رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
عمل الروح القدس _ متى المسكين عمل الروح القدس داخل النفس عند الأباء أنطونيوس ومكاريوس وإسحق السرياني بقلم الأب متى المسكين الآباء القديسون الأوائل لهم سيرة عليها بصمة الروح القدس بلا نزاع، إنها سيرة روحانية بكل معنى الكلمة، ورائحة الروح القدس العطرة - كما يصفها القديس أنبا أنطونيوس - تفوح من أعمالهم وأقوالهم التي تركوها لنا ميراثاً ثميناً. والعجب أن هرلاء القديسين، من حيث سيرتهم السابقة، فإن غالببيتهم خرجوا من بيوت أمية وبيئات اجتماعية دون المتوسطة، ومنهم من كانوا أشراراً عتاة تقلبوا على كل مراتب الخطيئة والشر، ولكن بانقيادهم للروح القدس بعزم لا يُقهر وبنشاط حار وتلقائية سريعة بلا تحفظ عند تقبلهم أول هاتف للتوبة، صاروا قديسين وأبراراً، وصارت حياتهم نبراساً ونموذجاً للكنيسة كلها، للإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق. واستمرت فاعلية الروح القدس الصفة الأولى والعظمى السائدة على كل نشاطهم وحياتهم، فأكملوا قول الرسول - منقادين بروح الله (رو 8). لذلك فقد استطاع الروح أن يحقق في حياتهم بل وفي أنفسهم وأجسادهم كل مواهب المسيح وعطاياه الخلاصية الفائقة. فحياتهم ترجمة واقعية لمعنى الفداء وعمل الخلاص والمسح بالدم والميلاد الثاني وحياة التجديد والإيمان العامل بالمحبة، والرجاء الحار الذي يعيش ملء المستقبل في صميم الحاضر ويتذوق حتى فداء الجسد، والحب الذي يحوّل أعظم الآلام إلى نشيد للنصرة، حتى في أشد وأعنف الإضطهادات كانت تُسمع في أفواههم تسبحة الغلبة والخلاص، والنطق بالشهادة الحسنة للمسيح من تحت حد السيف. فالذي يقرأ رسائل القديس أنطونيوس يخرج بانطباع روحي لا يمكن أن يفارقه مدى الحياة: نار نار نار، الدعامة الأساسية في تعاليم أنطونيوس نار إلهية تسكن النفس وتطير بها مرتفعة نحو السماء. هذه النار عند أنطونيوس هي سر الحياة الروحانية وأساس كل سيرة في المسيح ومبدأ كل فضيلة وعلة كل عمل صالح: "إذا عُدِمت هذه النار تصير كالطير الذي نُزع جناحه" (رسالة 18). لذلك فحروب الشيطان تتركز كلها ضد هذه النار الإلهية التي تسكن النفس: "فلا تدعوا قوة هذه النار تُنزع منكم، لأن حروباً كثيرة كائنة لكم من الشيطان لأجل هذه النار المعطاة لكم من الرب لكي ينزعها منكم، لأنه يعلم أنه لا قدرة له عليكم ما دامت نار الله فيكم" (رسالة 18). ولا يطيق أنبا أنطونيوس أن يرى أحداً بدون هذه النار، فهو يستحث أولاده جميعاً وكافة من يسمعه أو يقرأ له أن يقتني هذه النار، لأنها جوهر الحياة الروحية والقوة الوحيدة الدافعة التي تدفع النفس إلى السماء وسط محن الحياة وحقد الشيطان وكل أهوال الموت! إسمعه يقول: "ذلك الروح الناري العظيم الذي قبلته أنا أقبلوه أنتم أيضاً"، ثم يتوسل إلى أولاده أن لا يشكوا قط في إمكانية قبوله: "لا تفكروا في قلوبكم وتكونوا ذوي قلبين وتقولوا من يقدر أن يقبل هذا، لا يا أولادي، لا تدعوا هذه الأفكار تأتي إلى قلوبكم، بل اطلبوا باستقامة قلب