سلسلة الخدمة (13)
يهيئ للرب شعبا مستعدا (لو 1: 17)
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
نعم. ما أجمل هذه العبارة التي قالها ملاك الرب في البشارة بميلاد يوحنا المعمدان إنه: من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس, ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلي الرب إلههم. ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته.. لكي يهيئ للرب شعبا مستعدا (لو1:15-17). وقيل أيضا عنه في نبوءة ملاخي: هاأنذا أرسل ملاكي. فيهيئ الطريق أمامي (ملا3:1) (مر1:2).
وكيف يهيئ الطريق قدام الرب؟
بأنه كان يكرز قائلا: يأتي بعدي من هو أقوي مني, الذي لست أنا أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه (مر1:7).
(متي3:11) أعدوا طريق الرب, اصنعوا سبله مستقيمة (متي3:3).
وكيف كان يوحنا يهيئ للرب شعبا مستعدا؟.. ذلك بقيادتهم إلي التوبة.. كان يكرز بمعمودية التوبة. ويقول للناس: أنا أعمدكم بماء التوبة اصنعوا ثمارا تليق بالتوبة (متي3:8, 11).
نقول هذا لأن كثيرين كل خدمتهم هي قيادة الناس إلي مجرد المعرفة, وليس إلي التوبة.. !
لكن ما أجمل المعرفة التي تقود إلي التوبة.. التي لا تخاطب العقل فقط, إنما تعمل في القلب ليلتصق بالله..
لقد خلق الله شعبا يملأ الأرض كلها. وهو يريد أن الجميع يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون (1تي2:4). وقد ترك الرب هذا الشعب إلي مجموعة من الوكلاء (لو12:42). أو إلي مجموعة من الكرامين (مت21:33). لكي يعدوا للرب شعبا مستعدا, ووضع أمامهم هذه الآية. من رد خاطئا عن ضلال طريقه, يخلص نفسا من الموت ويستر كثرة من الخطايا (يع5:20).
والمعروف أن الخلاص بالمسيح وحده, الذي ليس بأحد غيره الخلاص (أع4:12). فما معني عبارة يخلص نفسا هنا؟ معناها: يقودها إلي الخلاص الذي بالمسيح يسوع. أو يهيئ هذه النفس للخلاص, بالإيمان والتوبة. في يوم من الأيام ذهب صموئيل النبي إلي بيت لحم, ليمسح واحدا من أولاد يسي البيتلحمي ملكا للرب. فقال: تقدسوا وتعالوا معي إلي الذبيحة. ويقول الكتاب عنه:
وقدس يسي وبنيه, ودعاهم إلي الذبيحة (1صم16:5).
فما معني كلمة قدسهم هنا؟ معناها نفس العبارة: هيأ للرب شعبا مستعدا.. وهذا الموضع ذاته قيل عن الشعب قبل سماعهم الوصايا العشر.. قال الرب لموسي: اذهب إلي الشعب, وقدسهم اليوم وغدا.. ويكونوا مستعدين.. فانحدر موسي, وقدس الشعب.. (خر19:10, 14).
هو أيضا هيأ للرب شعبا مستعدا, لسماع كلمته..
ما أعظم هذا الأمر, أن نهيئ للرب شعبا مستعدا..
شعبا مستعدا لقبول الخلاص, شعبا مستعدا لنوال نعمة الرب في المعمودية (إن كانوا كبارا) أو في التقدم للتناول من الأسرار المقدسة.. شعبا مستعدا للتوبة, مستعدا للشركة مع الروح القدس, أو مستعدا لخدمة الرب وبناء ملكوته.. انظروا ماذا يقول بولس الرسول: وخطبتكم إلي رجل واحد, لأقدم عذراء عفيفة للمسيح (1كو11:2).
من فيكم يستطيع أن يقدم نفوسا عفيفة للرب؟ يهيئ له نفوسا مستعدة لمحبته..
كانت هذه هي وظيفة يوحنا المعمدان. لقد هيأ هذه العروس -أي الكنيسة- للرب. هيأها له بالتوبة, بمعمودية التوبة. ولما سلمها له, وقف في فرح يقول: من له العروس فهو العريس. أما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح.. إذن فرحي هذا قد كمل (يو3:29).
وعروس الرب قد تكون نفسا واحدة, أو شعبا أو شعوبا.
قد تكون فصلا في التربية الكنسية, وقد تكون كنيسة بالنسبة إلي أب كاهن, وقد تكون إيبارشية بالنسبة إلي أب أسقف. وقد تكون شعبا أو شعوبا كمسئولية الآباء الرسل, وغيرهم من الأنبياء. وقد تكون الكنيسة كلها التي يقدمها المسيح, حينما يسلم الملك للآب (1كو15:24), أو هي أورشليم السمائية التي أبصرها القديس يوحنا الرائي.
.. كعروس مزينة لعريسها (رؤ21:2).
