اليوم الاول من الاحد الاول من الصوم الكبير
انجيل القداس : مرقس 9 : 33 – 50
33 و جاء الى كفرناحوم و اذ كان في البيت سالهم بماذا كنتم تتكالمون فيما بينكم في الطريق
34 فسكتوا لانهم تحاجوا في الطريق بعضهم مع بعض في من هو اعظم
35 فجلس و نادى الاثني عشر و قال لهم اذا اراد احد ان يكون اولا فيكون اخر الكل و خادما للكل
36 فاخذ ولدا و اقامه في وسطهم ثم احتضنه و قال لهم
37 من قبل واحدا من اولاد مثل هذا باسمي يقبلني و من قبلني فليس يقبلني انا بل الذي ارسلني
38 فاجابه يوحنا قائلا يا معلم راينا واحدا يخرج شياطين باسمك و هو ليس يتبعنا فمنعناه لانه ليس يتبعنا
39 فقال يسوع لا تمنعوه لانه ليس احد يصنع قوة باسمي و يستطيع سريعا ان يقول علي شرا
40 لان من ليس علينا فهو معنا
41 لان من سقاكم كاس ماء باسمي لانكم للمسيح فالحق اقول لكم انه لا يضيع اجره
42 و من اعثر احد الصغار المؤمنين بي فخير له لو طوق عنقه بحجر رحى و طرح في البحر
43 و ان اعثرتك يدك فاقطعها خير لك ان تدخل الحياة اقطع من ان تكون لك يدان و تمضي الى جهنم الى النار التي لا تطفا
44 حيث دودهم لا يموت و النار لا تطفا
45 و ان اعثرتك رجلك فاقطعها خير لك ان تدخل الحياة اعرج من ان تكون لك رجلان و تطرح في جهنم في النار التي لا تطفا
46 حيث دودهم لا يموت و النار لا تطفا
47 و ان اعثرتك عينك فاقلعها خير لك ان تدخل ملكوت الله اعور من ان تكون لك عينان و تطرح في جهنم النار
48 حيث دودهم لا يموت و النار لا تطفا
49 لان كل واحد يملح بنار و كل ذبيحة تملح بملح
50 الملح جيد و لكن اذا صار الملح بلا ملوحة فبماذا تصلحونه ليكن لكم في انفسكم ملح و سالموا بعضكم بعضا
الملكوت والتواضع
إن كان السيد قد رسم لنا طريق خلاصنا بصليبه الذي جاء مخالفًا تمامًا لما ظنه البشر، ففي محبته يشتاق أن يحملنا معه في طريقه الخلاصي خلال التواضع.
لقد ظن العالم أن الكرامة الزمنية والسلطة هما طريق الملكوت، لكن الصليب يعلن التواضع سمة ملكوت الله، لذلك إذ كان التلاميذ يتحاجون في الطريق في من هو الأعظم [34]، نادى السيد المسيح الإثني عشر وقال لهم: "إذا أراد أحد أن يكون أولاً فيكون آخر الكل وخادمًا للكل. فأخذ ولدًا وأقامه في وسطهم ثم احتضنه، وقال لهم: من قبل واحدًا من أولاد مثل هذا باسمي يقبلني، فليس يقبلني أنا بل الذي أرسلني" [35-37].
لقد وضع السيد المسيح يده على جرحنا البشري القديم، ألا وهو حب الإنسان للكرامة الزمنية والتسلط. فضح جرحنا مقدمًا لنا نفسه مثالاً ودواءً! فقد بدأ أولاً بإعلان الجرح عندما سألهم عما كانوا يتكلمون فيه ليعلن أنه كلمة الله العارف الخفايا والناظر الكل، فاحص القلوب والكِلى. إذ كشف الجرح أعطى الدواء بتعليمه عن مفهوم الرئاسة الروحية خلال التواضع الممتزج حبًا. ثم قدم لهم مثلاً عمليًا باحتضانه ولدًا ليقبلوا هم البشرية بروح الحب كطفلٍ يحتضنوه ويغسلوا قدميه، فيصيروا خدامًا لا أصحاب سلطة. أما المثل العملي للآخرين فقد وضح بقوله أنه من يقبله لا يقبله هو، بل الذي أرسله، مع أنه واحد مع الآب! في حب ممتزج بالطاعة يقدم الابن الآب وإن كان لا ينفصلان قط!