وأنتم تقبلونه" (رسالة 8). وعند أنطونيوس، عبثاً يقاوم الإنسان أفكاره الشريرة ونشاط قواه التصويرية للنجاسة أو البغضة أو الحقد أو العداوة إلى أن يستسلم العقل لله نهائياً وكلياً، ويسلم كل أفكاره للروح القدس ليحرقها أمامه: "وبسلطة العقل تطلبون من الله أن ينعم عليكم بإتيان ناره غير المادية من العلا إليكم لتحرق كل أفكاركم ومشوراتكم الردية التي في تلك المجمرة (أي الجسد)" (رسالة 16). ولا ينفرد أنبا أنطونيوس بهذا الإحساس الغامر والدائم لفعل الروح القدس الناري في النفس والجسد، بل يشاركه بنفس الحماس والغيرة أنبا مقار، في الإحساس بفاعلية النار الإلهية داخل النفس كاشفاً سراً من أسرار قوة صلاة القديسين الذين تسكنهم هذه النار الإلهية. إذ يقرر أن طبيعة هذه النار الإلهية طبيعة حارقة للشيطان وكل أفكاره وتصاويره: "النفس إذا كان لها إقامة في شركة الروح القدس، فإن طول إقامتها في نار الروح ونوره الإلهي يحصنها ضد أي مضرة من أي روح شرير لأنه إذا اقترب من النفس فإنه يحترق بنار الروح السمائي" (عظة 30). ويعود أنبا مقار ويؤكد أنه يستحيل على النفس القاسية والقلب الحديدي الصخري الذي تقسَّى بالخطيئة والشهوة والكبرياء والعداوة، يستحيل أن يلين إلا بهذه النار السمائية، فهي وحدها القادرة على تغيير طبيعة النفس: "حتى إذا نالت النفس هذه النار السمائية ومحبة الروح، حينئذ تنفك من محبة العالم وتفلت من كل فساد الهواء وتتغير طبيعتها من يبوسة الخطيئة" (عظة 4). كذلك فالذي يقرأ عظات أنبا مقار يخرج بانطباع عام لا يمكن أن يمحى من قلبه، وهو تركيزه الفائق للوصف والحد على شدة العلاقة التي تربط الروح القدس بطبيعة النفس التائبة، فهو لا يكف ولا يهدأ من إعطاء التشبيهات المتوالية حتى يرسم في ذهن السامع عمق الصلة السرية المتعددة الصفات والإمكانيات التي تربط بين الروح القدس والنفس. ومن ثم فإن تعدد الرُبُط وتعدد الصلات هو سر تعدد المعونات وتعدد مفاعيل الروح القدس في النفس البشرية. فالقديس أنبا مقار يمثل الإلتحام الكائن بين طبيعة الروح القدس وطبيعة النفس بالتعانق الحادث بين خيوط السَّداة القوية الزاهية بخيوط اللُحمة الضعيفة الباهتة التي يتكون منها نسيج بهيج له صفة الأقوى. ثم يعود ويمثل التغلغل الكائن بين طبيعة الروح القدس وطبيعة النفس بالماء الذي يغمر قطعة صخرية ويحيط بها من كل الجهات، فيجعلها تخف وتسهل حركتها. ثم يعود ويمثل التداخل الشديد والغامر بين الروح القدس والنفس بإيقاد مصباح في مكان مظلم. ثم يعود ويمثل الإتحاد بين الروح القدس والنفس باتحاد نسمة الحياة بالجسد القابل للموت. ثم يعود ويمثل اتحاد الروح القدس بالنفس باتحاد النار بالحديد الصلب لفترة طويلة حتى يذوب ويتغير عن طبيعته. ثم يعود ويمثل هذا الإتحاد بالجناحين بالنسبة للطائر الذي يطير بهما في السماء ثم يعود ويمثل هذا الإتحاد بالمعجزة التي تمت على يدي إليشع النبي عندما ألقى قطعة خشب صغيرة في الماء (2 مل 6)، فالتصق الخشب بالحديد الساقط في قعر الماء وارتفع به إلى