|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المقدمة إذا رُمنا فهم أفكار الروح القدس في ما يتعلق بإنجيل مرقس فهمًا أفضل وجب أن نفحص تعليمهُ في الأناجيل الأربعة فحصًا مختصرًا. فهذه الأناجيل تعرض لدينا المسيح، لكنها تبين لنا مسيحًا مرفوضًا وفي الوقت نفسهِ تقدّم لنا المخلص في أربعة مظاهر، ثم يوجد فرق بين الأناجيل الثلاثة الأولى والإنجيل الأخير. فالثلاثة الأولى تعرض المسيح بمظهر إنسان يجب أن يقبلهُ العالم وإن كانت النتيجة تفرض عليهِ تجرُّع غصص المنون، أما في الإنجيل الرابع فنرى يسوع مرفوضًا من خاصتهِ من الأصحاح الأول فصاعدًا ونرى أيضًا أنه ينظر إلى اليهود كمرفوضين من أولهِ وليس للمسيح قبول إلا عند المولودين من الله وبالنتيجة نُعاين مبادئ النعمة في هذا الإنجيل ظاهرة ظهورًا كاملاً كما قيل: لا يقدر أحد أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني (يوحنا44:6)، فالخراف متميزة عن العالم قبلما دُعيت. فالأناجيل الثلاثة الأولى تجلو المسيح لدى أبصار البشر جلاءً يدعوهم لقبولهِ. ثم تبيّن لنا تاريخ عداوة الإنسان المتزايدة نحوهُ وأخيرًا تصرّح لنا برفضهِ وموتهِ. أما الصفات المختصة بكل إنجيل على حدى فهي إن إنجيل مَتَّى يعتبر المخلص عمانوئيل ومسيَّا الموعود به ويهوه الذي يُخلَّص شعبهُ من خطاياهم. فمعنى اسم يسوع «يهوه المخلص»، ومنَ ثم يتسلسل نسبهُ من إبراهيم إلى داود رئيسي المواعيد وآنيتها اللذين كان مزمعًا إن يتسلسل منهما المسيح. ففي هذا الإنجيل الأول رُفض المسيح أدبيَّا من وقت ما أظهر ذاتهُ لشعبه بحسب حقيقة شَخصهِ وإرساليته لغاية (أصحاح 12) فحكم على اليهود بالقضاء الإلهي حكمًا شمل الأمة بأسرها. فلم يطلب الرب ثمرًا في كرمهِ بعد، بل يُصرِّح بالحقيقة انهُ هو الزارع ويعلن الملكوت إنما إعلانًا سريَّا (أي على الأسلوب الذي يكون الملكوت عليه في غيابهِ)، وفي (أصحاح 16) يذكر الكنيسة التي سوف يبنيها هو نفسهُ بعد موتهِ ثم يذكر عدَّة أمثال في شأن أحوال ملكوته مدة غيابهِ مُصَرحّا انهُ مزمع إن يأتي بقوة لينقي ملكوته ويقيمه فعلاً على الأرض في حالٍ يوافق مجدهُ. ثم حوادث حياته الأخيرة وبعض خطاباته. أما مرقس فيرسم لدينا صورة المخلص بمظهر خادم ونبي، ومن ثم لا يذكر شيئًا من تاريخ ولادته، بل يبتدئ إنجيله بذكر خدمتهِ وسوف نتكلم عن مضمونهِ. وأما إنجيل لوقا فيصوّر المخلص بصورة ابن الإنسان فنرى به صورة النعمة والعمل الجاري الآن. ويذكر سلسلة نسبهِ حتى آدم. فالأصحاحان الأولان في ذلك الإنجيل يُعلنان لنا بقية اليهود القليلة العدد التقية وما تلك إلا صورة بديعة عن عمل روح الله في وسط أمة شريرة وفاسدة. فأولئك القوم الأتقياء كانوا يعرفون بعضهم كل المعرفة وكانوا ينتظرون فداء لإسرائيل. فقد أنذرت حنة الطاعنة في السن التقية قومها المتوقعين الخلاص بحضور المخلص المنتظر. وفي الأجزاء الباقية من هذا الإنجيل يبدو لنا المسيح في صورة مخلَّص للأمم. أما إنجيل يوحنا فلا يذكر شيئًا عن نسب المسيح قط، بل أن الكلمة الذي هو ابن الله صار جسدًا فهو الخالق ابن الله الذي لم يعرفهُ العالم وخاصتهُ لم تقبلهُ. فكل الذين يقبلونهُ يكونون أبناء الله؛ لأنهم وُلدوا بالحقيقة منهُ وبما أن هذا الإنجيل يُعلن المسيح كصورة الله المُعلنة فلهذا السبب نفسهِ نراهُ مرفوضًا كل الرفض فإن البشر لا يطيقون مَجد شخصهِ، ولكنهُ يجمع خرافه الخاصة من اليهود والأمم ويُعطيها حياةً أبدية ولن تهلك إلى الأبد. ثم يوضح لنا في ختامة إتيان الروح القدس. |
