10 - 02 - 2024, 04:29 AM
|
|
|
❈ Administrators ❈
|
|
|
|
|
|
تعليقات على سيرة القديس الأنبا بولا أول السواح 1- القصة معروفة للجميع أقصد بدايتها ونهايتها، ومع أن النهاية أهم بكثير من البداية «نهاية أمر خير من بدايته»، إِلَّا أنه من الضروري أن نعرف بدايته لنتفهم تلك النهاية الرائعة التي صوّرها لنا العظيم أنطونيوس، والتي لم تكن إِلَّا نتيجة حتمية لتلك البداية. ولكن في سيرة القديس بولا كانت البداية والمسيرة والنهاية جميعها غير تقليدية، بداية غير متوقعة ومسيرة بخلاف المألوف ونهاية لا مثيل لها.
2- عليه فإن ما بين ولادة الإنسان وانتقاله قصة، هذه القصة إمّا أن تكون متاهة كبرى في العالم، وإمَّا قصة كفاح في الحياة وجهاد في الميدان الروحي. هكذا جميع الناس، منهم من كان واعيًا ومنهم من كان غافلًا، منهم من عقل الأمر منذ البداية، ومنهم من انتبه مؤخرًا، ومنهم من عاش ومات غريبًا عن الله..
3- لم يكن قرار الأنبا بولا في البداية قرارًا خالصًا بترك العالم، ولكنه اُضطُرَّ إلى ذلك بسبب تأثره بموكب الميت، وهو القاسم المشترك فيما بينه وبين القديس أنطونيوس، وهما العملاقان الرهبانيان، شرارة البداية كانت مشهد الموت، ومن ثَمّ قرر كلاهما أن يختارا الموت بنفسيهما، أي أن يموتا عن العالم بإرادتهما. هكذا تلقّى القديس بولا درسًا هامًا من مجرد مشاهدته لنعش شخص ميت، مع أن الناس يسمعون ويرون كل يوم نعوش الأموات، ويسمعون عشرات القصص في العام الواحد عن الموتى بطرق شتى، ولكنهم للأسف ينسون.
4- وما كان بولا مضطرًا أن يفعله بغير إرادته صار اختيارًا له، وهكذا فإن كثيرين نجحوا في طريق الرهبنة رغم التحاقهم بها لأسباب غير تلك المُتعارَف عليها، أي الانعزال عن العالم والانشغال بالله والاتحاد به، وإنما وكما قال الآباء، ربما بسبب زنى الزوجة كما حدث مع الأنبا بولا البسيط، أو الهروب من الحاكم، أو بسبب الضرائب الباهظة وغيرها، ومع ذلك فجميع هؤلاء ما أن ذاقوا حلاوة الرهبنة حتى أحبوها وتعلقوا بها ونجحوا فيها.
5- من يضع يده على المحراث لا ينظر إلى الوراء، هكذا لم يلتفت بولا إلى الخلف، وهو مبدأ هام في الحياة بشكل عام: أن يفكر الإنسان فيما هو آتٍ ويكون لعقله اتجاهًا واحدًا، فإن قديسنا وبعد ان هدأت الأمور، بل وراح شقيقه يبحث عنه باكيًا لمدة ثلاثة أيام، لم يتراجع عن قراره أو يعد للحصول على أمواله، وإنما شكر ما حدث.
6- هكذا علينا أن نشكر أعداءنا أكثر من أصدقائنا، ربما يجامل الأصدقاء وربما يتحاشون انتقادنا، ولكن الأعداء أفادونا بأن كشفوا عيوبنا وبكّتونا، وهم وعندما أساءوا إلينا فقد الجأونا إلى الله، ومن ثَمّ ملأ الله قلوبنا بالتعزية.
