآخرون المعتمدين عليّ، أبَوا أن يكرّموه. فقال ميخائيل حينئذٍ: أكرمْ صورةَ الله ومثاله! فإن لم تقم بذلك، يتّقد غضب السيّد بسببك. فأجبته: إذا غضب بسببي، سأضع عرشي على نجوم السماء وسأكون مماثلاً للعليّ. فاستشاط السيّد الله غضبًا عليّ، وطردني من سيادتنا أنا وملائكتي. فطردنا إذًا من مساكننا لكي نأتي إلى هذا العالم ونفينا إلى هذه الأرض بسببك. وأسفنا فورًا، لأنّنا جُرّدنا من أبّهة عظيمة. وإرغامنا على رؤيتك بمثل ذلك الفرح وتلك الغبطة، أنزل الغمّ بنا. وبمكرٍ، أوقعت امرأتك بشباكي إلى درجة أنّك، بسببها، نُزعتَ من فرحك ومن غبطتك كما نُزعت أنا نفسي من سيادتي" (الآيات 14-16). وبالتالي، في أصل خطيئة الجنّة، أصبحت تُرى حيلة الشيطان الذي اعتُبر هو نفسه الحيّة. وليست هذه الخطيئة الأُولى وحدها التي عُزيت إلى تجربة شيطانيّة، بل كلّ خطيئة ارتكبها البشر. فالشيطان يحسد الإنسان بسبب سلامه مع الله، لأنّه هو نفسه لا سلام له. وصاحب سفر الحكمة يُعبِّر عن هذه الفكرة إذ يكتب: "لكِن بِحَسَدِ إبليسَ دَخَلَ المَوتُ إِلى العالَم" (2: 24)؛ ذلك لأنّ الموت هذا نُسب إلى خطيئة آدم. إضافة إلى ما تقدّم، نجد في نصوص يهوديّة منحولة أيضًا صيغةً تفيد بأنّ الملائكة، بغية التكفير عن خطاياهم، قد أقصوا إلى مكان بين السماء والأرض، أي المحيط الجويّ. ولهذا لدينا أيضًا صدى في العهد الجديد. فالرسالة إلى أهل أفسس تتكلّم على "أصحاب رئاسة وسلطان" يسكنون الفضاء (3: 10؛ 6: 12). وفي المرجع نفسه في الفصل الثاني، نجد كلامًا بالمفرد على "سَيِّدِ مَملَكَةِ الجَوّ، ذاك الرُّوحِ الَّذي يَعمَلُ الآنَ في أَبْناءِ المَعصِيَة" (2: 2). وفي الواقع، تبعًا للكتابات المنحولة المذكورة، لعالم الأرواح الشريرة قائدٌ ملك. وإنّه هو عدوّ النظام الإلهيّ في العالم، وفاعل الشرّ والبؤس في الأرض؛ ومن هنا اسمه: "سيّد هذا العالم". ونحن نعلم أنّ هذه التسمية معروفة في إنجيل القدّيس يوحنّا (12: 31؛ 14: 30؛ 16: 11). والقدّيس بولس يسمّيه أحيانًا "إلهُ هذهِ الدنيا" (2 قورنتس 4: 4). ج - ... وفي "العهد الجديد" كان لهذا النوع من التفكير تأثيره أيضًا في التفسير المسيحيّ لرواية تجارب يسوع: إذا كان الشيطان لينجح في إسقاط يسوع، لكان أحبط فداء البشريّة. ولكنّنا نفهم أفضل الآن أنّ ذلك لم يكن معنى الرواية الحقيقيّ. فالإنجيليّون حاولوا وصف تجارب يسوع ومحنته وفقًا لطريقة تفكير عصرهم. لذا، يُخطئ أيّ لاهوتيّ، ولا شكّ، في معنى المسألة، إذا أراد تطوير لاهوت عن الشيطان انطلاقًا من هذا النصّ. وبالتالي، فالاهتمام كلّه ينصبّ على يسوع وعلى قبوله مشيئة الآب. أمّا الشيطان فيشخّص الاحتمال الثاني فقط، أي رفض تلك المشيئة. وفي الواقع، تدور المأساة البشريّة، إذا اعتبرناها بجديّة، على