29 - 09 - 2021, 06:49 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
المسيح خبز الحياة
أو
الخبز السماوي
في المرحلة الأولى قدم لنا الإنجيلي يوحنا كلمة المسيح بكونه واهب التجديد، وفي المرحلة الثانية واهب الحياة. الآن يقدم لنا الإنجيلي شخص السيد المسيح بكونه الخبز السماوي الذي يقوت النفس ويشبعها لتبقى حيَّة ونامية. إنه الكلمة المتجسد، بكلمته يقيمنا للحياة الجديدة، وبجسده الذي هو الخبز السماوي ينعشنا لنثبت فيه. في هذا الأصحاح نرى السيد المسيح يشبع الجموع بسمكتين وخمسة أرغفة شعير قدمها غلام.
أولًا: رفع يسوع عينه ليرى الجموع الجائعة. لم ينتظر من يطلب طعامًا أو من يشبع الجموع، إنما يتطلع هو إلى احتياجات الناس.
ثانيًا: وهو يقدم طعامًا للشعب يقبل تقدمة غلام صغير. كما يعطي يأخذ، علامة الحب المتبادل بين الله والبشرية. كما رفع من معنوية الغلام وهو يرى تقدمته الصغيرة أشبعت كل الجماهير وفاضت باثنتي عشرة قفة من الكسر.
ثالثًا: يكرم الله كل إنسان ويطلب التقدمة من غلام أو صبي أو طفل، مهما كانت قليلة! علامة شعور الإنسان بدوره الحيوي ومساهمته في خدمة البشرية.
رابعًا: ترمز السمكتان إلى العهدين الجديد والقديم، والخمس خبزات إلى أسفار موسى الخمسة. شتان ما بين استلام الكلمة من يد السيد المسيح وبين القراءة خلال التفسير البشري. كلمة الله مُشبعة وفياضة متى قدمها لنا مسيحنا خلال كنيسته (تلاميذه).
خامسًا: سأل الرجال أن يتكئوا على العشب الذي يشير إلى الجسم، فلا نجعل من الجسم قائدًا، بل من النفس الناضجة. فيخضع لها الجسم ليعمل تحت قيادتها ولحسابها وليس لحساب شهوات الجسد.
سادسًا:عادت الجموع تبحث عنه في الغد، لا للتمتع بصانع الآيات، وإنما لأنها أكلت وشبعت [26]، لذا قدم لهم السيد المسيح مائدة جديدة مختلفة: جسده ودمه المبذولين طعامًا يهب الحياة الأبدية والقيامة.
الذي سار على المياه لكي يحملنا فيه فنسلك الطريق الملوكي يقدم لنا ذاته الخبر النازل من السماء ويهب حياة للعالم[33]. تحدث السيد بوضوح أنه الخبز الإلهي المنعش للحياة الأبدية. تعثر كثيرون من تلاميذه وتركوه، أما هو فقال للإثني عشر:" ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟" [17] أصر أنه يقدم جسده ودمه، وليس رمزين لأمر آخر، وإلا ما كان يترك هؤلاء يرجعون من ورائه.
لم يستطع اليهود أن يقبلوا الكلمة الإلهي، ولا أن يتمتعوا بجسده ويشربوا دمه لذا تركوه ومضوا.
1. إشباع الجموع
اعتاد الإنجيلي يوحنا أن يشير إلى المعجزات التي لم يشر إليها أحد الإنجيليين الثلاثة الآخرين، ما عدا هذه المعجزة، فقد تحدث عنها الإنجيليون جميعًا. ففي كل الجوانب متى قُدم السيد المسيح كملك (إنجيل متى) أو خادم للبشرية (إنجيل مرقس) أو صديق لها (إنجيل لوقا) أو ابن الله الذي يهب البنوة للبشرية (إنجيل يوحنا) ما يبغيه الإنجيل هو إشباع احتياجات الإنسان من كل الجوانب.
هذا وقد اهتم الإنجيلي بهذه المعجزة لكي يورد الحديث الطويل الملحق بها والخاص بتقديم المسيح نفسه خبزًا نازلًا من السماء، فنشبع به بكونه الكلمة الإلهي، كما يقدم لنا جسده ودمه المبذولين عنا غفرانًا للخطايا وحياة أبدية.
"بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل،
وهو بحر طبرية". [1]
حدد الإنجيلي المكان والزمان لعمل المعجزة وكل الظروف المحيطة بها كشهادة على حقيقة القصة لما لها من أهمية تمس حياة الكنيسة عبر الأجيال.
مضي يسوع إلى عبر بحر الجليل وهي بحيرة طبرية، تُدعى في موضع آخر جنيسارت. وتُدعى هنا بحر طبرية Tiberias نسبة إلى مدينة تقع على الجانب الغربي من البحيرة قام هيرودس مؤخرًا بتوسيعها وتجميلها، ودعها على اسم الإمبراطور طبريوس Tiberius تكريمًا له، ويحتمل إنه جعلها عاصمته. لم يعبر السيد البحر وإنما جعل رحلته عبر البحر، أي على ساحلها.
يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح انصرف من أورشليم، وعبر إلى الضفة الأخرى من بحيرة طبرية تحاشيًا لبغضه عديمي الإيمان له، وأنه فعل ذلك اختياريًا وليس قسرًا. إنه يعلمنا الهروب من هجمات الشر، ليس خوفًا من الموت، وإنما حبًا في مضايقينا.
*لسنا نسعى من أجل خيرنا بل من أجل خير الآخرين أيضًا. عمل المحبة ليس في تصدي الذين يريدون الشر بنا، ولا في الاكتفاء بما نعاني ما يحل بنا، فنثير فيهم الغضب المرير بسبب عجزهم عن السيطرة على ما يكرهونه. فالمحبة لا تطلب ما لنفسها كما يقول بولس (1 كو 13: 5). هذا ما كان في المسيح بشكل واضح.
*ليتنا أيها الأحباء لا نتنافس مع العنفاء، بل نتعلم أنه حينما يفعلون هذا لا يسيئون إلي فضيلتنا بسبب مشوراتهم الشريرة، وإنما يُكبح عملهم العنيف وكما أن السهام إن سقطت علي جسم ثابت قوي ومقاوم ترتد بقوةٍ عظيمة علي من ألقوها، فلا يجد عنف الذين ألقوها من يعارضهم، هكذا أيضًا بالنسبة للمتغطرسين، عندما نصارع معهم يزدادون شراسة، ولكن حين نخضع وننحني أرضًا بسهولة نبطل جنونهم. لذلك عندما عرف الرب أن الكتبة والفريسيين قد سمعوا أن يسوع صار يعمد تلاميذ أكثر من يوحنا ذهب إلي الجليل ليطفئ من حسدهم ويهدئ بانسحابه غضبهم الذي هاج بالتقارير التي وصلتهم. وعندما رحل للمرة الثانية إلى الجليل لم يذهب إلى ذات المواضع التي ذهب إليها قبلًا، إذ لم يذهب إلي قانا بل إلى "عبر البحر"(659).
هذا ويرى القديس كيرلس الكبير أن العبور إلى الضفة الأخرى يحمل رمزًا لعبور الكرازة بالسيد المسيح من اليهود إلى الأمم، فلا يمكنهم العبور إليه بسبب عدم إيمانهم به.
*معبر البحر الذي يفصل بين الجانبين يشير إلى صعوبة عبور اليهود، بل بالأحرى استحالة سيرهم في الطريق المؤدية إليه، إذ يعلن الله أنه يسيّج طرق النفس الشريرة، قائلًا في الأنبياء: "هأنذا أسيّج طريقها بالشوك... حتى لا تجد مسلكها" (هو 2: 6). فما يُشير إليه الشوك هناك يشير إليه البحر هنا، إذ يفصل المُهان عن الذين أهانوه بلا هوادة، والمقدس عن النجس.
"وتبعه جمع كثير،
لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى". [2]
لم يذكر القديس يوحنا معجزات الشفاء هذه، فقد أوردها الإنجيلي متى في شيء من التفصيل (مت 12: 2؛ 14: 13). التفت الجماهير حوله، وكانوا يشتاقون إلى التعرف عليه من أجل كثرة ما فعله. أما بالنسبة للسيد المسيح فلم يكن هذا الجمهور يمثل تكريمًا له، وإنما يمثل حق عمل لتقديم كلمة الحق ولخدمتهم حتى يتمتعوا بالشركة معه.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي هذه العبارة موضحًا أن ما ورد هنا لا يشير إلى أصحاب عقول حكيمة جدًا، لأنهم انجذبوا بالمعجزات أكثر من التعليم، مع أن الآيات هي لغير المؤمنين وليس للمؤمنين.
"فصعد يسوع إلى جبل،
وجلس هناك مع تلاميذه". [3]
أما المنبر الذي كان من عليه يتحدث مع الجمهور فهو الجبل حيث جلس عليه ومعه تلاميذه. هذا الجبل في برية صيدا في مقاطعة فيلبس التابعة للجليل.
*صعد إلي الجبل لكي يعلمنا دومًا أن نستريح من فترة إلى أخرى بعيدًا عن الضجيج وارتباك الحياة العامة، فإن الوحدة أمر لائق لدراسة الحكمة. كثيرًا ما كان يصعد وحده علي جبل، ويقضي الليل هناك يصلي حتى يعلمنا أن من يرغب في الاقتراب من الله يلزمه أن يتحرر من كل اضطراب ويبحث عن أوقات هادئة خالية من الارتباك(660).
*لنتبعه وهو مُضطهد وهارب من عناء مقاوميه، حتى أننا نحن أيضًا "نصعد إلى جبل ونجلس معه". فنرتفع إلى نعمة مجيدة، أسمى من كل شيءٍ، ونملك معه. وكما قال بنفسه: "أنتم الذين تبعتموني في تجاربي متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده في التجديد، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (مت 19: 28؛ لو 22: 28).
"وكان الفصح عيد اليهود قريبًا". [4]
يربط الإنجيلي يوحنا بين هذه المعجزة وعيد الفصح، بقوله: "وكان الفصح عيد اليهود قريبا"[4]. فإن الفصح الحقيقي هو تقديم جسد المسيح ذبيحة علي الصليب، وهو بعينه الإفخارستيا التي نتمتع بها علي المذبح. وأن هذه المعجزة كانت تمهيدُا لقبول العالم المؤمن جسد الرب ودمه المبذولين للإشباع الروحي، حياة أبدية لن يهزمها الزمن أو الموت.
حدث هذا قبل العيد الثالث للفصح الذي احتفل به السيد أثناء خدمته؛ كان قرابة عشرة أو اثني عشر يومًا قبل العيد. وقد اعتاد اليهود أن يقضوا شهرًا كاملًا قبل الفصح لعمل الإعدادات الضخمة الخاصة به، فيمهدون الطرق ويصلحون الكباري إن كانت هناك حاجة إلى ذلك، ويتحدثون عن الفصح وكيف تأسس.
لعل الجمهور في تلك المنطقة أدركوا أنه قد اقترب موعد عيد الفصح حيث يلتزم كل الرجال أن يذهبوا إلى أورشليم، وبالتالي حتمًا يصعد يسوع المسيح إلى أورشليم، فلا تكون لهم فرصة للقاء معه وسط الازدحام الضخم والجماهير القادمة من بلاد كثيرة. لهذا أرادوا انتهاز الفرصة للالتفاف حوله وعدم مفارقتهم له قدر المستطاع. لم يؤجلوا اللقاء معه إلى ما بعد العيد، بل كانوا حكماء، ينتهزون كل فرصة للتمتع به.
*إن قلت: ما غرض المسيح في توجهه الآن إلى الجبل وجلوسه هناك مع تلاميذه؟ أجبتك: بسبب المعجزة التي أزمع أن يجريها... ولكي يعلمنا أن نستريح من الانزعاج الذي حولنا، لأن الهدوء والقفر موافقان للحكمة، وقد توجه المسيح إلى الجبل دفعات كثيرة وحده، وظل ليلة بطولها يصلي.
"فرفع يسوع عينيه،
ونظر أن جمعًا كثيرًا مقبلإليه،
فقال لفيلبس: من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء؟" [5]
رفع يسوع عينيه ورأى الجمهور الضخم من الطبقة العامة الفقيرة، نفوسهم في عينيه ثمينة جدًا كنفوس الأغنياء بلا تمييز. يهتم السيد باحتياجاتهم الروحية كما الجسدية أيضًا لذلك سأل فيلبس: "من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء؟" فقد كان يهوذا هو أمين الصندوق، وكان فليبس هو المسئول عن تدبير الطعام اليومي للتلاميذ.
*هذا يظهر أنه لم يجلس قط في أي وقت في خمول مع تلاميذه، وإنما يدخل معهم في حوار، ويجعلهم ينصتون إليه ويتجهون نحوه، الأمر الذي يشير علي وجه الخصوص إلى عنايته الحانية وتواضعه وتنازله في سلوكه معهم. لقد جلسوا معه وربما كل ينظر الواحد إلي الآخر، وإذ رفع عينيه شاهد الجماهير قادمة إليه(661)
*رفع المسيح عينيه ليعلن أن الذين يحبونه يتأهلون للنظرة الإلهية. وكما قيل لإسرائيل في البركة: "يرفع الرب وجهه عليك، ويمنحك سلامًا" (عد 6: 26).
*أعطى يسوع للبعض خبزًا من الشعير لئلا يخوروا في الطريق، ومنح سرّ جسده للآخرين (مت 26: 26) لكي يجاهدوا من أجل الملكوت(662).
يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين ما فعله الله مع موسى النبي وما فعله السيد المسيح مع فيلبس. ففي القديم سأل الله موسى عما في يده، وإذا به يخبره أنها عصا، لا حول لها ولا قوة، فتصير عصا لله التي يصنع بها عجائب. وها هنا يسأل السيد المسيح فيلبس عن إمكانياته وهو والتلاميذ لإشباع الجموع، فكادت تكون لا شيء سوي خمسة أرغفة شعير وسمكتان لدي غلام، استخدمها السيد لإشباع هذه الألوف مع فيض من الكسر.
من أجل محبته للإنسان يود الله أن يدخل دومًا في حوار معه، ويسأله عن إمكانياته، لكي يقدم الله من جانبه إمكانياته الإلهية القديرة خلال عجزنا وضعف إمكانياتنا.
"وإنما قال هذا ليمتحنه،
لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل". [6]
قال السيد المسيح ذلك لكي يختبر إيمانه، ولكي يجتذب قلبه وقلوب إخوته نحو عمله الإلهي. هذا وقد كان فيلبس من بيت صيدا في منطقة مجاورة للموضع، على إلمام بإمكانيات الموضع وربما يعرف الكثيرين في ذلك الموضع.
سأل فيلبس ليس لأن السيد المسيح لا يعرف الإجابة، وإنما لكي يتعرف فيلبس على بلادة إيمانه.
"أجابه فيلبس:
لا يكفيهم خبز بمأتي دينار
ليأخذ كل واحدٍ منهم شيئًا يسيرًا". [7]
كان الدينار هو الأجرة اليومية العادية للشخص.
كأن الرسول فيلبس يقول للسيد المسيح أنه لا مجال لمناقشة هذا الأمر، فمن جهة لا توجد إمكانيات في الموضع لإشباع هذه الجماهير، وإن وُجدت الإمكانيات العينية فمن أين لنا أن نشتري هذا فإننا نحتاج إلى 200 دينارًا؟
"قال له واحد من تلاميذه
وهو أندراوس أخو سمعان بطرس". [8]
مع أن أندراوس أكبر من سمعان بطرس، وهو الذي دعا أخاه ليتبع المسيح، لكن سرعان ما لمع نجم بطرس حتى صار أندراوس يُعرف بأنه أخ بطرس، أي يُنسب إليه لكي يعرفه القارئ.
*كان أندراوس أسمى من فيلبس لكنه لم يبلغ إلى النهاية. ما نطق به ليس مصادفة بل سمع عن معجزات الأنبياء وكيف صنع أليشع آية بالخبزات (2 مل 4:43)، ولهذا فقد ارتفع إلى علو معين، لكنه لم يبلغ إلى القمة ذاتها(663).
"هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان،
ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟" [9]
عرفت كنعان بأنها أرض الحنطة (تث 8: 8). اعتاد سكانها أن يأكلوا الحنطة الفاخرة (مز 61: 16)، لكن يسوع المسيح سرّ بالخبزات التي من الشعير، فلم يحتقرها بل شكر ووزع خلال تلاميذه ليجد الكل شبعًا.
في ضعف إيمان قال فيلبس: "ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟" [9]. لم يدرك أن يسوع هو الذي أشبع محلة إسرائيل كلها في البرية بالمن النازل من السماء، فهل يصعب عليه أن يشبع ألف عائلة بخبزة شعير؟
يرى القديس أغسطينوس أن الأرغفة الخمسة من الشعير تشير إلى العهد القديم الذي يضم أسفار موسى الخمسة. وهي من الشعير، لأن قشرة الشعير جامدة ويصعب نزعها، كالعهد القديم حين كان اليهود يمارسونه بالحرف، ويستصعبون إدراكه بالروح. أما الغلام فيشير إلى شعب إسرائيل القديم الذي سلك في الروحيات كغلام صغير بلا نضوج، وأما السمكتان فتشيران إلى الشخصيتان الرئيسيتان في العهد القديم، وهما النبي والملك أو الحاكم. كان الغلام يحمل هذا دون أن يأكل منه.
لقد قُدمت الخبزات والسمكتان لذاك الذي وحده يعطي العهد القديم فهما روحيًا جديدًا. [بعد طول زمانٍ جاء بنفسه في سرّ، هذا الذي عُني به خلال هؤلاء الأشخاص. جاء بعد زمن طويل ذاك الذي يشار إليه بالشعير، ولكنه كان مخفيًا بالقشرة. جاء الشخص الواحد يحمل الشخصيتين للكاهن والحاكم. إنه الكاهن إذ يقدم نفسه للَّه ذبيحة من أجلنا، وهو الحاكم إذ يملك علينا. هذه الأمور التي كانت مغطّاة الآن تُكشف. شكرًا له، فقد حقق بنفسه ما ورد في العهد القديم. أمر بكسر الخبزات، وبكسرها تضاعفت وكثرت. ليس حق أفضل من هذا، أنه إذ تُفسر أسفار موسى الخمسة كم من الأسفار تُكسر وكأنها قد صارت مفتوحة ومحمولة؟(664)]
هكذا يشير الغلام إلى الشعب اليهودي الذي كان كطفلٍ في معرفته وفهمه للناموس. كانوا يتمسكون بالحرف دون إدراك للروح. وكانت الخبزات الخمس تشير إلى كتب موسى التي متى وضعت في يدي المسيح تفيض علينا بالفهم الروحي المشبع للنفس، وتقوت قلوبنا بخبز الحياة. أما السمكتان فتشيران إلى المزامير والأنبياء. بالمزامير يعلن المؤمنون شكرهم وتسابيحهم لعمل الله الخلاصي، وخلال الأنبياء يتعرفون على سرّ المسيح مشبع كنيسته بحضرته، واتحادها معه، وثبوتها فيه وهو فيها. وقد تم ذلك بعد عبور بحر طبرية، أي يتحقق خلال مياه المعمودية.
جاءت الكلمة اليونانية للسمكتين وهو الاسم المستخدم حاليًا في مصر باللغة الدارجة"بساريا" يترجمها البعض سمكتين صغيرتين. ويري كثير من الدارسين أن السمكتين كانتا مملحتين، ولا يزال الأقباط يأكلون سمكًا مملحًا في يوم شم النسيم swm `nnicim، في اليوم التالي لعيد القيامة المجيد.
*الخمسة أرغفة تعني أسفار موسى الخمسة التي للناموس. فالناموس القديم هو من الشعير متى قورن بحنطة الإنجيل. في هذه الأسفار توجد أسرار عظيمة عن المسيح. لذلك قال بنفسه: "لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني" (يو 5: 46).
ولكن كما أنه في الشعير يختفي لُبه في قشرته (القش) هكذا في حجاب إسرار الناموس يختفي المسيح.
