حياته
البداية
نشأ القديس كيرلس في وقت تغلغلت فيه الأفكار الأريوسية(1) واقتنصت بعض الأساقفة الذين انحرفوا عن رسالة الكنيسة والإيمان المستقيم.
في وسط هذا الجو العاصف وُلد كيرلس من أبوين تقيين مستقيمي الإيمان(2) فأرضعاه إيّاه. ويمكننا أن نلتمس ذلك من مقالاته حيث يتحدث عن شعوره بالدين تجاه والديه وشوقه إلى رد الجميل لهما(3).
هذا وإننا لا نجد في مقالاته التي اتسمت بالصراحة أي تلميح من بعيدٍ أو قريبٍ أنه كان يومًا ما هرطوقيًا أو وثنيًا.
أما عن عائلته، فلا نعرف منها أحدًا بالاسم اللهم إلاّ ابن أخته الأنبا جلاسيوس أسقف قيصرية، الذي أشار إليه عند موت أكاسيوس (4) Acacius سنة 366م.
ويرجح البعض(5) أنه ولد في أورشليم أو على الأقل نشأ فيها وهو طفل، معلّلين ذلك بسببين:
1. عادة لا يُرسم رئيس أساقفة على أورشليم إلاّ من كان قد نشأ فيها وعرفه شعبها معرفة قويه منذ نشأة حياته.
2. ما أورده بالتفصيل في مقالاته أنه رأى عيانًا الأماكن المقدسة في أورشليم قبل أن تمتد إليها يد الإمبراطور البار قسطنطين والملكة البارة هيلانة سنة 326م لإصلاحها وتزيينها، وهذا يعني أنه رآها وهو أقل من 10 أو 12 سنة.
كيرلس الراهب
جاء في التقليد أنه راهب ناسك، وربما اعتمد في ذلك على ما ورد في مقالاته من عبارات ينسب فيها نفسه إلى فئة المتوحدين. إلا أننا نعلم أن كثيرين لم تتح لهم فرصة الانطلاق إلى البرية أو التمتع بالشركة في دير، فعاشوا في حياة التوحد داخل المدن في بيوت منعزلة، هكذا التهب قلب كيرلس بالحب الإلهي، فعشق الخلوة مع الله، وكرس كل وقته للعبادة والدراسة.
لم يكن يخرج من منزله إلاّ للاشتراك مع المؤمنين في الصلاة مكرسًا نهاره وليله للخلوة مع سيده، حتى قال مختبرًا: [هل يوجد أنفع من الليل ليصير الإنسان حكيمًا؟!] فقد اختبر حياة السهر والجهاد في الصلاة مع القراءة والتأمل ليتعلم الحكمة السمائية(6).
كيرلس الكاهن
جاء عرضًا في إحدى ملاحظات القديس إيرونيموس (جيروم) أن الأنبا مكاريوس أسقف أورشليم رسمه شماسًا. وغالبًا ما يكون هذا في أواخر حياته على الأرض إذ تنيح حوالي آخر سنة 334م، أو على الأكثر بداية سنة 335م(7).
بعد نياحة الأنبا مكاريوس خلفه الأنبا مكسيموس المعترف(8) أسقفًا على أورشليم، وقد أحب كيرلس جدًا ووثق فيه، فرسمه كاهنًا سنة 343م، وأوكل إليه تعليم الموعوظين، وكان ذلك حوالي سنة 347م أو 348م، والتي تكاد أن تكون كل ما وصل إلينا من مؤلفاته.
كيرلس رئيس أساقفة أورشليم
في أواخر عام 350م سيم أسقفًا على أورشليم، وكان ذلك بمساعدة أكاسيوس أسقف قيصرية بفلسطين وبتروفليس اللذين كانت لهما ميول أريوسية ويبغضان الأنبا مكسيموس(9).
إننا لا نعرف ما هو الدافع الذي بعثهما إلى ذلك، إذا كانت رسامته غير واضحة.
وقد بدأ عهده بحادث مفرح، وذلك أنه في 7 مايو سنة 351م حوالي التاسعة صباحًا في يوم صحو مشمس، ظهر صليب منير في السماء أكثر لمعانًا من الشمس، تعلق فوق جبل الجلجثة، وامتد إلى جبل الزيتون، وبقي ساعات طويلة حتى رآه جميع سكان أورشليم: المواطنون والغرباء، المسيحيون واليهود والوثنيون، الشيوخ والصغار، فتدفق الكل نحو الكنيسة وكانوا يسبحون الله ويمجدونه، إذ تأكد لكثيرين صحة الديانة المسيحية.
ارتجت المدينة كلها لهذا المنظر، وبادر الأنبا كيرلس بكتابة رسالة إلى الإمبراطور يصف له ما حدث. ويُشتم من رسالته أن هذا الأمر كان في بدء أسقفيته.