05 - 11 - 2012, 03:41 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح الأول 1 بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ، 2 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ:«هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. 3 صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». 4 كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. 5 وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. 6 وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا. 7 وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً:«يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. 8 أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ». (عدد 1-8). قلنا أنهُ يبتدئ بذكر خدمة المخلص وهو غير مسبوق سوى بشهادة يوحنا المعمدان الذي يعدّ طريق الرب ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا ويُنذر بخادم الله الفائق المجد الذي ليس بأهل أن يحلّ سيور حذائهِ؛ فلذلك يُعمد بالروح القدس. أما معمودية النار فلا تُذكر هنا لأن الموضوع إنما هو خدمة المخلص المقترنة بالبركة لا خدمتهُ في إجراء سلطانهِ بالدينونة فأن النار تدل دلالة واضحة على الدينونة والقضاء. 9 وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. 10 وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ. 11 وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ». (عدد 9-11). فالسيد يخضع لمعمودية يوحنا، هذه هي حقيقة خطيرة جزيلة الأهمية والبركة للبشر. فإنه له المجد يأخذ هنا مكان شعبهِ أمام الله. ولا حاجة لي لأن أقول أن المخلص لا يفتقر لتوبة بل شاء أن يُرافق شعبهُ في الخطوة الأولى الصالحة التي يجب أن يسيروا بها تحت قيادة الكلمة وسطوتها. ذلك كان يُحسب عندهُ إتماما لكل برّ. فقد قادتهُ المحبة والطاعة إلى إنقاذنا في كل مكان ساقتنا إليه الخطية إنما هنا يأتي مع خاصتهِ. ففي الموت أخذ مكاننا وحمل اللعنة وصار خطية لأجلنا. أما هنا فقد تبوأ مكانهُ كإنسان تام بالنسبة لله الآب ذلك المكان الذي حصله لنا بالفداء. وقد أصبحنا به أبناء الله. فانفتحت السماء وحلّ الروح القدس حلولاً كاملاً على إنسان في شخص المسيح والصوت من السماوات المفتوحة صادق على بنوتهِ. ويعترف الآب بنا أيضًا كأولادهِ بالمسيح يسوع، فإن يسوع مُسح وخُتم بالروح القدس نظيرنا أما هو فلأنهُ أهل لذلك شخصيًا وأما نحن فلأننا قد جعلنا أهلاً لذلك بعملهِ ودمهِ. فقد انفتحت السماء لنا وانشق الحجاب فنستطيع أن نصرخ يا أبا الآب. فيا للعجب من هذه النعمة ومن هذه المحبة الغير محدودة! وهي أن ابن الله صار إنسانًا لكي نصير أبناء الله كما فاه نفسه بذلك بعد قيامته إذ قال: «إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 17:20)، فما تلك إلا مقاصد الله المجيدة التي لا يُعبر عنها وهي أن نشترك مع ابنهِ الحبيب في مجده الخاص ونسبته لله أبيه. وأن نقاسمه مجدًا أي المجد الذي له من قِبل حقوقه الذاتية الناشئة عن كمالاتهِِ الإلهية باعتبار كونه ابن الله الوحيد وذلك «ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمتهِ الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع» (أفسس 7:2)، فهذا لابد أن يتم كل التمام حين يتحقق لنا فعلاً ما قاله يسوع: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدٍ وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني …» (يوحنا 22:17-26) فما أعظم المحبة التي يجب أن تكون في صدور المسيحيين نحو مخلصهم. فإنه بآلامهِ حتى الموت حصل لنا مقامًا كهذا وحولنا ثقة مباركة بأن نكون معه ومثلهُ إلى الأبد. ومن الأمور الخطيرة التي يجب أن نلاحظها هنا أن الثالوث قد أُعلن لنا المرة الأولى كل الإعلان عند معمودية المسيح فقد ورد في العهد القديم ذكر الابن والروح القدس، غير أن الثالوث أُعلن هنا صريحًا حيث نرى