هذا المستوى: قبول مشيئة الآب السماويّ ورفضها؛ قبول مشيئة الحياة الحقيقيّة بحسب قلب الآب أو الانصراف عنها، وبالتالي ضياع الوجهة أو الهدف مع ما يرتّب ذلك من مآس. يتّضح لنا في ضوء ما تقدّم، أنّ ما يرد في العهد الجديد عن الشيطان لا يمكن أن ينتمي إلى رسالة الإيمان الأساسيّة، بل يتّصل ببساطة بمفهوم العالم الخاصّ بالكتاب المقدّس. فتلك اللفظة تعكس ببساطة الأفكار التي شاعت في الكتابات اليهوديّة القديمة، وأثّرت في الفكر الدينيّ في ذلك الزمن. لذا، فالأمر لا يتّصل بمعرفة إذا ما كانت الأسفار المقدّسة تستخدم عبارات الشيطان أو إبليس أو الأرواح النجسة، بل معرفة قصدها من تلك الألفاظ. فمن الثابت أنّ عبارة "الشيطان" في العهد الجديد تحلّ محلّ كلمة "خطيئة". فحيث نقرأ كلمة "شيطان" أو "إبليس"، يمكن أن نقرأ أيضًا كلمة "خطيئة". فما يحول دون أن تنبت كلمةُ الله في قلبنا ليس "الشيطان"، بل "الخطيئة". والقدّيس بولس يفكّر في الأمر عينه عندما يكتب إلى جماعة أفسس قائلاً: "لا تَجعَلوا لإِبليسَ سَبيلاً" (أفسس 4: 27). ليس المقصود أن يغلقوا قلوبهم في وجه "إبليس"، بل في وجه "الخطيئة": "لِذلِك كُفُّوا عنِ الكَذِب "ولْيَصدُقْ كُلٌّ مِنكُم قَريبَه"...لا تَغرُبَنَّ الشَّمْسُ على غَيظِكم... مَن كانَ يَسرِقُ فلْيَكُفَّ عنِ السَّرِقَة، بلِ الأَولى بِه أَن يَكُدَّ ويَعمَلَ بِيَدَيه... ولا تُحزِنوا رُوحَ اللّه القُدُّوسَ... أَزيلوا مِن بَينِكم كُلَّ شَراسةٍ وسُخْطٍ وغَضَبٍ وصَخَبٍ وشَتيمة وكُلَّ ما كانَ سُوءًا. لِيَكُنْ بَعضُكم لِبَعضٍ مُلاطِفًا مُشفِقًا، ولْيَصفَحْ بَعضُكم عن بَعضٍ كما صَفَحَ الله عنكم في المسيح" (أفسس 4: 25-32). خلاصة تبعًا لتفسير التيّار اللاهوتيّ هذا، يرتبط تشخيص الشرّ بإطار ثقافيّ معيّن، ودوره ينحصر في إظهار الحقيقة التي تطبع بعمق الحياة البشريّة، ألا وهي أنّ الخطيئة المتّصلة بميل الإنسان إلى الشرّ (كما إلى الخير)، انتشرت في التاريخ وباتت من دون ضوابط، والخلاص منها لا يمكن أن يكون إلاّ من خلال عمل النعمة في قلب الإنسان. لذا، تترجّح مأساة الإنسان دومًا بين دعوة الآب بابنه يسوع إلى الاستسلام لعمل نعمته، وميله إلى الشرّ، بل واختباره قوّة الشرّ عليه. لم يأت المسيح ليقهر "الشيطان"، بل ليقهر "الخطيئة" التي تؤول إلى الموت الروحيّ. لقد فتح يسوع باب الخلاص لكلّ مؤمن، لأنّه بيَّن بموته وقيامته أنّ حبّه أقوى من شرّ الإنسان وخطيئته. وبقدر ما أنّ عمل الخلاص هذا يكشف عن حبّ إلهيّ مجنون للإنسان، يضع هذا الإنسان، من جهة، أمام مسؤوليّته ويدعوه إلى تحمّلها بجديّة، ويفتحه، من جهة ثانية، على معنى حياته الإيمانيّة الحقيقيّة وخلاصتها العمل مع يسوع من أجل جمع "شمل أبناء الله المشتتين" (يوحنّا 11: 52). |
|