رعايته
نستطيع أن نلتمس مدى ما اتسمت به شخصية الراعي كيرلس مما ذكره عنه المؤرخ سوزومين Sozomen. إذ حدثت مجاعة في أورشليم والبلاد المجاورة لها، وقد تكدس الفقراء في البطريركية يتضورون جوعًا، رافعين أنظارهم إلى أسقفهم المملوء حبًا. وإذ كان الراعي يعيش في حياة نسكيّة تقشفيّة لا يملك في بطريركيته شيئًا، لم يجد مفرًا من أن يبيع بعض أواني الكنيسة ويوزعها على أولاده الفقراء.
قد يبدو هذا التصرف غريبًا، لكن أمام الحب المتقد في قلب الأب لم يجد سبيلًا آخر غير هذا.
وإننا نجد القديس يوحنا الذهبي الفم يطلب الاهتمام بالفقراء قبل الاهتمام بشراء أوانٍ ثمينة لبيت الرب، إذ يقول:
[أتريد أن تكرم جسد يسوع؟! لا تتغافل عنه وهو عريان! فلا تكرمه هنا في الكنيسة بثياب ديباج وفي الخارج تضرب عنه صفحًا وهو يموت من البرد والعري.
إنه غير محتاج إلى كأس ذهبية بل إلى نفس نقية!]
كيرلس والآلام
وقع صدام بين كيرلس وأكاسيوس ربما كان سبب رغبة الثاني في خضوع الأول له في آرائه الأريوسية، الأمر الذي جعل كيرلس يقوم بمقاومته علنًا، مفندًا الآراء الأريوسية ومنددًا بها.
ولما كان قسطنس يحتضن الأريوسيين، أسرع أكاسيوس بعقد مجمع اتهم فيه كيرلس أنه مبدد لأموال الكنيسة. ولكي يقويّ مركزه أسند الاتهام باتهام لاهوتي مدعيًا أن كيرلس يخلط بين الأقانيم الثلاثة، وبهذا صدر الحكم بتجريده من أسقفيته ونفيه.
لم يبالِ كيرلس بهذا، بل قام من جانبه بعقد مجمع يبرئه من الاتهامات الموجهة ضده.
لكن أكاسيوس المتقرب من الإمبراطور جاء ومعه شرذمة من الجنود، وطردوا كيرلس، وأقام أسقفًا أريوسيًا عوضًا عنه.
نُفي كيرلس إلى أنطاكية، وبعد ذلك إلى طرسوس، فقبله أسقفها سلفانوس كزميلٍ له يشاركه أعمال أسقفيته. لكن للأسف كان هذا الأسقف من أتباع الهومائيين(12) الأمر الذي عرض الأنبا كيرلس للنقد.
أسرع أكاسيوس بتحذير سلفانوس ألاّ يشرك كيرلس معه في الخدمة، لكن الثاني لم يبالِ من أجل محبته لكيرلس، ومن ناحية أخرى كان الشعب قد أُعجب بالأسقف الجديد وتعلق به(13).
وفي عام 359 م. انعقد بسبب أودكسيوس مجمع في سلوكية بـIsauria غرب أرمينيا. وإذ أثير موضوع نفي الأنبا كيرلس فحدث شقاق حاول البعض إقناعه بالانسحاب(14)، لكن بفضل الهومائيين بقي وانسحب أكاسيوس. وبانسحابه استطاع هو وأتباعه من الالتقاء بعظماء القسطنطينية المتصلين بالقصر الإمبراطوري، وعن طريقهم توصلوا إلى الإمبراطور حيث أثاروا غضبه ضد مجمع سلوكية، مقدّمين شكوى أكاسيوس ضد كيرلس التي تتلخص في اتهامه أنه باع لإحدى الراقصات الثوب المقدس الذي أهداه قسطنطين إلى الأنبا مكاريوس الأورشليمي تكريمًا لكنيسة أورشليم، لكي ما يلبسه أثناء خدمته طقس العماد المقدس، وهو منسوج بالذهب، وقد اُستخدم في المسارح.
هذا الاتهام كان بمثابة عينة قُدمت للإمبراطور لإثارته ضد كل أعضاء المجمع.
وقد قام رجال البلاط بإقناع الإمبراطور إلاّ يستدعي المجمع كله، بل يكتفي بعشرة من قادته منهم: أوسطاسيوس(15) الأرمني وباسيليوس الغلاطي وسلفانوس الطرسوسي وايليسوس من Cyzicus.
نفيه الثاني
مع بداية عام 360م انعقد مجمع في القسطنطينية اُتهم فيه كيرلس ودين بسبب مشاركته لأوسطاسيوس الأرمنّي وباسيليوس من أنقرا(16) وجورج من لاودكية(17)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. هؤلاء الثلاثة ليسوا على مبدأ واحد، ولا هم مثقفين في شيء، بل منهم من هو أريوسي المذهب كأكاسيوس لكنه كان يبغضهم لدوافع شخصية، خاصة بعدما قبلوا كيرلس عدوه.
هذا وقد شهد التاريخ الكنسي الأول للقديس كيرلس أنه بالرغم من اختلاطه بهؤلاء الأساقفة وغيرهم، إلاّ أنه لم ينحرف قط عن مبادئه ولا في سلوكه، بل بقي أرثوذكسي العقيدة والمسلك. وهذا ما أكده أيضًا مجمع القسطنطينية سنة 381م في إحدى محاضره.