وكما أن هذه الأسرار تصير في تقدم وتُكشف، هكذا هذه الخبزات تتزايد عندما تُكسر.
في هذا الذي أشرحه لكم أكسر لكم خبزًا.
الخمسة آلاف رجلًا يشيرون إلى الشعب الخاضع لأسفار الناموس الخمسة. الإثنا عشر قفة هم الإثنا عشر تلميذًا الذين هم أنفسهم امتلأوا بكسر الناموس. السمكتان هما وصيتا حب الله وقريبنا، أو هما الشعبان: أهل الختان والغرلة، أو الشخصيتان للملك والكاهن. إذ تُشرح هذه الأمور، تُكسر، عندما يفهمها الآكلون(665)
*يشير بالأرغفة الخمسة إلى كتاب الحكيم جدًا موسى ذي الأسفار الخمسة، أعني الناموس كله الذي كان بمثابة الطعام الأغلظ، أي بالحرف والتاريخ، لأن هذا ما يلمح إليه لفظ "شعير".
لكنه يشير بالسمكتين إلى ذلك الطعام الضئيل الذي حصلنا عليه بواسطة الصيادين، إشارة إلى الكتب الشهية جدًا التي لتلاميذ المخلص. وهما اثنتان، إشارة إلى الكرازة الرسولية الإنجيلية التي أشرقت في وسطنا. وكلاهما مخطوطات الصيادين وكتاباتهم الروحية. هكذا يخلط المخلص الجديد بالقديم، والناموس بتعاليم العهد الجديد، فيقود نفوس المؤمنين به إلى الحياة التي هي بلا شك أبدية.
إذ يشير القديس كيرلس الكبير إلى عدم الإيمان فيلبس يحذرنا من عدم الإيمان الذي بسببه حُرم موسى وهرون من أن يقودا الشعب إلى الأرض الموعد حين تشككا في إمكانية صدور ماءٍ من الصخرة. يقول: [من ينجو بسبب عدم إيمانه من غضب الله، هذا الذي لا يحابي أحدًا، إذ لم يشفق حتى على موسى الذي قال له: "عرفتك أكثر من الجميع، ووجدت نعمة في عيني" (خر 23: 12LXX).]
*تحول عدم إيمانهم إلى شهادة حسنة للمسيح. لأنهم باعترافهم أن مبلغا كبيرًا كهذا المال لن يكفي الجموع ولو لشراء زادٍ طفيف، بهذا ذاته يكللون قدرة رب الجنود التي لا يُنطق بها، هذا الذي عندما لم يتوفر شيء... تمم عمل محبته نحو الجموع بغنى فائق.
ربما يتساءل البعض: ألم يكن ممكنًا للسيد المسيح أن يشبع الجموع دون استخدام السمكتين والخمس خبزات؟
يرى كثير من الآباء أن السيد استخدم هذه الأمور لكي لا يظن أحدا أن الخليقة المادية نجاسة، وأنها غير صالحة، كما ادعى الغنوصيون خاصة في القرن الثاني الميلادي. إنه يقدس ما خلقه سواء القمح أو الشعير أو السمك أو الكروم... ويستخدم هذه الأمور في صنع عجائبه بمباركته إياها.
*أعتقد (أندراوس) أن صانع العجائب يقدم القليل من القليل، والكثير مما هو كثير. لكن الأمر علي خلاف ذلك، فإنه يسهل علي السيد في الحالتين أن يجعل الخبز يفيض سواء من الكثير أو من القليل، إذ لا يحتاج إلى مادة (ليفيض منه الخبز).
ولكن لئلا يظن أن الخليقة غريبة عن حكمته كما ادعى بعد ذلك المفترون الذين تأثروا بمرض مرقيون (الذي يظن أن المادة دنس والخليقة المادية نجسة لا تليق بالله)، لهذا استخدم السيد الخليقة نفسها (الخبز والسمك) كأساس لعمل عجائبه(666).
يرى القديس جيروم أن السيد المسيح قدم للجماهير تارة خبزًا من الحنطة وأخرى من الشعير (مت 15:14-21؛ 32:15-38). كل من الحنطة والشعير خليقة اللَّه، بها تشبع الجماهير. وإذ كان الشعير في ذلك الحين طعام الحيوانات، لذا جاء في المزمور: "أنت يا رب تخلص الإنسان والحيوان" (مز 7:36). فهو يُشبع الروحيين، وأيضًا الذين تحت ضعف الجسد. ويبرر بهذا القديس جيروم حديثه عن البتولية أنها كالذهب، والزواج كالفضة، وكلاهما معدنان لهما قيمتهما(667).
"فقال يسوع:
اجعلوا الناس يتكئون،
وكان في المكان عشب كثير،
فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف". [10]
طلب السيد المسيح من تلاميذه أن يتكئوا الناس على العشب ليستعدوا للطعام قبل أن يقدم لهم الطعام، أو يروي لهم ما سيفعله. لقد طلب الطاعة المرتبطة بالإيمان ليقفوا ويروا خلاص الله العجيب.
يشير العشب الكثير إلى الجسد (إش 50: 6)، أو الشهوات الجسدية. فإنه لا يستطيع أحد أن يشبع بالقوت الروحي ما لم يُخضع شهواته الجسدية تحته، أو يطأها بقدميه. إذ اتكأ الرجال الخمسمائة على العشب تمتعوا بالطعام الروحي المقدم لهم من السيد المسيح نفسه خلال تلاميذه.
كان من عادة اليهود أن يحصوا الرجال وحدهم من سن العشرين فما فوق دون النساء والأطفال أو الصبيان.
رقم 5 يشير إلى حواس المؤمنين الخمس وقد سمت لتصير سماوية حيث رقم 1000 يشير في الكتاب المقدس إلى الحياة السماوية. لذلك اتكأ الرجال وكان عددهم خمسة آلاف، إذ لم يكن ممكنًا للمؤمنين أن يتمتعوا بالشبع الروحي وفهم الناموس روحيًا ما لم يحملوا سمات النضوج الروحي (رجالًا)، وتتقدس حواسهم الخمس لتحمل سمات سماوية. لذلك فالمؤمن رمزه 5000 (خمس حواس × حياة سماوية "1000" = 5000). أما جلوسهم على الشعب فيحمل رمز خضوع الجسد للنفس المقدسة للرب. فمن يطأ الزمنيات، ولا يرتبك بها، تنفتح طاقات السماء لتقدس كل حواسه وطاقاته وكيانه الداخلي، وتشبعها بالحكمة كما من مائدة إلهية غنية.
*تجاوز تمامًا عن الإناث والأطفال وأحصى الجموع من البالغين، لأنه مكرَّم في كتاب الله كل من هو رجل يافع، وليس من هو طفولي في طلب الصالحات... الذين يسلكون كرجال في الصلاح يُعطون الطعام بواسطة المخلص على وجه الخصوص، وليس للذين هم مخنثين ولا يمارسون الصلاح في حياتهم، ولا للذين هم أطفال في الفهم، العاجزين عن إدراك أي أمر ضروري معرفته.
*بهذا القول أنهض المسيح تمييز تلاميذه وأطاعوه في الحال، ولم يضطربوا، ولا قالوا ما هو هذا، كيف يأمرنا أن نتكئ الجموع ولم يظهر شيئًا في الوسط؟ بهذا ابتدأوا بالإيمان قبل نظرهم إلى المعجزة.
"وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ،
والتلاميذ أعطوا المتكئين،
وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا". [11]
يعلمنا السيد أن نقدم الشكر لله على كل بركاته الروحية والجسدية، فإن ما لدينا هو عطية مجانية من عنده. وكما يقول الرسول بولس: "لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يُرفض شيء إذ أُخذ مع الشكر، لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة" (1 تي 4: 4-5).
إن كانت الجماهير قد قبلت الخبز من أيدي التلاميذ إلاَّ أن العطية في حقيقتها هي من يدي السيد المسيح نفسه. هكذا يليق بالمؤمن أن يدرك أن كل ما يناله هو من الرب نفسه، وإن جاءت بوسيلة أو أخرى.
*صلى لأن الحاضرين كانوا جمعًا عظيمًا ووجب أن يتحقق عندهم أنه جاء إليهمبرأي الله، وحتى يصيرهم موقنين أنه ليس ضد الله ولا معاندًا لأبيه.
قبل أن يوزع السيد المسيح الخبز والسمكتان على تلاميذه شكر حتى يعلن فرحه بكل عطية سماوية يقدمها للبشر كي يشبعوا ويغتنوا، أيضًا لكي يدربنا على حياة الشكر.
عهد السيد المسيح بالطعام للتلاميذ، والتلاميذ قدموه للمتكئين، أي الجمهور. إنه بيديه يقدم لنا الفهم الروحي للناموس والمزامير والأنبياء، ولكن خلال تلاميذه ورسله أو الكنيسة المقدسة.
"فلما شبعوا قال لتلاميذه:
اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء". [12]
يلتزم المؤمن بجمع الكسر، فلا يبدد الموارد، لأنها عطية إلهية ووزنة يلزمنا أن نكون أمناء فيها مهما بدت تافهة، ولو كانت كسرة خبز من الشعير. كان اليهود يتطلعون إلى الخبز بكونه الطعام الرئيسي يمثل بركة من الرب، لذا يحرصون ألا يسقط فتات خبز على الأرض ولا يطأ أحد بقدميه على فتات الخبز. إلى الآن في صعيد مصر يحمل الناس هذا الاتجاه فيحسبون من يطأ بقدميه على فتات خبز كمن يسئ إلى بركة الرب وعطاياه. جاء في أمثال اليهود: "من يحتقر خبزًا يسقط في أعماق الفقر".
إن كان الرب يهتم بكسر الخبز الذي من الشعير، فكم بالأولى لنا أن نحرص على ألا نفقد كلمة الرب أو نفسد وقتنا؟
وضع اليهود لأنفسهم قانونًا أن يتركوا كسرة خبز بعد الطعام إشارة إلى أن البركة قائمة في البيت. أما الأشرار فلا يبقون شيئًا على المائدة إشارة إلى نزع البركة عنهم "ليست من أكله بقية، لأجل ذلك لا يدوم خيره" (أي 20: 21).
إن كسرت الخمس خبزات لن تملأ اثنتي عشرة قفة، فكيف ما تبقي منها يملأها؟ لم يكن ممكنًا لكائنٍ ما أن يدرك كيف يجمعون كسرًا من الخمس خبزات التي قُسمت على هذه الآلاف من البشر بعد أن شبعوا. هكذا إذ يقدم لنا السيد المسيح طعامًا روحيًا يشبع أعماقنا وتفيض يشبع آخرون من الكسر المتبقية والتي تفوق أحيانا ما قد نلناه.
جاء هذا الأمر الإلهي الخاص بجمع الفضلات يكشف عن أهمية الإيمان بإله المستحيلات الذي يهب بسخاء، فيشبع النفوس لتفيض بالخيرات والفرح، علي خلاف الانحباس في الأرقام والحسابات البشرية مع عدم الإيمان والتي تسبب جفافًا وحرمانًا داخليًا.
يدعونا السيد لكي نتقبل من يديه حياة أفضل وشبعًا يفيض، فنترنم قائلين: "تعرفني سبل الحياة، أمامك شبع سرور، وفي يمينك نعم إلى الأبد" (مز 16: 11).
*بجمع الكِسَرْ يتأكد الإيمان بأنه كانت هناك وفرة من الطعام حقًا، ولم يكن الأمر فيه خداع لنظر المشتركين في الوليمة.
*لا يخيب الله من يستعد للتوزيع؛ ويتهلل بمسلك المحبة الأخوية... إذ ننفق قليلًا لأجل مجد الله ننال نعمة أوفر، كقول المسيح: "كيلًا جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا يعطون في أحضانكم" (لو 6: 38)... يقول الله: "افتح أحشاءك بسعة لأخيك المحتاج الذي معك" (انظر تث 5: 11).
يرى القديس كيرلس الإسكندري أن السيد المسيح سمح بامتلاء اثنتي عشرة سلة، لكل تلميذ سلة. وكأن من يتعب في تقديم كلمة الله، الطعام الروحي، للشعب فسينال بسخاء ملء النعمة الإلهية.
*كان يرغب أنه يعلم تلاميذه الذين كانوا معدين ليكونوا معلمين للعالم. ربما لم تحصد الجموع أية ثمار من المعجزة (إذ للحال نسوا المعجزة وسألوا معجزة أخرى) بينما هؤلاء التلاميذ اقتنوا نفعًا ليس عامًا... إني مندهش من دقة الفائض. الكسر الباقية تحمل النقاط التالية:
أن ما حدث لم يكن تخيلًا، وأنها كسر من الخبزات التي اقتاتت بها الجموع.
أما بالنسبة للسمك فقد جاء عن مادة كانت موجودة فعلًا (أي كان السمك لدى الغلام) ولكن في فترة لاحقة، بعد القيامة وُجد سمك ليس من مادة موجودة (حيث وجدوا سمكًا مشويًا قبل إخراج السمك من الشبكة يو 9:21)(668).
"فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر،
من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين". [13]
يشير جمع الكسر التي تملأ 12 سلة إلى الالتزام بالشهادة للثالوث القدوس في كل العالم، أي في المشارق والمغارب والشمال والجنوب (3×4=12). لذلك كان عدد أسباط بني إسرائيل 12 وعدد التلاميذ12. وجاءت الكسر 12 قفة. وكأنه يليق بالشعب الذي يتمتع بالطعام الروحي من يد الآب خلال كنيسته أن يقدم فضلاته التي تشبع المسكونة كلها لتجذب غير المؤمنين إلى ملكوت الله.
"فلما رأي الناس الآية التي صنعها يسوع،
قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم". [14]
واضح من هذا أنه حتى عامة الشعب كانوا يترقبون مجيء المسيا إلى العالم. لقد احتقر الفريسيون عامة الشعب، ناظرين إليهم أنهم بلا معرفة، ولم يدركوا أن العامة ببساطتهم عرفوا ما لم يستطع الفريسيون بعلمهم ومعرفتهم أن يبلغوا إليه. لقد أدرك العامة أنه قد جاء النبي الذي وعد به الله شعبه خلال موسى النبي (تث 18: 15). اقترب العامة من ملكوت السماوات.
يقارن القديس كيرلس الكبيربين رد فعل اليهود إذ أرادوا رحمة عندما شفى مرضى، أما هنا الذين هم خارج اليهودية، فقد قالوا: "بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم". أولئك رأوا معجزات كثيرة لكنهم كانوا قساة قلوب غير مؤمنين، بينما هؤلاء شاهدوا معجزة واحدة فمجدوه. [قد حان الوقت أن ينال الأمم أخيرًا نصيبًا من الرحمة من فوق، ونصيبًا من المحبة بالمسيح].
2. سير المسيح على الماء
اختفاء السيد المسيح عندما أرادت الجموع أن تقيمه ملكًا ثم ظهوره للتلاميذ وحدهم سائرًا علي البحر يحمل إعلانًا كتابيًا هامًا. فإن السيد المسيح يقدم جسده خبزًا من السماء، لا لكي يملك علي الأرض، بل ليحمل أعضاء جسده (الكنيسة) إلى كنعان السماوية. أراد أن يصحح المفاهيم الخاطئة لمملكة المسيا. ومن جانب آخر إن كان موسى قد شق البحر ليعبر مع شعب الله، فالسيد المسيح جاء سائرًا علي المياه ليحمل شعبه إلى ما فوق تيارات العالم.
إذ يقول الكتاب المقدس عن الله "الماشي على البحر" (أي 9: 8) جاء في التقليد اليهودي عند الربيين أن المسيا يأتي من البحر، فأراد السيد أن يؤكد لهم أنه هو المسيا المنتظر الذي تنبأ عن الكتاب وورد عنه في التقليد.
"وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا،
انصرف أيضًا إلى الجبل وحده". [15]
أرادت الجماهير أن تخطفه وتقيمه ملكًا أرضيًا حسب هواهم، أما هو فاختفى منهم، وانصرف إلى الجبل وحده. لم يدركوا طبيعة مملكة المسيح، فأرادوا تكريمه حسب تفكيرهم لا حسب فكره الإلهي. كانت الجماهير تريد الخلاص من قيصر ومن الاستعمار الروماني، أما السيد المسيح فلم يرد أن ينشغل تلاميذه بالأمور السياسية، وألا يحملوا عداوة ضد إي إنسان.
بانسحابه إلى الجبل وحده يؤكد لنا أهمية انسحابنا من العالم من حين إلى آخر للقاء مع الله في حديث سري والتمتع بالسكون المقدس. خدمتنا للآخرين مهما بلغت أهميتها يلزم ألا تفقدنا عبادتنا الشخصية السرية.
*لما امتلأت بطونهم، وكان الطعام عندهم هو أكثر حرصهم، اعتزموا أن يجعلوا المسيح ملكًا، إلا أنه هرب... معلمًا إيانا أن نحتقر مراتب العالم، مظهرًا أنه لا يحتاج إلى المراكز الأرضية، لأن المنح الآتية إليه من السماوات كانت بهية عظيمة، وهي الملائكة والنجم وأبوه هاتفًا، والروح شاهدًا، وأنبياء أنذروا به من زمان بعيد، أما التي من الأرض فكلها حقيرة. جاء ليعلمنا أن نزدري بالأشياء التي هنا وأن نعشق النعم المقبلة.
*هرب من الذين أرادوا أن يعطوه الكرامة التي يستحقها، ورفض مملكة تعتبر أعظم مكافأة أرضية، مع أنها بالنسبة له لم تكن في الحقيقة أمرًا يشتهيه، لأن له الملك مع الآب على الأشياء...
يليق بنا أن نتحاشى محبة المجد، الذي هو شقيق الغطرسة وقريبها، وليس ببعيد عنها.
يلزمنا أن نتحاشى أيضًا الكرامة البرّاقة في هذه الحياة الحاضرة، فهي ضارة. ولنبحث عن التواضع المقدس، مقدمين بعضنا البعض، كما ينصح الطوباوي بولس أيضًا قائلًا: "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا، الذي إذ كان في صورة الله لم يُحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه الاسم الذي هو فوق كل اسم" (في 2: 5 - 9).
إن كنا نهتم بالأمور السماوية ونحيا لأجل أمور علوية أكثر من الأرضية، فلنرفض العظمة على الأرض، إن عرضت علينا، فهي والد كل مجدٍ باطلٍ.
يرى القديس كيرلس الكبير أن صعوده إلى الجبل وحده حين أرادوا أن يقيموا منه ملكًا يشير إلى رفضه على الأرض، لكنه يصعد إلى السماء، الجبل المقدس (مز 24: 3-4) حتى متى عاد من السماء في مجيئه الأخير يملك بالكامل علينا.
*عندما جلس الرب على الجبل مع تلاميذه رأى الجموع قادمة إليه فنزل من الجبل وأشبعهم في الأماكن السفلية للجبل. إذ كيف كان يمكن له أن يهرب إلى هناك مرة أخرى لو لم يكن قد نزل قبلًا من الجبل؟
يحمل ذلك معنى، نزول الرب من العلا ليطعم الجموع ويصعد...
لقد جاء الآن لا ليملك في الحال، إذ يملك بالمعنى الذي نصلي من أجله: "ليأتِ ملكوتك" إنه يملك على الدوام مع الآب بكونه ابن اللَّه، الكلمة الذي به كان كل شيء. لكن الأنبياء يخبروننا عن ملكوته الذي فيه هو المسيح الذي صار إنسانًا ويجعل مؤمنيه مسيحيين...
ملكوته يمتد ويُعلن عندما يُعلن مجد قديسيه بعد أن تتم الدينونة بواسطته، الدينونة التي تحدث عنها قبلًا، إن ابن الإنسان يتممها. ذلك الذي يقول عنه الرسول: "عندما يُسلم ملكوت اللَّه للآب" (1 كو 15: 24). وقد أشار عليه بنفسه قائلًا: "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المُعدّ لكم منذ بدء العالم" (مت 25: 34).
