رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
اهتمام الله بالمحتاجين إلي الحب لقد اهتم الله بالكل، وبخاصة أولئك الذين لم يكن أحد يهتم بهم. فأولاهم حبًا كانوا في مسيس الحاجة إليه. ومنح حبه للمظلومين والمقهورين، وقال للتعابى: (تعالوا إلي جميع المتعبين والثقيلي الحمال، وأنا أريحكم) (مت11:28). وكانت هذه النقطة هي من أبرز خواص رسالة السيد المسيح له المجد. وقال في ذلك (روح السيد الرب علي، لأنه مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأعصب منكسري القلب. لأنادي للمسببين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق.. لأعزي جميع النائحين.. لأعطيهم جمالًا عوضًا عن الرماد، ودهن فرح عوضًا عن النوح، ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة) (أش61:1-3). نعم، إنه رجاء لمن ليس له رجاء.. ومعين من ليس له معين -كما نقول في صلوات القداس الإلهي- عزاء صغيري القلوب، وميناء الذين في العاصف.. وهكذا كان يعطي الحب للذين لا يجدون حبًا من أحد. وكان يذكر الذين ليس لهم أحد يذكرهم. وهو باستمرار الباب المفتوح، حينما تكون سائر الأبواب مغلقة. وسنضرب بعض أمثلة: الحب الذي قدمه الرب للعشارين المحترقين من الناس. كان العشارون منبوذين من المجتمع اليهودي، يرونهم عنوانًا للظلم والبعد عن الروحانية. ولكن الله الحب أراد أن يرد لهم اعتبارهم، ويعيد إليهم كرامتهم، وبخاصة أمام الفريسيين المشهورين. بالتدقيق في حفظ الوصايا. فذكر مثل الفريسي والعشار. وكيف أن العشار في توبته وانسحاق قلبه، كان أفضل من الفريسي في كبريائه وافتخاره. وكيف أن العشار خرج من الهيكل مبررًا دون ذاك (لو18:9-14). وكان يحضر ولائم العشارين، ويدخل بيوتهم. وبهذا يرفع من معنوياتهم وبجذبهم إليه. وما كان يبالي بانتقاد الفريسيين والكتبة له (لو15:2). حتى أنهم قالوا لتلاميذه (لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟!). أما هو فكان يجيب (لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضي.. لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلي التوبة) (مت9:11-13). وكان يقول أيضًا (يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلي توبة) (لو15:7). حقًا ما أعمق اهتمام المسيح بالخطاة والمرضي. أنه ما كان يتعالي عليهم أو يحتقرهم، كما كان يفعل الفريسيون، بل كان يدخل إلي بيوتهم، كما دخل إلي بيت زكا رئيس العشارين، حتى تذمر الجمع قائلين إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ (لو19:7). أما السيد فقد منح زكا الحب الذي تاب به. وقال: اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت، إذ أيضًا ابن إبراهيم) بل قال إنه: (قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك) (لو19:10). عميقة جدًا هذه العبارة.. لم يقل يخلص من قد ضل أو أخطأ، بل ما قد هلك..! إذن فتحي الهالك له رجاء، وله مكان في محبة الله يمكن به أن يخلص. وليس فقط يخلص، بل أن الرب قد اختار أحد هؤلاء العشارين، ليكون واحدًا من تلاميذه الاثني عشر، وهو متى الذي كان جالسًا عند مكان الجباية (مت9:9). أي حب هذا، هو حب الرب الذي قيل عنه: (المقيم