مقام الإنسان الثاني بحسب النعمة. فالإعلان هنا واضح كل الوضوح لأن الأقانيم الثلاثة ظهرت معًا أما الابن فبدا بصورة إنسان والروح القدس بمظهر حمامة وصوت الآب اعترف بيسوع ابناً قد سُرَّ به. فنلاحظ الفرق بين مسئولية الإنسان ومقصد النعمة. فإن مقصد الله قد تقرر قبل خلق العالم، ولكنه عُين في آدم الثاني يسوع المسيح. ففي سفر الأمثال الأصحاح الثامن يُكنى عن يسوع بالحكمة التي كانت عند الله، وهي موضوع بهجته وأن سروره إنما هو بأبناء الناس. غير أن الله خلق الإنسان الأول وجعله في مقام المسئولية قبل إعلان مشورتهِ التي تقررت في الإنسان الثاني أو إتمام العمل المزمع أن يُنشئ نتائج محبته. أما آدم فعجز عن القيام بواجباتهِ ولم ينشأ عن كل الوسائل التي استخدامها الله في معاملاته المتنوعة مع البشر إلا كشف شر الإنسان حتى حضر الإنسان الثاني لكي تتم فيه مقاصد النعمة وبناء على ذلك أُعلنت مسرة الله بالإنسان. ومع ذلك لم يشاء الإنسان قبول المخلص أو الخضوع للنعمة الظاهرة به، غير أنهُ هو بقى موضوع رضى الله الكاملة بشخصهِ الجليل فأخذ على نفسهِ مقامًا نراه معلنًا في هذه الآية وهي أن يُختم ابن الله والسماء مفتوحة بالروح القدس الذي نزل عليه بهيئة جسمية. غير أنهُ كان وحده في ذلك فقد فعل على الصليب كلما كان لازمًا بالنظر لمسئوليتنا بل فعل أكثر من ذلك فإنه مجدَ الله في محبتهِ وفي جلالهِ وحقهِ وحصل لنا الاشتراك بمقامهِ كإنسان في مجد الله ذلك ليس بالنسبة لحقهِ الخاص كالله أو بالنظر لكونه ابن الله بل بالنظر إلى اتخاذه مقامًا كاملاً كإنسان لنكون مثلهُ في المجد ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين. فهذا هو قصد الله. وقد أُعلن حين أُكمل عمل المسيح. قابل(تيموثاوس الثانية 9:1 مع تيطس 2:1-3). 12 وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، 13 وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ.(عدد 12، 13). فنرى هنا أن يسوع حالما تبوأ مقامهُ لدى الله كإنسان ولما ظهر كابن الله في الطبيعة الإنسانية اُقتيد بقوة الروح القدس إلى البرية وهناك باشر الجهاد مع إبليس الذي كان قد غلب على آدم الأول وأبعده عن الله واستعبده وأما يسوع فانتصر عليه بصفته كمجرّب انتصارًا تامًا، ثم تقدم إلى الخدمة التي تعينت له كإنسان بين البشر. وكان من الضرورة أن يجوز تلك النصرة ليحررنا. ولاحظوا أيضًا أن أحواله كانت تختلف كل الاختلاف عن الأحوال التي وُجد عليها آدم الأول؛ فإن آدم الأول كان مُحاطًا ببركات الله وخيراتهِِ حينئذٍ بمثابة شهادة لرضى الله على الإنسان كخليقتهِ. أما يسوع فبالعكس فإنهُ كان في القفار شاعرًا بسيادة إبليس على الإنسان وكان متجردًا من كل نعيم وراحة باعتبار أحواله الخارجية ولم تكن له شهادة خارجية على جودة الله وقتئذ فأن كل الأشياء كانت تنافي ذلك. لا يُخفى أن حوادث تجارب مخلصنا لا تُذكر تفصيلاً في إنجيل مرقس ولا أجوبته للمجرّب فأن الحقيقة الوحيدة المدونة به هي أن السيد قد اجتاز في تلك التجارب (وما تلك إلا حقيقة ثمينة لنا) فقد قدَّم نفسهُ طوعًا حسب مشيئة الله واُقتيد من الروح القدس ليقابل عدو البشر الفاتك. فيا للنعمة العظمى! فإنه أوضح أولاً مركزنا لدى الله. وقد تقلَّده على عاتقه بنفسهِ ثم دخل في ذلك الصدام مع إبليس المتولي أسرنا. أما الحقيقة الثالثة الوارد ذكرها في هذا الإنجيل فهي أن الملائكة أصبحت خادمة وارثي الخلاص. فقد تبين لنا مما تقدم ثلاث شهادات تتعلق بظهور يسوع كإنسان في الجسد وهي مركزنا كأولاد الله والغلبة على الشيطان والملائكة خدامنا. 14 وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ 15 وَيَقُولُ:«قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ».16 وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 17 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ». 