لكن التلاميذ والجموع التي آمنت به ظنوا أنه قد جاء لكي يملك حالًا، لهذا أرادوا أن يمسكوه ويجعلوه ملكًا. أرادوا أن يسبقوا الزمن الذي أخفاه بنفسه لكي يعلنه في الوقت المناسب(669).
*ماذا يعني: "هرب (انصرف)؟ أن سموه لا يمكن إدراكه! فإن ما لا تستطيع فهمه تقول عنه: "لقد هرب مني". لذلك هرب ثانية إلى الجبل وحده، هذا البكر من الأموات صعد أعلى من السماوات يشفع فينا (كو 1: 18؛ رو 8: 34)(670).
"ولما كان المساء نزل تلاميذه إلى البحر". [16]
ربما بتوجيه من السيد المسيح انطلق التلاميذ بالسفينة نحو كفرناحوم حتى لا ينشغلوا بحوار غير نافع خاص بإقامة يسوع ملكًا. أراد أن يسحبهم من هذه التجربة، لكنهم يواجهون تجربة أخرى وهي هياج البحر من ريح عظيمة.
جاء السير على المياه بعدما اشبع الجموع (مر 6: 34-51؛ مت 14: 13-33). هنا بعد أن قدم المسيح كلمته واهبة الحياة والقيامة يقدم نفسه في وقت المجاعات كما في وقت العواصف معلنًا حضوره الإلهي: "أنا هو" الواهب المعونة والمشبع للاحتياجات، "لا تخافوا".
*تشير هذه السفينة إلى الكنيسة بينما هو في الأعالي... بحقٍ قال: "كان ظلام"، لأن النور لم يأتِ إليهم. كان الوقت ظلام، ويسوع لم يأتِ إليهم. إذ تقترب نهاية العالم وتتزايد الأخطاء، ويتضاعف الرعب، ويكثر الإثم، ويزيد إنكار الإيمان غالبًا ما ينطفئ النور، باختصار النور الذي أظهره الإنجيلي يوحنا بالكامل وبوضوح ليكون حبًا. إذ يقول: "من يبغض أخاه هو في الظلمة. تتزايد ظلمة العداوة بين الإخوة ، تتزايد يوميًا ولم يأتِ بعد يسوع(671).
"فدخلوا السفينة،
وكانوا يذهبون إلى عبر البحر إلى كفرناحوم،
وكان الظلام قد اقبل،
ولم يكن يسوع قدأتىإليهم". [17]
*إن سألت: ولِم تركهم ولم يظهر لهم؟ أجبتك: ليعرفهم كم هو أثر تركه إياهم، ويجعل شوقهم إليه أعظم تأثيرًا.
"وهاج البحر من ريح عظيمة تهب". [18]
*تتقاذف الأمواج العاتية من هم ليسوا مع يسوع، وقد انفصلوا عنه أو بدوا غائبين عنه، بانصرافهم عن شرائعه المقدسة. فانفصلوا بسبب الخطية عن ذاك القادر أن يخلص. فإن كان الأمر ثقيلًا علينا أن نكون في ظلمة روحية، فإن كنا مثقلين بسبب ابتلاع بحر الملذات المريرة، فلنقبل يسوع، لأنه هو يخلصنا من المخاطر ومن الموت في الخطية.
"فلما كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة،
نظروا يسوع ماشيًا على البحر،
مقتربًا من السفينة،
فخافوا". [19]
25 أو 30 غلوة Stadia تعادل حوالي 5و3 ميلًا. وكان البحر حوالي 6 أميال من الجانب إلى الجانب الآخر.بحسب ما ورد في يوسيفوس المؤرخ(672) كان عرض البحيرة حوالي 40 غلوة أي حوالي خمسة أميال، أما طولها فيبلغ حوالي 140 غلوة أو 18 ميلًا. ويرى بلينيPliny أن اتساعها كان 6 أميال وطولها 16 ميلًا(673).
يرى القديس أغسطينوس أن رقم 25 يشير إلى الناموس المدرك حرفيًا، بينما رقم 30 يشير إلى الناموس مدركًا خلال الإنجيل. لم يحدد إن كانوا قد بلغوا 25 غلوة أم ثلاثين غلوة. رقم 5 يشير إلى الناموس، أو أسفار موسى الخمسة والتي سبق الإشارة إليها خلال الخمسة أروقة المؤدية إلى البركة، وخمسة أرغفة من الشعير التي كان يحملها غلام. إذا حاول أحد أن يفهمها ناموسيًا (5×5) تكون المحصلة 25. أما إذا حاول إدراكها خلال الكمال الإنجيلي أي رقم 6 تكون المحصلة 60. الكمال الإنجيلي يرمز برقم 6 حيث كملت الخليقة. عندما ندرك الناموس إنجيليًا نرى يسوع ماشيًا على البحر، مقتربًا إلينا جدًا.
*لهؤلاء يكمل الناموس، لذلك يأتِ يسوع. كيف يأتي؟ ماشيًا على الأمواج، ضابطًا كل دوامات العالم التي تبتلعنا تحت قدميه، ضاغطًا على كل مرتفعاته. هذا ما يحدث، فإذ يعبر الزمن وتمتد الأجيال، تزداد التجارب، وتكثر الكوارث والأحزان، كل هذه تتصاعد لتبتلع، لكن يسوع يعبر واطئًا بقدميه الأمواج(674).
*لقد وطأ أعالي العالم إلى أسفل لكي يتمجد بواسطة المتواضعين(675).
*مما يلوح لظني أن هذه المعجزة هي أخرى غير المعجزة التي وردت في بشارة متى (مت 14: 22-23).
إن سألت: لماذا خافوا؟ أجبتك: إن الأسباب التي جعلتهم يخافون كانت كثيرة، فمن جهة الوقت كان ظلامًا، ومن جهة البحر لهبوب الرياح، ومن جهة المكان لأنهم لم يكونوا قريبين من الأرض(676).
"فقال لهم:
أنا هو لا تخافوا". [20]
يقول:"أنا هو"، أي "أنا الساكن (وسط الشعب)"، أو"أنا هو الذي أنا هو" (خر 3:14)
جاء ماشيًا على المياه ليس استعراضًا لسطانه على البحر والطبيعة، وإنما إعلانًا عن إخضاع قوانين الطبيعة لحساب مؤمنيه، خاصة في وسط آلامهم. إنه الرب الذي يركب السحاب لنجدة شعبه (تث 33: 6). يسمح لأولاده بالتجارب، لكنه لن يتركهم وسط التجربة، بل يعلن عن حضوره ليهبهم راحة وسلامًا.
إذ رأوا السيد المسيح ماشيًا على المياه خافوا وارتعبوا، إذ ظنوه خيالًا. فالخوف من الخيال أشد من الخوف من التجربة نفسها.
*تأملوا كيف أن المسيح لم يظهر لأولئك الذين كانوا في السفينة عند إبحارهم في الحال، ولا عند بدء المخاطر التي حدثت، لكن حينما كانوا على بعد غلواتٍ كثيرة بعيدًا عن الشاطئ. فإن نعمة ذاك الذي يخلص لا تفتقدنا حالما يبدأ الخطر حولنا، وإنما عندما يبلغ الخوف ذروته، ويبدو الخطر نفسه عنيفًا جدًا، ونوجد في وسط أمواج الضيقات، عندئذ يظهر المسيح دون توقع، ويبدد مخاوفنا، ويخلصنا من كل خطرٍ، وبقدرته التي لا يُنطق بها يبدد المخاوف بالفرح، ويصير هدوء وسلام.
"فرضوا أن يقبلوه في السفينة،
وللوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها". [21]
كلما اقتربت الضيقة منا اقترب السيد المسيح بالأكثر لكي ينقذنا. إنه يقترب إلينا، لكنه لن يدخل سفينة حياتنا قسرًا بل إن قبلناه بكامل حريتنا.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يظهر نفسه ماشيًا علي المياه، إذ كانوا غير متأهلين لذلك بسبب ضعفهم، أما التلاميذ فرأوه إلى حين ثم اختفي، إذ لم يدخل السفينة(677).
علي أي الأحوال ظهر السيد المسيح للتلاميذ إذ كانوا في وسط الضيقة، أما الجمهور الذي كان علي البر فلم يتمتعوا برؤيته هكذا. الضيق هو مجال خصب للنفس لكي تتمتع برؤية مخلصها قادمًا إليها وهو سائر علي مياه العالم، يطأ بقدميه كل الأمواج العنيفة ويتحدى الرياح.
لم نسمع أن السيد المسيح هنا يأمر أمواج البحر لكي تسكت والرياح لكي تهدأ، لكن ما أن قبلوه في السفينة حتى وجدوا السفينة علي الشاطئ في أمان يبدو أن السفينة قد رست عند الشاطئ بطريقة غير عادية، كأمرٍ معجزي. قبول السيد المسيح لدخوله في النفس كفيل أن يهبها سلامه الداخلي بطريقة فائقة للطبيعة.
*المسيح هو نجاتنا من كل خطر، وهو يحقق الإنجازات بما يفوق توقع الذين يقبلونه.
تلاميذه وحدهم وبأنفسهم كنموذج للمعلمين الكنسيين بالتتابع عبر الأزمان كلها، يسبحون خلال أمواج هذه الحياة الحاضرة كنموذج للبحر، يواجهون تجارب عديدة وشديدة، ويتحملون مخاطر لا يُستهان بها عند التعليم، وذلك على أيدي أولئك الذين يعارضون الإيمان ويحاربون الكرازة بالإنجيل. لكنهم سيتحررون من خوفهم ومن كل خطرٍ، وسوف يستريحون من أتعابهم وبؤسهم حينما يظهر المسيح لهم بعد موته أيضًا بقدرته الإلهية، إذ قد وضع العالم كله تحت قدميه.
هذا ما يشير إليه سيره على البحر، مادام البحر غالبًا ما يُعتبر رمزًا للعالم في الكتب المقدسة... فحينما يأتي المسيح في مجد أبيه كما هو مكتوب (مت 16: 27) حينئذ سفينة الرسل القديسين، أي الكنيسة، والذين يبحرون فيها، أي الذين بالإيمان والمحبة نحو الله يرتفعون فوق أمور العالم، دون تأخير وبدون أي تعبٍ، يربحون الأرض التي كانوا ذاهبين إليها، إذ غايتهم هي بلوغ ملكوت السماوات، كما إلى مرفأ هادئ.
*لماذا تخافون أيها المسيحيون؟
المسيح يتحدث: "أنا هو لا تخافوا".
لماذا تنزعجون لهذه الأمور؟ لماذا تخافون؟
لقد سبق فأخبرتكم بهذه الأمور أنها ستحدث حتمًا... "أنا هو لا تخافوا. فرضوا أن يقبلوه في السفينة" [20-21].
إذ عرفوه وفرحوا تحرروا من مخاوفهم. "وللوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها"[21]. وُجدت نهاية عند الأرض، من المنطقة المائية إلى المنطقة الصلدة، من الاضطراب إلى الثبات، من الطريق إلى الهدف(678).
*لقد سمح بالعاصفة أن تثور لكي يطلبوه، واسكن العاصفة لكي يتعرفوا علي سلطانه، ولم يصعد إلي السفينة لكي يجعل المعجزة أعظم!(679)
3. الجموع تطلبه في كفرناحوم
"وفي الغد لما رأى الجمع الذين كانوا واقفين في عبر البحر
أنه لم تكن هناك سفينة أخرى سوى واحدة
وهي تلك التي دخلها تلاميذه،
وأن يسوع لم يدخل السفينة مع تلاميذه
بل مضى تلاميذه وحدهم". [22]
يقول القديس كيرلس الكبير أن معجزة سير السيد المسيح على المياه حدثت ليلًا في الظلام، وقد اكتشفتها الجماهير التي تترقب حركاته دون أن يخبرهم بها. [مَنْ يريد اقتفاء خطوات المسيح، وبقدر ما هو مُستطاع لدى البشر لكي يتشكل الإنسان حسب مثاله يلزمه ألا يحيا في حب الافتخار، ولا ينحرف سعيًا وراء المديح حين يمارس فضيلة، ولا يفتخر حين يدخل في حياة غير عادية بنسكٍ كثير، بل عليه أن يشتاق أن تراه عينا الله فقط، الذي يكشف الخفيات، وما يتم في الخفاء يظهره بأوضح إعلان.]
"غير أنه جاءت سفن من طبرية إلى قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز،
إذ شكر الرب". [23]
"فلما رأى الجمع أن يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه
دخلوا هم أيضًا السفن،
وجاءوا إلى كفرناحوم يطلبون يسوع". [24]
"ولما وجدوه في عبر البحر قالوا له:
يا معلم متى صرت هنا". [25]
يقصد بالجانب الآخر من البحر ساحل البحر الشمالي حيث توجد كفرناحوم في أرض جنيسارت.
يبدو أنهم وجدوه في المجمع اليهودي [59]، فقد اعتاد السيد أن يحضر في الاجتماعات الدينية (لو 4: 16). يليق بنا أن نطلبه في مجمع شعبه، إذ هو حال في وسطهم. إذ وجدوه أنه قد هرب منهم حين طلبوه ملكًا بدأوا يتعاملون معه كمعلم وليس كملكٍ.
*ماذا توقعت الجموع سوى أنه قد جاء إلى هناك عابرًا البحر بقدميه؟ إذ لم يكن ممكنًا أن يكون قد جاء بسفينة أخرى. إذ يقول الإنجيلي أنه وجدت سفينة واحدة بها التلاميذ. لذلك عندما جاءوا إليه بعد دهشة عظيمة لم يسألوه كيف عبرت، أو كيف بلغت إلى هناك، ولا طلبوا أن يفهموا آية عظيمة كهذه. وإنما ماذا قالوا؟ "يا معلم متى صرت هنا؟" (يو 6: 25)(680).
*عبر اليهود البحر الأحمر تحت قيادة موسى، لكن تلك الحالة مختلفة تمامًا عن هذه. فعل موسى ذلك كله بالصلاة كخادمٍ، أما المسيح ففعل بسلطانٍ مطلقٍ. هناك إذ هبت ريح الجنوب انسحبت المياه لتجعلهم يعبرون إلى أرض جافة، أما هنا فالمعجزة أعظم (خر 14: 21). فإن البحر احتفظ بطبيعته المناسبة له، وسار ربه علي سطحه، هكذا مختبرًا ما يقوله الكتاب: الماشي علي البحر كما علي رصيف" (أي 9: 8)(681).
4. أنا هو الخبز الحي
"أجابهم يسوع وقال:
الحق الحق أقول لكم أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات،
بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم". [26]
كثيرون لا يطلبون من الله إلاَّ أن تمتد يداه لتقدم لهم احتياجاتهم الزمنية؛ قليلون يشتهون اللقاء مع الله من أجل الله نفسه. كثيرون يطلبون من الله الخبز الرخيص لا الحب الثمين. الخبز النازل من السماء (خر 16: 4؛ نح 9: 15؛ مز 78: 24؛ مز 105: 40).
يركز على أنه واهب الخبز على مستوى عطية الآب لا على مستوى موسى [32]؛ وأنه هو اللَّه العطية "الخبز النازل من السماء. إنه يقوت الإنسان بكونه الحكمة الإلهية (أم 9: 1-5).
إنه واهب الخبز، أعظم من موسى.
هو الخبز النازل من السماء.
هو الخبز المشبع بكونه حكمة اللَّه.
خبز أفخارستي واهب الحياة الأبدية.
*الأسلوب اللين اللطيف ليس دائمًا نافعًا، بل توجد أوقات حين يحتاج المعلم إلى استخدام لغة حادة... فعندما جاءت الجماهير ووجدت يسوع وتملقته بالقول: "يا معلم متى صرت هنا؟" (يو 6: 25). فلكي يظهر أنه لا يطلب كرامة من بشرٍ إنما يتطلع إلي أمرٍ واحدٍ وهو خلاصهم، أجابهم بحدة، لكي يصحح موقفهم لا بهذه الطريقة فحسب بل وبالكشف والإعلان عن أفكارهم(682).
*وبخهم بكلامه، ولكنه عمل هذا برفق وإشفاق، لأنه لم يقل لهم: يا أيها الشرهون في الأكل، يا عبيد بطونكم، قد صنعت عجائب هذا مقدارها فلم تأتوا ورائي، ولا تعجبتم لأعمالي". لكنه خاطبهم بلطفٍ ورقةٍ، قائلًا: "تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم"(683).
*يلزمنا أن نطيع المسيح ونحبه، لا للحصول على الخيرات الجسدية بل لكي ننال منه الخلاص.
*نادرًا ما يُطلب يسوع من أجل يسوع نفسه(684).
"اعملوا لا للطعام البائد،
بل للطعام الباقي للحياة الأبدية،
الذي يعطيكم ابن الإنسان،
لأن هذا الله الآب قد ختمه". [27]
ختمه الآب ليقوم بعمل المصالحة، وليقبل نيابة عن المؤمنين الروح القدس ويستقر عليه. إنه قد ختم لكي نُختم نحن جميعًا فيه ونُحسب مسحاء لله.
*كأنه يقول لهم: إنني غذيت أجسادكم لكي تلتمسوا الطعام الآخر الباقي المغذي أنفسكم، أما أنتم فقد أسرعتم إلى الطعام الأرضي، فلهذا لست أقتادكم إلى هذا الطعام الأرضي، بل إلى ذلك الطعام الذي ليس من شأنه أن يقدم حياة وقتية بل أبدية، المغذي أنفسكم لا أجسادكم.
*ليس شيء أردأ وأكثر خزيًا من النهم، فإنه يجعل الذهن دنيئا والنفس جسدانية؛ إنه يسبب عمى، فلا يرى الشخص جيدا(685)
*"هذا الله الآب قد ختمه" [27] بمعنى "أرسله لهذا الهدف أن يحضر لكم طعامًا". تعلن الكلمة أيضًا تفاسير أخرى إذ يقول المسيح في موضع آخر: "ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق" (يو 3: 33)... يبدو لي هذا القول أنه يلمح هنا عن "الآب ختم" ليس ألا أنه "أقر" أو" أعلن بشهادته". فالمسيح في الحقيقة أقر عن نفسه، ولكنه إذ كان يحاور اليهود قدم شهادة الآب له(686).
*من يقدر أن يعطي الناس طعامًا يحفظهم إلى حياة أبدية؟ فإن هذا الأمر غريب تمامًا على طبيعة الإنسان. يليق بذاك الذي هو إله فوق الجميع. كأنه يقول: "أنا لست عاجزًا عن أن أعطيكم طعامًا يمكن أن يدوم ويثمر إلى حياة أبدية وفرح أبدي، لأنه بالرغم من أني أبدو كواحدٍ منكم، أي إنسان له جسد، إلاَّ إنني مُسحت وخُتمت من الله الآب للماثلة معه.
القديس كيرلس الكبير *ما هو الختم (يو 6: 27) إلا وضع علامة معينة؟ أن تختم يعني أنك تضع علامة على الشيء لكي لا يحدث لبس بينه وبين شيء آخر...
إذن "الآب ختمه"... أي منحه أمرًا معينًا جعله ليس موضوع مقارنة مع بقية البشر. لذلك قيل عنه: "اللَّه إلهك قد مسحك بزيت البهجة، فوق كل زملائك" (مز 45: 8). ماذا إذن "يختم" سوى أنه يكون مستثنى من الآخرين؟
هذا هو أهمية "فوق كل زملائك". يقول: "هكذا لا تحتقرني لأني ابن الإنسان، بل لتطلب مني لا الطعام البائد بل الباقي للحياة الأبدية. لأني ابن الإنسان بطريقة بها لست واحدًا منكم. أنا ابن الإنسان بطريقة بها الآب ختمني... أعطاني شيئًا خاصًا بي، فلا يحدث لبس بيني وبين البشرية، إنما تخلص البشرية بي(687).
"فقالوا له:
ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟" [28]
إذ سألهم أن يعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية سألوه كيف يتممون الأعمال الإلهية، أو الأعمال التي حسب مسرة الله. ماذا يُطلب منهم أكثر من طاعتهم للناموس؟ هل الناموس ناقص ويوجد ما هو أفضل منه؟
يقول القديس أغسطينوس أن السيد المسيح أوصاهم ألا يطلبوا الطعام البائد بل الباقي للحياة الأبدية، لذلك سأله الجمع: "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال اللَّه؟[28]. كأنهم يسألونه: كيف ننفذ هذه الوصية؟ وجاءت الإجابة هي: الإيمان بالذي أرسله.