فيما يلي بعض مقتطفات للآباء بخصوص الخدمة الحقيقية وروح التواضع:
+ ناقش التلاميذ في الطريق من يكون رئيسًا، أما المسيح نفسه فنزل ليعلمنا التواضع. فإن الرئاسات تجلب التعب، أما التواضع فيهب راحة!
القديس جيروم
+ يريدنا ألا نغتصب الرئاسات لأنفسنا، بل نبلغ العلويات السامية بالتواضع... يا لعظمة التواضع، إذ تربح لنفسها سكنى الآب والابن والروح القدس.
( الأب ثيؤفلاكتيوس)
+ حثهم على التواضع والبساطة بنفس المنظر، لأن هذا الولد طاهر من الحسد والمجد الباطل ورغبة الترأس.
القديس يوحنا الذهبي الفم )
+ التواضع رفع موسى، أما المتكبرون فابتلعتهم الأرض.
+ التواضع هو أرض حاملة للفضائل، فإن نُزع التواضع هلكت كل الفضائل.
+ آباؤنا الجبابرة مهدوا لنا الطريق، إذ لبسوا التواضع الذي هو رداء المسيح، وبه رفضوا الشيطان وربطوه بقيود الظلمة.
+ البس التواضع كل حين، وهو يجعلك مسكنًا لله.
( القديس يوحنا سابا )
الملكوت واتساع القلب
إذ حدثنا عن الملكوت الإلهي كيف نخدمه بالتواضع خلال الصليب، خشي لئلا يفهم ذلك بطريقة سلبية لذلك كشف ربنا يسوع المسيح هنا عن التزام أبناء الملكوت للعمل بقلبٍ متسعٍ. فإن كان السيد المسيح نفسه جاء إلى الصليب في اتساع قلب للبشرية لاق بأبنائه أن يحملوا ذات سمته.
قال له يوحنا: "يا معلم رأينا واحدًا يخرج الشياطين باسمك، وهو ليس يتبعنا، فمنعناه، لأنه ليس يتبعنا" [38]. لعل القديس يوحنا لم يمنعه عن غيرة منه أو حسد، لكنه اشتاق أن تكون لهذا الإنسان تبعية للسيد المسيح ولقاء معه، ولا يكون مستغلاً لاسم السيد المسيح في إخراج الشياطين. لكن السيد قال له: "لا تمنعوه، لأنه ليس أحد يصنع قوة باسمي ويستطيع سريعًا أن يقول عليّّ شرًا. لأن من ليس علينا فهو معنا، لأن من سقاكم كأس بارد باسمي لأنكم للمسيح فالحق أقول لكم أنه لا يضيع أجره" [39-41].
هذا الحديث يكشف أن ذاك الذي كان يخرج الشياطين لم يكن ضد المسيح لا بفمه ولا بقلبه، بل كان يعمل لحساب المسيح بإيمان صادق، وإن لم تكن قد أُتيحت له الفرصة للتبعية الظاهرة. إيماننا لا يقوم على أساس تعصبي وتحكم في الآخرين، بل اتساع القلب للكل والوحدة مادام الكل يعمل خلال إيمان مستقيم. وحدتنا الكنسية المسكونية لا تقوم على تجمعات، وإنما على وحده الإيمان الحيّ.
