رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البابا شنودة الثالث علاقة الاتضاع بالفضائل والمواهب هناك ثلاث فضائل لا بُد أن تدخل في كل فضيلة، كما يدخل الخيط في حبات السبحة، وبدونها لا تعتبر الفضيلة فضيلة. هذه الثلاث هي الحكمة، والمحبة، والتواضع. فكل فضيلة لا بُد أن تُمارس بحكمة. وبدون حكمة قد تتحول إلى اسم آخر غير الفضيلة، أو تتشوّه صورتها. وكل فضيلة لا بُد أن يدخل فيها عنصر المحبة: محبة الله، ومحبة الخير، وأحيانًا محبة الناس. وبدون المحبة تفقد الفضيلة قيمتها. كذلك لا بُد أن تمارس كل فضيلة في تواضع قلب، وإلا صارت طعامًا للمجد الباطل كما قال القديسون. ونود في موضوعنا هذا، أن نتعرض لعلاقة التواضع ببعض الفضائل كمثال، وأيضًا لعلاقته بالمواهب. ولنبدأ بعلاقة التواضع بالنعمة.
يقول الكتاب "يقاوم الله المستكبرين. أما المتواضعون فيعطيهم نعمة" (يع4: 6). النعمة تمنح المواهب. ولكن المتكبر يفتخر بالمواهب، ويرتفع قلبه بها. لذلك يأتمن الرب المتواضعين على نعمته وعلى مواهبه، لأنهم يقولون باستمرار "ليس لنا يا رب ليس لنا. لكن لاسمك القدوس أعطِ مجدًا" (مز115: 1). وهناك كلمة جميلة قالها مار اسحق وهي: "إذا منحك الله موهبة، فاطلب منه أن يعطيك تواضعًا ليحميها". ذلك لأن التواضع يحمي المواهب من الافتخار والمجد الباطل.. لهذا نحن نعجب من الذين يطلبون من الله أن يمنحهم موهبة التكلم بألسنة، بينما لا يوجد غرباء لهم لغة مجهولة تحتاج إلى موهبة ألسنة لتبشيرهم. وهكذا يستخدمون الألسنة للمجد الباطل، والادعاء بأنهم وصلوا إلى "ملء الروح"!! النعمة ما أخطر المواهب على الذين لم يصلوا إلى الاتضاع بعد. إنهم يفرحون بتلك المواهب بسبب (الذات) وارتفاعها! وهنا نتذكر إن السبعين الذين أرسلهم الرب للتبشير، ومنحهم موهبة إخراج الشياطين "رجعوا بفرح قائلين: يا رب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك". فوبخهم الرب قائلًا "لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم. بل افرحوا بالحري أن أسماءكم قد كُتبت في السموات" (لو10: 17، 20). ونفس الوضع حينما تساعد النعمة إنسانًا على اكتساب فضيلة: إن كان متواضعًا، ينسب الفضل لله وليس لنفسه. ويقول كما قال القديس بولس الرسول "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا" (1كو15: 10). ويخشى أن يفتخر أو يتكبر، فتسحب النعمة عملها منه فيسقط. بل هو بالأكثر ينكر ذاته، ويحاول أن يخفي فضائله: لا على الناس فقط، بل حتى على نفسه. ولا يتأمل ما هو فيه من فضيلة. بل يحاول أن ينساها. ويتحول شعوره إلى الشكر، لا إلى الفخر.. أما الفضيلة عند المتكبر، فهي عرضة للضياع. ولا تكون فضيلة حقيقية. بل لا يتبرر بها، كما حدث في قصة الفريسي والعشار (لو18: 9-14). ذلك الفريسي وقف في الهيكل مفتخرًا بفضائله، حتى أمام الله! فقال "أشكرك يا رب أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار. أنا أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشّر كل ما أقتنيه" (لو10: 11، 12). هذا الفريسي لم يذكر عمل النعمة معه. ولم ينفعه صومه ولا عشوره، ولا بعده عن بعض الخطايا. لذلك لم يخرج من الهيكل مبررًا (لو10: 14). ننتقل إلى نقطة أخرى. وهي علاقة التواضع بالتوبة: التوبة المتواضع هو الذي يصل إلى التوبة. أما المتكبر فلا يقدر. المتكبر لا يشعر أن له عيوبًا تحتاج إلى