الإيمان يجعل أعمالهم مقبولة لدى اللَّه. لم يرد السيد أن يميز بين الأعمال والإيمان بل أن يعلن أن الإيمان نفسه هو عمل. إنه الإيمان العامل بالمحبة (غلا 5: 6).
*لم يكن سؤالهم (يو 6: 28) بقصد صالح، ويمكننا أن نفترض أنه لم يكن نابعًا عن رغبة في التعلم، بل بالأحرى كان نتيجة كبرياء زائد. وكأنهم يحجمون عن تعلم شيء أكثر مما كانوا يعرفونه فعلًا.
كأنهم يقولون: "يكفينا أيها السيد الصالح كتابات موسى، فنحن نعرف أكثر مما نحتاج عن تلك الأمور التي ينبغي على الماهر في أعمال الله أن يقصدها، فما الشيء الجديد الذي ستزودنا به إذن بالإضافة إلى تلك الأمور التي كانت قد حُددت في ذلك الزمان؟ وأي شيء غريب ستعلمنا إياه ولم يكن قد انكشف لنا من الكلمات الإلهية؟"
كان التساؤل من قبيل الحماقة، وليس بدافع الإرادة النشطة.
*لم يقولوا هذا لكي يتعلموا ويعلموا (كما يظهر مما جاء بعد ذلك)، وإنما لكي يقدم لهم طعامًا مرة أخرى(688).
"أجاب يسوع وقال لهم:
هذا هو عمل الله:
أن تؤمنوا بالذي هوأرسله". [29]
جاءت الإجابة إنه ينقصهم أمر واحد، هو من صميم الناموس، وهو أن يؤمنوا به، بكونه المسيا الذي أشار إليه الناموس، بكونه مخلص العالم الذي أفسدته الخطية.
كلمة الإيمان هنا تحمل معنى الإيمان العملي الحي، حيث يلتصق به المؤمن ويتبعه في طريق الصليب.
*كان من الضروري أن يريهم أنهم كانوا لا يزالون بعيدين جدًا عن العبادة المرضية لله، وأنهم لا يعرفون شيئًا عن الأمور الصالحة الحقيقية. فإذ يلتصقون بحرف الناموس صار ذهنهم مملوء بالرموز والأشكال المجردة...
إن العمل الذي تمارسه النفس النقية هو الإيمان المتجه نحو المسيح.
والأسمى من ذلك بكثير هي الغيرة في أن يصير الإنسان حكيمًا في معرفة المسيح أكثر من الالتصاق بالظلال الرمزية.
"فقالوا له:
فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل؟" [30]
طلب اليهود من السيد آية ليؤمنوا به، فهل حسبوا إشباع الجمهور البالغ عدد الرجال بينهم حوالي 5000 نسمة بخمس خبزات شعير وسمكتين آية تافهة؟
طلبوا منه معجزة تضاهي التي حدثت في أيام موسى حيث أكل آباؤهم المن في البرية، أكلوا خبزًا نازلًا من السماء. لقد رأوا معجزة إشباع الجموع بخمس خبزات وسمكتين ولم يؤمنوا. لم يكن ممكنًا أن يروا أعظم من هذا لكن أذهانهم لم تعد قادرة على إدراك الحق.
"آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب،
أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا". [31]
"فقال لهم يسوع:
الحق الحق أقول لكم،
ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء،
بلأبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء". [32]
لكي يدركوا الحق كشف لهم عن أعماق عمل الله مع آبائهم حين عالهم في البرية أربعين عامًا بالمن النازل من السماء:
1. ليس موسى بل الله هو الذي أعطاهم المن.
2. لم يكن المن هو الخبز الحقيقي إنما هو رمز له.
3. الآن يقدم لهم الله الخبز الحقيقي الذي لا يُقارن به المن قط.
4. إنه هو الخبز الحقيقي النازل من السماء، والذي من أجله أُعطي لآبائهم المن رمزًا له.
*بمنتهى الغباوة يتَّوجون هامة موسى بهذا العمل (نزول المن من السماء)، لهذا يطلبون من المسيح آية مساوية لتلك الآية، دون أن يبدوا أي إعجاب على الإطلاق بالآية التي أراهم ليومٍ كاملٍ، حتى وإن كانت عظيمة، لكنهم يقولون إن عطية الطعام عليها أن تمتد لهم زمنًا طويلًا. لهذا نراه يخزيهم بشدة جدًا ليقروا ويقبلوا أن قدرة المخلص وتعليمه الذي هم على وشك قبوله هما الأكثر مجدًا.
*الآن أيضًا يقول لهم المخلص إنهم لا يفهمون، وأنهم يجهلون إلى أبعد حد ما في كتابات موسى. لأنه كان الأحرى بهم أن يعلموا في جلاءٍ تامٍ أن موسى كان يخدم أمور الله للشعب، وأيضًا أمور بني إسرائيل تجاه الله، وأنه لم يكن هو نفسه صانع عجائب، بل بالأحرى كان خادمًا وفاعلًا في خدمة تلك الأمور... فلنتعلم إذن بأكثر تمييز وتعقل أن نحترم آباءنا القديسين... لكن حين يكون الحديث عن المسيح المخلص علينا أن نقول: "مَنْ في السماء يعادل الرب؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟" (مز 89: 6).
*كان يمكنه أن يجيبهم: "أنا الآن أصنع عجائب أعظم مما فعلها موسى، فلا احتاج إلى عصا، ولا إلى صلاة، بل أفعل كل شيء من نفسي، وإن كنتم تذكرون المن انظروا فإني أعطيكم خبزًا. لكنه لم يكن ذلك الوقت مناسبًا لمثل هذه الأحاديث، فإن الأمر الوحيد الذي كان يرغبه بغيرة هو أن يقدم لهم طعامًا روحيًا. انظروا إلى حكمته غير المحدودة، وأسلوب إجابته!(689)
*قول المسيح لليهود: "ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء"، إذ أن المّن ليس هو من السماء، فكيف يقال أنه من السماء؟ إنما قيل ذلك كما يُقال "طيور السماء"، و"أرعد الرب من السماء".
وقوله: "الخبز الحقيقي من السماء"، إذ أن المسيح هو الخبز الحقيقي، ليس لأن الأعجوبة الخاصة بالمن كانت كاذبة، لكن لأنها كانت رسمًا ولم تكن الحقيقة بذاتها.
*لماذا لم يقل: "ليس موسى أعطاكم هذا بل أنا"، وإنما وضع الله موضع موسى وهو نفسه موضع المن؟ ذلك من أجل الضعف الشديد لسامعيه... لقد قادهم المسيح إليه قليلًا قليلًا(690).
*وعدهم يسوع بشيءٍ أعظم مما أعطاهم موسى. حقًا بموسى كان الوعد بملكوت، بأرضٍ تفيض لبنًا وعسلًا، بالسلام المؤقت، بكثرة الأبناء وصحة الجسد، وكل الأمور الأخرى التي للخيرات الوقتية، لكنها تحمل رمزًا روحيًا... كان الوعد بملء البطن على الأرض بالطعام الزائل، أما الآخر (يسوع) فيعد لا بالطعام الزائل بل بالطعام الباقي للحياة الأبدية(691).
"لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم". [33]
*في غباوة شديدة تفترضون أن المن هو الخبز النازل من السماء، بالرغم من أن المن قد أطعم جنس اليهود فقط في البرية، بينما يمتد العالم بأمم أخرى لا حصر لها... لكن حين أشرف زمان الحق على أبوابنا، "أبي يعطيكم الخبز الحقيقي الذي من السماء"، والذي كانت عطية المن ظلًا له في القديم. فهو يقول: لا يظن أحد أن ذاك المن كان بالحق هو الخبز من السماء، بل بالأحرى لصالح هذا الخبز القادر أن يطعم الأرض كلها، ويمنح العالم ملء الحياة.
المن الحقيقي هو المسيح ذاته، مُدركًا باعتبار أن الله الآب قد أعطاه تحت رمز المن للذين كانوا في القديم.
"وخبز السماء أعطاهم، أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز 78: 24)... واضح للجميع أنه لا يوجد خبز وطعام للقوات العقلية في السماء سوى ابن الله الآب الوحيد. إذن فهو المن الحقيقي، والخبز الذي من السماء لكل الخليقة العاقلة الذي يعطيه الله الآب.
يعدنا المسيح أن يهبنا الطعام الذي من السماء، أي التعزية بواسطة الروح، أعني المن الروحي. بهذا بالمن نتقوى على احتمال كل مشقةٍ وعزمٍ، وإذ نحصل عليه لا نسقط بسبب عجزنا في تلك الأمور التي ينبغي إلا ننحدر إليها.
كان الأجدر بهم أن يعرفوا أن موسى قد جلب فقط خدمة الوساطة، وأن العطية لم تكن من صنع يدٍ بشريةٍ، بل هي من عمل النعمة الإلهية، فتضع الروحي داخل إطار مادي كثيف، وعبَّر لنا عن الخبز الذي من السماء، الذي يعطي حياة لكل العالم، ولا يُطعم جنسًا واحدًا فقط.
*لم يقل أنه لليهود وحدهم بل لكل العالم، ليس طعامًا مجردًا بل الحياة، حياة أخري متغيرة. لقد دعاه"حياة" لأن الكل كانوا أمواتًا في الخطايا(692).
"فقالوا له:
يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز". [34]
كان اليهود يتوقعون بمجيء المسيا ينعمون مع السلطة والحكم والحرية كل أنواع الملذات الزمنية. قال الحاخام ميمونRab. Mayemon إنه متى جاء المسيا يقيم الأموات، فيجتمعون في جنة عدن، ويأكلون ويشربون ويصيرون في تخمة كل أيام العالم. تُبنى بيوتهم بالحجارة الكريمة، وأسرتهم بالحرير الناعم، وتفيض الأنهار بالخمر والزيت المخلوط بالتوابل. سينزل المن عليهم له مذاقات متنوعة، ويجد كل إسرائيلي في طبقه ما يلذ له. إن اشتهى السمين وجده. يذوقه الشاب فيجده خبزًا والشيخ يجده عسلًا والأطفال زيتًا. هكذا ستكون أيام المسيح القادمة. سيهب إسرائيل سلامًا ويجلس في جنة عدن(693)...
*بينما كان مخلصنا المسيح وبكلمات كثيرة - إن جاز للمرء أن يقول - يجذبهم بعيدًا عن التصورات الجسدانية، وبتعليمه الكلي الحكمة يحلق في التأمل الروحي، فإنهم لا يبتعدون عن منفعة الجسد. وإذ يسمعون عن الخبز الذي يعطي حياة للعالم يصورون لأنفسهم خبز الأرض "لأن إلههم بطنهم" (في 3: 19)، كما هو مكتوب. وإذ ينهزمون بشرور البطن يستحقون سماع القول: "مجدهم في خزيهم".
"فقال لهم يسوع:
أنا هو خبز الحياة،
من يقبل إلي،ّ فلا يجوع،
ومن يؤمن بي، فلا يعطش أبدًا". [35]
اعتاد السيد المسيح في أحاديثه الأخرى أن يقدم شهودًا أنه يعلن الحق، تارة يعلن أن الآب يشهد له، وأخرى يقتبس نبوات الأنبياء، وأخرى يقدم آياته وعجائبه. أما هنا فكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم(694) لم يورد شهودًا وهو يعلن عن نفسه أنه الخبز النازل من السماء، لأنهم شاهدوا ولمسوا كيف أشبعهم بخبزات قليلة. يقول القديس إنه يعلن عن لاهوته، فمن يقترب إليه يشبع ولا يجوع قط.
*قال لهم "أنا هو خبز الحياة" [35] لكي يوبخهم، لأنهم عندما ظنوا الطعام عاديًا جروا إليه، وليس عندما تعلموا أنه من نوع روحي(695)
*الآن أنا حاضر أحقق وعدي في حينه. "أنا هو خبز الحياة"، ليس خبزًا جسدانيًا، فهو لا يسد الإحساس بالجوع فقط، ويحرر الجسم من الهلاك الناشئ عنه، بل يعيد تشكيل كل الكائن الحي بأكمله إلى حياة أبدية. ويصير الإنسان الذي خلقه ليحيا إلى الأبد سائدًا على الموت. يشير بهذه الكلمات إلى الحياة والنعمة التي ننالهما بواسطة جسده المقدس، الذي به تنتقل خاصية الابن الوحيد هذه، أي الحياة.
*حينما دُعينا إلى ملكوت السماوات بالمسيح - لأن ذلك حسب ظني هو ما يشير إليه الدخول إلى أرض الموعد، فإن المن الرمزي لم يعد بعد يخصنا، لأننا لسنا نقتات بعد بحرف موسى، بل لنا الخبز الذي من السماء، أي المسيح، هو يقوتنا إلى حياةٍ أبديةٍ، بواسطة زاد الروح القدس، كما بشركة جسده الخاص، الذي يسكب فينا شركة الله، ويمحو الموت الذي حلّ بنا من اللعنة القديمة.
*إني اتفق معكم أن المن قد أُعطي بواسطة موسى، لكن الذين أكلوا آنذاك جاعوا. وأقر معكم أنه من جوف الصخرة خرج لكم ماء، لكن الذين شربوه قد عطشوا، وتلك العطية التي سبق الحديث عنها لم تعطهم سوى تمتعًا مؤقتًا، لكن "من يقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا". ما الذي يعد به المسيح إذن؟ إنه لا يعد بشيءٍ قابلٍ للفساد، بل بالأحرى بذلك السرّ -الألوجية- في شركة جسده ودمه الأقدسين، فيستعيد الإنسان بكليته عدم الفساد، ولا يحتاج أبدًا إلى أي شيء من تلك التي تدفع الموت عن الجسد، أعني الطعام والشراب. إن جسد المسيح المقدس يعطي حياة لمن يكون الجسد فيهم، فيحفظهم كلية في عدم فساد، إذ يختلط بأجسادهم، لأننا ندرك أنه ما من جسدٍ آخر سوى جسده له الحياة بالطبيعة، هذا الذي لا يعادله جسد آخر.
*إذ نقترب إلى تلك النعمة الإلهية والسماوية، ونصعد إلى شركة المسيح المقدسة، بذلك وحده نقهر خداع الشيطان. وإذ نصبح شركاء الطبيعة الإلهية (2 بط 1: 4) نرتفع إلى الحياة وعدم الفساد.
*أنتم تطلبون خبزًا نازلًا من السماء، إنه أمامكم لكنكم لا تريدون أن تأكلوا. "ولكنني قلت لكم إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون" [36](696).
"ولكني قلت لكم أنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون". [36]
*رأوا الرب، الله بالطبيعة، حينما أطعم جمعًا غفيرًا لا يُحصى، كان قد جاء إليه، بخمسة أرغفة شعير وسمكتين صغيرتين، كان قد قسمها لهم. لكنهم رأوا ولم يؤمنوا بسبب العمى الذي أغشى فهمهم كضباب بسبب الغضب الإلهي... لأنهم متمسكون بعثرات لا حصر لها، ومقيدون بحبال تعدياتهم التي لا فكاك منها (أم 5: 22). لم يقبلوه حين جاء إليهم، وهو القادر على حل قيودهم وتحريرهم. لهذا السبب كان قلب هذا الشعب غليظًا.
"كل ما يعطيني الآب فإليّ يقبل،
ومن يقبل إليّ، لا أخرجه خارجًا". [37]
يوجه القديس يوحنا الذهبي الفم أنظارنا هنا إلى دور الله ودور الإنسان، فالإنسان لن يقدر أن يؤمن بذاته، بل بجاذبية الله له، ونعمته المجانية العاملة فيه. لكن لا يتمتع الإنسان بهذا الإيمان قسرًا، بل بكامل حريته يقبل إلى السيد الذي يحفظه ويقدسه ولا يطرده خارجًا عنه.
*إنه يشير هنا إلى شعوب الأمم الموشكين أن يؤمنوا به إيمانًا كاملًا إني لن أُخرج من يقبل إليّ خارجًا، أي إنني لن أطرحه كإناءٍ عديم النفع... كإنسانٍ مُحتقر. ولن يبقى دون نصيب في اهتماماتي، بل سوف أجمعه في مخزني، وينزل ساكنًا في المنازل السماوية، ويرى نفسه مالكًا لكل رجاء يفوق إدراك البشر.
*إن ما يعلنه هنا ليس إلا هذا: "الإيمان بي ليس بالأمر العادي، لا يأتي خلال براهين بشرية، بل يحتاج إلى إعلان من فوق، وإلي نفس تدبيرها حسن يجتذبها الله لكي تتقبل الإعلان(697).
"لأني قد نزلت من السماء،
ليس لأعمل مشيئتي،
بل مشيئة الذي أرسلني". [38]
جاء من السماء، لا ليعمل حسب الدوافع البشرية، بل حسب حكمته الإلهية غير المحدودة، حسب صلاحه ورحمته. فالأهواء اليهودية تزدري بالعشارين والخطاة، وتغلق باب السماء أمام الأمم، أما مراحم الله فتحتضنهم. جاء الابن الكلمة ليعلن عن هذه المراحم الإلهية.
*"قد نزلت من السماء"، أي صرت إنسانًا حسب مسرة الله الآب الصالحة، ورفضت أن أنخرط في أعمال غير موافقة لمشيئة الله، حتى أحقق لهم -أولئك الذين يؤمنون بي- الحياة الأبدية والقيامة من الأموات، محطمًا قوة الموت. واحتمل التحقير من اليهود والشتائم والسب والإهانات والجلدات والبصق، والأدهى من ذلك شهادة الزور، وآخر الكل الموت.
ستفهمون لماذا لم يكن المسيح مخلصنا يريد الآلام التي على الصليب، ومع ذلك أرادها لأجلنا، ولأجل مسرة الله الآب الصالحة، لأنه حين كان على وشك الخروج للآلام أيضًا، جعل حديثه إلى الله (الآب) قائلًا ما قاله في صيغة صلاة: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (مت 26: 39). لأنه وهو الله الكلمة، غير المائت، وغير الفاسد، والحياة ذاتها بالطبيعة، لم يقدر أن يرتعب أمام الموت. وإني أعتقد إن ذلك واضح للجميع، إذ وهو له أن يرتعد أمام الموت حين كان على مشارفه، لكن يُظهر أنه بالحقيقة إنسان... باتحاد الطبيعة البشرية بالكلمة أُعيدت إلى ما يليق بالله من إقدامٍ، واستعيدت إلى غرض شريف، أعني أن الطبيعة البشرية لم تصنع ما يبدو صالحًا لإرادتها الذاتية بل بالأحرى تتبع القصد الإلهي، مهيأة على الفور للركض إلى مهما يدعوها إليه ناموس خالقها.
أرأيتم كيف أن المسيح لم يكن يريد الموت بسبب الجسد، ولا هوان التألم، ومع هذا أراده، حتى يتمم مقاصد مسرة الآب الصالحة لأجل العالم أجمع، أي حياة وخلاص الجميع.
"وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني:
أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئًا،
بل أقيمه في اليوم الأخير". [39]
الله يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، لكنه لا يلزمهم بالخلاص قهرًا كما لو كانوا قطعًا حجرية، بل يتعامل معهم ككائنات عاقلة لها كمال الحرية.
