أصبحت عادةً لدى المسيحيين أو بالأحرى مَحَط كلام إعلانُ الانتماء إلى المسيح دون الأخذ بمَحمل الجدّ قيمة هذا الانتماء وتطبيقه في عيشهم اليومي، مما يشكل عائقا وحاجزا ما بين الإيمان المُعلَن بالكلام من ناحية، والتطبيق العملي من ناحية أخرى، أي ما نُعلنه ونحتفل به في الإفخارستيا من جهة، وما نعيشه في عالمنا اليومي من جهة أخرى.
من السهل الكلام عمّا قاله وعَلّمه وعَمِله السيد المسيح والاعتراف الشفهي بأنه الإله المخلص وابن الإنسان، أما تجسيده بالأعمال والمثابرة على قاعدة التشابه مع كلام الإنجيل الذي من خلاله نعلن إيماننا، يُصبح الأمر عسيرا. من السهل إعلان يسوع بانه "ابن الله الحي" ولكن من الصعب قبول "نكران الذات، حمل الصليب واتباعه". بذلك نبرهن عن تناقض إنساني- طبيعي كما حصل مع بطرس، هامة الرسل (متى 1621-23)، فكيف لا يحصل معنا؟
حصول ذلك لا يدخل في خانة تبرير ذواتنا من تناقضاتنا وخياناتنا لحب المسيح، فهو لا يبررها البتة، بل بالأحرى يراها عقبة في إنجاز مهمته الخلاصية، ولن يتوجه لنا بالقول نفسه الذي وجهه لبطرس في سياق مسيرته نحو أورشليم "شيطان" او "عدو"، بمعنى "المفرِّق" والذي يضع العقبات أمام مشروعه. كل ذلك رغم أن بطرس عمل جيدا على استيعاب الروح القدس فيه والجواب على يسوع "بأنه ابن الله الحي"، إلا أنه عاد ليفكر بمنطق البشر لا بمنطق روح الله، هذا سببُ الفضيحة بنظر يسوع.
فالفضيحة ليست كما نعتقد عادةً الإحساس بالعار والإبادة الناتج عن سلوك فاضح ومستهجن أمام الرأي العام. بالنسبة للمسيح، الفضيحة هي، في بادئ الأمر، التناقض في ما نقوله عنه كونه إلهنا وما نفكر ونقوم به من أعمال تناقض حكمة الإنجيل، قاعدة إيماننا.
والإيمان به يعني القبول بقواعد اللعبة التي يضعها، أي أنه هو من يقود حياتنا، هو من يُحدّد خياراتنا، حتى لو كل ذلك بثمن باهظ وعكس ما نشاء. لا يمكننا التفكير بحسب هوانا للتمكن من إتبّاع أي زعيم كالمسيح الذي يقودنا للخلاص، للشهرة والمجد. لا يمكننا الادّعاء بإتبّاع المسيح ونحن نفرض عليه شروطنا، كما أنه لا يمكننا التشبه بالكثير من الاشخاص الذين يؤمنون بالمسيح وحبّهم له سطحي ومشروط: "أحبك، ولكن" أي مصلحتي تتقدم على حبّي لك، أو "اتبعك ولكن في هذا المجال لا أوافقك الرأي، فأتردد"، أو "أؤمن بك ولكن إلى حدّ ما".
لنكن صريحين ويقظين: إن كانت الرسالة المسيحية في عالمنا اليوم لا تتقدم، وإن كان العالم اليوم لا يؤمن بالمسيح، فسبب ذلك لا يعود لتقدم وازدهار سائر الديانات وتطورها أو بسبب الاضطهادات بحق المسيحيين – وهي بحسب ما يعلمنا التاريخ نبض حياتها – بيدَ أنّ تلك الأسباب ليست حاسمة لتؤثر على قوة الإنجيل.
العائق الأكبر في وجه المسيحية هو بالتحديد عيشنا التناقض، أي الحكمة المشترطة التي من خلالها نود إخضاع الإنجيل على هوانا، مُجزّئِين الرب. هذا ما يسميه يسوع ب "السلوك الشيطاني" و"العدو الماكر". ليس بإمكاننا المزج ما بين حكمة الله وحكمتنا الإنسانية المشروطة جاعلين من الإيمان هجينة دون لون، او طعم او حتى مضمون. فالقول بأني أؤمن بيسوع وأنا أتبع حكمة عبّاد السلطة والمال لاكتساب الربح المادي، ليس هذا بإيمان، أو الاعتراف بيسوع "ربّي وإلهي" والرفض في الغوص في أوحال المصاعب والمشقات من خلال التزامي المسيحي، ليس هذا ما يُسمى بإيمان.
هذا ما يفسره ويوضحه النبي إرميا في سفره: "قد استغويتني يارب فاستُغويت، قبضتَ عليّ فغلبتَ، صرتُ ضحكة كل النهار فكل واحد يستهزىءُ بي لأني كلما تكلمتُ فإنما أصيح وأنادي بالعنف والدمار، فصار لي كلام الرب عارا وسخرية طول النهار. فقلت: "لا أذكره ولا أعود أتكلم باسمه لكنه كان في قلبي كنار محرِقة قد حُبِست في عظامي فأجهدني احتمالها ولم أقوَ على ذلك" (إرميا 207-9).
عندما يختار الله قلب الإنسان مسكنا له والإنسان يتجاوب معه، عندها يصبح إناءً يشعّ من فضائله، لا يمكنه إلا أن يتكلم ويعمل فقط وبحسب مشيئة الله. فالمواجهة لنصبح مسيحيين مُنتمين قولا وفعلا للمسيح، مازالت قائمة، ولكن ليست مواجهة ضد الله إنما ضد مسلكنا التناقضي. من المهم هو عدم النزول في شروط ومساومات مع الله، إما إتّباعه أو تركه، فمع المسيح لا بديل آخر.