نعم, هذه هي وظيفة الخدام والوعاظ والكهنة والرعاة وكل صيادي الناس, أن يهيئوا هذه العروس -أي النفوس- لعريسها, مزينة بالفضائل معطرة بالمر واللبان, وبكل أذرة التاجر (نش3:6).
إنهم يهيئون النفوس, فتبدو جميلة أمام الرب.
تلبس ثوب البر, أو تلبس ثيابا من نور, وينشدون لها تلك الأغنية الجميلة كل مجد ابنة الملك من داخل, مشتملة بثياب موشاة بالذهب, ومزينة بأنواع كثيرة (مز45).
كان هذا أيضا هو عمل الأنبياء في العهد القديم, وعمل الوحي الإلهي, الذي هيأ شعبا مستعدا لقبول الخلاص والفداء والتجسد الإلهي, بنبوءات ورموز..
وهو أيضا عمل الملائكة القديسين الذين قيل عنهم: أليسوا جميعهم أرواحا خادمة, مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب1:14).
هؤلاء هم الملائكة الحالة حول خائفي الرب وتنجيهم من كل شر.. هؤلاء الذين نقول عنهم للرب في صلواتنا باستمرار أحطنا يارب بملائكتك القديسين, لكي نكون بمعسكرهم محفوظين ومرشدين.
تهيئة النفوس هي أيضا مسئولية كل الذين يعملون في كرمه. فأحدهم يغرس, والثاني يسقي, والله ينمي, وكلهم عاملون مع الله (1كو 3:6, 9).. ولكن من أجل قلة العاملين في تهيئة النفوس للرب, لذلك يقول لنا: (الحصاد كثير, ولكن الفعلة قليلون. اطلبوا إلي رب الحصاد أن يرسل فعلة لحصاده (مت9:37).
ومع ذلك يحتاج الرب إلي فعلة من نوع معين.. لا يكونون مثل أولئك الكرامين الأردياء الذين قال لهم الرب ملكوت الله ينزع منكم, ويعطي لأمه تعمل ثماره (مت21:43).
والذي يهيئ للرب شعبا مستعدا عليه أن يكون طويل البال, لا يضجر بسرعة. حتي إن كانت الشجرة لا تصنع ثمرا لسنوات طويلة, لا يقطعها للتو, بل يتركها سنة أخري, وينقب حولها ويضع زبلا, لعلها تأتي بثمر (لو13:8).
هناك كثيرون مسئولون أن يهيئوا للرب شعبا مستعدا, منهم الآباء والأمهات في محيط الأسرة.
الأطفال في أيديهم عجينة لينة يمكنهم تشكيلها بالطريقة التي ترضي الرب, بالتعليم والتدريب, وبالقدوة الحسنة, وبوضع الأساس الروحي القوي الذي تبني عليه الحياة الروحية راسخة, لا تزعزعها محاربات العدو من الخارج..
للأسف كثير من الأسرات, تهمل تربية أولادها, معتمدة علي الكنيسة ومدارس الأحد. وكلن هذا لا يعفيها مطلقا من المسئولية أمام الله, ناسين قول الكتاب: رب الولد في طريقه, فمتي شاخ أيضا, لا يحيد عنه (أم22:6).
وأيضا قول الرسول: أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم, بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره (أف6:4).
إن التاريخ يحدثنا عن أمهات قديسات, أعددن للرب أبناء صالحين قادوا شعوبا. مثل يوكابد الذي كان من ثمرة بطنها وتربيتها موسي النبي, ومريم النبية, وهارون رئيس الكهنة. وكذلك تلك الأم القديسة التي أنجبت القديس باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصرية كبادوكيا, وأخيه القديس غريغوريوس أسقف ينصص, وأخيه القديس بطرس أسقف سبسطية, وأختهم القديسة ماكرينا المرشدة الروحية ورئيسة الدير..
هؤلاء الأمهات القديسات أدركن عمل الأشبين في الكنيسة.
الكنيسة تسلم الأمهات الأطفال بعد المعمودية لكي يقمن -كإشبينات- بتربية هؤلاء الأطفال تربية روحية في مخافة الله ومحبته. فإن قامت الأمهات بواجبهن الروحي, يمكنهن حينئذ إعداد شعب مستعد للرب. وتستطيع الأم أن تعطي ابنها من الروحيات أضعاف ما تعطيه له مدارس الأحد, وتحفظ له النقاوة التي خرج بها من المعمودية, بل تنميها أكثر وأكثر. وتهيئ أبناءها للرب وخدمته.. وينشأ الأبناء علي حياة القداسة في (كنيسة البيت).
كذلك عمل الكنيسة أن تهيئ للرب شعبا مستعدا تقوم بتهيئته عن طريق الكرازة ونشر الإيمان, وعن طريق الأسرار المقدسة: وبخاصة المعمودية والمسحة المقدسة, وسري التوبة والإفخارستيا, وكانت الكنيسة في القديم تهيئ المؤمنين للعماد عن طريق فصول الموعوظين, وشرح قانون الإيمان لهم كما في كتاب القديس كيرلس الأورشليمي.