*ماذا تقول؟ هل إرادتك شيء، وإرادته شيء آخر؟لئلا يشك أحد في هذا صاحب هذا بما جاء بعد ذلك. ما قاله هو هذا: "جئت لا لأفعل شيئًا إلا ما يريده الآب،فليست لي إرادة من ذاتي تختلف عن تلك التي للآب، فإن كل ما للآب هو لي، وما لي هو للآب. فإن كان ما للآب وما للابن مشترك فبحق يقول: "ليس لأعمل مشيئتي"... لأني كما قلت في موضع آخر إنه كان يحجب الأمور العالية إلى حين ويرغب في أن يبرهن أنه لو قال: "هذه هي إرادتي" لكانوا يحتقرونه. لذلك يقول: "لأنني أتعاون مع تلك الإرادة"، راغبًا أن يردعهم بالأكثر. وكأنه يقول: "ماذا تظنون؟ هل تغضبوني بعدم إيمانكم؟ لا، فإنكم تغضبون أبي "وهذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئًا"[39]. هنا يظهر أنه ليس في حاجة إلى خدمتهم، فإنه لم يأتِ لنفعه الخاص، وإنما لأجل خلاصهم لا لينال كرامة منهم... فما جاء قبل ذلك وبعده هو أنه يسعي بكل غيرة أن يظهر بأنه جاء لأجل خلاصهم. وهو يقول أنه يجلب مجدًا للآب حتى لا يتشككوا فيه(698).
"لأن هذه مشيئة الذي أرسلني:
أن كل من يرى الابن ويؤمن به
تكون له حياة أبدية،
وأنا أقيمه في اليوم الأخير". [40]
*إن خلاصنا ونجاتنا من الموت واستعادتنا إلى الحياة هي عمل الثالوث القدوس كله... من خلال الثالوث القدوس كله تأتي الصالحات لأجلنا، فيكون الله الآب هو كل شيء في الكل بالابن في الروح القدس.
*من يؤمن به يأكل الخبز الحيّ(699).
*لماذا يركز دومًا علي القيامة؟ لكي لا يحكم الناس علي عناية الله خلال الأمور الحاضرة وحدها، كمن لا يتمتعون بالثمار هنا، فيحل بهم القنوط، وإنما يلزمهم أن ينتظروا الأمور القادمة. كما لا يستخفون بالله لأنهم لا يعاقبون علي خطاياهم، بل يتطلعوا إلي الحياة الأخرى. الآن هؤلاء الناس لا يقتنون شيئًا (من شرهم)، أما نحن فيلزمنا أن نقتني بالآلام ربحًا وذلك بتذكرنا المستمر للقيامة... إنه توجد قيامة، وهي علي أبوابنا وليست بعيدة عنا ولا علي مسافة منا." لأنه بعد قليل جدًا سيأتي الآتي ولا يبطئ" (عب 10: 37)(700).
"فكان اليهود يتذمرون عليه،
لأنه قال أنا هو الخبز الذي نزل من السماء". [41]
تذمر اليهود عليه لأنه في حديثه يؤكد لهم أنه أعظم من موسى بلا حدود، وأنه وحده قادر أن يهب الحياة الأبدية، وأن أصله سماوي. لقد سمعوا عن ملائكة نزلوا من السماء، لكنهم لم يسمعوا قط عن إنسانٍ أصله سماوي.
*هو نفسه "الخبز النازل من السماء"، الخبز الذي ينعش الناقصين ولا ينقص. خبز يمكن أن يُؤكل (يُستطعم) ولا يمكن أن يتبدد. هذا الخبز يشير إليه المن. فقد قيل "أعطاهم خبز السماء، أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز 77: 24، 25LXX).
من هو خبز الملائكة إلاَّ المسيح؟
ولكن لكي يأكل الإنسان خبز الملائكة، صار رب الملائكة إنسانًا. فإنه لو لم يصر إنسانًا ما كان له جسده، وإن لم يكن له جسده ما كنا نأكل خبز المذبح.
لنسرع إلى الميراث، متطلعين إلى إننا قد قبلنا عربونا عظيمًا منه.
يا إخوتي ليتنا نشتاق إلى حياة المسيح، متطلعين إلى أننا أمسكنا بعربون موت المسيح.
*"الذين آلههتم بطنهم، ومجدهم في خزيهم" (في 3: 19)، هكذا قال بولس عن بعض الأشخاص في رسالته إلى أهل فيلبي. الآن يظهر واضحًا أن هؤلاء اليهود هم من هذا النوع، وذلك مما حدث قبلًا، ومما قالوه عندما جاءوا إلى المسيح. فإنه عندما أعطاهم خبزا وملأ بطونهم قالوا إنه نبي، وطلبوا أن يقيموه ملكًا. ولكن عندما علمهم عن الخبز الروحي والحياة الأبدية، عندما قادهم بعيدًا عن المحسوسات وتحدث عن القيامة ورفع أذهانهم إلي العلويات، وكان يليق بهم أن يعجبوا بذلك إذا بهم يتذمروا ويبتعدوا(701).
"وقالوا: أليس هذا هو يسوع ابن يوسف،
الذي نحن عارفون بأبيه وأمه،
فكيف يقول هذا إني نزلت من السماء؟" [42]
*كان بالأولى أن يدركوا إن المسيح المتوقع مجيئه إلينا ليس بدون الجسد أو تدبير جسماني، بل يأتي في هيئة بشرية كما سبق التنبؤ عنه، أنه يوجد في الرداء المشترك بين الجميع، لهذا يخبرنا صوت النبي أن العذراء القديسة "تحبل وتلد ابنًا" (إش 7: 14)... وقد "أقسم لداود بالحق" (مز 132: 11LXX). فهو لا يرجع عما وعد به أن "من ثمر بطنك أجعل على كرسيك" كما هو مكتوب. وتنبأ أيضًا أنه "يخرج قضيب من جذع يسى" (إش 11: 1)... لكن إذ يفهم اليهود تدبير الجسد الذي لمخلصنا المسيح، ومع معرفتهم لأمه وأبيه، مع أن (يوسف) لم يكن أباه فعلًا، لم يخجلوا أن يتذمرا، لأن المسيح قال إنه "نزل من السماء".
*يقول اليهود عن المسيح "أليس هذا هو يسوع ابن يوسف؟" فقد استبان واضحًا أنهم ما كانوا قد عرفوا بعد ولادته العجيبة البديعة، لهذا دعوه ابن يوسف. لم يقولوا هذا لأنه كان ابن يوسف، لكنهم قالوه لأنهم لم يستطيعوا أن يسمعوا عن ولادته العجيبة.
*كان هؤلاء اليهود بعيدين عن الخبز الذي من السماء، ولم يعرفوا كيف يجوعوا إليه...
كانت لهم أنياب قلوبهم ضعيفة، لهم آذان مفتوحة لكنهم صم، ورأوا لكنهم وقفوا عميانًا. هذا الخبز بالحق يتطلب جوعًا للإنسان الداخلي. لهذا يقول في موضع آخر: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ لأنهم يشبعون" (مت 5: 6). يقول الرسول بولس أن المسيح بالنسبة لنا برّ (1 كو 1: 30). لهذا من يجوع إلى هذا الخبز يجوع إلى البرّ، ذاك البرّ النازل من السماء، البرّ الذي يعطيه اللَّه، لا الذي يفعله الإنسان لنفسه...
ما هو برّ اللَّه للإنسان، أن يكون بارًا باللَّه.
لكن مرة أخرى ماذا كان برّ هؤلاء اليهود؟ البرّ الذي صنعوه بقوتهم، وعليه اتكلوا، وبهذا أعلنوا عن أنفسهم أنهم يتممون الناموس بفضيلتهم. مع أنه لا يتمم أحد الناموس إلا الذي تعينه النعمة، أي يعينه الخبز النازل من السماء(702).
"فأجاب يسوع وقال لهم:
لا تتذمروا فيما بينكم". [43]
بالرغم من النبوات التي تؤكد أن المسيا يأتي من نسل داود، وأنه مولود من عذراء، هاجمه اليهود متطلعين إليه باستخفاف كابن لمريم ويوسف المعروفين لديهم تمامًا. أما هو ففي حنو وجَّه أنظارهم إلى أبيه السماوي الذي وحده يقدر أن يكشف لهم عن شخص الابن المتجسد الواهب القيامة.
*نظر اليهود إلى يسوع وهم يجهلون أن أباه في السماء، دون أن يعترفوا أنه بالطبيعة ابن إله الجميع، بل ناظرين فقط إلى أمه الأرضية وإلى يوسف. وإذ يجيبهم بحنوٍ بالغ سرعان ما يعمل بالالتفات إلى كرامته الإلهية لأجل نفعهم. إنه كإله يعرف تذمرهم الداخلي وما يدور بأفكارهم. من خلال هذه الأمور عينها يدفعهم إلى إدراك أنهم قد سقطوا عن الحق، وكوَّنوا عنه فكرًا بالغ الحقارة، وكان يليق بهم أن يقدموا الكرامة الإلهية، لذاك الذي يعرف القلوب تمامًا، ويختبر حركات الفكر، وهو لا يجهل ما يدور في نفوسهم من فكرٍ... يكشف لهم أن معرفته هي من عمل النعمة العلوية...
لنفعهم يؤكد لهم الوعد أنه سيقيم من الموت من يؤمن به، ومن ثم يبرهن حتى لأكثر الناس جهلًا أنه هو الله حقًا وبالطبيعة. لأن القدرة على الإقامة من الموت... تخص طبيعة الله وحده، ولا تُنسب إلى أي مخلوق.
"لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني،
وأنا أقيمه في اليوم الأخير". [44]
كيف يجتذبه الآب؟ يجيب القديس أغسطينوسبأن الإنسان يُجتذب بما يُبتهج به.
إن قدمت عشبًا يجتذب القطيع إليه، وإن قدمت فاكهة تجتذب الطفل. هكذا يجتذب الآب الإنسان بأن يقدم له المخلص بكونه شهوته، فيجتذبه به. الإنسان الذي يدرك في نفسه أنه خاطئ ضائع وإذ يشتاق أن يهرب من الجحيم ويبلغ إلى السماء يجد في دم المسيح جاذبية له.
كأنه يقول لهم: "لماذا تتذمرون فيما بينكم؟ فإنكم لا تستطيعون أن تؤمنوا ما لم يجتذبكم الآب". إنه يجتذب النفوس ليس بمحاباة، بل من يطلب يتمتع بالإيمان، لكنه لن يجتذب أحدًا بغير إرادته.
يقول القديس أغسطينوس:
[يمكن أن يأتي إنسان إلى الكنيسة بغير إرادته، ويمكنه أن يقترب من المذبح بغير إرادته، ويشترك في الأسرار قهرًا، لكنه لا يقدر أن يؤمن ما لم يرد ذلك... الإيمان ليس شيئًا يتم بالجسد. اسمع الرسول: "بالقلب يؤمن الإنسان للبرّ". ماذا يلي ذلك... "وباللسان يعترف للخلاص" (رو 10: 10). هذا الاعتراف يصدر عن جذر القلب. أحيانًا تسمع إنسانًا يعترف ولا تعرف إن كان يؤمن أم لا...
إذن حيث أن الإنسان بالقلب يؤمن بالمسيح، الأمر الذي لا يفعله أحد بغير إرادته، ولا من يُجتذب ضد إرادته، كيف نجيب على السؤال: "لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني" [44]؟
قد يقول قائل: "إن كان يُجتذب، فإنه يذهب بغير إرادته. وإن كان يذهب بغير إرادته فهو يؤمن... لأننا لسنا نذهب إلى المسيح بأقدامنا بل بالإيمان؛ وليس بعاطفة الجسد بل بغير إرادته...
لا تظن أنك تُجتذب بغير إرادتك. فالذهن يُسحب أيضًا بالحب.
يلزمنا أيضًا ألا نخاف لئلا نُلام بحسب هذه الكلمة الإنجيلية التي للكتاب المقدس بواسطة أولئك الذين يثقلون بالكلام وهم بعيدون عن حركة العمل، وبعيدون عن الإلهيات، لئلا يُقال لنا: كيف يمكنني أن أؤمن بإرادتي إن كنت لا أُجتذب؟" أقول: لا يكفي أن تُجتذب بالإرادة، فإنه يمكنك أن تجتذب حتى بالبهجة. "تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك" (مز 37: 4). توجد لذة للقلب الذي يجد عذوبة في ذاك الخبز الذي من السماء. علاوة على هذا، إن كان بحق جاء في القطعة الشعرية: "كل إنسانٍ ينجذب بشهوته"، فإنه ليس خلال الضرورة بل باللذة، لا بالالتزام بل بالبهجة ينجذب؛ كم بالأكثر يلزمنا القول أن الإنسان ينجذب إلى المسيح عندما يتلذذ بالحق، عندما يبتهج بالتطويب، يبتهج بالبرّ وبالحياة الأبدية هذه كلها التي هي المسيح؟(703)]
"إنه مكتوب في الأنبياء:
ويكون الجميع متعلمين من الله.
فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إلي". [45]
جاء ذلك في إرميا 54: 13؛ وإشعياء 31: 34. كيف يعلمنا الله؟ بأن يعلن حبه العملي لنا خلال صليب ابنه. كانوا قبلًا في رعبٍ من الله بكونه الديان، أما وقد أعلن حبه لهم بالصليب علمهم واجتذبهم إليه لكي يتمتعوا بالحياة الأبدية.
يعلق القديس كيرلس الكبير على قول السيد المسيح بأن الجميع يكونون متعلمين من الله، قائلًا: [حال كون الله آبًا، وهكذا يُدرك عنه ويُكرز به، فإنه بهذا يغرس معرفة ابنه الذاتي في سامعيه. وهكذا أيضًا يُقال عن الابن، أنه في الحقيقة منه بالطبيعة، فهو يعلن عن الآب. لهذا يقول: "أنا أظهرت اسمك للناس" (يو 17: 6)... يزرع فينا الآب معرفة ابنه الذاتي، ليس بصوتٍ يشق عنان السماء من فوق، أو يلف الأرض لفًا كالرعد، بل بالاستنارة الإلهية، مشرقًا فينا لفهم الكتاب المقدس المُوحى به.]
*ألا ترون كرامة الإيمان، وأنه ليس من إنسان ولا بإنسان يتعلمون هذا، بل بالله نفسه؟(704)
*مكتوب في الأنبياء: "ويكون الجميع متعلمين من اللَّه"[45]. لماذا أقول هذا يا أيها اليهود؟ الآب لا يعلمكم، فكيف يمكنكم أن تعرفوني؟ فإن كل رجال ذلك الملكوت سيتعلمون من اللَّه، ولا يتعلمون من بشرٍ. وإن كانوا يتعلمون بواسطة الناس إلا أن ما يفهمونه هو عطية داخلية لهم، يشرق في داخلهم، ويُعلن فيهم.
ما هو دور البشر الذين يعلنون عن الأخبار من الخارج؟ ما أفعل حتى الآن هو من الخارج. إنني أسكب أصوات ألفاظ الكلمات في آذانكم. ما قيمة ما أقوله أو ما أتكلم به إن لم يُعلن لكم عنه في الداخل؟
من الخارج يوجد من يزرع الشجرة، في الداخل خالق الشجرة. الذي يغرس والذي يروي يعملان في الخارج؛ هذا ما نفعله نحن، لكن "ليس الغارس شيئًا، ولا الساقي، بل اللَّه الذي ينمي" (1 كو 3: 7). بمعنى هؤلاء كلهم يتعلمون من اللَّه. من هم هؤلاء كلهم؟ "كل من سمع من الآب وتعلم يقبل إليّ" [45]. انظروا كيف يجتذب الآب، إنه يبهج بتعليمه لا باستخدام الإلزام. انظروا كيف يجتذب: "يكون الجميع متعلمين من اللَّه" [45]. هذا هو جذب الآب(705).
*إننا نعرف كيف يعلم اللَّه أولئك الذين هم ودعاء اللَّه. فإن الذين يسمعون من الآب ويتعلمون يأتون إلى ذاك الذي يبرر الفجار (يو 45:6؛ رو 5:4). لكي يحفظوا برّ اللَّه ليس فقط في ذاكرتهم، بل في تنفيذهم للبرّ. هكذا من يفتخر، يفتخر لا في نفسه، بل في الرب (1 كو 13:1)، ويفيض حمدًا.
"ليس أن أحدًا رأي الآب إلا الذي من الله،
هذا قد رأي الآب". [46]
لا يعلمهم بأن يروه وجهًا لوجه ولا بحديثٍ صوتي مباشر، وإنما بعمل روحه القدوس فيهم. لم يرَ أحد قط الله إلا ابنه الذي في حضنه هو يراه ويخبر عنه (يو 1: 18).
يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح هنا يعني بطريقة ضمنية العظيم في الأنبياء موسى، فقد ظن بعض اليهود أنه إذ دخل إلى الظلمة الكثيفة رأى بعينيه الجسديتين الله الذي لا يُرى. هنا يؤكد السيد المسيح أنه هو وحده يرى الآب لأنه مولود منه. [لكن كيف وبأية وسيلة يرى الآب، أو يراه الآب، إن لساننا يعجز عن ذكر هذا الأمر، لكن علينا أن ندركه بطريقة إلهية.]
*رب قائلٍ يعترض: ماذا إذن، ألم يُكتب: "أن ملائكة الصغار كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات" (أنظر مت 10:8)؟ نعم لكن الملائكة ترى اللٌه ليس كما هو، بل قدر ما تحتمل. إذ يقول يسوع المسيح: "ليس أن أحدًا رأي الآب إلا الذي من الله، هذا قد رأي الآب". فالملائكة ترى اللٌه قدر ما تحتمل، ورؤساء الملائكة يرون قدر ما يحتملون، والعروش والسلاطين يرون أكثر من السابقين، لكنها لا ترى كما يستحق اللٌه(706).
فالابن، مع الروح القدس، هو وحده الذي يقدر أن يراه بحق كما هو، لأنه:"يفحص كل شيء حتى أعماق اللٌه"(1 كو10:2). هكذا الابن الوحيد مع الروح القدس يدرك أن الأب في كماله إذ قيل: "لا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 27:11).
إذ يرى الكل حسب احتماله، لذلك فهو يرى الآب بكماله، معلنًا اللٌه "الآب"خلال الروح، إذ الابن مع الروح "واحد" مع الآب في اللاهوت.
المولود يعرف الوالد، والوالد يعرف المولود.
إن كان الملائكة جاهلين "بمعرفة اللٌه في كماله" فلا يخجل أحدكم من الاعتراف بجهله. حقا إنني أتكلم الآن كما يتكلم أي إنسان في مناسبة ما، أما كيفية الكلام فلست أعرفه. إذن كيف أستطيع أن أخبركم عن واهب الكلام نفسه؟!
وإذ لا اقدر أن أخبركم عن سماتالنفس المميزة لها، فكيفأصف واهب النفس؟!(707)
*نحن نؤمن بإله واحد، الآب غير المفحوص، غير المنطوق به، الذي"لم يره أحد من الناس" بل "الابن الوحيد هو خبر" (يو28:1)، لأن" الذي من الله يرى الآب" (1تي 16:6)، هذا الذي تراه الملائكة على الدوام في السماوات(مت 10:18)حسب درجة كل منهم. أما استنارة وجه الآب"في كماله" فستبقى في نقاوتها للابن مع الروح القدس(708)
*لقد أوضح هو نفسه أيضًا هذا وأظهر لنا المعنى الذي يقصده بقوله: "فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إليّ"، أضاف للفور ما يمكننا أن نفهمه: "ليس أن أحدًا رأى الآب إلا الذي من اللَّه، هذا قد رأى الآب"[46].
ما هذا الذي يقوله؟ أنا أرى الآب، وأنتم لا ترونه، ومع هذا فأنتم لا تأتوا إليّ ما لم يجتذبكم الآب. وما هو اجتذاب الآب لكم سوى أنكم تتعلمون من الآب؟ وماذا تتعلمون من الآب إلا أن تسمعوا عنه؟ ماذا تسمعون عنه إلا أن تسمعوا كلمة الآب، أي تسمعون مني؟ في هذه الحالة عندما أقول: "كل من سمع من الآب وتعلم" يلزمكم أن تقولوا داخل أنفسكم: لكننا لم نرَ الآب قط، فكيف نسمع منه؟ اسمعوا مني، فإنه "ليس أن أحدًا رأى الآب إلا الذي من اللَّه، هذا قد رأى الآب". أنا أعرف الآب، أنا من الآب، ولكن بكوني الكلمة التي منه، ليس الكلمة التي تعطي صوتًا وتعبر، بل الكلمة الذي يبقى مع المتكلم ويجتذب السامع(709).