المسكين من التراب، والرافع البائس من المزبلة، ليجلسه مع أشراف شعبه) (مز113: 7، 8). هذا هو تعامل الرب المملوء حبًا والمملوء اتضاعًا، مع المساكين والمحتقرين، مع الخطاة والعشارين، المنبوذين من المجتمع. أعطاهم فوق ما كانوا ينتظرونه منه بمراحل.. لقد أذاب قلوبهم بهذا الحب.. زكا مثلًا، كانت أقصي أمنيته أن يراه. أما أن يقف الرب عنده، ويناديه باسمه، ويدخل إلي بيته، ويعلن أنه أيضًا من أبناء إبراهيم، فقد كان هذا فوق احتماله.. فأعلن توبته، وأعلن الرب خلاصه.. طائفة أخري هي السامريون، وكان المجتمع اليهودي لا يعاملونهم (يو4:9). وكيف عاملهم الرب بحب.. كان اليهود يحتقرونهم، ويرون أنهم غير مؤمنين. وفعلًا لم يكن إيمانهم سليمًا.. ولكن حتى هؤلاء، ما كنت محبة الرب بعيدة عنهم، ولا كان خلاصه مغلقًا أمامهم. وإذا بالرب يشرح مثل السامري الصالح، الذي أظهر فيه كيف أن ذلك السامري كان أفضل في حبه من الكاهن واللاوي (لو10:25-37). ورد بهذا المثل علي سؤال أحد الناموسيين (من هو قريبي) فأظهر له أن السامري أيضًا قريبه. وفي معجزة شفاء العشرة البرص، أظهر أن الوحيد الذي رجع فشكر كان سامريًا.. وقال لهذا الرجل (الغريب الجنس) (إيمانك خلصك) (لو17:12-19). إن محبة الله تشمل أيضًا "الغريب الجنس"، وترفع معنوياته، وتفتح له باب الإيمان والخلاص. ولم يكتف الرب بهذا من جهة السامريين، بل زارهم ودخل مدينتهم. ومعروفة قصة هدايته للمرأة السامرية، وحديثة معها عن الماء الحي، واجتذابها إلي التوبة وإلي الإيمان.. ثم بعد ذلك أهل مدينتها كلهم (جاء إليه السامريون وسألوه أن يمكث عندهم. فمكث هناك يومين) وآمن كثيرون وقالوا (إن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم) (يو4:5-42). إنه بالحب قد خلص كثيرين من السامرة. وقال لتلاميذه (ارفعوا عيونكم وانظروا الحقول: إنها قد ابيضت للحصاد.. أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه) (يو4:35، 38). وهكذا لم ينس الرب السامرة في إرساليته لتلاميذه، بل قال لهم بعد القيامة (وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلي أقصي الأرض) (أع 1:8). جميل أن يعرف كل إنسان أنه ليس منسيًا من الله، ولو كان في أقصي الأرض. وهذا يذكرنا بالأمم. كان الأمم أيضًا محتقرين من اليهود، لأنهم ليسوا أبناء لإبراهيم، وليسوا من شعب الله!! ولكن الرب أظهر محبته لهم أيضًا، من جهة المعجزات، والإيمان.. يكفي أنه بالنسبة إلي قائد المائة الأعمى الذي شفي الرب غلامه، أنه قال عنه: الحق أقول لكم: (لم أجد ولا في إسرائيل كلها إيمانًا بمقدار هذا) (مت8:10). ثم فتح بمحبته باب الملكوت أمام الأمم وقال: (إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات) (مت 8: 11). كذلك نذكر محبة الرب للأطفال.. هؤلاء لم تكن لهم قيمة في المجتمع، بل للأسف كانوا يطردونهم أحيانًا من حضرة المسيح. ولكنه في حب قال لهم (دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعونهم. لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات) (مت19:14). ووضع يديه عليهم وباركهم. وفي مناسبة أخري دعا ولدًا وأقامه في وسط التلاميذ وقال (الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السموات) (مت18:3). وحامي عن هؤلاء الصغار، فقال (من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر) (مت18:6). والرب احتضن الأطفال، ووضع يديه عليهم، وباركهم (مر10:16) (مر9:36). وكما رفع معنويات الأطفال، رفع معنويات النساء. سمح للمرأة أن تنضم إلي جماعة تلاميذه. ونسوة كثيرات كن يخدمنه من أموالهن (لو8:3). وكان من بين من أقامهم من الأموات ابنه يايرس (لو8:54، 55). وقد شفي نازفة الدم، وقال لها إيمانك قد شفاك (لو8:48). وكان يدخل بيت مريم ومرثا. وامتدح مريم قائلاُ إنها (اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها) (لو10:42). وتكفي المكانة العظيمة التي قدمها للقديسة العذراء. التي أصبحت جميع الأجيال تطوبها. ولما وصل سلامها إلي أليصابات امتلأت أليصابات من الروح القدس. وارتكض الجنين في بطنها (لو1:48، 41). وخاطب السيد المسيح أمه علي الصليب وجعلها أمًا روحية لتلميذه يوحنا (يو19:26، 27). وبعد القيامة قيل إنه (ظهر أولًا لمريم المجدلية) (مر16:9). وقال لها ولمريم الأخرى (اذهبًا بسلام وقولًا لأخوتي أن إلي الجليل، هناك يرونني) (مت28:10). ولا ننسي دفاع الرب عن المرأة. دافع عن المرأة التي ضبطت في ذات الفعل، وأنقذها من الرجم (يو8). ودافع عن المرأة التي بللت قدميه بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها (لو7). ودافع عن المرأة سكبت الطيب علي رأسه في بيت سمعان الأبرص. ولما احتج البعض قائلين (لماذا هذا الإتلاف. لأنه كان يمكن أن يباع هذا الطيب بكثير ويعطي للفقراء) قال الرب (لماذا تزعجون المرأة؟! إنها قد عملت بي عملًا حسنًا.. إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني) بل طوبها قائلًا (حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم، يخبر أيضًا بما فعلته هذه المرأة تذكارًا لها) (مت26:6-13). الله المحب يستخدم المحبين نقطة أخري نقولها في محبة الله لنا. وهي. إن الله المحب يختار المحبين للعمل معه في الخدمة. لقد اختار داود المحب، الذي من فرط محبته أشفق علي شاه وانتزعها من فم الأسد لينقذها (1صم17: 34، 35). وموسى، لما كان في بدء حياته قائدًا قويًا، يمكنه أن يقتل رجلًا ويطمره في الرمل (خر2:12).. في ذلك الوقت لم يختره الرب. إنما أخذه ودربه في عمل الرعي أربعين عامًا، حتى وصل إلي الوضع الذي قيل عنه فيه (وكان الرجل موسى حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين علي وجه الأرض) (عد12:3). واستخدم الرب موسى المملوء من الحب. الذي دافع عن مريم بعد أن تكلمت ضده. ولما ضربها الرب بالبرص، دافع عنها موسى (وصرخ موسى إلى الرب قائلًا: اللهم أشفها) (عد 12: 13). ودافع موسى عن الشعب لما أراد الرب إفناء ذلك الشعب بعد عبادته العجل الذهبي. وإذا بموسى المملوء محبة يتشفع فيهم ويقول لله (لماذا يا رب يحمي غضبك علي شعبك؟ أرجع عن حمو غضبك واندم علي الشر بشعبك) (خر 32: 11، 12). ذكرتني هذه العبارة بقول القديس بولس الرسول: (كنت أود لو أكون أنا نفسي محرمًا من المسيح، لأجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد) (رو 9: 3). هذه المحبة العجيبة لم تكن موجودة عند بولس في عهده قبل أن يعرف المسيح، حينما كان أسمه شاول الطرسوسي وكان مضطهدًا للكنيسة، وكان (ينفذ تهديدًا وقتلًا علي تلاميذ الرب) (حتى وجد أناسًا من الطريق، رجالًا أو نساء، يسوقهم موثقين إلى أورشليم) (أع 9: 2) ويجر رجالًا ونساء ويسلهم إلى السجن (أع 8:3). ولكنه لما عرف الرب المحب.. تحول إلى صورة المحبة هذه. وأصبح بولس الذي قال إن المحبة أعظم من الإيمان الذي ينقل الجبال (1كو 13: 13) أصبح بولس الذي كان يقول (استعبدت نفسي للجميع لا ربح الكثيرين صرت للضعفاء كضعيف، لا ربح الضعفاء، صرت للكل كل شيء، لأخلص علي كل حال قومًا) (1كو 9: 19-22). صار بولس الذي قال (متذكرين أني ثلاث سنين ليلًا ونهارًا، ولم أفتر عن أن أنذر بدموع كل واحد) (أع20: 31).. نعم ينذر بدموع، وليس بعنف. ويقول أيضًا في محبته للكل "من يضعف وأنا لا أضعف؟! ومن يعثر وأنا لا ألتهب؟!" (2كو 11: 29). نعم إن الرب أعد تلاميذه بالحب لكي يخدموا والذين كانوا عنفاء منهم غيرهم إلى محبين. نذكر مثالًا آخر غير شاول الطرسوسي، هو يعقوب ويوحنا، اللذين سماهما الرب بوانرجس أي ابني الرعد (مر3: 17). وقد كانا عنيفين في بادئ الأمر قبل أن يدربهما المسيح علي المحبة.. حدث مرة أن الرب لم يقبله قرية السامريين (فلما رأي ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا، قالا: يا رب، أتريد أن نقول تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضًا. فانتهرهما الرب وقال (لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لن يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص) (لو 9: 52-56). وإذا بيوحنا الذي قال تلك العبارة العنيفة، يتحول إلى يوحنا الحبيب أكثر تلميذ تكلم عن المحبة. يكفي أنه هو الذي قال (الله محبة. من يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه) (1يو 4: 16). ويحكي التاريخ قصصًا عجيبة عن المحبة.. إن الله المحب، يريد أن يكون خدامه علي نفس صورته في الحب، وبنفس أسلوبه في الحب. والذي لا تسكنه المحبة لا يصلح أن يكون خادمًا للرب. محبة الله لقديسيه عجيبة هي محبة الله لقديسيه، نحاول أن نذكر عنها بضع نقاط كأمثلة، لتوضح عمق ذلك الحب. أولا: دعوة الله لهم للعمل معه. وفي ذلك قال الرب لتلاميذ الأطهار (لستم اخترتموني، بل أنا الذي اخترتكم. وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم) (يو 15: 16). ويقول الرسول (الذي سبق فعرفهم فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه.. والذين سبق فعينهم، فهؤلاء دعاهم أيضًا) (رو 8: 29، 30). وما أجمل أن يكن إنسان معروفًا عند الله، ومعنيًا منه، ومدعوًا للعمل معه، وأن يشابه صورة ابنه.. بل ما أجمل أن هذا المختار من الله، يعرفه الله ويدعوه، للعمل وهو بعد في بطن أمه. مثال ذلك قول الرب لإرمياء النبي (قبلما صورتك في البطن عرفتك. وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب) (أر1: 5)..عرفه، فاختاره فقدسه، فعينه نبيًا، قبل أن يخرج من بطن أمه!! ومثال إرمياء النبي، ويوحنا المعمدان أيضًا: نكلم الرب عن اختياره، قبل أن تحبل به أمه، علي لسان الملاك الذي بشر أباه زكريا، بأن امرأته ستحبَل بهذا المختار (ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس. ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم.. لكي يهيئ للرب مستعدًا (ويكون عظيمًا أمام الرب) (لو 1: 15-17). ومثال إرمياء والمعمدان، كان شمشون وبولس: أما عن شمشون، فقد قال ملاك الرب الذي بشر أمه "ها أنك تحبلين وتلدين ابنًا. ولا يعلو رأسه موسى، لأن الصبي يكون نذيرًا للرب من البطن" (قض13: 5). أما عن بولس الرسول، فقد تحدث عن اختباره من بطن أمه، فقال (لما شر الله الذي أفرزني من بطن أمي، ودعاني بنعمته، أن يعلن أبنه في لأبشر به بين الأمم، وللوقت لم استشر لحمًا ولا دمًا..) (غل 1: 15، 16). كذلك القديس الأنبا شنوده رئيس المتوحدين: اختاره الرب وعينه رئيسًا للمتوحدين، وآبا للرهبان قبل أن تحبل به أمه. ويعقوب أبو الآباء، أعطاه الرب الرئاسة والسيادة علي أخوته، وهو بعد في بطن أمه (تك 25: 23). وبالتالي اختاره أن يأتي من نسله المسيح، وبنسله تتبارك جميع قبائل الأرض. ومن محبة الله لكل هؤلاء، اختارهم لبناء ملكوته. وفي محبته لهم أعطاهم بركة، بل وجعلهم بركة. كما قال لأبينا إبراهيم: (أباركك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض) (تك 12: 2، 3). حقًا، كم من قديس صار بركة لجيله أو للأجيال كلها.. وأصبح حاملًا لله (ثيئوفورس)، يقدمه للعالم وكم من قديس كشف له الله ما لا يري، ومنحه استعلانات (2كو 12: 7). وقديسون منحهم قوة أجراء المعجزات، مثل موسى الذي شق البحر الأحمر، وفجر من الصخرة ماء، وأنزل المن والسلوى. إن الله في حبه يعطي بلا حساب، بلا كيل. يفتح كوي السماء لتنزل منها بركاته، حتى نقول كفانا كفانا. في محبته لقديسيه، أعطاهم الروح القدس، أعطاهم البركة والنعمة والحب. وجعل سكناه داخلهم، وأعطاهم صنع المعجزات. منحهم الحكمة. وأعطاهم كل ما يطلبونه لأجل أنفسهم ولأجل الآخرين وكانت صلواتهم مفاتيح السماء. وكان يأخذ رأيهم وينفذ طلباتهم، كما فعل مع موسى ومع إبراهيم. ومن محبته لقديسيه كان ينسب إليهم أعماله. فيقول (شريعة موسى) وهي شريعة الرب. ويقال كنيسة مارجرجس وهي كنيسة الله. وتحدث معجزة شفاء علي يد العذراء بينما الله هو الشافي، ويقول الرب. **(من يكرمكم يكرمني) (ومن يرذلكم يرذلني)** وبمحبة الله لقديسيه عمل فيهم، وعمل بهم، وعمل معهم، وجعلهم سفراءه، ووكلاءه ووسطاءه علي الأرض، ينقلون نعمته للآخرين وقال لهم (لا أعود أسميكم عبيدًا بل أحباء). بل أنه دعاهم أخوته وصار بكرًا وسط أخوة كثيرين (رو8: 29). وقيل عنه إنه (أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهي) (يو13: 1). وفي هذا الحب اعتبرهم كشخصه. بل نقرأ عجيبة، قالها في منحهم صنع المعجزات وهي: (من يؤمن بي، فالأعمال التي اعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها (يو14: 12). إنني أقف مبهوتًا ومبهورًا أمام عبارة (ويعمل أعظم منها)!! أي حب هذا وأي أتضاع..!! نعم إنه من محبته لقديسيه، زودهم بقوي عجيبة. وجعلهم شركاء للروح القدس و(شركاء للطبيعة الإلهية) في العمل (1بط 1:4) وقال لهم (ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم) (أع1: 