إصلاح. أو أنه واقع في خطايا تحتاج إلى توبة. ذلك لأنه "بار في عيني نفسه". والذي يكشف له ضعفاته وأخطاءه وينصحه بالتوبة، لا يقبل ذلك منه، بل يعتبره عدوًا..! فكيف يتوب هذا المتكبر، وهو لا يعرف عن نفسه خطية يتوب عنها؟! أيضًا المتكبر يظن أنه أكبر من أن يخطئ، فلا يحترس. فيسقط. وبسبب ادعائه القوة، قد يعرض نفسه إلى مواقع الزلل، في غير مبالاة ولا حرص، فيضربه الشيطان في مقتل. وهكذا قال الكتاب عن الخطية إنها "طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء" (ام7: 26). والمقصود بكلمة (أقوياء) هنا: من يظنون في أنفسهم أنهم أقوياء.. وقد ذكر مار اسحق أن العجرفة تسبب السقوط فقال إن "المتعجرف بالفضلة يسقط في الخطية، والمتعجرف بالعلم والمعرفة يسقط في البدعة والهرطقة".. والكتاب يقول "قبل الكسر الكبرياء. وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم16: 18). نقطة أخرى وهي أنه: حتى لو اعترف المتكبر بأنه خاطئ، وسعى إلى التوبة، فإنه يعتمد على قوته وإرادته الروحية. يظن أنه قادر على ضبطه لنفسه. ثم يكشف عمليًا أن نفسه ليست بالقدرة التي تستطيع أن تقاوم كل حين العدو، وأنها لا تقدر أن "تطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة" (أف6: 16). وعلى الرغم من ذلك يتشبث بادعاء القدرة والصمود! أما المتواضع فيعترف بأنه خاطئ وأنه ضعيف، وأنه محتاج إلى قوة من فوق تساعده على التوبة. ويردد تلك العبارة العميقة: "توبني يا رب فأتوب" (أر31: 18). المتواضع لا يعتمد على نفسه في التوبة. بل من أعماقه يردد قول المزمور: "انضح علىّ بزوفاك فأطهر. أغسلني فأبيض أكثر من الثلج "قلبًا نقيًا اخلق فيّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي" (مز51: 7، 10). ويقول كما في صلاة الساعة الثالثة "نقني من دنس الجسد والروح". وحينما ينعم الله عليه بالتوبة، لا ينسب ذلك إلى جهاده الروحي، بل إلى نعمة الله التي أنقذته من الخطية. فيشكر ولا يفتخر. والمتواضع -إذ يشعر بضعفه- يحترس من أبسط الحروب الروحية. يحترس من أقل عثرة، ومن الحروب التي تحارب المبتدئين. ويردد ما قاله القديس الأنبا أنطونيوس -في اتضاعه- للشيطان "أنا أضعف من أن أقاتل أصغركم"! وإذ يتوب المتواضع، لا ينسى خطاياه السابقة وضعفاته، بل ينسحق قلبه بسببها، وتمتلئ عيناه بالدموع. كما حدث مع داود في توبته (مز6). إن هناك علاقة متبادلة بين التوبة وتواضع القلب. التواضع يقود التوبة. والتوبة تقود إلى الاتضاع. إنها تقود التائب إلى القلب المتخشع والمتواضع الذي لا يرذله الله (مز50). ولنأخذ داود كمثال في توبته واتضاعه وانسحاقه ودموعه، حيث يقول للرب في مزاميره "لصقت بالتراب نفسي، فأحيني ككلمتك" (مز119: 25) "ضللت مثل الخروف الضال، فاطلب عبدك" (مز119: 176) "خير لي أنك أذللتني، حتى أتعلم حقوقك" (مز119: 71). ويقول أيضًا "تعبت في تنهدي. أعوّم كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي"، "ارحمني يا رب فإني ضعيف" (مز6). نقطة أخرى تتعلق بالاتضاع. وهي الاعتراف وكشف الأفكار. الشفقة على المخطئين إنه يشفق على الخطاة ويقابلهم بحنو، لأنه عارف بضعف البشرية وقوة حروب الشيطان. ويضع أمامه قول القديس بولس الرسول: "أذكروا المقيدين، كأنكم مقيدون معهم. واذكروا المذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب13: 3). ويذكر قول الرسول أيضًا "ناظرًا