18 فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. 19 ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. 20 فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ. (عدد 14-20). فبعد أن تبوأ يسوع مكانهُ في العالم شرع بإجراء خدمتهِ ولكن لم يكن ذلك قبلَ إلقاء يوحنا في السجن فحينئذ طفق يكرز بإنجيل الملكوت. أما شهادة يوحنا فكانت خطيرة وضرورية لاجتذاب والتفات القوم إليه ولكن لم يكن لائقًا بهِ أن يؤدي شهادة لمخلصنا بعد تأدية يسوع الشهادة لنفسهِ. فقد قال له المجد: «وأنا لا أقبل شهادة من إنسان» (يوحنا 34:5) مُشيرًا بذلك إلى يوحناالمعمدان وعوضًا عن أن يحتاج إلى شهادةٍ من يوحنا فقد شهد ليوحنا إذ كان هو نفسه الحق متجسدًا لأن كلماته وأعماله كانت شهادة الله في العالم. فقد قال الشعب مرة أية آية تفعل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية فأجاب وقال لهم: «أنا الخبز النازل من السماء» أي أنه هو بذاته الذي انحدر من السماء الآية أو الشهادة الكافية لإجابة سؤالهم أية آية تفعل؟ لا شك أنه صنع آيات كثيرة جدًا فبذلك جعلهم بلا عذر لعدم إيمانهم ولكن الآية العظمى كانت حضور شخص إلهي في العالم وكل من انفتحت عيناهُ وآمن به إيمانًا حقيقيًا هكذا رأهُ. فكرازة يسوع أنذرت بالملكوت وبينت أن الوقت قد كمل وأن ملكوت الله كان قريبًا وأن الشعب يجب أن يتوبوا ويؤمنوا بالإنجيل. وينبغي أن نميز بين إنجيل الملكوت وإنجيل خلاصنا مع أن يسوع هو مركزهما كليهما غير انهُ يوجد فرق جسيم بين الكرازة بملكوت قد اقترب وبين الفداء الأبدي المُكمل على الصليب. على أنهُ من الممكن الإنذار بهذين الحقين معًا. لا جُرم أن نري الرسول بولس يعظ بالملكوت، ولكنه أعلن أيضًا لا محالة فداء أبديًا قد أُكمل على الصليب، وأما يسوع فأنبأ بموته وأعلن أنهُ: ابن الإنسان الباذل نفسهُ فدية عن كثيرين ولكن لم يكن يستطيع أن ينادي بفداء كامل أثناء حياته. فكان يجب أن البشر يقبلونهُ ولا يميتونه. ومن ثمَّ قصر شهادتهُ على ملكوت الله الآخذ بالاقتراب. فقد تأخر هذا الملكوت عن القدوم بقوته العامة لأن يسوع قد رُفض انظر (رؤيا 17:11)، وذلك الإبطاء يدوم كل الزمان الذي يجلس فيه المسيح عن يمين الله إلى أن ينهض من عرش أبيهِ للدينونة. فقد قال له الآب أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك (مزمور 1:110) على أن ملكوت الله كان قد أتى سرا مدلولاً عليه بما ورد في إنجيل مَتَّى (أصحاح13)، وذلك يستمر في خلال الزمان الذي يجلس فيه يسوع عن يمين الله. ولكن حين تأتي الساعة المعينة من الله ينهض السيد ويقيم ملكوته وبقوته الخاصة يدين الأحياء فيتوطد السلام والسعادة على الأرض. أما نحن الذين قبلناه وهو مرفوض من العالم فسنذهب لنلاقيه في الهواء ونكون دائمًا معهُ. ثم نأتي في موكبه بالمجد لما يظهر لدى العالم وسنملك معهُ. والأفضل من ذلك جميعهُ أننا نكون مثلهُ ونجلس معه في المواطن السماوية في بيت أبينا. فهذه الحقائق والحوادث المدونة في كلمة الله لا تظهر ظهورًا جليًا إلا بعد صعود المخلص وبعد توطيد غاية الله العظمى على دعائم موت يسوع وإتمامها. أما هنا فالرب لا يصرح إلا بدنو ذلك الملكوت المطلوب من البشر قبولهُ. فكان يُعَلم في كل المجامع فقد وُجد البعض الذين فازوا ليس بسماع كلماته فقط أو آمنوا بما عَلمه، بل تبعوه والتصقوا به أيضًا. ذلك من الأمور الخطيرة جدًا الجديرة بالاعتبار والملاحظة فأن كثيرين في أيامنا الحاضرة يعترفون بأنهم قبلوا الإنجيل ولكن ما أقل الذين يتبعون المخلص في سبيل الإيمان، وفي تلك الوداعة والطاعة اللتين ميزنا سلوك المخلص في هذا العالم. فلنبذل الجهد بأتباعهِ. ليُصيرهم صيادي الناس فلنطلب نحن الآخرين ليتمتعوا هم أيضًا بالغبطة المجيدة الباقية التي يمنحها الروح القدس. فربما لا نكون رسلاً كأولئك، ولكن كل من امتلأ من المسيح يؤدي شهادة لهُ. فأن من فضلة القلب يتكلم الفم ولابد أن تجري انهار ماء. الحياة من جوف الناهلين من المسيح. 