"الحق الحق أقول لكم
من يؤمن بي فله حياة أبدية". [47]
يعلن السيد المسيح في حديثه هذا أن المؤمن:
1. يجتذبه الآب خلال أعمال ابنه الخلاصية الجذابة.
2. يسمع تعاليمه.
3. يقبل الخلاص المقدم له.
4. يقتات بالخبز السماوي.
5. يُحفظ في الإيمان.
6. لا يهلك بل يقوم في اليوم الأخير.
7. يتمتع بالحياة الأبدية.
*باعتباره الحياة الأبدية يعد أن يعطي نفسه للذين يؤمنون به، أي "يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا" (أف 3: 17).
*ليت ما يلي ذلك يحثنا: "الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة الأبدية". إنه يود أن يعلن ذاته من هو. إنه يقول من يؤمن بي يقتنيني. لأن المسيح نفسه هو اللَّه الحقيقي والحياة الأبدية. لذلك يقول: من يؤمن بي يدخل فيّ، ومن يدخل فيّ أكون له. وماذا يعني "أكون له"؟ تكون له الحياة الأبدية(710).
"أنا هو خبز الحياة". [48]
"آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا". [49]
هذا المن لم يحفظ أجسادهم من الموت، ولا وهبهم حياة أبدية. هذا حسب مفهومهم هم، إذ كانوا يعتبرون آباءهم قد هلكوا في البرية، وليس لهم حياة أبدية. أكلهم المن لم يحفظهم من غضب الله الذي حل عليهم بسبب تمردهم المستمر وتذمرهم في البرية (1 كو 10: 3-5).
*إنه يؤسس شيئًا لكي يجتذبهم، وهو أنهم يحسبون قد تأهلوا إلى أمور أعظم مما لآبائهم، يقصد الناس العجيبين الذين عاشوا في أيام موسى، فإنه بعد قول أن الذين أكلوا المن ماتوا أكمل "إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد"[51](711).
"هذا هو الخبز النازل من السماء
لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت". [50]
مقابل هذا جاء السيد ليقدم جسده خبزًا يسند أجسادهم فيمجدها ويهبها شركة مع النفوس إلى الأبد.
*الابن وحده وبحق هو خبز الحياة، والذين اشتركوا فيه مرة واختلطوا به بطريقة ما من خلال الشركة معه فقد ظهر أنهم فوق رباطات الموت نفسه. وقد سبق أن قلنا مرارًا أن المن يؤخذ بالأحرى كرمزٍ أو ظلٍ للمسيح، وكان يمثل خبز الحياة، ويسندنا المرتل في هذا صارخًا بالروح: "أعطاهم خبزًا من السماء، أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز 78: 24-25)... هنا الكلام موجه لنا نحن، لأنه أليس من الحماقة والجهل الشديد أن يفترض أن الملائكة القديسين الذين هم في السماء، بالرغم من أن لهم طبيعة غير جسدية، يمكنهم أن يشتركوا معنا في طعامٍ ماديٍ كثيفٍ؟
*إلى يومنا هذا نتقبل الطعام المنظور، فالسرّ شيء، وفاعلية السرّ أمر آخر.
كم من كثيرين يتناولون من المذبح ويموتون؟ يموتون حقًا بتناولهم إيّاه! لذلك يقول الرسول: "يأكل ويشرب دينونة لنفسه" (1 كو 11: 29). فإنه أليس ما أخذه في فمه من الرب كان سُمًّا ليهوذا. ومع ذلك أخذه، وعندما تناوله دخله العدو، ليس لأن ما تناوله أمر شرير، وإنما لأنه هو شرير، تناول ما هو صالح بطريقة شريرة.
إذن انظروا أيها الإخوة إنكم تتناولون الخبز السماوي بمعنى روحي، قدموا طهارة للمذبح.
فمع أن خطاياكم يومية فعلى الأقل لا تسمحوا أن تكون مميتة.
قبل أن تقتربوا إلى المذبح ضعوا في اعتباركم حسنًا أن تقولوا: "اغفر لنا ما علينا، كما نغفر نحن أيضًا لمن لنا عليهم". أنتم تغفرون فيُغفر لكم.
اقتربوا في سلام، إنه خبز لا سم.
ولكن انظروا إن كنتم تغفرون، فإنكم إن لم تغفروا تكذبون، وتكذبون على ذاك الذي لا يُخدع. يمكنك أن تكذب على اللَّه لكنك لا تقدر أن تخدعه(712).
"أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء.
إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد،
والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم". [51]
*أموت لأجل الجميع، لكي أحيي الجميع بذاتي. وقد صيَّرت جسدي فدية لأجل الجميع. لأن الموت سوف يموت في موتي، ومعي ستقوم طبيعة الإنسان الساقطة. فمن أجل هذا صرت مثلك أيها الإنسان، صرت من ذرية إبراهيم حتى "أشابه أخوتي في كل شيء" (عب 2: 17).
*يعطي جسد المسيح حياة لكل من يشترك فيه، لأنه يطرد الموت، حتى يأتي ويدخل إلى أناسٍ مائتين، ويزيل الفساد، إذ أن (جسد الكلمة) ممتلئ بالكامل بالكلمة الذي يبيد الفساد.
*لا تجعل فمك مستعدًا بل قلبك... إذ نقبله نعرف ما نفكر فيه. نقبل فقط القليل وننتعش في القلب. ما يقوتنا ليس ما نراه بل ما نؤمن به. لهذا فنحن لا نطلب ما يمس حواسنا الخارجية، ولا نقول: "ليؤمن الذين يرون بأعينهم ويلمسون بأيديهم الرب نفسه بعد قيامته إن كان ما يُقال هو حق إننا لم نلمسه، فلماذا نؤمن؟"(713)
يشير القديس يوحنا الذهبي الفم إلى ثمار الإفخارستيا:
*يكون للذين يشتركون فيهما (جسد الرب ودمه) رزانة النفس، غفران الخطايا، شركة الروح، بلوغ ملكوت السماء، الدالة لديه، وليس للحكم والدينونة(714).
يصف القديس إيريناؤسالإفخارستيا أنها خبز الخلود، كما يدعوه القديس أغناطيوس الأنطاكي دواء الخلود(715).
*في الأيام الأخيرة لخص كل شيء في نفسه؛ فقد جاء ربنا إلينا ليس حسب إمكانياته هو، وإنما حسبما نستطيع نحن أن نراه. حقًا كان يمكنه أن يأتي إلينا في مجده الذي لا يُعبّر عنه، لكننا لم نكن قادرين أن نحتمل عظمة مجده. ولهذا السبب قدم خبز الآب الكامل نفسه لنا في شكل لبنٍ بكوننا أطفالًا صغار. هكذا كان مجيئه كإنسان لكي نتقوّت، أقول، من صدر جسده، وبمثل هذا اللكتات (فرز اللبن) نعتاد أن نأكل كلمة اللَّه ونشربه، فنحمل في داخلنا خبز الخلود، الذي هو روح الآب(716).
"فخاصم اليهود بعضهم بعضا قائلين:
كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟" [52]
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي هذه العبارة أنه ما كان يليق باليهود أن يتساءلوا هكذا بعد أن رأوا معجزة الخبزات. كما جاء في تعليقه أيضًا:
*يلزمنا أن نفهم الأسرار، ما هي، ولماذا أعطيت، وما النفع منها.
نصير جسدًا واحدًا، و"أعضاء جسده ومن عظامه" (أف 5: 30). ليت المتناولون يتتبعون ما أقوله. لكي ما نصير هكذا ليس بالحب وحده، بل وبالفعل ذاته، لنتحد بهذا الجسد. هذا يتحقق بالطعام الذي قدمه لنا مجانًا، مشتاقًا أن يظهر حبه لنا. لهذا مزج نفسه بنا، وعجن جسد بأجسادنا، لكي نصير واحدًا، كجسد يتحد بالرأس...
يقودنا المسيح إلى صداقة حميمة ليظهر حبه لنا. إنه يهب الذين يرغبونه ليس فقط أن يروه بل يلمسوه ويأكلوه، ويثبتوا أسنانهم في جسده، ويقبلون ويشبعون كل حبهم له.
ليتنا نعود من تلك المائدة كأسود تتنفس نارًا ترعب الشيطان، مفكرين في رأسنا وفي حبه الذي أظهره لنا.
غالبًا ما يقدم الآباء أبناءهم لآخرين كي يطعموهم؛ أما هو فيقول: "أما أنا فلا أفعل ذلك، أنا أطعمتكم بجسدي، مشتاقًا أن تصيروا جميعكم مولودين ميلادًا جديدًا ولكم رجاء صالح في المستقبل. فإن من يعطيكم ذاته هنا كم بالأكثر يعطيكم فيما بعد.
أردت أن أصير أخاكم، ومن أجلكم شاركتكم في اللحم والدم، وأعود فأعطيكم الجسد والدم لكي بذلك أصير قريبكم".
هذا الدم يجعل صورة ملكنا متجددة فينا، تبعث جمالًا لا ُينطق به، ولا تدع سمو نفوسنا أن ينزع منا، بل ترويه دائما وتنعشه.
الدم الذي يستخرج من طعامنا لا يصير دمًا في الحال بل يصير شيئًا آخر، أما هذا فلا يفعل هكذا، إنما في الحال يروي نفوسنا، ويعمل فيها بقوة قديرة.
هذا الدم السري إن تناولنا بحق يطرد الشياطين، ويجعلهم بعيدين عنا، بينما يدعو الملائكة ورب الملائكة إلينا. فحالما يرون دم الرب تهرب الشياطين وتركض الملائكة معا... سفك هذا الدم وجعل السماء سهلة المنال(717).
*بالحق مهوبة هي أسرار الكنيسة، مهوب بالحق هو المذبح. ينبوع يصعد من الفردوس، ويفيض بأنهار مادية؛ من هذه المائدة يصدر ينبوع يبعث انهارًا روحية(718).
*رب الجميع نفسه الذي يريدنا أن نكون هكذا يقول بالنبي إشعياء: "لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي يقول الرب. لأنه كما علت السماوات عن الأرض، هكذا طرقي عن طرقكم، وأفكاري عن أفكاركم" (إش 55: 8-9). لكن ذاك الذي يفوقنا بما لا يُقاس من عظمة في الحكمة والقدرة، كيف لا يفعل شيئًا عجيبًا يفوق فهمنا...؟
إن كنت تصر أيها اليهودي قائلًا: كيف؟ فإني أيضًا أقول لك...
كيف خرجت من مصر؟
كيف تحولت عصا موسى إلى حية...؟
لو طبقت كلمة "كيف" لما آمنت أبدًا بالكتاب كله، ولطرحت عنك كل كلمات القديسين.
*الذين آمنوا الآن لهم القوة على التعلم أيضًا. لأنه هكذا يقول إشعياء النبي: "إن كنتم لا تؤمنون فلن تفهموا" (إش 7: 9LXX). لهذا كان من الصواب أن يتأصل فيهم الإيمان أولًا ثم يأتي بعد ذلك الفهم للأمور التي يجهلونها.
*وكما اضطرب نيقوديموس إذ قال: "كيف يمكن الإنسان أن يُولد وهو شيخ، ألعله يقدرًان يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟" (يو 3: 4)، هكذا اضطرب هؤلاء إذ قالوا: "كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟"
*يعرف المؤمنون جسد المسيح إن لم يهملوا في أن يكونوا جسد المسيح. ليصيروا جسد المسيح إن أرادوا أن يعيشوا بروح المسيح(719).
"فقال لهم يسوع:
الحق الحق أقول لكم:
إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان،
وتشربوا دمه،
فليس لكم حياة فيكم". [53]
*إن كان بلمسة جسده المقدس وحدها (في إقامة ابنة يايرس لو 8: 54؛ وإقامة الشاب وحيد أمه لو 7: 12-14) يعطي حياة لجسد تحلل فكيف لا ننتفع نحن بأكثر غنى بالبركة (التناول) التي نشترك فيها، إذ حين نتذوقها أيضًا ننال الواهب الحياة؟ لأنه سوف تتحول بالتأكيد إلى خيرنا الذاتي، أي الخلود...
نحن القابلون للفساد بطبيعة جسدنا، نهجر ضعفنا الطبيعي باختلاطنا بالحياة، ونتبدل إلى خاصية الحياة. فالأمر لا يحتاج فقط إلى إعادة خلقة للنفس بالروح القدس إلى جدة الحياة، بل وأن ذاك الجسد الأرضي الغليظ يلزمه أن يتقدس ويُدعى إلى عدم الفساد بواسطة الشركة الأكثف والأقرب.
يندهش القديس كيرلس الكبير من اليهود الذين آمنوا أنه بأكل لحم خروف الفصح ونضح دمه على الأبواب يهرب الموت منهم، ويُحسبوا مقدسين، ولن يعبر بهم المهلك، فكيف لا يؤمنون بأن تناول جسد حمل الله ودمه يهبهم الحياة الأبدية.
*عندما أعطانا كلًا من جسده ودمه انتعاشًا صحيًا، وباختصار حلَّ سؤال عظيم بخصوص الكمال (أي كل من الرأس المسيح والجسد الكنيسة). ليت الذين يأكلون يستمرون في الأكل، والذين يشربون أن يشربوا. ليت الجائعون والظمأى يأكلون الحياة ويشربون الحياة... فإن الأمر سيكون هكذا، أي أن جسد المسيح ودمه يكونان حياة الإنسان. إن كان ما نأخذه في السرّ هو أمر منظور فإنه في الحق نفسه يؤكل ويُشرب روحيًا(720).
*الطعام المدعو "إفخارستيا"، لا يًسمح لأحد أن يشترك فيه إلا من يؤمن أن ما نعلم به هو حقيقي، وأن يغتسل بالغسل، أي غفران الخطايا للميلاد الجديد، وأن يحيا كما علمنا المسيح. فإننا لا نقبل هذا كخبز عام ولا شرب عام، بل أن يسوع المسيح مخلصنا صار جسدًا بلوغوس لله؛ أخذ جسدًا ودمًا لأجل خلاصنا، هكذا نحن تعلمنا أن الطعام المقدس بالصلاة التي لكلماته، والذي ينتعش به جسدنا ودمنا بالتحول transmutation من جسد يسوع ودمه هذا الذي صار جسدًا ودمًا(721).
*بخصوص صدق الجسد والدم لا يوجد أي مجال للشك. فإنه الآن بإعلان الرب نفسه وإيماننا، هو جسد حقيقي ودم حقيقي. وما يؤكل ويشرب يعبر بنا لكي نكون في المسيح والمسيح فينا(722).
القديس هيلاري أسقف بواتييه *نقدم له ما له ما معلنين باستقامة الشركة والاتحاد للجسد والروح. فكما أن الخبز الذي ينتج عن الأرض عندما يقبل استرحام (دعوة) الله لا يعود بعد خبزًا عاديًا بل إفخارستيا، يحوي حقيقتين:حقيقة أرضية وحقيقة سماوية، هكذا أيضًا أجسادنا إذ تتقبل الإفخارستيا لا تعود قابلة للفساد إذ تترجي القيامة للأبدية(723).
*بدمه خلصنا... وإذ نحن أعضاءه ننتعش أيضًا بوسائل خليقته...
إنه يعرف الكأس (وهي جزء من الخليقة) إنها دمه، التي منها يندى دمنا، والخبز (وهو أيضًا جزء من الخليقة) قد أقامه كجسده، الذي منه يهب نموًا لأجسادنا... لذلك فإن الكأس الممزوجة والخبز المكسور... يصير إفخارستيا دم المسيح وجسده، منه ينمو جسدنا ويستند، فكيف يمكن للهراطقة أن يؤكدوا أن الجسد عاجز عن تقبل عطية الله، التي هي الحياة الأبدية، والتي ينتعش (الجسم) بجسد الرب ودمه ويصير عضوًا له؟ فإن الطوباوي بولس يعلن أننا "أعضاء جسمه، من جسده وعظامه" (أف 5: 30).
لا يتحدث بهذه الكلمات عن الإنسان الروحي غير المنظور، فإن الروح ليس له عظم ولا الجسد، إنما يشير إلى ذلك التدبير الذي به صار الرب إنسانًا حقًا يحوى جسمًا وأعصاب وعظام، ذاك الجسد الذي ينتعش بالكأس الذي هو دمه ويتقبل نموًا من الخبز الذي هو جسده...
هكذا أيضًا أجسامنا إذا تنتعش به فإنها إذ تودع في الأرض وتتحلل هناك ستقوم في الوقت المعين، يهبها لوغوس الله القيامة لمجد الله الآب، هذا الذي يهب مجانًا المائت عدم الموت والفاسد عدم الفساد، إذ قوة الله تكمل في الضعف (2 كو 12:9)(724).
*يوجد كأس، به تطهر حجرات النفس الخفية، كأس لا حسب التدبير القديم، ولا ممتلئ من كرمة عامة، بل كأس جديد، نازل من السماء إلى الأرض (يو 50:6-51)، مملوء بالخمر المعصور من عنقود عجيب معلق في شكل جسدي على خشبة الصليب، كما يتدلّى العنب من الكرمة. من هذا العنقود إذن الخمر الذي يفرح قلب الإنسان (قض 13:9)، يزيل الحزن، ينسكب فينا ويحمل رائحة الدهش التي للإيمان والتقوى الحقيقية والطهارة(725).
"مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية،
وأنا أقيمه في اليوم الأخير". [54]
*لم يقل صار في الجسد بل صار جسدًا، لكي يوضح الاتحاد. ونحن لا نقول إن الله الكلمة الذي من الآب قد تحول إلى طبيعة الجسد، أو أن التجسد تحول إلى الكلمة... لكن بطريقة لا يُنطق بها وتفوق الفهم البشري اتحد الكلمة بجسده الخاص، وإذ ضمه كله إلى نفسه... قد طرد الفساد من طبيعتنا وأزاح أيضًا الموت الذي ساد من القديم بسبب الخطية. لذلك فإن كل من يأكل من الجسد المقدس الذي للمسيح فله الحياة الأبدية، لأن الجسد له في ذاته الكلمة الذي هو للحياة بالطبيعة. لهذا يقول: "وأنا أقيمه في اليوم الأخير". وبدلًا من القول "جسدي يقيمه" أي يقيم كل من يأكل جسدي، قد وضع الضمير "أنا" في عبارة "أنا أقيمه"، لا كأنه شيء آخر غير جسده الخاص به، لأنه بعد الاتحاد لا يمكن أبدًا أن ينقسم إلى اثنين. لهذا يقول: "أنا الله صرت فيه، من خلال جسدي الخاص نفسه، أي إنني سأقيم في اليوم الأخير ذاك الذي يأكل جسدي. لأنه كان من المستحيل حقًا أن الذي هو الحياة بالطبيعة ألا يقهر الفساد بشكلٍ أكيدٍ، وألا يسود على الموت.
يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح وهبنا جسده واهب الحياة كخميرة تُلقى فينا، فيصير العجين كله مخمرًا. وكما تصير الخميرة في العجين كذلك العجين في الخميرة، هكذا يثبت المسيح فينا ونحن فيه. مرة أخرى يقدم لنا جسده ودمه كبذارٍ في أعماقنا [هكذا يخفي ربنا يسوع المسيح الحياة فينا من خلال جسده الخاص، ويغرسها كبذرة خلود، فيبيد كل الفساد الذي فينا].
*لئلا يظنوا أن الوعد بالحياة الأبدية في هذا الطعام والشراب بطريقة بها لا يموتوا الآن جسديًا، تنازل وواجه هذا الفكر عندما قال: "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية"، للحال أكمل: "وأنا أقيمه في اليوم الأخير" [54]. بهذا فإنه حسب الروح تكون له حياة الأبدية في الراحة التي تنالها أرواح القديسين، أما بالنسبة للجسد فإنه لا تسلب منه حياته الأبدية، إنما على العكس سينالها في قيامة الأموات في اليوم الأخير(726).