إلى نفسك لئلا تُجرب أنت أيضًا" (غل6: 1). المتواضع إن رأى خاطئًا، يقول في نفسه "كلنا تحت الضعف". ويذكر أنه قد قيل عن إيليا النبي "إيليا كان إنسانًا تحت الآلام ملنا" (يع5: 17)، مع أنه بصلاته أغلق السماء فلم تمطر، ثم صلى فأمطرت. المتواضع يستر على الخطاة، لشعوره أنه محتاج إلى الستر مثلهم. إنه يرحمهم في سقوطهم، حسب قول الآباء "من يرحم، باب الرحمة مفتوح أمامه" وكما يقول الرب "طوبى للرحماء، فإنهم يُرحمون" (مت5: 7). ويقول في قلبه "أرحم غيري لكي يرحمني الله. وأنا مثلهم خاطئ محتاج إلى الرحمة. وما يزرعه الإنسان، إياه يحصد. والرب يقول "بالكيل الذي به تكيلون، يُكال لكم" (مت7: 2). المتواضع في رحمته على الخطاة والضعفاء، لا يفرز المستحق من غير مستحق.. إذ يقول لو كانت الرحمة للمستحقين فقط، فأنا غير مستحق. والرب إلهنا الحنون، قد قيل عنه إنه "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين. ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت5: 45)، لذلك فالمتواضع لا يتشامخ على أحد، ولا يحتد ولا يدين. بل يعامل الكل بشفقة وحنان وحب. حتى الذين يؤذونه، يرحمهم أيضًا. ينظر إلى احتياجهم، وليس إلى انتقام نفسه لنفسه. أما المتكبر فهو غير ذلك. قد ينظر إلى الخطاة في اشمئزاز وتعال كما تنظر قمة الجبل إلى المستنقع في أسفل الوادي. وكأن هذا المتكبر لم يخطئ ولن يخطئ!! لذلك فهو يدين الخطاة ويزدري بهم. وقد يشهر بهم أيضًا. الإيمان والبساطة * المتواضع له بساطة القلب التي تقبل من الله كل شيء، دون مجادلة ودون شك. مثل بساطة الأطفال الذين يتلقون قواعد الإيمان، فيقبلونها دون مجادلة. ولهذا قال الرب "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت18: 3). على أن كثيرًا من الناس كلما تنمو عقولهم، تقف عقولهم ضد بساطة الإيمان، ولا يقبلون إلا ما تستطيع عقولهم أن تستوعبه عن الله وعن حكمته ووصاياه! بينما عقولهم محدودة، والله غير محدود. ولا يستطيع المحدود أن يستوعب غير المحدود. * وهكذا فإن بعض الفلاسفة انحدروا إلى الإلحاد، إذ أنهم في كبرياء المعرفة اعتزوا بعقولهم، ورفضوا الله الذي لا يرونه ولا يلمسونه. يُروى عن أحد الفلاسفة أنه مر في طريقه على أحد الحقول، ورأى فيه فلاحًا راكعًا يصلي. فوقف يتأمله في تعجب. وقال في نفسه "أنا مستعد أن أتنازل عن نصف فلسفتي، إذ مُنحت بساطة هذا الفلاح الذي بكل ثقة يتكلم في صلاته مع كائن لا يراه"!! ونرى في هذه القصة مثالًا عن تواضع البساطة التي تقود إلى الإيمان، إلى جوار "المعرفة التي تنفخ" (1كو8: 1)، وتقود إلى الكبرياء الذي ينكر وجود الله! عجيب هذا الأمر جدًا: أن العقل وهو هبة من الله للإنسان، يستخدمه الإنسان لينكر الله الذي وهبه إياه. وإذ بالفيلسوف قد يكون أكبر الناس عقلًا، يتحول في كبرياء العقل إلى الجهل بالله. وصدق المرنم حينما قال في المزمور "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز14: 1). * في كبرياء العقل أيضًا ينكر المعجزة. ينكرها لأنه لم يفهمها، فيدعي أن المعجزة ضد العقل! والواقع أن المعجزة ليست ضد العقل، إنما هي مستوى أعلى من العقل. يقبلها إيمان المتواضع، ويرفضها العقل المتكبر. ولهذا فإن المتواضعين يطلبون من الله المعجزة وقد يهبهم إياها إن كانت توافق مشيئته. بينما المتكبر لا يطلب المعجزة. وإن حدثت أمامه، يحاول أن يرجعها إلى أسباب طبيعية، أو يقابلها بتعجب دون أن يرجعها إلى الله.. * ومن المعجزات التي ينكرها العقل المتكبر: الخلق والقيامة. بينما كل المؤمنين بالله في العالم أجمع يؤمنون بالخلق من العدم، ويؤمنون بالقيامة من الموت. ويصدقون -في اتضاع وبساطة- ما قالته كتب الوحي الإلهي عنهما. في إنكار الخلق، قال الغنوسيون إن المادة أزلية، بينما لا يوجد أزلي إلا الله وحده.. وماذا أيضًا عن الحياة؟ لا يمكن أن تكون الحياة الأرضية أزلية. لأنه مرّ وقت كانت فيه الأرض قطعة ملتهبة، حينما انفصلت عن المجموعة الشمسية، وكانت حرارتها لا تسمح بوجود حياة لبشر أو حيوان أو إنسان. فمن أين إذن أتت الحياة؟ لاشك من الله. وهنا يتفق العقل مع الإيمان. ولكن المتكبرين يرفضون قبول الله، لأن عقولهم ترفض أن تتنازل عن كبريائها، وتريد أن تستوعب فكرة وجود الله..! وغالبية الفلاسفة ترفض عقولهم فكرة القيامة بسبب الكبرياء التي ترفض كل ما لا تفهمه! ألسنا بالنسبة إلى كثير من المخترعات الحديثة: نقبلها دون أن نفهمها؟! ولا يفهمها إلا المتخصصون في العلم الخاص بها..! الرؤى أيضًا والظهورات الروحية، يراها المتواضعون ببساطة قلوبهم.. يقبلونها، ويفرحون بها، بل وينتظرونها ويتهللون برؤيتها. بينما المتكبرون قد لا يرون لأن قلوبهم غير مستعدة، أو لأن الكبرياء تعوق الإيمان. أو لأنهم حتى إن رأوا نورًا إلهيًا، يحاولون أن يرفضوا مصدره الإلهي، زاعمين تخمينات لا يسندها العقل ولا الواقع، مثل الليزر والأطباق الطائرة UFO!! وتسألهم عن مصدر ذلك الليزر وتلك الأطباق الطائرة، وعلاقتها بتلك الرؤى، فلا يجيبون.. مجرد الرفض هو الأساس في تفكيرهم، ويخولهم العقل، وينقصهم الإيمان، بسبب الكبرياء.. * نفس الوضع بالنسبة إلى الكتب المقدسة: يقبلها المتواضعون بإيمان وفرح. بينما الكبرياء تقود البعض إلى النقد الكتابي Biblical Criticism. يجعلون عقولهم مشرفة على الكتاب المقدس. تحلله وتنتقده، وتقبل فقط ما تقبله عقولهم، وترفض الباقي. وأيضًا تضع الكتاب المقدس خاضعًا لأهواء الناس، يرفضون منه ما لا يوافق أهواءهم. مثل المؤيدين للشواذ جنسيًا أو الخائفين منهم، أو المشجعين للشذوذ الجنسي Homosexuality، هؤلاء يرفضون آيات الكتاب التي تدين هذا الشذوذ. ليس لهم التواضع الذي يقبل كلام الله ويطيعه. بل في كبرياء لا يقبلون ما لا يستطيعون طاعته بسبب شهوات قلوبهم! وهناك ما ترفضه عقولهم، لا لأنه ضد العقل. وإنما لأن عقولهم ليست حرة، بل هي مقيدة بقيود أهوائهم وشهواتهم. * والمتكبرون لهم أيضًا أسلوبهم في ترجمة الكتاب المقدس وفي تفسيره. فالبعض قد يترجم الكتاب ترجمة توافق معتقداته، فيحرف فيه ويغير. مثلما فعل شهود يهوه في ترجمتهم التي أسموها (ترجمة العالم الجديد للكتاب): New World Translation of The Scripture ففيها آيات كثيرة محرفة في مدلولها وألفاظها لتثبيت ما ينادون به من بدع وهرطقات. ويستخدمون هذه الترجمة في كتبهم ويضلون بها الناس. والمتكبرون أيضًا يفسرون حسب هواهم وفهمهم ونوع عقلياتهم، ولو أدى الأمر أن ينشئوا مذهبًا جديدًا. ولهذا السبب كثرت المذاهب في بلاد الغرب، وتعددت طوائفهم. أما المتواضعون فليسوا كذلك. إنهم يقبلون الكتاب كما هو، ولا يخلطونه بنوعية عقولهم في الترجمة أو التفسير. ويعتمدون في معناه ومفهومه على ما وصل إليهم من التقليد Tradition ومن أقوال الآباء وتفسيراتهم. كل هذا يقودنا إلى نقطة أخرى هي علاقة