21 ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ، وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. 22 فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. 23 وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرَخَ 24 قَائِلاً: «آهِ! مَا لَنَا وَلَكَيَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَمَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!» 25 فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ!» 26 فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. 27 فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«مَا هذَا؟ مَا هُوَ هذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!» 28 فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ. (عدد 21-28). أن إنجيل مرقس لا يمثْل شخص عمانوئيل ونعمة خدمتهِ كإنجيل مَتَّى بل يبين خدمتهُ بيانًا سريعًا بالنظر لنسبتها للجنس البشري. على أن تلك الخدمة هي بالضرورة، غير أن أسلوب انتشارها ووضوحها يختلف في الإنجيل الأول عن الثاني. فكلمتهُ وأعمالهُ تشهدان معًا للسلطان الذي علَّم بهِ الشعب. فبينما كان يتكلّم انذهل القوم في المجمع لأن تعليمهُ لم يكن كتعليم الكتبة الذين استندوا على آراء البشر. أما يسوع فعلَّم الحق كإنسان يعرفهُ كل المعرفة ويستطيع أن يشرحهُ من أُسسهِ الأصلية. حتى أن الأرواح الشريرة ارتاعت من حضورهِ وطلبت أن تنجو من الهلاك ولكنها أُرغمت على مغادرة أولئك المساكين الذين أصبحوا فريسةً لسلطتها، فمن ثمَّ قال الشعب ما هذا؟ ما هو هذا التعليم الجديد؟ فتلك شهادة على أن الله قد تداخل لتحرير الإنسان وتبليغ حقهِ الكامل لهُ. فالنعمة والحق قد أتيا بيسوع المسيح. 29 وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، 30 وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً، فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا. 31 فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكًا بِيَدِهَا، فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. 32 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. 33 وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. 34 فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ.35 وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ، 36 فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. 37 وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: «إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ». 38 فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضًا، لأَنِّي لِهذَا خَرَجْتُ». 39 فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ الْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ. (عدد 29-39). فذاع صيتهُ في كل الجليل فترك المجمع ودخل بيت سمعان وأندراوس كانت لبطرس زوجة. وكانت أمها مريضة بالحُمَّى فأخذ الرب بيدها ففارقتها الحُمَّى وطفقت المرأة تخدمهم في صحة كاملة. وحالما انقضى السبت اجتمعت كل المدينة على باب البيت فشفى يسوع المرضى واخرج الشياطين فاعترفت الأبالسة بهِ على أن البشر لم يفعلوا ذلك. ومع ذلك ظلَّ خادمًا لله ونهض قبل شروق الشمس ليذهب إلى مكان منفرد