7- استطاع القديس بولا بذلك أن يتجاوز الزمن، ومن ثَمّ تجاوز العالم وشهواته، ودخل في عهد الملكوت منذ كان عمره ستة عشر عامًا، فالناس يخطئون أو ينشغلون، وبعد مرور الوقت قد ينتبهون، ومن ثَمّ يقدمون توبة وقد لا يضمنون ذلك؛ ولكن شخصًا آخر يتجاوز زمن الخطية، والضلال، والندم، والرجوع إلى الله والتوبة، ويحزم أمره مبكرًا. مثل شخص يدرك أنه إذا أخطأ إلى إنسان ما فإنه سيندم ويسعى في صلحه ويعتذر له وقد يبذل الكثير من الوقت في سبيل ذلك، ومن ثَمّ فهو يتحاشى مثل ذلك.
8- اثبت لنا القديس بولا أنه يمكن للإنسان –رغم كونه كائنًا اجتماعيًا- أن يحيا عشرات السنين بعيدًا عن الناس، وهو ما يزال يصلي عنهم، وأن يجد شبعه في الله، وأن التعزيات الإلهية يمكن أن تغنيه عن التعزيات البشرية. ومع ذلك فلم يكن البعد كرهًا في الناس ورفضًا لهم، كما يفعل البعض حين يرفض المجتمع ويحيا كئيبًا وحيدًا، وإنما عن اختيار وبشكل صحي.
9- ومع تلك الحياة الصارمة والوحدة التامة والتي لم يكد القديس يرى فيها إنسانًا، فإنه يخرج بعد ٩٠ سنة خفيف الظل! يداعب ويحاور بلطف، فعندما ألحّ عليه القديس أنطونيوس في الخروج إليه: "سألتُ وسأُعطى، طلبتُ فوجدتُ، قرعتُ وأؤمن أنه سيُفتح لي"، أجابه من الداخل: "صلوات مثل هذه لا تهددني!" وذلك قبل أن يقبل عليه ويحتضنه ببشاشة ودالة، بل ويعلن له أنه كان في اشتياق شديد أن يراه. والمرة الثانية التي سلك فيها بطرافة عندما اقتسم رغيف الخبز معه على نحو لا يخلو من المرح المقبول. ذكرني ذلك بما ورد عن القديس أنطونيوس من أنه بعد عشرين سنة قضاها داخل المغارة خرج بشوشًا يطفح وجهه بالبشر.
10- أمّا عن الشعور بالجسد الواحد، فحتى لو كنت مشغولًا بالله نفسه، فإن ذلك يجب ألّا ينسيك أنك عضو في جسد كبير، فالله في علاه ومجده كان حنونًا على الإنسان، فنزلإاليه ليفتقده، واتخذ جسدًا وأكل طعامنا وسكن أرضنا وتألم لأجلنا، بل وسُرَّ أن يُدعى "ابن البشر" و"محب البشر". كان يهود الشتات على اتصال بيهود أورشليم، وكان القديس بولس الرسول مهتمًا بفقراء أورشليم، وهكذا أقباط المهجر، وهكذا أغنياء كثيرون يشعرون بالجسد المتألم.. ونقرأ عن القديس مرقس الترمقي كيف سأل القديس بفنوتيوس عن أحوال الناس والمعجزات والاضطهاد والصوم، مثلما نقرأ عن القديس بيمن كيف أنه بينما يغلق باب القلاية فإن باب قلبه
مفتوح بالحب على الجميع.
11- سلّمنا القديس بولا منهجًا خليقًا بالاتباع، وذلك عند الحديث عن النفس مقابل إطراء الآخرين، فيقول لضيفه المتلهّف عليه: "ها هو الرجل الذي بحثتَ عنه بتعبٍ كثير، قد تداعت قدماه من الشيخوخة، وشعيراته البيضاء قد تساقطت. ها أنت ترى أمامك إنسانًا سـيصير بعد قليل ترابًا، ولكنّ المحبة تحتمل كل شيء". فنحن لا نستطيع أن نمنع الناس من مدحنا والثناء علينا، ولكن المهم هو رد فعلنا من الداخل أولًا، ثم كيفية الرد والتعليق.