التواضع بالتعليم. التعليم * ونود أن نطرق هذه النقطة من ناحيتين هما: تعليم الإنسان لغيره، وقبول الإنسان للتعليم من غيره. فالمتكبر يحب أن يأخذ صفة المعلم، ويرى في نفسه الكفاءة أن يعلّم غيره. أما المتواضع فإنه يفضل باستمرار أن يتعلم، لكي ينال معرفة، أو لكي يزداد في المعرفة. وهو مستعد أن يتلقى العلم ويقبله، حتى لو أتاه في صورة توبيخ، أو إن أتاه ممن هو أصغر منه. بل هو بنفسه يطلب العلم. وأمامنا قصص من سير القديسين في قبول التعليم وفي طلبة: * القديس الأنبا أنطونيوس في بدء رهبنته، كان يجلس على حافة القرية يتعلم الفضيلة من النساك هناك. وفي أحد الأيام أتت امرأة لكي تستحم في النهر، وبدأت تخلع ملابسها أمامه. فقال لها "يا امرأة، أما تستحين أن تتعري أمامي وأنا راهب؟!" فقالت له في استهزاء "من قال إنك راهب؟! لو كنت راهبًا، لدخلت إلى البرية الجوانية. لأن هذا المكان لا يصلح لسكنى الرهبان". فاستمع الأنبا أنطونيوس إلى إجابتها في اتضاع شديد، واعتبر أنها رسالة من الله إليه على فمها. وفعلًا ترك المكان ودخل إلى البرية الجوانية والقديس أنبا مقار الكبير، أخذ نصيحة من صبي راعي بقر. والقديس الأنبا موسى الأسود، سأل زكريا الصبي كلمة منفعة. فلما قال له الصبي "أأنت عمود البرية ومنارتها وتطلب مني؟!" أجابه القديس "أنا واثق يا ابني، بالروح الذي فيك، أن عندك كلامًا ينقصني معرفته". والبابا ثاوفيلس، الثالث والعشرون في عداد البطاركة، كان يذهب أحيانًا إلى البرية ليطلب كلمة منفعة من أحد المتوحدين مثل الأنبا أرسانيوس والأنبا بفنوتيوس. حتى حينما كان يعتذر البعض منهم عن لقائه، كان يمضي منتفعًا! * والمتكبر "حكيم في عينيّ نفسه" يتباهى بمعرفته. لذلك لا يطلب المعرفة من غيره! وفي كبريائه، لا يجد أحدًا أكثر منه معرفة حتى يطلب منه مزيدًا من العلم. بعكس المتواضع الذي لا مانع عنده من أن يسأل. ولا مانع من أن يقول عن أحد الأمور "لا أعرف". وهو يستمع إلى كلام غيره ليستفيد. أما المتكبر فإنه يقاطع غيره إذا تكلم، لكي يثبت رأيه هو وكلمته. وهو كثير الجدل والنقاش. * المتواضع يضع أمامه قول الرسول: لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا" (يع3: 1، 2). لذلك فهو يحترس جدًا في مسائل التعليم لئلا يخطئ. ولا مانع لديه من أن يستشير ليتأكد، أو يرجع إلى المصادر الرئيسية ليرى أن تعليمه موافق لعقيدة الكنيسة وأقوال الآباء، وبخاصة لو كان بصدد فكر جديد. أما المتكبر فبكل جرأة يقدم تعليمًا جديدًا. وقد يقع بذلك في بدعة. إنه يفرح بأن يطرق أمورًا عويصة قد تكون فوق مستواه "ويرتئي فوق ما ينبغي" (رو12: 13)، ويبدى الرأي كأنه عقيدة جديدة محاولًا إثباتها! وإن عارضته الكنيسة يتشبث بفكره، وتمنعه كبرياؤه من التنازل عما علّم به. وهكذا يقع في الهرطقة. وقد حدث ذلك مع ترتليانوس، وأوريجانوس، وآريوس، ونسطور". وفي هذا المجال أتذكر أنني كتبت بضع مقالات بعنوان: "البدعة كالكبرياء. كل قتلاها أقوياء". لذلك ما أجمل قول السيد الرب "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" (مت11: 25). نعم، إن المتواضعين هم الذين ينالون حكمة من فوق، لأنهم يطلبونها. أما المتكبرون فتخفى عنهم الحكمة الإلهية، لأنهم مكتفون بحكمتهم البشرية. وهكذا رفض الله حكمة هذا العالم المغرور بحكمته (1كو1: 20). وأصبحت كثير من فلسفات العالم تقود إلى الشك والبلبلة. |
|