للصلاة. فطلبهُ بطرس ولما وجدهُ قال لهُ أن الجميع يطلبونك. أما يسوع خادم الله الأمين الدائم فلا يطلب كثرة العدد ولا الشهرة لنفسهِ، بل ذهب إلى مكان آخر ليعظ ويحرّرمن نير إبليس. ومن الأمور المهمَّة الداعية إلى التأمُّل أن معجزات الرب ليست فقط من البينات والأدلَّة القاطعة على قدرتهِ بل هي أيضًا علامة الجودة العاملة في القدرة الإلهية. فهذا هو الأمر الذي يخوّل معجزات المسيح تلك الصفة الإلهية الحقيقية. فأعمالهُ كلها إنما هي ثمر محبتهِ وتشهد لإله المحبة على الأرض ولا يستثنى من ذلك في الظاهر إلا حادثة واحدة على أنها ليست إلا دليلاً على الحق الذي نحن في صددهِ وهي لعن شجرة التين إنما ذلك كناية عن بني إسرائيل وبمعنى أوسع عن الطبيعة البشرية التي مع عناية الله بها لم تأتِ بثمر بل أتت بأوراق فقط أعني الرياء. فمن ثمَّ قُضي عليها ودُينت ولن تأتي بثمر بعد. فالكرّام نقب حولها وسمَّدها، ولكن ذهب ذلك عبثًا فتركها الله ولا يعود ينتظر منها ثمرًا؛ فينبغي للإنسان أن يُولد ثانيةً ويُخلَق جديدًا بيسوع المسيح لكي يأتي بثمر لله. 40 فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِيًا وَقَائِلاً لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي» 41 فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ:«أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!». 42 فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. 43 فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ، 44 وَقَالَ لَهُ:«انْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئًا، بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ». 45 وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيرًا وَيُذِيعُ الْخَبَرَ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِرًا، بَلْ كَانَ خَارِجًا فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ، وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. (عدد 40-45). فلنا دليل جميل في هذه الآيات على محبة يسوع البينة في أعمالهِ. فإن أبرص أتى إليه مقتنعًا كل الاقتناع بقدرته من نظرهِ المعجزات التي اجتز بها أو سماعه عن أعمالهِ العجيبة ولكنهُ لم يكن متأكدًا الفوز برضاهُ للشفاء فقال لهُ: إذا أردت تقدر فلم يكتفِ الرب بإبداء أرادتهِ لبرئهِ بل حقق ذلك بالعمل فلمسهُ. ولا يُخفى أن البرص مرض هائل يُمثل رداءة الخطية وكان يُفرز المصاب به عن المحلة ويُحسب نجسًا. حتى أن مَنْ لمسهُ كان يُحسب كذلك ويُفرز أيضًا، لأنهُ كان يُصاب بالعدوى ولم تكن العلاجات تنجح بشفائهِ بل أن يهوه وحدهُ كان قادرًا على ذلك. فحين كان يمُّن عليه القدير بالشفاء يُصرح الكاهن بطهارتهِ وبعد تقديم الذبائح المفروضة يعود للاشتراك بالعبادة الإلهية. فأدرك السيد ذلك السقيم بقوتهِ الإلهية ومحبتهِ وقال له: أُريد فاطهر فبدت بهذه الحادثة إرادة الله وقدرته فاستخدامها لشفاء ذلك الإنسان البائس المنفي من جماعة الرب. ولكن يوجد أمر آخر فضلاً عما ذُكر. فأن يسوع لمسه ُذلك المصاب ولم يخشَ العدوى إذ لا سلطة لها عليهِ وقد دنا من ذلك الرَّجُل ِالنجس حتى لمسهُ فهو إنسان حقيقي بين البشر وهو الله قد ظهر في الجسد أيضًا. الله في الإنسان ومحبة متجسدة وقوة تستطيع إجراء كل الوسائل اللازمة لإنقاذ الإنسان من نتائج سلطة إبليس. فقد ظهرت فيهِ على الأرض طهارة لا تتدنس مصحوبة بمحبة فائقة هو الله وإنسان معًا فلذلك الشخص الواحد يشتغل بخدمة الإنسان وإعطائهِ البركة. فشفي الأبرص في الحال وتلاشى البرص بلمسة منهُ. ولكن وإن كان الله قد ظهر بأعمال قدرتهِ ومحبتهِ لم يَكُف عن الخدمة بعدما تقلدها. فصرف الأبرص المُطهَّر قائلاً: انظر لا