السطح، والأخف رفع الأثقل!! وفوق هذا كله، وقبل هذا كله، يصف الإتحاد الكائن بين الروح القدس والنفس البشرية بالعلاقة السرية جداً القائمة بين روح الله والشاروبيم الحامل لعرش الله، هذه الصلة التي جعلت من الشاروبيم ذوي الأوجه المخلوقة، حيواناً روحانياً مسبحاً، كريماً جداً ولائقاً أن يحمل عرش الله. هذا، ولكل تشبيه من هذه التشبيهات عمل خاص للروح القدس يعمله داخل النفس ليكملها بالكمال المسيحي!! ويكفي القارئ أن يتصور في نفسه إمكانية وجود هذه الصلات جميعاً التي تربط بين نفسه وبين الروح القدس، حتى ينذهل من فرط رحمة الله وحبه واتضاعه الذي وهبنا روحه الخاص الذي جعله بهذا القرب من طبيعتنا، وهذا الحب المجاني والتودد الفائق الإتضاع، لنتوب ونتجدد في الذهن والسيرة، ونصير بواسطته وبالإتحاد به والشركة معه خليقة روحانية صالحة جديرة بحلول الله ولكي يملأها بمجده لنسبحه الليل والنهار وإلى الأبد تسبيح الغلبة والخلاص. +++ أما مار إسحق فعلى مدى كتبه الأربعة الضخمة التي تضم أكثر من ستمائة صفحة والتي يتحدث فيها عن كل ما يهم الناسك المسيحي السائر في طريق الحياة الأبدية، هذه كلها يخرج منها القارئ بانطباع يملك عليه كل تفكيره وهو عمل النعمة في الجهاد اليومي، النعمة النعمة النعمة. والنعمة عند مار إسحق هي الملكوت، وهذا أيضاً هو ذات ما يقوله أنبا مقار في خطابه الكبير: "لأن ما هو هذا الملكوت الداخلي، "هوذا الملكوت داخلكم"، إلا فرح الروح، هذا الذي يتدفق بقوة في النفوس المستعدة. أليس هذا الفرح وهذه الراحة المثمرة وهذا السُكر الروحاني هو نفس ما يتذوقه المختارون في الفردوس في نور مجد الله؟" كذلك فإن النعمة عند مار إسحق هي أيضاً عطية الروح القدس، وهي الروح القدس، ثم بدونها لا يمكن أن تُقام صلاة مقبولة أمام الله، بدونها يستحيل أن تهدأ الأفكار الطائشة وينجمع الفكر في الصلاة، بدونها لا يمكن أن يصلي الإنسان حتى ولو بتغصب، بدونها يستحيل الجهاد الجسدي أو النسك أو الصوم الخالي من الإرهاق والتوجع، بدونها يستحيل احتمال الضيقات أو المظالم، بدونها يستحيل الصبر على الآلام والأمراض والأعواز، بدونها يستحيل الإنفصام عن شهوات الدنيا ومجاذبات العدو، بدونها يستحيل القيام بأعمال إيمانية جريئة وإعطاء الشهادة الشُجاعة في حينها، بدونها يستحيل مواجهة الموت بدون انزعاج. والعكس، عند مار إسحق أيضاً، صحيح. فالنعمة التي تمنح الصلاة تحل وتأتي أيضاً بالصلاة!! أو بمعنى آخر إن النعمة أولاً تشجع وتحث على الصلاة، فإذا استجاب الإنسان لحث النعمة تعود فتنسكب جهاراً بغزارة وبحرارة. كذلك النعمة التي توحي بالتغصب تأتي أيضاً بالتغصب، أو بمعنى آخر، يقول إن النعمة تحث على التغصب، فإذا استجبنا للتغصب سواء على الصلاة أو الصوم أو احتمال الإهانة أو الشتيمة أو الظلم تكون النتيجة أن النعمة تنسكب جهاراً بغزارة وفيض عظيم. كذلك فإن النعمة بنفس هذا الإتجاه المزدوج، تأتي بفيض وبغزارة عند احتمال الضيقات والآلام والأمراض والإنفصام عن شهوات العالم والجسد والشيطان