8)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وجعلهم وكلاء سرائر الله (1كو 4: 1) (التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها) (1بط1: 12). ومن محبته لهم منحهم مواهب الروح القدس هذه المواهب التي خصص لها القديس بولس الرسول إصحاحًا كاملًا من رسالته إلي كورنثوس (1كو 12) (قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء).. ومن محبة الله لقديسيه، أنه جعلهم يجربون عشرته وصداقته. فموسى جلس معه علي الجبل أربعين يومًا. وقضى الرب مع تلاميذه أربعين يومًا بعد القيامة يحدثهم عن الأمور المختصة بملكوت الله. قيل عن إبراهيم انه خليل الله. وهؤلاء لم يعاشروه فقط، بل تمتعوا به. قال داود: ( ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب) وما أعجب هذه المذاقة!! بهذا الحب ظهر الرب لكثير من قديسيه، وكلمهم. كما ظهر الأنبا بيشوي فغسل القديس رجليه. وظهر للأنبا بولا الطموهي، وقال له في محبة (كفاك تعبًا يا حبيبي بولا).. وظهر لإيليا النبي وهو هارب من الملكة إيزابل، وطمأنه، وكلفه برسالة.. وكان قد أرسل له ملاكًا ليقويه ويقدم له طعامًا ليغذيه (1مل 19: 5- 18). وظهر أيضًا ليعقوب وهو هارب من أخيه عيسو، وطمأنه، وعزاه بوعود إلهية. وقال له (هأنذا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض) (تك 28: 15). إن من محبة الله لقديسيه، العزاء العجيب الذي يمنحه لهم. كل اللذين عاشروا الله، تمتعوا بالعزاء، وبالسلام، والطمأنينة، والفرح. وهكذا قال الرسول (أفرحوا في الرب كل حين) (في 4:4). وبهذا العزاء استطاع الآباء أن يعيشوا في البرية وحدهم، بلا أنيس، وهم في متعه الحب الإلهي، يجدون في وحشة البرية عزاء لا يعبر عنه ولذة عميقة بالعشرة الإلهية.. ومن محب الله لقديسيه، أنه أعطاهم الإحساس بالوجود في حضرته.. وفي ذلك يقول داود النبي. (تأملت فرأيت الرب أمامي في كل حين، لأنة عن يميني فلا أتزعزع) ويقول إيليا النبي (حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه) (1 مل 18: 15). إن النفس البشرية التي ذاقت محبة الله، تقول (شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني) شاعرة أن محبة محيطة بها (نش2: 6). ومن محبة الله لنا، أنه يحيطنا بملائكته، تحفظنا وتخدمنا. فيقول بولس الرسول عن الملائكة (أليسوا جميعًا أرواحًا خادمة، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص) (عب1: 14) ويقول المزمور (ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم). وما أعجب أن تخدمنا الملائكة، ونحن لا نستحق مجرد رؤيتهم..! ومن محبة الله لقديسيه، أنه يمنحهم حق الشفاعة أيضًا. لنا أردا الله أن يغفر خطية أصحاب أيوب، قال لهم بعد أن بكتهم (اذهبوا إلى عبدي أيوب. واصعدوا محرقة لأجل أنفسكم، وعبدي أيوب يصلي من أجلكم. لأني أرفع وجهه، لئلا أصنع معكم حسب حماقتكم) (أي 42: 8). وهكذا جعل الله مغفرة مشروطة بصلاة أيوب عنهم. ولما لا تغفر يا رب مباشرة؟! يقول: "لأني أرفع وجهه".. ويظهر الرب لشاول الطرسوسي، ويدعوه إلى خدمته ولكن لا يشرح له ما ينبغي.. وهكذا يعطي الرب كرامه لحنانيا وكهنوته. بل ما أعجب أن الروح القدس يقول لرجال الكنيسة: (افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه) (أع13: 2). ولعلهم يقولون في قلوبهم: ومن نحن يا رب؟! مادمت قد دعوتهما، فقد أنتهي الأمر. ولكن الروح القدس يود أن تمر إرسالية برنابا وشاول من خلال القنوات الشرعية في الكنيسة، حبًا لهذه القنوات. وتدعيمها لشرعيتها وعملها.. ولهذا بعد أن (صاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي وأطلقوهما بسلام).. قيل حينئذ عنهما (فهذان إذ أرسلا من الروح القدس، انحدرا إلى سلوكية..) (أع 13: 3، 4).. نعم أرسلا من الروح القدس. ولكن كيف؟.. من خلا الكنيسة التي يحبها الروح، ويدعم لها اختصاصاتها.. ما أعمق محبتك يا رب! انظروا أيضًا إلى قصة قبول كرنيليوس الأممي الذي صعدت صلواته وتقدماته إلي الرب. وظهر له ملاك الرب يخبره بهذا. ولكن الرب يحيل كرنيليوس إلي عبده بطرس، لكي يخبره بما ينبغي (أع 10:1-6). ذلك لأن الله يريد أن يعمل عن طريق رسله، كهنته. وبهذا يرفع وجوههم كوكلائه، ويثبت لهم في الكنيسة اختصاصاتهم. ولعل من أعجب القصص في محبة الله لقديسيه، ورفعة مكانتهم أمام الكل، قصة إقامة مساعدين لموسى النبي. أراد الله أن يريح نبيه موسى من ثقل المسئوليات التي عليه، وذلك بإقامة مساعدين له، (فقال الرب لموسى: اجمع إلي خيمة الاجتماع فيقفوا هناك معك. فأنزل أنا وأتكلم معك هناك، وأخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم، فيحملون معك ثقل الشعب) (عد11:16، 17).. وكأن موسى يقول: من أنا يا رب الذي تأخذ من الروح الذي علي وتضع عليهم؟! أعطهم من عندك كما أعطيتني! ولكن الله من محبته لموسى، أراد أن يرفع قدره أمامهم، لكيلا يشعروا أنهم صاروا مساوين له.. وذلك إن أخذوا من نفس المصدر الإلهي كما أخذ.. (وخروج موسى وكلم الشعب بكلام الرب، وجمع سبعين رجلًا من شيوخ الشعب، وأوقفهم حوالي حوالي الخيمة. فنزل الرب سحابه وتكلم معه. وأخذ من الروح الذي عليه، وجعل علي السبعين رجلًا الشيوخ. فلما حل عليهم الروح تنبأوا). (عد11:24، 25).. موسى هو الذي اختارهم بنفسه، ولم يعينهم الرب له. وأخذوا من الروح الذي عليه فتنبأوا ليعرفوا أنهم مجرد مساعدين له. فهو الذي أقامهم أمام الرب.. وهكذا عامل موسى، بالأسلوب الذي يحفظ له كرامته ورئاسته بين مساعديه.. من محبة الله أيضًا لقديسيه، أنه أعطاهم سلطانًا علي الطبيعة. كما سبق من قبل أن أعطي آدم وحواء (تك1:6). وكما أعطي أيضًا نوحًا وبنيه، فادخلوا الوحوش والدبيب وسائر الحيوانات إلي الفلك وعاشوا فيه (تك6:19-21). ما أعجب قول إيليا (حي هو الرب.. أنه لا يمكن طل ولا مطر في هذه السنين، إلا عند قولي) (1مل17:1). وفعلًا امتنع المطر أكثر من ثلاث سنوات منتظرًا قول إيليا.. وإيليا يعطي بركة لأرملة صرفه صيدًا، بأن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص، إلي أن ينزل الله المطر علي الأرض، وهكذا كان (1مل17:14-16). ومنع الرب طبائع كثيرة من أن تؤذي قديسيه كما حدث مع يونان في بطن الحوت (يون2). وكما حدث مع الثلاثة فتية في أتون النار (دا 31)، ومع دانيال في جب الأسود (دا 6).. وصار أحباء الله هؤلاء في وضع له سموه، جذب الآخرين إلي الإيمان. في نياحة الأنبا بولا، أرسل الله أسدين فحفرا