رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
"وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلَادَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: "يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟" أَجَابَ يَسُوعُ: "لَا هذَا أَخْطَأَ وَلَا أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللّهِ فِيهِ. يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ". قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الْأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الْأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: "اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ". الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً" (يوحنا 9:1-7). مرَّ المسيح في مدينة أورشليم برجل وُلد أعمى، فسأله تلاميذه: "من أخطأ، هذا أم أبواه، حتى وُلد أعمى؟". أجابهم المسيح بما معناه أن هذه المصيبة العظيمة لم تأتِ هذا الرجل نتيجة خطيئة ارتكبها هو أو والداه، إنما سمحت العناية الإِلهية بهذه الضربة لتظهر أعمال اللّه في المُصاب. ما أعظم الفرق بين هذا الكلام المعزي من المسيح، وكلام التأنيب الموجِب لليأس الذي كان يسمعه ذلك الأعمى كل حياته من الجميع عن أسباب مصيبته. ها هو يسمع لأول مرة أن مصيبته هذه لا تدل على أنه مغضوب عليه من اللّه ومرفوض، بل بالعكس، أن للّه في مصيبته مقاصد صالحة، فنقله هذا الكلام من عالم اليأس إلى عالم الرجاء. سأل عن اسم من يكلِّمه، وعرف أن اسمه "يسوع". يا لمصيبة عماه! إنه لا يستطيع أن يرى هذا الذي انتصر له. لو قدم له المسيح في هذه الساعة ليس الدنانير النحاسية التي تعوَّدها، بل الذهبية أيضاً، لما أحسن إليه بمقدار إحسانه بهذا الجواب، حتى لو تركه وشأنه حالاً. لكن هذه اللفتة كانت بداية عمل المسيح الصالح معه. نبَّه المسيح سامعيه أولاً إلى قِصَر الفرصة الباقية له للعمل. قال: "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل". ثم أشار إلى وظيفته كالنور الحقيقي الآتي إلى العالم الذي ينير كل إنسان، وقال: "ما دمتُ في هذا العالم فأنا نور العالم". أي أن الظلمة الجسدية والروحية التي أعثرت هذا الضرير هي ضدي وأنا ضدها، فسأزيلها. ثم فعل المسيح ما قاله. تفل على الأرض وصنع طيناً، وطلى بالطين عيني الأعمى، وأمره أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام، فمضى واغتسل وأتى بصيراً. ظهرت القوة الإلهية في هذا العمل بواسطة الفرق العظيم بين طريقة الشفاء ونتيجته. إن الطين يُعمي العين السليمة، لكن الطلي بالطين كان مهماً لأجل تحقيق العلاقة بين الفاعل وفعله، ولأجل إحياء الإيمان في قلب هذا الأعمى. كان مهماً أيضاً إيضاح ضرورة الطاعة التي هي ثمر الإيمان. فعلى الأعمى أن يطيع وإلا فلا يستفيد من عمل المسيح. ليست النتيجة العجيبة التي حدثت ثمر عمل الأعمى، لكنها توقفت على ذلك الفعل. ولو لم يؤمن لما أطاع. لو لم يطع بعد إيمانه لما جاز أن يُقال إنه آمن. جاءه الشفاء لأنه آمن إيماناً يثمر بالطاعة. وهذه على الدوام قاعدة الخلاص والإيمان والأعمال. من يؤمن يخلص، ومن يؤمن لا بد له أن يعمل. فإن لم يعمل حسب الفرصة المُعطاه له يحكم أنه لم يؤمن، فيهلك، ليس لأنه لم يعمل بل لأنه لم يؤمن إيماناً صحيحاً. نرى هذا الأعمى يسير بين الجمهور، بعد أن طلى المسيح عينيه بالطين، وقَبْل أن يغسلهما في بركة سلوام، ووجهه ملطخ بالطين، وسيْره جديٌّ فوق العادة، مما ينبّه الناظرين ويثير عليه الاستهزاء. لكن الاستهزاء لم يُثْنه عن طاعته، ولا نصائح العقلاء له أن لا ينقاد لكلام المسيح المكروه من قادة الدين، وان لا يعرض نفسه لغيظ الرؤساء، لأنه يعمل في السبت ضداً لتعاليمهم. كل هذه لم تطفئ فتيلة إيمانه المدخنة، ولم تردَّه عن الذهاب إلى حيث أمره