وعند القيام بأعمال جريئة والشهادة الحسنة. وهكذا تغطي النعمة كل تعاليم مار إسحق، فهي تعمل من خلف النفس لتحثها على ركوب الصعاب حباً وكرامة وشهادة للمصلوب، ثم تسرع لتسند يمين السائر في الطريق الحرج. فإذا تقوَّم ونجح، تُسرع وتتلقاه بالحضان عند نهاية الجهاد لتملأه أفراحاً سماوية وهدوء نفس، هذا الذي يسميه مار إسحق "عدم التألم" الذي يبلغة المجاهد النشيط المُعان بالنعمة في نهاية الطريق الحرج!! وتعاليم مار إسحق تبلغ قمتها عندما يتحدث عن الحب الإلهي، فهو الثمرة الوحيدة التي تثبت أن الجهاد صحيح من صلاة وصوم ونسك وخدمة وعبادة. ولكن لا يمكن اقتناء الحب الإلهي بالصلاة ولا بالصوم ولا بالنسك ولا بأي عمل آخر، فهو من عمل الروح القدس مباشرة: "حب الله ليس هو عاطفة عابرة بدون إفراز، ولا هو يُقتنى من معرفة الكتب، ولا هو يتولد من الفضيلة وعمل مخافة الله، أو يُقتنى بالجهاد أو بتصور حب الله، ولا ياتي من تأدية واجبات المحبة حسب الوصية، بل إذا قبل الإنسان روح الإستعلانات وتجددت نفسه بحركات الروح وحكمة الله التي تفوق العالم، فإنه يحس بعظمة الله جداً في نفسه. وبدون هذا الروح لا يمكن أن يدنو أحد من مذاقة الحب الممدوحة" (جزء 1، ميمر 1). +++ ولكن من وجهة نظر الكنيسة نستطيع أن نقول إن العنصر الأساسي المشترك في حياة الآباء جميعاً من جهة عمل الروح القدس النشطن هو عملية البناء العجيبة التي يضطلع بها الروح القدس، بناء جسد المسيح السري، من هذه النماذج المخلوقة المتجددة المتعددة من الشخصيات البارزة وغير البارزة، من الأفراد والجماعات والتجمعات في كل الأماكن وعبر الأجيال، كل من انقاد بالروح وأطاعه وخضع لصوته وسار بتدبيره السري البسيط. حتى أنه أصبح لدينا الآن من واقع حياة هؤلاء الآباء العظام ومناهجهم وسلوكهم وأقوالهم صورة رؤيوية لكنيسة المسيح الروحية، جسده السري، تكاد تكون كاملة. أو بمعنى آخر ألا نستطيع أن نرى بالروح من حياة هؤلاء الآباء الأطهار وكل أخوتنا ومن سلوكهم العفيف وترفُعهم عن أهواء هذا العالم وهروبهم من مجده الباطل وسلطانهم المطلق على الجسد وفرحهم في الآلام واحتمالهم وصبرهم الفائق على كل الضيقات والمحن - أقول ألا نرى في هذا صورة للمسيح القائم من الموت غالباً العالم وساحقاً الشيطان تحت رجليه؟؟ ثم ألم ينجح الروح القدس بهذا في تكوين أعضاء ممتازة لجسد المسيح السري بقيادته الحكيمة الفردية والجماعية لهؤلاء الآباء وتلاميذهم ورعاياهم في طريق الصليب؟؟ ألم ينجح الروح القدس في وضع صليب المسيح على أكتاف هؤلاء بطرق متنوعة، وهكذا يقودهم حتى الجلجثة والقبر من خلال أعظم المحن والآلام، ثم يعبر يهم بتشجيعاته وتعزياته بل وأفراحه وتهليلاته إلى مجد القيامة وهم لا يزالون في صميم الجسد والعالم وفي مواجهة الشيطان الساقط تحت أرجلهم سريعاً؟؟ ثم أليس بهؤلاء يقدم الروح القدس قيامة حقيقية دائمة إلى العالم؟ محققاً نصرة كاملة دائمة لصليب المسيح فوق العدو وفوق العالم؟ ثم ألا يحق للروح القدس بعد هذا أن يقف في وسط مختاريه وينطق بلسانهم مرة أخرى "ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يو 16)؟ ويكون بذلك قد تمم بالفعل وعلى طول المدى وعد المسيح "فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً" (يو 15)؟ والنتيجة الحتمية لهذه المقدمة هي سؤالنا لأنفسنا: ما هو مقدار عمل الروح القدس فينا؟ ولكي نستطيع أن نرد على هذا السؤال نسأل سؤالاً آخر: هل نحن نعيش في شركة القديسين حقاً؟ لأن الروح القدس لا يعمل خارج شركة القديسين، لأن شركة القديسين هي جسد المسيح السري، أما شركتنا مع القديسين فهي شركة حب وآلام وجهاد مشترك يقودها الروح القدس، سراً وعلانية. أما شركة الحب مع القديسين فلا يُقصد به الحب البارد الروتيني الذي نتعامل به مع الله ومع الناس أو الأقارب أو الأخوة، بل الحب الساخن الملتهب كالنار المتقدة التي ترتفع دائماً إلى فوق والتي تحصد كل ما يعترضها!! الحب الذي يزكيه الروح القدس فلا يكف الإنسان من رفع وجهه إلى فوق والدموع في عينيه، فلا يعرف صديقاً من عدو ولا قريباً من غريب، لا يضع العراقيل ولا يسوِّف في البذل، لا يعرف المداراة ولا الممالأة ولا المحاباة، يميل دائماً إلى الأضعف والأصغر والأحقر والمظلوم. هذا الحب الساخن هو المؤهل الوحيد للإلتحام الكامل مع بقية أعضاء الجسد، أي مؤهل الشركة في جسد المسيح السري، فهو المؤشر الأول والأعظم الذي يدلك على مقدار عمل الروح القدس في داخلك. أما شركة الآلام مع القديسين فهي قبول نوع الصليب الذي يلقى عليك، باعتباره النصيب المعيَّن بتدبير الروح القدس لتكميل خلاصك سواء كان في نفسك أو في جسدك أو في مسئولياتك أو كرامتك أو سمعتك، ولكن بدون تذمر أو صراخ أو حقد أو طلب نقمة، بل بقبوله من يد الله بالرضى والشكر باعتباره دواءً وعلاجاً تحدد نوعه ومقداره وزمنه بمنتهى الحكمة والرحمة معاً وبالقدر اللازم الحتمي لشفاء النفس وخلاصها. فإن كان لائقاً أن يكمِّل المسيح نفسه بالآلام وهو رئيس الخلاص، فكم يكون لائقاً أن يكمل الروح القدس خلاصنا بالآلام بصفتنا أعضاء جسد المسيح، وهو هو الذي كمِّل بالآلام؟ إذن فنوع الصليب الملقى علينا ودرجة احتمالنا له، ثم درجة قبولنا ثم درجة رضانا ثم درجة شكرنا، كل هذا يحدد مقدار شركتنا في الآلام مع القديسين وبالتالي يحدد مقدار عمل الروح القدس في داخلنا. أما شركتنا في الجهاد مع القديسين فهي استجابتنا العملية لكل وصايا المسيح التي اقترحها لحفظ خلاصنا في أمان من مهاجمة العدو وحروبه التي يشنها على كل من يتجاسر ويخرج من تحت سلطانه ويقاوم إغراءاته وأباطيله. فالمسيح أوصى بالصلاة الدائمة، والسهر القلبي، وعدم الملل من الصلاة أو السهر، حتى لا ندخل في تجربة مع العدو. وأوصى بالصوم للنجاة من سلطة العدو وإخراجه بالقوة من الفكر أو الأعضاء أو الإرادة. وينبهنا المسيح بوضوح أنه لا توجد أية وسيلة أخرى نُخرج بها الشيطان من تسلطه على الجسد إلا الصوم المشفوع بالصلاة "هذا الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم" (مت 17). كما اعطى المسيح المثل للإعتكاف