قبرًا له، لكي يتعب في هذا الأمر القديس الأنبا أنطونيوس الذي أمرهما. أحب الله قديسيه، فأكرمهم في حياتهم وفي وفاتهم أيضًا. يرسل ملائكة لكي تحمل روح لعازر المسكين إلي أحضان إبراهيم (لو16:22). وروح أنبا آمون رآها القديس أنطونيوس، وقد حملتها الملائكة في فرح، لتزفها بالتسابيح إلي السماء. وهناك قديسون عند وفاتهم، كانوا يرون أنوارًا، ويظهر لهم قديسون لاستقبال أرواحهم. وبعض منهم تفوح رائحة بخور عند وفاتهم. فما أجمل قول الكتاب (لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم) (عدد23:10). ومن محبة الله لقديسيه أنه دعاهم "آلهة"! فقال لهم في المزمور (82:6) ألم أقل إنكم آلهة، وبني العلي تدعون) (مز82:6). وقال الرب لموسى (جعلتك إلهًا لفرعون. وهرون أخوك يكون نبيك) (خر7:1).. وقال له عن هرون (هو يكون لك فمًا، وأنت تكون له إلهًا) (خر4:16) يقصد ك توحي له بالكلام الذي تريد أن تقوله. وبالنسبة إلي فرعون تكون سيدًا له.. ومن محبه الله لقديسيه أنه أعطاهم بعض ألقابه: فقال (أنا هو نور العالم) (يو12:46)، وقال (أنتم نور العالم) (مت5:14). وطبعًا الفرق واضح. فهو النور الحقيقي (يو1:9). وهم يأخذون من نوره. وقال (أنا هو الراعي الصالح) (يو10:11). وأقام في الكنيسة رعاة (اف4:11). محبه الله لقديسيه تبدو أيضًا في حنانه عليهم إن أخطأوا، حتى حنانه في عقوبته..! ما أشد قسوة الإنسان، إذا وقع أخوه الإنسان في يده. أما الله فحنون جدًا حتى عندما يعاقب.. لذلك قال داود النبي عبارته المشهورة: (أقع في يد الله، ولا أقع في يد إنسان، لأن مراحم الله واسعة) (2صم24:12) لقد عاقب الرب داود، ولكن عقابه له لم يمنع أبدًا استمرار محبته، حتى بعد موت داود.. فعامل ابنه سليمان برفق، وعلل رفقه عليه بقوله (من أجل داود عبدي) (1مل11:13) أو بقوله له (من أجل داود أبيك) (1مل11:12). وحتى بالنسبة إلي سليمان نفسه، قال عنه الرب لداود أبيه (هو يبني بيتًا لاسمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلي الأبد. أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا. إن تعوج أؤدبه. بقضيب الناس وبضربات بني آدم. ولكن رحمتي لا تنزع منه كما نزعتها من شاول) (2صم7:13-15). جميلة هذه العبارة "إن تعوج أؤدبه. ولكن رحمتي لا تنزع منه". إنها تعبر عن رأفة الله في عقابه.. بل رفقه الله الشديدة تبدو في مقابلته لإنكار بطرس الرسول، الذي أنكره ثلاث مرات وكان يلعن ويحلف إني لا أعرف الرجل (مت26:69-74).. كيف لاقاه بعد القيامة برقة شديدة، وطمأنه علي رسوليته بقولة (ارع غنمي. ارع خرافي) (يو21:15-17). حقًا إن الله يعامل الناس حسب عمق محبته نحوهم وليس حسب خطاياهم إليه. وحتى عندما قال الرب (بسطت يدي طول النهار لشعب معاند ومقاوم).. نسأله (ولماذا تمد يا رب يدك نحو هؤلاء المعاندين؟! ولعله يجيب: ( لأن المحبة التي في قلبي من نحوهم، أقوي بكثير من العناد الذي في قلوبهم من نحوي..). صدق أحد الروحيين حينما قال: إن جميع خطايا الناس إذا قيست بمحبة الله، تشبه حفنة من الطين في المحيط، لا تستطيع أن تعكر مياهه. وإنما بكل هدوء يأخذها المحيط (إذا تابوا) ويفرشها في أعماقه، ويقدم لهم ماء رائقًا.. |
|