نعود لنؤكد أن أكاسيوس لم يستطيع أن يثبت عليه أي اتهام، ولم يكن غايته العقيدة الإيمانية، بل كان كل همه الانتقام منه.
انتهى المجمع بالحكم على الأنبا كيرلس بالنفي للمرة الثانية، وإن كنا لا نعلم عن مكان نفيه شيئًا.
كيرلس في عهد يوليانوس
لم يبقَ كيرلس في النفي أكثر من سنتين، إذ في 3 نوفمبر من سنة 361م مات قنسطنس Constantius وهو يستعد لمحاربة ابن عمه يوليانوس، الذي بعدما تولى الحكم أصدر أمرًا بعودة جميع الأساقفة المنفيين إلى كراسيهم. ويقول المؤرخ سوزومين(18) إنه لم يكن الدافع هو الإشفاق عليهم ولا حبًا فيهم، لكنه كان يلذ له أن يري الكنيسة منقسمة متنازعة في داخلها.
عاد كيرلس إلى إيبارشية مارًا على أنطاكية حيث استقبله أسقفها القديس ميليتوس استقبالًا حارًا.
وفي سنة 363م قرّب يوليانوس الجاحد جماعة اليهود إليه. لا محبة فيهم بل إثارة للمسيحيين ولإغاظتهم. يذكر لنا المؤرخون أنه أمد اليهود بالمال، وساعدهم مشجعًا إياهم على بناء الهيكل تكذيبًا لقول السيد المسيح بخصوص خراب الهيكل. وفعلًا أُعدت جميع أدوات البناء، وتهيأ العمال للعمل، وكان القديس كيرلس يُطمئن نفوس شعبه أن كلمات ربنا يسوع لن تسقط.
ذكر لنا سقراط ثلاث معجزات حدثت في ذلك الوقت(19).
أ. حدثت بالليل زلزلة عنيفة جدًا أرعبت العمال اليهود.
ب. جاءت نار، أحرقت مواد البناء استمرت من الصباح حتى المساء.
ج. في الليلة التالية ظهرت انطباعات لصلبان منيرة على ثيابهم، باطلًا حاولوا التخلص منها. ومع هذا كله، فقلوبهم الغبية المظلمة لم تقدر أن تؤمن!
وفي أيام يوليانوس الجاحد أيضًا، يذكر لنا المؤرخ ثيؤدورت قصة ابن كاهن وثني من المقربين إلى البلاط، أخبره الابن بها بنفسه(20)، ملخصها أنه وهو صبي تعلم على يدي شمّاسة صديقة حميمة لأمه. آمن بالمسيحية علي يديها، ولما اكتشف أمره هرّبته إلى الأنبا ميليتوس. وإذ بحث عنه والده ووجده جلده كثيرًا وحرق يديه ورجليه وظهره بمسامير محماة، ثم حبسه في حجرة النوم وذهب إلى معبده... فتمكن الابن من الهروب والالتجاء إلى الشمّاسة التي ألبسته ثوب فتاة وأخذته في عربة مغطاة وأعادته إلى القديس ميليتوس، وهو بدوره أسلمه إلى القديس كيرلس أسقف أورشليم.
وبعد موت يوليانوس قاد الابن أباه طريق الحق.
أما يوليانوس ففي 26 يونيو من ذات العام (363) الذي حاول فيه بناء هيكل اليهود قُتل في حربه ضد الفرس وهو يقول: "غلبتني أيها الجليلي!"
نفيه الثالث
بعد يوليانوس خلفه جوفنيان صاحب الإيمان المستقيم، الذي في عهده استراحت الكنيسة. لكنه لم يبقَ سوى 7 شهور، إذ مات في فبراير 364م، وخلفه فالنتنيان الأرثوذكسي المبدأ في شهر مارس. وقد سلم الولايات الشرقية إلى أخيه فالنز معضّد الأريوسية.
مضي العامان الأولان دون أن نسمع شيئًا عن الأنبا كيرلس، وفي عام 366م مات أكاسيوس، وعلي أثر ذلك قام خلاف بين كيرلس والأريوسيين بخصوص ترشيح خلف له وانتهى الأمر بنفي كيرلس وذلك بمعاونه الإمبراطور الأريوسي.
بقي كيرلس منفيًا أحد عشر عامًا حيث عاد إلى كرسيه ليرى كنيسته متألمة مجروحة من الأريوسيين وأتباع أبوليناريوس(21).
ويمكننا أن نتلمس مدى ما وصلت إليه الكنيسة في ذلك الوقت من التقرير المحزن الذي قدمه القديس غريغوريوس النيسي (335-394م) بناء على طلب مجمع أنطاكية المنعقد سنة 378م لافتقاد كنائس فلسطين والعربية.
على أي الأحوال عاد الراعي إلى رعيته يتفقدها ويهتم بشئونها. وقد اشترك في مجمع القسطنطينية(22) المنعقد سنة 381م بناء على أمر الإمبراطور ثيؤدوسيوس.
وفي عام 388م تنيح القديس كيرلس بعدما قضى 38 عامًا أسقفًا على كرسي أورشليم.