المؤقت للملء من الصلاة "وكان يمضي إلى مكان خلاء وكان يصلي"، وللإعتكاف الطويل نوعاً ما لإكتساب الراحة الداخلية وتجديد قوى الروح "وكان يمضي إلى الجبال ويبيت هناك، وكان يمضي الليل كله في الصلاة" (لو 21)، كما أعطانا المثل للإعتكاف الطويل في البرية لمواجهة النفس وكل تجارب العدو والتخلص من سلطان الجسد والعالم "وللوقت أخرجه الروح إلى البرية وكان هناك في البرية أربعين يوماً يُجرَّب من الشيطان، وكان مع الوحوش، وصارت الملائكة تخدمه" (مر 1). هذا الجهاد الذي تشترك فيه كل قوى الإنسان الجسدية والنفسية ضرورة حتمية يزكيها المسيح ويؤازرها الروح القدس لمواجهة عدو خبيث ينتهز كل فرص ضعف الإنسان في أي ناحية من نواحي كيانه الجسدي أو النفسي لكي يُسقطه في الخطية، لحرمانه من حياة القداسة التي يشترك فيها القديسون، تمهيداً لفصله عن بقية أعضاء جسد المسيح حتى لا يعاين الله إلى الأبد. لذلك فإن مستوى جهادك، ثم مقدار مساهلة الروح لك ومؤازرته في كل جهاد، وتقويته لعزيمتك في هذا الجهاد بكل أنواعه ودرجاته حسب الوصية، ثم الفرح والغيرة التي تتولد من الجهاد والمثابرة فيه، كل هذا يكشف مقدار "انقيادك" للروح القدس، وبالتالي يوضح لك مقدار عمل الروح داخلك. وهذا ينتهي بنا في النهاية إلى السؤال الخطير: فماذا لو كان الروح القدس روح المحبة الساخنة منطفئاً في القلب، فلا رَفع وجه ولا دموع ولا حرارة في علاقتنا مع الاخرين ولا تودداً ولا بذلاً بفرح ولا اشتياقاً يحرق القلب لخلاص النفوس السائرة في طريق الهلاك؟ ثم ماذا لو كان روح العزاء منقطعاً فِعله داخل النفس، حيث انعدام القدرة على مجرد احتمال الألم أو تحمُّل إساءة أو ظلم أو إهانة او شكر على تجربة أو حتى مجرد الصبر في الضيق أو الرد على تعيير العدو؟ كذلك ماذا لو كان روح الجهاد محزوناً داخل النفس بسبب الكسل والتواني والإستهتار بالصلاة والصوم والسهر والتململ من أي جهد مبذول في خدمة الروح؟ كل هذا يكشف بلا مواربة أن الروح القدس إما منطفئ، او محزون، أو لم يملأ القلب بعد. وهنا يقف القديسون النساك العظام أنطونيوس ومقاريوس وكل الذين غلبوا وعبروا، يستحثوننا بكل توسل. فأنبا مقاريوس ينادي أولاده أن يقفوا على أرجلهم يطلبون هذه العطية ويصرخون إلى الله كمجروحين جرحاً مميتاً، أو كمن يعترضهم شبح الموت ليصدهم عن الحياة الأبدية. وانبا أنطونيوس يتوسل إلى أولاده أن يديموا الطلبة باجتهاد ولا ينقسموا في أفكارهم أو يقولوا من يقدر أن يقبل هذا: "لا يا أولادي لا تدعوا هذه الأفكار تأتي على قلوبكم. اطلبوا باستقامة قلب وأنتم تقبلونه. اطلبوا باستقامة قلب هذا الروح الناري، وحينئذ يعطى لكم. أديموا الطلبة باجتهاد من كل قلوبكم فإنه يُعطّى لكم، لأن ذلك الروح يسكن في القلوب المستقيمة. وإن طلبتي من أجلكم في الليل والناهر أن يكون فيكم هذا الروح بعظمته ولذته الذي قبله جميع الأطهار .. اطلبوا لكي يلقي الرب يسوع في قلوبكم هذه النار التي جاء ليلقيها على الأرض حتى تستطيعوا أن تتدربوا في عزائمكم وحواسكم" |
|