"لأن جسدي مأكل حق،
ودمي مشرب حق". [55]
*ماذا يقول؟ إما أنه يود القول بأنه طعام حقيقي يخَّلص النفس، إذ يؤكد لهم... أنه لا يليق بهم أن يظنوا أن كلماته لغز أو مثل، بل ليعرفوا على وجه الخصوص أنه توجد حاجة لأكل الجسد(727).
*أشبع طعام المن حاجة الجسد زمانًا يسيرًا جدًا، أبعد ألم الجوع، لكنه صار بعدها بلا قوة، ولم يهب الذين أكلوه حياة أبدية. إذن لم يكن ذاك هو الطعام الحقيقي والخبز النازل من السماء. أما الجسد المقدس الذي للمسيح الذي يقوت إلى حياة الخلود والحياة الأبدية فهو بالحقيقة الطعام الحقيقي.
لقد شربوا ماءً من صخرة أيضًا... وما المنفعة التي عادت على الذين شربوا لأنهم قد ماتوا. لم يكن ذاك الشراب أيضًا شرابًا حقيقيًا، بل الشراب الحق في الواقع هو دم المسيح الثمين، الذي يستأصل الفساد كله من جذوره، ويزيح الموت الذي سكن في جسم الإنسان.
"من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه". [56]
*يقوت المسيح كنيسته بهذه الأسرار، فبهذه يتقوى جوهر النفس...
لهذا فإن الكنيسة أيضًا إذ تنظر نعمة عظيمة كهذه تحث أبناءها وأصدقاءها أن يأتوا معًا إلى الأسرار، قائلة:"كلوا يا أصدقاء، وأشربوا، نعم اشربوا يا اخوة بفيض" (نش 5:1). ما نأكله وما نشربه قد أوضحه الروح في موضع آخر قائلًا: "ذوقوا وانظروا فإن الرب صالح، طوبى للرجل الذي يصنع رجاءه فيه" (مز 34:8).
في هذا السرّ المسيح إذ هو جسد المسيح، لذلك فهو ليس بالطعام الجسماني بل الروحي... ذاك الطعام كما يسجل النبي يقوي قلوبنا، وهذا الشراب يبهج قلب الإنسان (مز 104:15)(728).
*يا له من تنازل مهيب! الخالق يعطي ذاته لخليقته لأجل بهجتهم.
يعطي الحياة نفسه للقابلين للموت، كطعامٍ وشرابٍ، فيحثنا: "تعالوا كلوا جسدي وأشربوا الخمر الذي مزجته لكم. أعددت نفسي طعامًا. مزجت نفسي لمن يرغبونني. بإرادتي صرت جسدًا، صرت شريكًا لجسدكم، وأنا حبة الحنطة الواهبة الحياة، أنا هو خبز الحياة. اشربوا الخمر الذي مزجته لكم فإني مشرب الخلود، أنا الكرمة الحقيقية (يو15: 1)، اشربوا الخمر الذي مزجته لكم (أم 9:5)(729).
*أقل كمية من البركة (الإفخارستيا) تخلط جسمنا كله معها، وتملأ بفعلها المقتدر. هكذا جاء المسيح ليكون فينا ونحن أيضًا فيه.
*في هذه الأيام يطعمكم المعلمون، يطعمكم المسيح يوميًا. مائدته دائمًا معدة أمامكم.
لماذا إنكم ترون أيها السامعون المائدة ولا تأتون إلى الوليمة...؟
ما يقوله الرب يعرفه المؤمنون حسنًا. أما أنت أيها الموعوظ المدعو سامعًا فأنت أصم. فإنك تفتح أذني الجسم، متطلعا أنك تسمع الكلمات التي قيلت، لكن أذني قلبك مغلقتان، إذ لا تفهم ما يُقال...
هوذا عيد القيامة على الأبواب، قدم اسمك للعماد... لكي تفهم معني: "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه" [56](730).
*كيف يلزمنا أن نفهمه؟
هل تشمل هذه الكلمات ("من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه")حتى أولئك الذين قال عنهم الرسول: "يأكلون ويشربون دينونة لأنفسهم" (1 كو 11: 29) عندما يأكلون هذا الجسد ويشربون هذا الدم؟ هل يهوذا الذي باع سيده وخانه (مع أن لوقا الإنجيلي يعلن بكل وضوح أنه أكل وشرب مع بقية تلاميذه سرّ جسده ودمه الأول بيدي الرب) هل ثبت في المسيح والمسيح فيه؟
هل كثيرون من الذين يتناولون ذاك الجسد ويشربون ذاك الدم في رياء أو الذين بعد تناولهم من الجسد والدم يرتدون يثبتون في المسيح والمسيح فيهم؟(731)
"كما أرسلني الآب الحي،
وأنا حي بالآب،
فمن يأكلني فهو يحيا بي". [57]
جاء تعبير "أنا حي بالآب" في اليونانية تحمل معنى أن علة حياته الآب، فالابن لا يحيا وحده، لكن حياة الآب هي حياة الابن بلا انفصال.
*حينما يقول الابن أنه أُرسل يشير إلى تجسده... من يأخذني في نفسه بالاشتراك في جسدي سيحيا، ويُطَّعم بالكامل فيّ، أنا القادر أن أهبه حياة، لأنني من أصل واهب الحياة، أي الله الآب.
*يسأل البعض: كيف يكون الابن مساويًا للآب عندما يقول أنه يحيا بالآب؟
ليت هؤلاء الذين يعترضون علينا في هذه النقطة يخبروننا أولًا ما هي حياة الابن؟ هل هي حياة ممنوحة بواسطة الآب لمن هو في حاجة إلى حياة؟ بل كيف يمكن للابن أن يكون في حاجة أن يملك حياة وهو نفسه الحياة، إذ يقول: "أنا هو الطريق والحق والحياة"؟
حقًا حياته أبدية، وسلطانه أبدي. هل وُجد وقت كانت فيه الحياة لا تملك ذاتها؟
تأملوا ما قُرأ اليوم بخصوص الرب يسوع أنه "مات لأجلنا حتى إذا سهرنا أو نمنا نحيا جميعًا معه" (1 تس 10:5). ذاك الذي موته هو حياة، ألا يكون لاهوته حياة، متطلعين إلى لاهوته أنه حياة أبدية؟
لكن هل حياته بالحقيقة هي في سلطان الآب؟ لماذا؟
لقد أظهر أنه حتى حياته الجسدية ليست في سلطان آخر كما سُجل لنا: "أضع حياتي لكي آخذها. لا يأخذها إنسان مني، بل أنا أضعها بنفسي. لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أيضًا أن آخذها. هذه الوصية قبلتها من أبي".
إذن كيف يُنظر إلى حياته الإلهية كمن تعتمد على سلطان آخر إن كانت حياته الجسدية لا تخضع لسلطان غير سلطانه؟ إنما يوجد سلطان آخر من أجل وحدة السلطان. وذلك كما أعطانا أن نفهم بأن وضع حياته تحقق بسلطانه وبكامل حرية إرادته، هكذا أيضًا يعلمنا أنه يضعها في طاعة لأمر أبيه، هنا الوحدة بين إرادته وإرادة أبيه(732).
"هذا هو الخبز الذي نزل من السماء،
ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا،
من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد". [58]
*سبق فأخبر النبي ملاخي أحد الاثني عشر: "ليست لي مسرة بكم قال الرب القدير، ولا أقبل تقدمه من يدكم، لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرب لاسمي بخور وتقدمه طاهرة، لأن اسمي عظيم بين الأمم" (مل 1: 10-11). تشير هذه الكلمات بطريقة واضحة أن الشعب القديم (اليهود) سيتوقفون عن تقديم التقدمات لله، وإنما في كل موضع ستقدم إليه ذبيحة طاهرة، وإن اسمه سيتمجد بين الأمم. ولكن أي اسم لآخر يتمجد بين الأمم مثل ذاك الذي لربنا، الذي به يتمجد الآب والإنسان أيضًا؟ ولأن هذا هو اسم ابنه الذي صار جسدًا بواسطته لذا يدعوه "اسمه"(733).
*يليق بالأبدي أن يعطي ما هو أبدي، لا أن يعطي تمتعًا بطعامٍ وقتي بالكاد يقدر أن يدوم لحظات قليلة... يليق بالذي نزل آنذاك أن يجعل المشتركين في تناوله أسمى من الموت والاضمحلال.
*إذن نحن نحيا به، بتناولنا إيّاه، أي بنوالنا الحياة الأبدية، التي ليست لنا من ذواتنا.
من جهة هو حي بالآب الذي أرسله، إذ أخلى نفسه، وأطاع حتى موت الصليب" (في 2: 8)...
بقوله "أنا حيّ بالآب" يعني أنه من الآب، وليس الآب منه؛ يقال هذا دون مساس مساواته له. وأما بقوله: "من يأكلني فهو يحيا بي" لا يعني أن مساواته للآب كمساواتنا نحن له، وإنما يظهر نعمة الوسيط "هذا هو الخبز الذي نزل من السماء" [58].
بأكله نحيا، إذ لا نستطيع أن تكون لنا الحياة الأبدية من أنفسنا. يقول: "ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا، من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد" [58]. لأن هؤلاء الآباء موتى، ويُفهم منه أنهم لا يعيشوا إلى الأبد (بواسطة المن). أما الذين يتناولون المسيح فبالتأكيد يموتون وقتيًا لكنهم يحيون أبديًا، لأن المسيح هو حياة أبدية(734).
"قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفرناحوم". [59]
*رأوه يعلِّم الجميع علنًا في المجمع، كما يقول هو نفسه بالنبي إشعياء أيضًا: "لم أتكلم بالخفاء في مكانٍ مظلم من الأرض" (إش 45: 19)، لأنه كان يتكلم بتلك الأمور علنًا.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح ألقي حديثه في المجمع لسببين: الأول لكي يقتنص أكبر عدد ممكن من أعدائه، والثاني أنه أراد تأكيد عدم معارضته للآب. فإن كانوا يخدمون الله في الهيكل، فهو لا يتحاشى الهيكل بل يحسبه بيت أبيه الذي يعلم فيه.
5. تذمر البعض
"فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا:
إن هذا الكلام صعب،
من يقدر أن يسمعه؟" [60]
واضح أنه بجوار الاثني عشر تلميذًا كثيرون كانوا يصحبونه. استصعب بعضهم حديثه بخصوص شخصه كسماوي، وتقديم جسده ودمه حياة أبدية، فتركوه.
*يبهج الإنسان الروحي نفسه بكلمات مخلصنا، ويصيح عن حق: "ما أحلى قولك لحنكي، أحلى من العسل لفمي" (مز 119: 103). أما الجسداني ففي جهل يحسب السرّ الروحي حماقة... يليق بالذي يركض نحو استقامة الإيمان الذي في المسيح أن يسافر عبر طريق ملوكي.
*يعطينا الرب جسده لنأكل، مع هذا إن فهمناه حسب الجسد فهذا موت، بينما يقول عن جسده أن فيه حياة أبدية. لهذا يلزمنا ألا نفهم الجسد جسدانيًا(735).
"فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا،
فقال لهم أهذا يعثركم؟" [61]
بقوله هذا لتلاميذه أوضح لهم أنه السماوي العارف بالقلوب. وإذ لا يمكن أن يُخدع بالمظهر لا يخدع هو أيضًا غيره. بهذا أوضح لهم أنه الله وتعليمه هو الحق.
"فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا" [61]. علم أفكارهم الداخلية بسلطانه الإلهي، إذ لا يُخفى عنه شيء ما، وليس خلال إعلان إلهي كما كان يحدث مع بعض الأنبياء. إنه الكلمة الإلهي الذي يميز أفكار القلب (عب 4: 12-13). لذا لاق بنا أن نقدس أفكارنا بروحه القدوس، وليس فقط كلماتنا المنطوق بها وتصرفاتنا الظاهرة.
"فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدًا إلى حيث كانأولًا". [62]
هنا يقدم تلميحًا لصعوده إلى السماء، لأن التمتع بجسد الرب ودمه يهبنا رفع القلب والذهن وكل الكيان الداخلي للتمتع بالشركة مع المسيح السماوي.
*استخدم المسيح هذا المعنى في وقت خطابه مع نثنائيل، إذ قال له: هل آمنت لأني قلت لك إني رأيتك تحت التينة؟ سوف ترى أعظم من هذا" (يو 1: 50). وفي وقت مفاوضته نيقوديموس قال: "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 3: 13).
*لم يعرفوا جمال السرّ، ولا ذلك التدبير البديع جدًا الخاص به. إلى جانب ذلك فإنهم قد تناقلوا هذا الأمر مع أنفسهم، كيف يمكن للجسد البشري أن يغرس فينا حياة أبدية، كيف يمكن لشيءٍ من نفس طبيعتنا أن يهب خلودًا؟ وإذ يعرف المسيح أفكارهم، لأن كل شيء عريان ومكشوف لعينيه (عب 4: 13)، فإنه يشفي أسقامهم أيضًا مرة أخرى، فيقودهم بيده بطرقٍ متنوعة إلى فهم هذه الأمور التي كانوا لا يزالوا يجهلونها بعد... إن كنتم تفترضون أن جسدي لا يستطيع أن يهبكم حياة، فكيف له أن يصعد إلى السماء كطائرٍ؟ لأنه إن كان لا يقدر أن يحيي، لأنه ليس من طبيعته أن يحيي، فكيف سيحلق في الهواء، وكيف يصعد إلى السماء؟ لأن هذا أيضًا مستحيل. لكن ذاك الذي جعل الجسد الأرضي سماويًا، فسيجعله واهبًا للحياة أيضًا حتى إن كانت طبيعته تتحلل، فيما يختص بتكوينه الخاص.
*قال لهم إنه سيصعد إلى السماء، حتمًا بكليته. "فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدًا إلى حيث كان أولًا"[62]. عندئذ بالتأكيد على الأقل سترون أنه لا يكون ذلك بالطريقة التي تظنون أنه بها يوزع جسده. بالتأكيد عندئذ سيدركون أن نعمته لا تُستهلك بالأكل(736).
"الروح هو الذي يحيي،
أما الجسد فلا يفيد شيئًا،
الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة". [63]
*حينما تمعنون النظر في سرّ التجسد، وتعرفون من هو ذاك الذي حلّ في هذا الجسد، تشعرون حتمًا ودون أن تتهموا الروح الإلهي نفسه أيضًا، أن الجسد يمكنه أن يهب حياة، مع أن الجسد في حدّ ذاته لا يفيد شيئًا البتة. لأنه إذ اتحد الجسد بالكلمة واهب الحياة صار واهبًا للحياة كلية، مرتفعًا إلى قوة الطبيعة الأكثر علوًا، دون أن يلزم ذاك الذي لا يمكن إخضاعه بأي حال إلى التحول إلى طبيعته الخاصة.
*"الروح هو الذي يحي، وأما الجسد فلا يفيد شيئًا". هذا هو ما يقوله:يوجد احتياج أن تستمروا في الاستمتاع روحيًا بالأمور الخاصة بي، لأن من يسمع جسدانيًا لا ينتفع شيئًا، ولا ينتفع بأي صلاح". إنه لأمر جسداني أن تحتقروا من نزل من السماء، وتظنوه أنه ابن يوسف.
كيف يمكن لهذا أن يعطينا جسده لنأكل؟[52]. كل هذه الأمور جسدانية، بينما يوجد احتياج لفهمهما سرائريًا وروحيًا...
"الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة"[63]، بمعنى إنها كلمات إلهية روحية، ليس فيها شيء جسدي، ولا تتبع نظام الطبيعة، بل هي متحررة من مثل هذه الضرورة، وهي فوق القوانين نزلت لأجل هذا العالم، ولها أيضًا معني آخر مختلف.
الآن كما في هذه العبارة قال "روح" عوضًا عن "روحي"، لذلك عندما يتحدث عن جسد لا يقصد أمورًا جسدية بل الاستماع الجسداني، مشيرًا في نفس الوقت إليهم، لأنهم دائمًا يطلبون الجسديات عندما كان يلزمهم أن يطلبوا الروحيات. فإن من يتقبلها جسدانيًا لا ينتفع شيئًا.
ماذا إذن هل جسده ليس بجسد؟ بالتأكيد هو، فكيف يقول إذن "الجسد لا ينفع شيئًا"؟ إنه لا يتحدث عن جسده، حاشا! بل عن الذين يقبلون كلماته بطريقة جسدانية. ماذا "يفهم جسدانيًا؟ التطلع إلى ما هو أمام عيوننا مجردًا دون تصور ما هو وراءه، هذا هو الفهم الجسداني. ولكن يليق بنا ألا نحكم هكذا بالنظر بل نتطلع إلي كل الأسرار بالعيون الداخلية. هذا هو "النظر روحيًا"(737).
يتساءل القديس أغسطينوس: كيف يقول السيد المسيح: "أما الجسد فلا يفيد شيئًا[62]، بينما الكلمة صار جسدًا، وهو نفسه يقدم لنا جسده؟ يجيب على ذلك بأن الحديث هنا مثل القول بأن العلم (المعرفة) ينفخ، بينما المحبة تبني (1 كو 8: 1)، فالعلم بدون محبة ينفخ، لكن هذا لا ينفي أهمية العلم. هكذا الجسد بدون الروح لا ينفع شيئًا، فمن يقبل جسد المسيح بطريقة جسدانية كمن يأكل طعامًا ماديًا بحتًا، فتناوله لا يفيده شيئًا. [لتضف الروح إلى الجسد، كما يُضاف الحب إلى العلم. إن كان خلال الجسد ينفعنا المسيح جدًا فهل لا يفيد الجسد شيئًا؟ إنه بالجسد يعمل الروح لخلاصنا. كان الجسد إناءً، تأملوا ما يحويه، لا ما هو عليه (وحده). أليس أُرسل التلاميذ، فهل أجسادهم لم تنفع شيئًا؟ إن كانت أجساد الرسل نفعتنا فهل يمكن لجسد المسيح ألا ينفع شيئًا...؟ لهذا "الروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا ينفع شيئًا"، وذلك حسبما يفهمون الجسد، وليس كما أعطي جسدي لكي يؤكل(738).]
*إنه الروح هو الذي يجعلنا أعضاء حيين... قيل هذا لكي نحب الوحدة ونخشى الانشقاق. فإنه ليس شيء يلزم أن يخافه المسيحي مثل الانفصال عن جسد المسيح، وإذ لا يكون عضوًا في المسيح لا يحيا بروح المسيح. يقول الرسول: "إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له" (رو 8: 9)(739).
"ولكن منكم قوم لا يؤمنون،
لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون،
ومن هو الذي يسلمه". [64]
الحديث هنا خاص بيهوذا الذي سيسلمه وأيضا عن الذين تركوه، معلنًا أن ما سيحدث ليس بغريبٍ عنه، لأنه من البدء عالم بكل هذا. كما يكشف أن ما يحدث هو بكامل حريتهم. كل النفوس مكشوفة أمام السيد المسيح، فهو يعلم الأمناء المخلصين في إيمانهم، والمخادعين الذين يسلكون في رياء.
*لم يقل: منكم قوم لا يفهمون، بل أخبرنا عن السبب لماذا لا يفهمون. "ولكن منكم قوم لا يؤمنون" (يو 6: 64)، لذلك لا يفهمون، إذ هم لا يؤمنون. إذ يقول النبي: "إن لم تؤمنوا لا تفهمون" (إش 7: 9LXX). نحن نتحد بالإيمان، ونحيا بالفهم. لنقترب إليه أولًا بالإيمان حتى نحيا بالفهم. لأن من يقترب لا يُقاوم، ومن يقاوم لا يؤمن. كيف يمكن للمقاوم أن يحيا؟ إنه خصم لشعاع النور الذي به يفهم، إنه لا يغمض عينيه بل يغلق ذهنه. لذلك "منكم قوم لا يؤمنون". ليؤمنوا وينفتحوا، لينفتحوا ويستنيروا(740).
*كان يهوذا حاضرًا هناك... صمت الرب عن ذكر اسمه. لقد وصفه ولم يذكر اسمه، ومع ذلك لم يصمت عن الحديث عنه. حتى يخاف الكل وإن كان واحد هو الذي يهلك(741).