12- لا شك أنه كانت ثَمّة علاقة ما فيما بينه وبين الغراب، فالغراب قد تسقط منه خبزة بطريقة أو بأخرى، ولكن أن يواظب على تسليم إنسان ما خبزًا عشرات السنين، وليس لعدة أسابيع كما فعل الغراب مع إيليا في القديم، فهو أمر لا يمكن أن يأتي مصادفة. لاحظ أيضًا وجود الحيوانات في سيرته، فهوذا ضبعة تحتمي في المكان الذي يحيا فيه وهي التي دلت أنطونيوس على مكان سكناه، وهذا الغراب يخدمه، وهوذا أسدان يحفران قبره، جاء عن السيد المسيح بعد الصوم «وكانت الوحوش معه»...
13- العجيب أن يُقال في سيرته إنه هو قائد الحركة الرهبانية، بحسب ما صرّح به كل من أماثوس ومكاريوس تلميذا القديس أنطونيوس، فرغم توحد الأنبا بولا لسنين طويلة إلّا أن أثره لا يمكن إنكاره، وهكذا صار مصدر إشعاع عن بُعد. هكذا الكثيرون -دون أن تكون لهم صلة مباشرة بالآخرين- فقد يتلمذون آخرين، ربما بما يُتناقل عنهم من أخبار، وربما عن طريق الكتابات أو العظات أو بعض المواقف، إنهم مثل النور لا تلمسه ولكنك تتلمّس الطريق من خلاله.
14- وعن سعي القديس أنطونيوس إليه، فقد أرشده الله إليه عندما ظن في نفسه أنه لا يوجد من يشبهه، زاره كمندوب عن العالم يبلغه تحيات العالم وتقديره، بينما تسلم منه سر الحياة الملائكية ليعلنها على العالم كله، وعلّق على الزيارة قائلًا: "اني ما صرتُ راهبًا بعد". وقد نقل سيرته وقصها على أولاده بفرح وتأثر، وبعد ذلك دونها العلامة چيروم. ومثلما دلّ الله القديس أنطونيوس على البار الأنبا بولا، دلّ القديس مكاريوس فيما بعد أيضًا على بعض العلمانيين الذين يتساوون معه في القامة، مثل الخياط وزوجتي راعيي الغنم، حتى أنه علق بعد الزيارة قائلً: "ولا مثل هاتين المرأتين الغريبتين الجنس لي محبة لقريبي".
15- وهكذا يوجد شخص ما أو اشخاص يتفوقون عليك وهم في جانب آخر من الحياة، قد يعيشون ويموتون دون أن تصل إليهم أو تتعرف عليهم، ولكن ذلك لا يغير من حقيقة أنهم يعادلونك أو يتفوقون عليك في مجال أو آخر، فلقد ظن أنطونيوس أنه اول من ولج الصحراء ومن ثَمّ أرشده الله إلى قديسنا، بل أن الكثير ممن يؤثرون الظل يكونون بالفعل أكثر ثراءً وتماسكًا!..
16- وأمّا عن ثوب الليف فلا يجوز لنا المرور عليه سريعًا، فكثيرًا ما يكون الثوب أغلى من الشخص الذي يرتديه. هذا الثوب اكتسب كرامة خاصة، ودخل التاريخ بسبب الشخص الذي كان يضعه فوق جسده المنهك، وها نحن اليوم نكرم كل شيء التصق بالشهداء والقديسين إبان حياتهم، من الثياب التي كانوا يرتدونها، إلى الأدوات التي استخدموها، إلى القبور التي سُجِّيت فيها أجسادهم، بل وحتى التراب الذي فوق قبورهم. هذا درس هام لعشاق الثياب والاكسسوارات: "اهتموا بالجوهر أي القلب"، أنتم أغلى «أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من الثياب؟»، «أيهما أعظم: أالذهب أم الهيكل الذي يقدس الذهب؟!».
*انبا مكاريوس اسقف المنيا*
|