هذا ونلاحظ أن السيد قد تحفظ في كلماته، إذ يوجد أيضًا من يصنع قوات باسم المسيح لكنه يضمر شرًا في قلبه كالهراطقة مسببي الانقسامات والأشرار في حياتهم العملية. يقول السيد نفسه "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب أليس باسمك تنبأنا، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: أني لا أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (مت 7: 22-23).
بهذا القلب المتواضع والمتسع بالحب يلزم أن نسلك دون أن نعثر الآخرين، وفي نفس الوقت دون أن نتعثر بسبب الآخرين، أي ليكن قلبنا متسعًا بالحب، لا على حساب خلاص إخوتنا الأصاغر، ولا على حساب خلاص نفوسنا.
فمن جهة تحذيرنا من عثرة الصغار يقول: "من أعثر أحد الصغار المؤمنين بي، فخير له لو طوّق عنقه بحجر رحىَّ وطرح في البحر" [42]. بمعنى آخر يليق بنا أن تكون قلوبنا متسعة، فنحتمل ضعفات الآخرين كصغارٍ نترفق بهم ولا نعثرهم في الإيمان. ويقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا لهذه العبارات بقوله أن حجر الرحى يُشير إلى العلماني الذي يرتبك بأمور هذه الحياة فيدور حول نفسه كما حول حجر رحى في مللٍ وتعبٍ بلا هدف ولا راحة، أما الطرح في أعماق البحر فيعني أشر أنواع العقوبة، وكأنه خير لذلك الذي يرتدي ثوب العمل الكرازي أو الخدمة ويعثر الصغار أن يترك وظيفته ويصير علمانيًا، فإنه حتى وإن نال أشر أنواع العقوبة فسيكون له أفضل من إعثار الآخرين وهو خادم، لأنه بدون شك إن سقط بمفرده تكون آلامه في جهنم أكثر احتمالاً.
بقدر ما يتسع قلبنا بالحب لا نُعثر صغار نفوس، ويلزمنا بحكمة أيضًا أن نهرب من النفوس المعثرة لنا، لكن دون إدانة لهم، إذ يقول: "وإن أعثرتك يدك فأقطعها، خير لك أن تدخل الحياة أقطع، من أن تكون لك يدان وتمضي في جهنم إلى النار التي لا تطفأ، حيث دودهم لا يموت، والنار لا تُطفأ" [43-44]. وما يقوله عن اليد يكرره بخصوص الرجل والعين أيضًا. وقد سبق لنا تفسير مفهوم اليد والرجل والعين روحيًا، لذا نكتفي بعبارة القديس يوحنا الذهبي الفم [لا يتحدث هنا عن أعضائنا الجسدية بل عن أصدقائنا الملازمين لنا جدًا، والذين يحسبون ضروريين لنا كأعضاء لنا، فإنه ليس شيء يضرنا مثل الجماعة الفاسدة (الصداقات الشريرة).]
أخيرًا يختم حديثه عن فاعلية المسيحي باتساع قلبه نحو الكل، مشبهًا إياه بالملح الذي يُصلح الآخرين من الفساد، قائلاً: "لأن كل واحد يُملح بنارٍ، وكل ذبيحة تُملح بملح. الملح الجيد، ولكن إذا صار الملح بلا ملوحة، فبماذا تصلحونه، ليكن في أنفسكم ملح، وسالموا بعضكم بعضًا" [49-50]. كأنه يقول أن الملح يفقد كيانه إن فقد ملوحته التي بها يُصلح الطعام، هكذا المسيحي يفقد كيانه كمسيحي إن فقد حبه للغير ومسالمته للآخرين. الحب ليس سمة أساسية في حياتنا بل هو بعينه حياتنا، بدونه نفقد وجودنا المسيحي.
ماذا يعني بقوله "كل واحد يُملح بنار"؟ في العهد القديم كانت الذبائح يلزم أن تُملح قبل تقديمها على المذبح لتحرق، هكذا إن كانت حياتنا ذبيحة حب، فالله لن يقبلها ما لم تكن مملحة بملح الحب الأخوي.
++++