"فقال: لهذا قلت لكم
إنه لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يعطَ من أبي". [65]
لا يعني هذا أن الله يميز بين فريق وآخر، إنما من يطلب يجد، ومن يسأل عن الحق يسلمه الآب للحق ويثبته فيه فلا يسقط.
*كما كان الأمر بالنسبة للذين لم يؤمنوا بالله في البرية أنهم حُرموا من دخول أرض الموعد، هكذا أيضًا بالنسبة للذين لا يكرمون المسيح لعدم إيمانهم لا يُمنح لهم دخول ملكوت السماوات.
*إنه لأمر عجيب، عندما يُكرز بالمسيح المصلوب، اثنان يسمعان، واحد يحتقر والثاني يصعد. ليت الذي يحتقر ينسب لنفسه هذه التهمة (عدم الإيمان)، وأما الذي يصعد لا ينتحل (إيمانه) لنفسه. إذ يسمع من السيد نفسه: "لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ ما لم يُعطَ من أبي"[65]. ليفرح أنه نال. ليقدم شكرًا لذاك الذي وهبه هذا، بقلبٍ متواضعٍ لا متعجرف، لئلا ما ناله خلال التواضع يفقده بالكبرياء.
*أن نؤمن فذاك يُعطى لنا، فإننا إذ نؤمن فهذا شيء. وإن كان هذا شيئًا عظيمًا فلتفرحوا أنكم تؤمنون، وإن كنتم لم ترتفعوا بعد، لأنه "أي شيء لك لم تأخذه"؟ (1 كو 4: 7)(742).
*لكي يعلمنا أن هذا الإيمان عينه هو عطية وليس عن استحقاق يقول: "لهذا قلت لكم انه لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ إن لم يُعط من أبي"[65]. الآن أين قال الرب هذا، فإننا إذ نتذكر كلمات الإنجيل نجد الرب يقول: "لا يقدر أحد أن يُقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب" [44]. لم يقل: "يقود" بل "يجتذب".
هذا العنف (للجذب) يحدث للقلب لا للجسم. لماذا إذن تتعجبون؟ َآمنوا فتأتوا؛ حبوا فتُجذبوا.
لا تفترضوا هنا نوعًا من العنف القاسي أو الصعب بل هو عنف رقيق، إنه عذب، إنها العذوبة عينها هي التي تجتذبكم.
ما الذي يجتذب القطيع عندما يُظهر له العشب الطازج أثناء جوعه؟ مع هذا فإنني لا أتصور اجتذابًا جسديًا، بل هو ارتباط سريع بالرغبة (في الأكل).
بهذه الطريقة تأتون أنتم أيضًا إلى المسيح.
لا تفهموا ذلك أنه رحلات طويلة، وإنما أينما تؤمنون تأتون. فإننا نأتي إلى ذاك الذي هو في كل موضع، نأتي إليه بالحب لا بالإبحار. فإنه في مثل هذه الرحلة أمواج التجارب المتنوعة هياجها شديد.
آمن بالمصلوب، فيستطيع إيمانك أن يصعد بك إلى الخشبة.
إنك لن تغرق، بل تحملك الخشبة. هكذا وسط أمواج هذا العالم كان يبحر ذاك القائل: "وأما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح"(743)
"من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء،
ولم يعودوا يمشون معه". [66]
*حسنًا يقول الإنجيلي ليس أنهم رحلوا بل "رجعوا إلى الأمور التي تركوها إلى خلف"، معلنًا أنهم حرموا أنفسهم من أي نمو في الفضيلة، وباعتزالهم فقدوا الإيمان الذي كان لهم قديمًا. لكن هذا لم يحدث للإثنى عشر(744).
يرى القديس كيرلس الكبير أنه كما يهرب ضعيفو البصر من الشمس ويُسرون بالجلوس في الأماكن المظلمة، هكذا بالنسبة لمرضى الذهن يهربون من المسيح شمس البرّ، الذي يكشف السرّ الإلهي العظيم. هكذا أيضًا فعل شعب إسرائيل عندما عاد يشوع بعد تجسس أرض الموعد، فقد ثاروا عليه، ورجعوا إلى الوراء وخسروا مصاحبتهم ليشوع كي يعبروا إلى أرض الموعد.
*ما هو ثمين في عيني الله ليس على الإطلاق عدد العابدين، بل سمو إيمانهم الصحيح حتى وإن كان عدد المؤمنين قليلًا. لهذا يقول الكتاب الإلهي أن كثيرين مدعوون وقليلين جدًا الذين يُقبلون.
*ربما كُتب هذا لتعزيتنا. لأنه أحيانًا يحدث أن يعلن إنسان الحق فلا يُفهم قوله، فيعارضه سامعوه ويتركوه. يتأسف الإنسان أنه قال الحق، ويقول في نفسه: "كان يليق بي ألا أتكلم هكذا، كان يلزمني ألا أقول هذا".
انظروا فإن هذا قد حدث مع الرب. لقد تكلم وفقد الكثيرين، وبقي معه قليلون. ومع هذا لم يضطرب، لأنه عرف من البداية من الذين يؤمنون ومن الذين لا يؤمنون. إن حدث هذا معنا فإننا ننزعج بمرارة. لنجد راحة في الرب ولنتكلم بوقار(745).
6. إلى من نذهب؟
"فقال يسوع للاثني عشر:
ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟" [67]
جاء حديث السيد المسيح مع الاثني عشر متشددًا، فهو يطلب مؤمنين يثقون فيه، ويثبتون في الحق بكامل حرية إرادتهم دون ضغط أو حرج. لقد اختارهم من العالم، وسلمهم الأسرار الفائقة وقدم لهم إمكانياته وتلامسوا مع حياته الإلهية، وبقي لهم أن يقرروا بأنفسهم دون تردد، لأنهم قادمون على السير في طريق الصليب.
لم يقل شيئًا للذين رجعوا إلى الوراء، فإنه لا يُلزم أحدًا بالإيمان، لكنه استخدم ذلك لتثبيت إيمان تلاميذه.
*فإن قلت: فلماذا لم يمدحهم؟ أجبتك: إنه جمع في ذلك غرضين، أولهما: حفظ الرتبة اللائقة بالمعلم، لأنه لو كان مدحهم لظنوا أنهم قد أسدوا إليه بعطية، ثانيهما إيضاحه أنه ليس محتاجًا إلى إتباعهم إياه.
*إنه لم يوبخ الذين تركوه ولا هددهم بطريقة عنيفة بل بالأحرى اتجه نحو تلاميذه قائلًا: "أتريدون أنتم أيضًا أن تمضوا؟" (يو 6: 67)، محترمًا بالحق القانون الذي به يمارس الإنسان حريته ويبقى في حرية إرادته يختار الموت أو الخلاص(746).
"فأجابه سمعان بطرس:
يا رب إلى من نذهب،
كلام الحياة الأبدية عندك؟" [68]
امتاز القديس بطرس بغيرته المتقدة واستعداده الدائم، لذا أجاب في الحال ليس فقط عن نفسه، بل وعن التلاميذ. لقد أدرك أنهم لن يستطيعوا التمتع بالحياة الأبدية بدون المخلص المسيا. من يلتصق به لا يقدر الموت الأبدي ولا الجحيم ولا العذابات الأبدية أن تلحق به. لا يستطيع العالم ولا الجسد ولا الشيطان أن يقدموا حياة أبدية.
لم يقبل البعض حديث السيد المسيح فرجعوا عنه، بينما ازداد البعض اقترابًا إليه وأدركوا مع بطرس الرسول قوة كلمته واهبة الحياة الأبدية. يقدم حديثه رائحة حياة لحياة ورائحة موت لموت.
تحدث القديس بطرس باسم كل نفسٍ ملتصقة بالسيد المسيح، كما تحدثت راعوث مع حماتها: "لا تلحي عليَّ أن أتركك وارجع عنك لأنه حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بتِ أبيت" (را 1: 16). وفي شجاعة رفض نحميا أن يترك موقع العمل ويختفي في الهيكل ويغلق أبوابه عليه لئلا يقتلوه، قائلًا: "أرجل مثلي يهرب؟" (نح 6: 11).
"يا رب إلى من نذهب؟" [68] إن ذهبنا إلى الآباء البطاركة يردونا إليك لأن إبراهيم رأى يومك فتهلل، وإن ذهبنا إلى موسى يقدم لنا الناموس قائدنا إليك. وإن ذهبنا إلى رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين نجلس عند أقدامهم، ماذا يقدمون سوى رياءهم وبغضهم للحق؟ من يعلن لنا الحق سواك؟ ومن يهبنا الحياة الأبدية إلاَّ أنت؟
*يلزمنا أن نجلس بجوار المعلم الواحد الوحيد، المسيح، ونلتصق به بلا انقطاع ولا انفصال عنه، ونجعله سيدنا الذي يعرف حسنًا كيف يقود أقدامنا إلى الحياة التي بلا نهاية... لأنه هكذا يليق بنا أن نرتقي إلى المنازل السماوية الإلهية، ونسعى إلى كنيسة الأبكار لنعيد بالصالحات التي تفوق إدراك الإنسان.
*كأنهم يقولون: معك سنبقى، وبوصاياك نلتصق إلى الأبد، ونقبل كلماتك دون أن نعثر بها.
يرى القديس كيرلس الكبير أن ما حدث في أثناء رحلة بني إسرائيل في البرية كان رمزًا للحقيقة التي نعيشها الآن. فقد جاء في سفر العدد أن القائد الحقيقي للشعب هو الله نفسه. فقد ظهر على شكل سحابة تظللهم، متى ارتفعت عن الخيمة تحركت المحلة، ورحل الجميع، وحيث حلت السحابة ينصبون خيامهم (عد 9: 15-18). هكذا نلتصق نحن بالرب، ولا نتحرك في موضع دون أمره [لا يمكننا أن نترك الرب، بل بالأحرى نجتهد أن نبقى معه روحيًا. هذا بالحق لائق بالأكثر بالقديسين.]
"ونحن قدآمنا،
وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي". [69]
بحكمة روحية يقدم الرسول بطرس الإيمان عن المعرفة دون تجاهل لدور المعرفة. فقد آمنوا بابن الله الحي، وعرفوا أسراره بالالتصاق به والشركة معه.
*نادى الكلمة بهذه التعاليم من خلال الشبابيك إلى عروسه، وهي الحمامة، فاستجابت لجماله، لأنها استنارت بشعاع الفهم وتعرفت على الصخرة وهو المسيح. إنها تقول: "أرني وجهك، اسمعني صوتك لأن صوتك لطيف ووجهك جميل" (نش 14:2)... رأى سمعان مثل ما أرادت العروس أن ترى. وهؤلاء الذين استقبلوا صوت المسيح الحلو تعرفوا على نعمة الإنجيل وصرخوا: "يا رب إلى من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك" (يو 68:6)(747).
*يقولون أنهم يؤمنون ويعرفون، فيربطون الأمرين معًا. لأنه يجب على الإنسان أن يؤمن وأيضًا أن يفهم. ليس معنى أننا نقبل الأمور الإلهية بالإيمان أن نبتعد تمامًا عن أي فحص لها، بل نحاول بالأحرى أن نبلغ إلى معرفة معتدلة، كما يقول بولس: "كما في مرآةٍ كما في لغزٍ" (1 كو 12: 12). حسنًا إنهم لم يقولوا عرفوا أولًا ثم آمنوا، إذ يضعون الإيمان أولًا ويلحقونه بالمعرفة، ولكن ليس قبل الإيمان. كما هو مكتوب: "إن لم تؤمنوا لن تفهموا" (إش 7: 9LXX).
*ليس أننا عرفنا وآمنا بل "آمنا وعرفنا"[69]. لقد آمنا لكي نعرف؛ لأننا إن أردنا أن نعرف أولًا وعندئذ نؤمن، لن نستطيع أن نعرف ولا أن نؤمن...
ماذا آمنا وعرفنا؟ "أنت المسيح ابن اللَّه الحيّ"[69]، بمعنى أنت هو الحياة الأبدية عينها، تهبها في جسدك ودمك فقط اللذين هما أنت(748).
"أجابهم يسوع:
أليس إني أنا اخترتكم الاثني عشر وواحد منكم شيطان؟" [70]
صحح السيد المسيح حديث القديس بطرس معلنًا أنه وهو الذي اختارهم تلاميذ له يعلم أنه يوجد بينهم شخص قَبِلَ أن يكون أداة في يد الشيطان القتال منذ البدء، والذي لا يعرف الحب بل البغضة والخيانة.
*اسأله لماذا اختار يهوذا الخائن؟ لماذا عهد إليه بالخزانة مع معرفته أنه لص؟ هل أخبرك بالسبب؟ اللَّه يحكم حسب الحاضر لا حسب المستقبل. إنه لا يستخدم سابق معرفته ليدين إنسانًا مع معرفته أنه فيما بعد يفعل ما لا يسره.
لكنه في صلاحه ورحمته التي لا يُنطق بها يختار إنسانًا يعرف أنه إلى حين هو صالح، لكنه سيتحول إلى الشر، مقدمًا له فرصة التغيير والتوبة. هذا ما يعنيه الرسول بقوله: "غير عالم أن لطف اللَّه إنما يقتادك إلى التوبة؛ ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة اللَّه العادلة، الذي سيجازي كل واحدٍ حسب أعماله" (رو4:2-6).
آدم لم يخطئ لأن اللَّه سبق فعرف أنه سيفعل هكذا. اللَّه بكونه اللَّه سبق فعرف ما سيفعله آدم بكامل حرية إرادته(749).
*إنه يظهر أن الذين ينسحبون من المسيح يهلكون بخطأهم، أما الكنيسة التي تؤمن به والتي تتمسك بما تعلمته مرة فلن تنسحب منه نهائيًا. والذين يبقون في بيت الله هم الكنيسة(750).
*بتوبيخه يوقظ فيهم الصحوة، ويجعل كل واحدٍ منهم أكثر ثباتًا بالنسبة لنفسه. لأنه لم يقل بعد بصراحة من الذي سيخونه، بل يلقي بنير الإثم على واحدٍ وحده دون تحديد، فيضعهم جميعًا أمام التحدي، ويدعوهم إلى مزيد من الاهتمام والحذر، إذ يرتعد كل واحدٍ منهم خشية خسارة نفسه.
*دعا الذي يفعل إرادة الشيطان "شيطانًا"، وهذا حق لأنه كما أن "من التصق بالرب فهو روح واحد" (1 كو 6: 17)، فالعكس صحيح أيضًا.
*لاحظوا حكمته، فإنه لم يعلن عن الخائن (لم يذكر اسمه)، ومع هذا لم يجعله مخفيَا، فمن جانب لا يفقد كل حيائه ويصير محتقرا، ومن الجانب الآخر لئلا يظن أن أمره غير مدرك فيمارس شره بلا خوف. لهذا كان السيد يوبخه بوضوح تدريجيا(751).
"قال عن يهوذا سمعان الإسخريوطي،
لأن هذا كان مزمعًا أن يسلمه،
وهو واحد من الاثني عشر". [71]
أكثر السيد المسيح من الإشارة إلى الخائن دون تلميح نحو اسمه لكي يعطي يهوذا فرصة للتوبة ومراجعة نفسه إن أراد.
يتساءل البعض: لو أن يهوذا تراجع فكيف كان يمكن تحقيق النبوات؟ وكيف يتم خلاصنا؟ حتمًا كان يقبله الله وكانت خطة الخلاص تتحقق بطريق آخر، وتمت النبوات في شخص آخر، لأنها لم تشر إلى اسمه.
*كان جاحدًا لمن قدم له نفعًا عظيمًا وكرامة عظيمة؛ لقد أخذ المال وفقد البرّ. بكونه ميتًا خان الحياة. فإن الذي تبعه كتلميذٍ له اضطهده كعدوٍ. كل هذا الشر هو من يهوذا، لكن الرب استخدم شره للخير. احتمل أن يكون موضع خيانة لكي يخلصنا. انظروا فإن شرّ يهوذا تحول إلى صلاحٍ. كم من شهداء اضطهدهم الشيطان. لو أن الشيطان توقف عن الاضطهاد لما كنا اليوم نحتفل بأكاليل الشهداء...، فإن ما يفعله الشرير من الشر يضره هو ولا يناقض صلاح اللَّه(752).
*لننتفع أيها المحبوبون جدًا بهذا الهدف، ألا نتناول جسد المسيح ودمه في الأسرار مجردًا، كما يفعل كثير من الأشرار، بل نتناولهما بشركة الروح، فنثبت كأعضاء في جسد الرب، ونحيا بروحه، فلا نتعثر إن تناول كثيرون الآن الأسرار بطريقة زمنية، هؤلاء الذين ينالون في النهاية عقوبة أبدية. حاليًا جسد المسيح كما لو كان مختلطًا في موضع الدرس، "لكن الرب يعرف من هم له"(753).
من وحي يو 6
جسدك العجيب يقدِّس جسدي!
*عيناك تتطلعان دومًا إلى الجموع القادمة إليك.
يقتربون إليك فلا يرجعون فارغين.
أنت مشبع الجياع، ومُروي الظمأى.
*إني كغلامٍ صغير أُقدم لك الخمس خبزات والسمكتين.
أقدم لك أسفار موسى الخمسة وإنجيلي الذي وهبتني إيّاه.
افتح عن بصيرتي لأجد في كتابك طعامًا يشبع الملايين!
نعم هب لي مع شعبك أن أجلس على العشب.
هب لنفوسنا الملتهبة بروحك أن تقود أجسادنا وتسيطر عليها.
*نجلس لنتمتع خلال كنيستك بطعامك الروحي.
تشبعنا بفيض، فتمتلئ سلال العالم بغنى نعمتك!
تروي نفوسنا، وتُشبع أجسادنا،
ولا تجعلنا في عوزٍ قط!
تبقى نفوسنا شاكرة لك فأنت مصدر كل البركات!
*جئت يا كلمة متجسدًا،
فلا نخجل من أن نطلب منك كل احتياجاتنا.
اعترف لك يا صديق كل البشرية،
نفسي تئن من ثقل شهوات جسدي.
*صرخاتي بلغت إلى سماواتك!
ويحي أنا الشقي، من ينقذني من جسدي المائت؟
بحبك صرت يا كلمة اللَّه جسدًا،
وعشت في وسطنا كواحدٍ منّا!
رأينا جسدك غير منفصل عن لاهوتك!
جسدك المقدس مصدر كل قداسة!
*وهبتني جسدك ودمك مأكلًا ومشربًا حقًا!
أتمتع بهما فأثبت فيك وأنت فيّ!
أتطعم فيك يا أيها الكرمة الحقيقية،
فلن تقدر الخطية بعد أن تأسرني،
ولا الموت أن يسيطر عليّ،
مادمت متمتعًا بالاتحاد بك!
*جسدك ودمك دواء لحياتي،
بهما انطلق من دائرة الفساد إلى عدم الفساد،
وانتزع نسبي لآدم الترابي،
فأصير ابنًا لك يا آدم الجديد!
عِوض التراب أصير بالحق سماءً!
*اقبل يا مخلصي ذبيحة شكري.
كنت أود أن أتمتع بالمنّ في برية سيناء!
لكن آبائي أكلوه وماتوا!
الآن تهبني جسدك ودمك،
أتناولهما فلن أموت إلى الأبد،
لا بل أحيا معك، شريكًا في المجد حسب وعدك.
*حقًا وعودك فائقة،
من يقدر أن يدركها غير الذين تجتذبهم بحبك!
رجع الكثيرون من وراءك،
إذ استصعبوا نوالهم ما لا يمكن إدراكه.
أما أنا فأصرخ مع تلميذك:
إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية هو عندك؟
أسمع صوتك العذب، فينسحب كل كياني بالحب إليك.
أسمع صوتك، فيُشرق بهاؤك على أعماقي.
أسمع صوتك، فتصمت أعماقي لتتمتع بعذوبة كلمتك!
عجيبة هي كلماتك، وسخيّة هي وعودك!
كلّك حب يا مخلص العالم!
|