بل كانت الكنيسة تعد شعبا مستعدا للاستشهاد
تعلمه تفاهة الحياة الأرضية, وتدربه علي حياة الزهد في المادية, وتثبته في حياة الإيمان, وتشرح له كيف أن الموت مع المسيح أو لأجل المسيح يؤهله إلي الحياة معه في الفردوس وأن الموت ليس سوي انتقال إلي حياة أفضل في عشرة الله وملائكته وقديسيه..
وما أكثر الكتب التي حفظتها لنا مكتبة أقوال الآباء وموضوعها (الحث علي الاستشهاد).. وبهذا كله كان الشهداء يتقبلون العذابات والموت في شجاعة وفرح كانت الكنيسة تعد المؤمنين أيضا للأبدية.
تعدهم لملاقاة الرب, سواء في الموت الشخصي أو في مجئ الرب. وكانوا يستخمون عبارة (ماران آثا) أي ربنا آت, كما كتب القديس بولس الرسول (1كو16:22).
تعدهم للأبدية, بعدم الخوف من الموت, وبحياة التوبة والقداسة, وبالتعلق بالسماء والحياة الأخري.. وبقول بولس الرسول: لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدا (في1:23).
كانت الكنيسة تعدهم ضد الشكوك والهرطقات.
بتثبيتهم في الإيمان المستقيم, ويقول القديس بطرس: مستعدين في كل حين, لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم (1بط3:15).
وكانت الكنيسة تعد شعبها بالرد علي كل الهرطقات والبدع, بالمجامع المقدسة وكتب الآباء وبالتعليم القوي, حتي لا ينحرف أحد عن إيمانه بما ينذره المبتدعون من شكوك.
وكانت الكنيسة بمداومة التعليم تهيئ للرب شعبا مستعدا.
كما قال القديس بولس لتلميذه تيموثاوس: لاحظ نفسك والتعليم وداوم علي ذلك. فإنك إن فعلت هذا, تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضا (1تي4:16). وهكذا كانت الكنيسة تشترط أن يكون الأسقف صالحا للتعليم (1تي3:2) لكي يكون قادرا أن يعظ بالتعليم الصحيح, ويوبخ المناقضين (1تي1:9). وحتي بالنسبة إلي المخطئين, تقول الدسقولية أصلح الذنب بالتعليم وكانت الكنيسة تعد للرب شعبا, بالتأديب أيضا..
كما يقول القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس الأسقف: وبخ انتهر عظ (2تي4:2) الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع, لكي يكون عند الباقين خوف (تي5:20).
ومن أجل الاحتفاظ بقدسية الكنيسة أمر القديس بولس من جهة خاطئ كورنثوس (أن يسلم مثل هذا للشيطان لإهلاك الجسد, لكي تخلص الروح في يوم الرب (1كو5:5). ووبخ أهل كورنثوس قائلا لهم: أعزلوا الخبيث من بينكم (1كو5:13).
ويقول القديس يهوذا غير الاسخريوطي: وخلصوا البعض بالخوف, مختطفين من النار, مبغضين حتي الثوب المدنس من الجسد (يه23).
وكانت الكنيسة تهيئ للرب شعبا, عن طريق الصلاة وتشجيع صغار النفوس والضعفاء.
إذ يقول الرسول في ذلك شجعوا صغار النفوس, أسندوا الضعفاء, تأنوا علي الجميع (1تس5:14). ويقول أيضا: اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم, والمذلين كأنكم أنتم أيضا في الجسد (عب13:3).
وقيل عن السيد المسح له المجد إنه كان قصبة مرضوضة لا يقصف, وفتيلة مدخنة لا يطفئ (مت12:20).
ومن أجل تهيئة شعب مستعد لله, كانت الكنيسة تصلي أن يرسل الرب فعلة لحصاده, وأن يعطي الرب قوة للخدام, وحكمة للرعاة, وسمعا وقبولا من المخدومين.
كذلك تشجع الشعب علي السهر الدائم علي خلاص أنفسهم, كما قال الرب: اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة (مت26:41), وكما قيل عن حراسات الليل إنهم كانوا: كلهم قابضون سيوفا ومتعلمون الحرب. كل رجل سيفه علي فخذه من هول الليل (نش3:8).
والكنيسة تعد للرب شعبا مستعدا في الحروب الروحية تقول لأولادها: اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر, يجول ملتمسا من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الإيمان (1بط5:8, 9). وتجعلهم مستعدين لملاقاته, بضبط النفس, وبالصلاة, والتداريب الروحية, والمداومة علي الاعتراف والتناول, مستعدين ضد كل غواية وفكر مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح (2كو10:5). في كل ما قلناه اسأل نفسك:
كم نفسا استطعت أن تهيئها للرب, حتي تكون مستعدة للحياة معه والثبات فيه؟
وإلي اللقاء في عدد مقبل, لمتابعة موضوع الخدمة معا, إن أحبت نعمة الرب وعشنا.