تقل لأحد بل أذهب وأرِ نفسك للكاهن وقرب القربان الذي أمر به موسى. ثم يمكننا أن نلاحظ أمرًا آخر في هذه الحادثة وهي أن السيد تحرك بالشفقة لما رأى الأبرص. فما ذلك إلا لأن الله بمحبتهِ تأثر ورثى بقلبهِ الحالة التي وُجِدَ عليها الإنسان الساقط تلك حقيقة كثيرًا ما نراها في الأناجيل. أما ذلك الأبرص المُطَهر فأذاع اسم يسوع في تلك الكورة المحيطة فإن الشهادة بقوة الله المرافقة شعبهُ لابد أن تؤثر بأفكار البشر وتحملهم على السؤال عن الشخص العجيب الذي قدر أن يُجري عملاً كهذا. أما يسوع فلا يطلب مجدًا من إنسانًا بل إنما أتى ليتمم إرادة الآب والعمل الذي أعطاهُ ليعمل. فاحتاطت به الجموع حتى لم يستطع أن يدخل المدينة حيث كان القوم مستعدين أن يحتشدوا حولهُ ليروهُ. |
||||
05 - 11 - 2012, 03:46 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح الثاني 1 ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ أَيْضًا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ. 2 وَلِلْوَقْتِ اجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ الْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالْكَلِمَةِ. 3 وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجًا يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. 4 وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْجَمْعِ، كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ. 5 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». 6 وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: 7 «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟» 8 فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ 9 أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ 10 وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا». قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: 11 «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!». 12 فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ:«مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هذَا قَطُّ!». (عدد 1-12). ثم بعد بضعة أيام حين كان قد قلَّ انتظار الجموع دخل المدينة أيضًا، فشاع حالاً انهُ في البيت فاجتمع كثيرون حتى ضاق المكان بالحاضرين وكثر الزحام على الباب أيضًا، فكان يسوع يكرز لهم بالكلمة؛ لأن هذه الخدمة هي غايتهُ الأولى. فهو الكلمة وهو الحق وهو الشخص الذي أنذرت كلمتهُ بأنهُ يفتقر إليه الإنسان. وقد تحققت تلك الكلمة بأعمالهِ وعَرفَ الشعب أن له السلطان القادر أن ينقذهُ من كل شر. فاحضروا له إنسانًا مفلوجًا يحملهُ أربعة رجال، ولكن بما أنهم لم يستطيعوا الوصول إلى يسوع نظرًا لازدحام الجموع كشفوا السقف ودلوا المفلوج إلى حيث كان يسوع. فهذا برهان صريح على أن إيمانهم مبني على شعور عميق بحاجتهم إلى يسوع وثقتهم به وبمحبتهِ وسلطانهِ، فلولا رغبتهم الحارة بشفاء السقيم وثقتهم التامة بقدرتهِ ومحبتهِ لخار عزمهم من كثرة الزحام، ولربما قالوا: سنعود مرة أخرى فنلقاهُ بدون مانع. غير أن المصاعب لا تقف في سبيل الإيمان فإن بواعثهُ إنما هي الحاجة إلى يسوع المخلص والشعور بالشفاء وأن لا أحد يستطيع الشفاء سواهُ وان محبتهُ تتكفل بأنه ينظر إلينا في حال الرزء والبلية. وما ذلك إلا من أعمال الروح القدس المُعلن بيسوع لأبصارنا. فهو يُنشئ فينا شعورًا بالشقاء يحرضنا على طلبهِ تحريضًا لا تصدنا عنه الموانع؛ لأننا نعلم أن يسوع وحدهُ قادر على إبرائنا وأن محبته كافية للقيام بذلك لا أننا قد شُفينا، بل لنُجذَب إليه واثقين بأنه لابد أن يفعل ذلك. فإذا كنا قد أتينا إليه فقد انشأ الإيمان