المسيح. ولما نال البصر عاد إلى المكان الذي فارق فيه المسيح ليمتّع بصره الجديد برؤية الذي أنعم عليه بهذه الهبة التي لا تُثمَّن، وليقدم له الشكر اللائق والواجب، ويستمد منه إرشادات جديدة دينية. لكنه لم يجد المسيح هناك، ولم يجد من يهديه إليه. هذه المعجزة رمز مناسب جداً للخلاص. لأنها منحت هذا المولود أعمى ما لم يكن له سابقاً. كانت مصيبة هذا الرجل الكبرى أنه مولود أعمى بالمعنى الروحي أيضاً، لأنه وُلد في الإِثم والخطيئة كما ذكَّره الرؤساء، فمنحه المسيح مع البصر الجديد الجسدي، ما هو أهم بما لا يُقاس، وهو بصر جديد روحي. "فَالْجِيرَانُ وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا: "أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟" آخَرُونَ قَالُوا: "هذَا هُوَ". وَآخَرُونَ: "إِنَّهُ يُشْبِهُهُ". وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: "إِنِّي أَنَا هُوَ". فَقَالُوا لَهُ: "كَيْفَ انْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟" أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: "إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ". فَقَالُوا لَهُ: "أَيْنَ ذَاكَ؟" قَالَ: "لَا أَعْلَمُ" (يوحنا 9:8-12). نال المولود أعمى شفاءه في يوم سبت - وهو يوم راحة عند اليهود. وعندما رأى المتعصبون الرجل ماشياً في السبت يطلب الشفاء حنقوا عليه، وأرادوا أن يعاقبوه لأنه خالف شريعة السبت المقدسة. ولم يجسر أحد أن يدافع عمَّا فعله المسيح، ولا عمَّا جرى مع الأعمى، لأن الرؤساء كانوا قد أعلنوا جهاراً أنه إن اعترف أحدٌ بأنه المسيح يُحرَم من امتيازاته الدينية والمدنيّة، ويطردونه من ممارسة العبادة. لما فشل الأعمى الذي أبصر أن يرى شافيه، رجع إلى بيته ليرى والديه وجيرانه لأول مرة في حياته التي لم تقلّ عن الثلاثين سنة. ما أعظم التغيير الذي حصل في منظر هذا الرجل بسبب ما جرى له. فقد انفتحت عيناه، وضاء وجهه بالفرح، وتغيّرت لهجته، فلم يعرفه الذين كانوا يعرفونه بعض المعرفة السطحية فقط. لهذا السبب اختلف الرأي بخصوصه. اعتقد البعض أن شفاءه وَهْمٌ وخداع، وأن هذا البصير ليس هو ذاك الضرير بل شخص آخر يشبهه. أما هو فقال: "إني أنا هو". ولما سألوه عما جرى له، ومن شفاه، أجابهم بالواقع. لكن لما سألوه عن شافيه أين هو؟ قال: "لا أعلم". وهو يتمنى لو استطاع أن يهتدي إلى مكان المسيح ليهديهم إليه. "فَأَتَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ بِالَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى. وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ الطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ. فَسَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: "وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَاغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ". فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ: "هذَا الْإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ السَّبْتَ". آخَرُونَ قَالُوا: "كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هذِهِ الْآيَاتِ؟" وَكَانَ بَيْنَهُمُ انْشِقَاقٌ. قَالُوا أَيْضاً لِلْأَعْمَى: "مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟" فَقَالَ: "إِنَّهُ نَبِيٌّ". فَلَمْ يُصَدِّقِ الْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ الَّذِي أَبْصَرَ. فَسَأَلُوهُمَا قَائِلِينَ: "أَهذَا ابْنُكُمَا الَّذِي تَقُولَانِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الْآنَ؟" أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ وَقَالَا: "نَعْلَمُ أَنَّ هذَا ابْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى، وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ الْآنَ فَلَا نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلَا نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ السِّنِّ. اسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ". قَالَ أَبَوَاهُ هذَا لِأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ. لِذلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: "إِنَّهُ كَامِلُ السِّنِّ، اسْأَلُوهُ" (يوحنا 9:13-23). لم يهتدِ المتعصبون إلى الذي سبَّب هذه المخالفة، فجرُّوا الأعمى الذي أبصر إلى مجلسهم ليحاكموه. ولما طلب أعضاء المجلس أن يسمعوا القصة من فمه رأساً قصَّها عليهم. ولما علموا أن المسيح الذي يبغضونه وينوون قتله فعل هذه المعجزة حاروا في أمرهم. إنْ هم حكموا على المسيح بمخالفة السبت يثبتون المعجزة ويشِيعُون خبرها، فيزيد تمسُّك الشعب بالمسيح. ولأنه وقت العيد العظيم لا يُستبعَد أن الشعب يثير حركة سياسية، وينادي بالمسيح ملكاً. وإنْ هم أنكروا حقيقة المعجزة، يخسرون الحُجَّة التي فرحوا لها للحكم عليه بأنه دنَّس السبت. لذلك ترددوا وناقضوا ذواتهم لأنهم أثبتوا المعجزة أولاً، وافتكروا الآن أن يلاشوا تأثيرها بقولهم إن فِعْلها في يوم السبت برهان أن الفاعل ليس من اللّه، بل قد فعلها بقوة الشياطين! لكن قوماً في المجلس اعترضوا بقولهم: "كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه المعجزة؟" فحصل انقسام في المجلس، وغيَّروا خطَّتهم وعمدوا إلى حيلة ضد الأولى، إذْ حاولوا إنكار المعجزة لعلهم ينجحون في اتهام المسيح بالاحتيال، وطلبوا أن يجبروا الرجل وأبويه على إنكار المعجزة. ولكنه قال: "أعلم شيئاً واحداً: أني كنتُ أعمى والآن أبصر". هذا القول هو شعار كل من اختبر الخلاص بالمسيح، بواسطة الإيمان الحي به، لأنه يقدم الشهادة عينها. "فَدَعَوْا ثَانِيَةً الْإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ: "أَعْطِ مَجْداً لِلّهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هذَا الْإِنْسَانَ خَاطِئٌ". فَأَجَابَ: "أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالْآنَ أُبْصِرُ". فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: "مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟" أَجَابَهُمْ: "قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلَامِيذَ؟" فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: "أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلَامِيذُ مُوسَى. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللّهُ، وَأَمَّا هذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ". أَجَابَ الرَّجُلُ وَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ فِي هذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. وَنَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ لَا يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللّهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهذَا يَسْمَعُ. مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللّهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً". أَجَابُوا قَالُوا لَهُ: "فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!" فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً" (يوحنا 9:24-34). ولما وجَّه الرؤساء أسئلتهم للأعمى الذي أبصر قال: "قلت لكم ولم تسمعوا. لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً؟ ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟" فشتموه مفتخرين بأنهم تلاميذ موسى، بينما هو تلميذ هذا الجليلي المجهول الأصل. شتموه بحجة أنه ضلَّ وكفر في تسميته المسيح نبياً. ولامهم الأعمى الذي أبصر لأنهم - وهو معلمو الدين - يجهلون أصل شخص عمل ما يبرهن أنه من اللّه. وختم جوابه بكلام قوي أظهر ذكاءه وشجاعته وإيمانه. إذ قال إن كل تاريخهم منذ نشأة العالم لا يذكر شخصاً واحداً منح البصر لمولود أعمى. ثم قال: "نعلم أن اللّه لا يسمع للخطاة، ولكن إنْ كان أحد يتّقي اللّه ويفعل مشيئته فلهذا يسمع. لو لم يكن هذا من اللّه ما قدر أن يفعل شيئاً". ويستند قوله هذا على بعض آيات الكتاب، فالخاطئ الوحيد الذي يسمع له اللّه هو الذي يقدم توبة حقيقية صادقة. فاستشاطوا غيظاً وقالوا له: "في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت تعلّمنا!". ثم حكموا عليه بالحَرْم الأعظم وأخرجوه من المجمع. "فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: "أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللّهِ؟" أَجَابَ: "مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لِأُومِنَ بِهِ؟" فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ". فَقَالَ: "أُومِنُ يَا سَيِّدُ". وَسَجَدَ لَهُ" (يوحنا 9:35-38). وما أن خرج الرجل من المجمع مطروداً حتى لاقاه المسيح، فقال له: "أتؤمن بابن اللّه؟". لم يعلن المسيح ذاته كابن اللّه للعلماء في الأمة، لكنه أعلن ذلك لهذا الفقير الميَّال إلى الإيمان، والذي ظهر جوهره لما أجاب: "من هو يا سيد لأومن به؟" فأناره المسيح بقوله: "قد رأيتَه، والذي يتكلم معك هو هو". ما أصعب هذا الجواب على مسامع يهودي متمسك بالتوحيد. كيف يكون هذا الرجل الذي أمامه ابن اللّه وكل ملامحه بشرية؟ فإنْ كان حقاً ابن اللّه فيجب أن يسجد له حالاً، وإلا فلا يجوز، بل يكون السجود له خطيئة عظيمة. لقد عرف أولاً واعترف أن المسيح نبي ولم يسجد له، وأما الآن فيسجد، لأنه صدَّق أنه ابن اللّه، وهذا يُجيز سجوداً له لا يُعطَى لنبي أو ملك أو ملاك. في هذه الساعة تمَّ شفاء هذا الرجل من عماه الروحي الذي وُلد فيه، فأبصر جلياً ورأى أمامه بعينه الجسديتين يسوع الناصري ابن مريم، وبعين الإِيمان رأى ابن اللّه الوحيد. أخذ هذا المسكين من رؤسائه الشتيمة والحرم، لكن المسيح عوَّض عليه أضعاف الأضعاف بالبركة والخلاص. أولئك أخرجوه من المجمع وأغلقوا في وجهه باب النظام الديني والحقوق المذهبية، لكن المسيح أدخله إلى ملكوت اللّه وفتح له باب السماء. وبسبب عماه اهتدى إلى الخلاص الأبدي، وربح صداقة هذا الخِلّ السماوي، ونال ذكراً شريفاً أبدياً في التاريخ. ثم أنه خدم المسيح بنشر صيته انتشاراً جديداً بشهادته الصادقة له، وخدم ذوي القلوب السليمة حوله بإعطائهم أسباباً كافية ليلجأوا إلى هذا المخلّص وينالوا به خلاصاً. أفلا يحقُّ لنا أن نتصَّوره بين القديسين في السماء يقدم شكراً وافراً على الدوام، لأنه وُلد أعمى. المسيح الراعي الصالح "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ". فَقَالَ: "أُومِنُ يَا سَيِّدُ". وَسَجَدَ لَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ: " لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لَا يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ". فَسَمِعَ هذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: "أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟" قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلكِنِ الْآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ". "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الَّذِي لَا يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ، بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ. لِهذَا يَفْتَحُ الْبَّوَابُ، وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ، فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا. وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لِأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ. وَأَمَّا الْغَرِيبُ فَلَا تَتْبَعُهُ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ صَوْتَ الْغُرَبَاءِ". هذَا الْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ" (يوحنا 9:39-10:6). فتح المسيح عيني الرجل الذي وُلد أعمى، ولكن شيوخ اليهود قاوموا المسيح. وهاجموا الأعمى الذي أبصر. وطردوه من مجمعهم، فكيف يكلمهم المسيح؟ لقد أطلق عليهم لقب "سُرَّاق ولصوص" لأنهم لم يدخلوا على وظيفتهم الرعائية من الباب الوحيد الذي عيَّنه اللّه، الذي هو المسيح ذاته، بل طلعوا من موضع آخر. ولم يدخلوا بدعوة إلهية، ولا لأهلية فيهم، بل لنجاحهم في الوسائط السياسية. دخلوا من الثغرات في سور الحظيرة، فقد نالوا وظيفتهم الكهنوتية الرعوية بالإِرث أو المحاباة أو التمليق أو الرشوة أو الحيلة أو الاستبداد. فما الفائدة من تسلسلهم الهاروني ورسامتهم القانونية، وغير ذلك من الشروط الرسمية الخارجية، طالما هم تائهون عن الباب؟ والمسيح ذاته هو الباب. وإلى اليوم لا دخول للخدمة الرعائية إلا من هذا الباب. المسيح هو الباب قال أحد اللاهوتيين: "إن الراعي الحقيقي بين البشر هو الذي يتقلّد هذه الوظيفة حباً للمسيح، ويقصد تمجيد المسيح، ويعمل عمله بقوة المسيح، ويعلّم تعليم المسيح، ويسلك في خطوات المسيح، ويسعى ليأتي بالنفوس إلى المسيح". ولا يصحُّ الخروج أيضاً إلا من هذا الباب. والذي قال: "الحق الحق أقول لكم إني أنا باب الخراف. إنْ دخل بي أحدٌ فيخلص، ويدخل ويخرج، ويجد مرعى". فالباب للرعاة هو الباب أيضاً للرعية، أي لأفراد المؤمنين. فسَّر البعض أن الباب المذكور في هذا المثل هو الروح القدس. يعني أن وصول الراعي إلى قلوب رعيته، بقوة روحية لخلاصهم وبنيانهم، لا يكون إلا بفعل هذا الروح. كما أن تأثير المسيح في تبشيره كان يُعزَى إلى هذا الروح. المسيح هو الراعي الصالح "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ" (يوحنا 10:11). ثم وصف المسيح نفسه بأنه الراعي الصالح، لهذا يصلي صاحب المزامير: "يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ اصْغَ، يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ" (مزمور 80:1) ويقول النبي إشعياء: "هُوَذَا السَّيِّدُ... كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلَانَ وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا، وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ" (إشعياء 40:11) ثم أن أحلى المزامير كلها مزمور الراعي (مزمور 23) يقول مطلعه: "الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء". ليست مهنة الراعي مهنة فخر ودلال، بل هي محفوفة بالمتاعب والمخاطر في الوعور بين الوحوش الضارية. والمسيح كالراعي الصالح تحمَّل أعظم المتاعب والمخاطر، ثم بذل حياته ليخلَّص خرافه الخاصة. بينما الذين سمّاهم "سُرَّاقاً ولصوصاً" لا يأتون إلا ليسرقوا ويذبحوا ويهلكوا. والذين سمّاهم "أَجْرى" لا يدافعون عن الخراف في ساحات الخطر، بل يهربون ويتركون القطيع يتشتت ويُفترس "لأنهم لا يبالون بالخراف". أما المسيح فهو الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف. فلكي تَسْلم الخراف من مخالب إبليس ذاق المسيح موتاً لا يستحقه، وأحيا الموتى بموته الذي برهن القيمة العظيمة التي يقدّر بها خرافه جملة وأفراداً. وهو يعرف كل فرد من قطيعه معرفة تامة، تتناول أسماءهم وجميع أسرارهم وخفياتهم. ومعرفته الدقيقة واهتمامه التام بكل فرد من رعيته التي لا تُحصى ليست بأقل الآن مما كانت عليه لما أسلم نفسه على الصليب الراعي يبذل نفسه "وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَجِيرٌ، وَلَيْسَ رَاعِياً، الَّذِي لَيْسَتِ الْخِرَافُ لَهُ، فَيَرَى الذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ الْخِرَافَ وَيَهْرُبُ، فَيَخْطَفُ الذِّئْبُ الْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. وَالْأَجِيرُ يَهْرُبُ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلَا يُبَالِي بِالْخِرَافِ. أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الْآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الْآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ. وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ. لِهذَا يُحِبُّنِي الْآبُ، لِأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لِآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي" (يوحنا 10:12-18). لاحظ المسيح أثناء خطابه أنهم لم يفهموا كلامه، فكرره وفسَّره موضِّحاً لهم أنه يضع نفسه عن الخراف طوعاً، فيحقُّ له القول: "لهذا يحبني الآب، لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتُها من أبي". وهذا يشبه قول إشعياء "آثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الْأَعِّزَاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إشعياء 53:11 ، 12). وأوضح لهم أيضاً أن له سلطاناً أن يسترد حياته البشرية بعد أن يبذلها - أي أن يقوم من الموت بقوته الذاتية بعد هذا الخضوع الإختياري للموت. ثم صرح أيضاً باهتمامه بالخراف الأُخر التي ليست من هذه الحظيرة. فقال "ينبغي أن آتي بتلك أيضاً، لأنها لي، فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد". فهو يقصد ضمَّ الأمم الخارجية إلى شعب اللّه المختار. "فَحَدَثَ أَيْضاً انْشِقَاقٌ بَيْنَ الْيَهُودِ بِسَبَبِ هذَا الْكَلَامِ. فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: "بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟" آخَرُونَ قَالُوا: "لَيْسَ هذَا كَلَامَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ الْعُمْيَانِ؟". وَكَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ شِتَاءٌ. وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي الْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ، فَاحْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: "إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْراً". أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: "إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلْأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي. وَلكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ. خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ" (يوحنا 10:19-30). كانت هذه التعاليم فوق مستوى سامعيه، فقالوا: "به شيطان وهو يهذي. لماذا تسمعون له؟" أما القسم الآخر، وهم الأقلية، فلم يسكتوا عن التهمة بل أجابوا: "ليس هذا كلام من به شيطان". واستندوا في جوابهم على المعجزة الأخيرة، التي كانت سبب إلقاء هذا الخطاب، وتساءلوا: "ألعل شيطاناً يقدر أن يفتح أعين العميان؟". أما نحن فنضيف على برهانهم الإستفهامي برهاناً آخر ونسأل: على فرض أن الشيطان فتح أعين العميان، هل يمكن أن يعمل الشيطان عملاً صالحاً؟ ألا تكفي الرحمة في هذا الشفاء برهاناً أنه ليس فعلاً شيطانياً؟ لو أراد الخير للناس لما كان شيطاناً. وهكذا أظهر الرؤساء غباوة عندما نسبوا أعمال المسيح الصالحة إلى الشيطان، فأثبتوا صدق حكم المسيح عليهم بأنهم عميان. ولماذا نسي هؤلاء العلماء أن منح البصر للعميان في التوراة علامة من جملة علامات المسيح وأفعاله؟ أوضح المسيح أنه الراعي الصالح، وأن خرافه تعرفه وتسمع صوته وتتبعه. أما رؤساء اليهود فليسوا من خرافه، ولذلك يرفضون أجلى البراهين على كونه مسيحهم، ويرفضونه لأنه لا يجاريهم في رغباتهم وأفكارهم. أما جاذبيته القوية للأشخاص الذين يستحقون اسم الخراف بالمعنى الروحي، فبرهان على أنه المخلِّص الآتي، لأن هؤلاء بفعل الروح الإلهي في تجديدهم يميلون إلى الراعي الصالح، الذي نعرفه من مَيْل الخراف إليه واتّباعهم له. ثم قال المسيح عن خرافه: "لن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحدٌ من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل. ولا يقدر أحد يخطف من يد أبي". أما الذين يُحسبون ويحسبهم الناس من خرافه ثم يرتدّون عنه، فأمرهم موضَّح في قول الرسول يوحنا: "مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا" (1 يوحنا 2:19). من تحقق أنه من خراف المسيح أصبح في ضمانته فلا يهلك. ويستحيل على إبليس وعلى العالم أن يخطفاه من يد راعيه السماوي. وإن ضلَّ، فهذا الراعي يردُّ نفسه ويهديه "إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ" (مزمور 23:3). وعندما يضع المؤمن ثقته في هذه الآية مع أمثالها يجد مرساه مؤتمَنة لنفسه، ولا سيما في ساعة السقوط. ولكن لئلا يتصور أحد هذا اليقين يفتح الباب للاستمرار في الخطيئة طمعاً في ضمان المسيح، نقول إن الحياة الأبدية التي يعطيها المسيح لخرافه هي حياة سماوية تجعلنا نكره الخطية ونحب إرضاء الآب السماوي. لأن كل من يرضى أن يبقى في أي نوع من الإثم ويراعي إثماً في قلبه، يبرهن بذلك أنه ليس من خراف المسيح الخاصة. ومن يطلب فقط الخلاص من عذابات الآخرة لا محلَّ له بين الخراف التي يجمعها الملك عن يمينه في يوم الحساب. وكل من يحب المخلِّص حباً صادقاً، ويقصد باستقامة ثابتة أن يتخلَّص من كل ما يخالف إرادة هذا المخلص، يحقُّ له أن يطمئن برغم سقطاته، وأن يتمسك بقول الرسول بولس: "الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (فيلبي 1:6). ويقول الحكيم قبله: "الصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ" (أمثال 24:16). ولا يُعقَل أن المخلّص القدير يبتدئ خلاصاً ويفشل في تكميله. ليس لغير خرافه أن يدركوا هذا السر الذي يعني ويهمّ الخراف فقط. في هذا الخطاب تظهر جلياً براهين طبيعة المسيح الإلهية التي خوَّلته حقَّ التكلُّم على صورة لا تجوز لإنسان هو مجرد بشر أن ينطق بها، لأنه سمَّى المؤمنين خرافه، وقال إنها تسمع صوته. وليس أنها تسمع صوت الرب كما كان يقول الأنبياء. وإن الكلام كلامه (لم يقل كلام الرب) وإن الخراف تتبعه، وإنه هو الذي يعطيها حياة أبدية، وأنها في يده هو. ولا أحد يخطفها من يده. وله الحق أن يقول إنها لن تهلك أبداً. قال أولاً إنها لا تُخطَف من يده، ثم إنها لا تُخطف من يد أبيه. فلئلا يظن أحد أن هذين القولين متناقضان ختم خطابه بالقول: "أنا والآب واحد". وفي هذه العبارة أعلن التوحيد والتثنية في الله في وقت واحد. وقع هذا الختام الخطير على الرؤساء السامعين كصاعقة أثارتهم حتى لم يعد لهم إلا الاختيار بين أمرين: إما أن يعبدوه كالمسيح ابن الله الوحيد، أو أن يرجموه كمجدف حسب نص ناموسهم. "فتناولوا حجارة ليرجموه". لكنه قابل هذه الحركة بالبسالة قائلاً: "أعمالاً كثيرة حسنة أريْتُكم من عند أبي. بسبب أي عمل منها ترجمونني؟!". أجابوه: "إنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً". فأجابهم: "الذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله؟". لا يقول نبي عن نفسه إن الآب قدسه وأرسله إلى العالم. ولما نفى المسيح عن نفسه التجديف في قوله إنه ابن الله، عرفنا صدق هذا القول. فلما حاول اليهود ثانية أن يمسكوه، خرج من أيديهم، وذهب إلى المكان الذي عمَّد فيه يوحنا المعمدان، ونجح هناك في تبشيره، إذ آمن به كثيرون. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
مولود أعمى و يمتلك كل هذة الفضائل |
المسيح يفتح عيني مولود أعمى |
♤ مولود في الخطية أعمى ... خرج ليعلم المبصرون ... !!! ♡ |
ترنيمة أصل أنا مولود أعمى |
ترنيمة أصل انا مولود أعمى |