في النفس حاجة وثقة بأن يسوع يُلبي طلبنا ويسد حاجتنا، فيسوع لا يتباطأ قط عن إجابة بغيتنا. على أنه ربما سمح بحدوث المصاعب امتحانًا لإيماننا غير أن الإيمان الغير المنفكّ عن المواظبة والشعور بالحاجة، أما أصل ذلك كله فإنما هو عمل الروح القدس في قلوبنا. فانتهز يسوع الفرصة من مشاهدة ذلك المفلوج السيئ الحظ للدلالة على أصل كل الشرور الحقيقي، وما هو إلا الخطية فقد أتى لوجود الخطية في العالم، وما هي غايتهُ إلا أن يغفرها. نعم أن الحاجة تدعوا إلى كفارة كاملة عن الخطية؛ لكي يكون أساس راسخ للمغفرة للبشر طبقًا لمطلوب العدل الإلهي. غير أن الله العارف بكل شيء يستطيع أن يمنح الصفح بواسطة ابن الإنسان مدة حياته بالطريقة التي يشترك بها كل المؤمنين الآن بواسطة الإنجيل، وكذلك أيضًا من جهة سياسته لإسرائيل أو للأفراد إذ كان يستطيع أن يعفو عن الأفراد وعن الأمة كلها أو يتركهم جميعًا تحت غوائل القصاص. فالان كان ليسوع السيد الحق والسلطان على غفران الخطايا على الأرض وقد أعطى بينة على ذلك. كما يُقال عنه: انه هو الذي يغفر كل خطايا إسرائيل ويشفي كل أمراضهم (مزمور 3:103). فحاجة إسرائيل الكبرى إنما هي المغفرة؛ لأنه بحسب حكم الله نفسه تستحيل إعادة إسرائيل إلى بركة الله ورضاهُ إن لم ينل هذه المغفرة، فقال يسوع: خطاياك مغفورة، فحنق الكتبة من هذا القول حاسبين انهُ من التجديف غير أن يهوه المشار إليه في المزمور كان حاضرًا هنالك في شخص ابن الإنسان وأعطى برهانًا على أن هذا الحق مختص بهِ بإتمام ما هو مذكور في هذا المزمور نفسه. الذي يشفي كل أمراضك. ثم قال: ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا قال للمفلوج: لك أقول: قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك. فنهض الرجل وحمل فراشهُ وانطلق. فالمغفرة والسلطان على الشفاء أتيا على الأرض بشخص ابن الإنسان ذاك الذي وافى عالمنا بسلطانه الإلهي وحقه في حال الذل والاتضاع؛ ليقطر من بلسم محبتهِ وقدرتهِ على أرزاء الإنسان وشقاء نفسه مقدمًا دليلاً على ذلك بتحريره الجسد من الآلام الطارئة عليه بالخطية، فالله كان حاضرًا هنالك بمحبته وسلطانهِ على الشفاء، غير أن الحق الخطير إنما هو حلول الغفران على الأرض. فهذا هو الحق الأول العظيم. فان ما فاه به يسوع ينادى به الآن في الإنجيل. تلك هي الوسيلة لاقتران عدل الله مع غفرانهِ المجاني. قد ظهر الصفح الدائم ظهورًا جليًا تلقاء البشر بكلمات يسوع وأُعلن العفو عن الخطية مبنيًا على عمل المخلص. فإذا كان هذا هو روح الإنجيل وعمل الفادي، فلابد أن تأتي لكي يدعو الخطاة ويكون صديقهم ليحصلوا على الثقة به ويؤمنوا بنعمتهِ. ولَيعلم العالم صفات المسيح الحقيقية. 13 ثُمَّ خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْبَحْرِ. وَأَتَى إِلَيْهِ كُلُّ الْجَمْعِ فَعَلَّمَهُمْ. 14 وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ. 15 وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ. 16 وَأَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ، قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ:«مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» 17 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ:«لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ». (عدد 13-17). ثم أن الحوادث التابعة في هذا الإنجيل تحملنا على فهم خدمة يسوع وأعماله فهمًا صريحًا، فإنهُ دعا مَتَّى الذي كان جالسًا عند مكان الجباية. فذلك المكان كان مكروهًا عند اليهود ليس فقط لأنهم كانوا ملتزمين أن يؤدوه ضدًا لارادتهم، بل لأنهُ كان دليلاً على عبوديتهم للأمم. فإنهم كانوا قد خسروا حقوقهم باعتبار كونهم شعب الله الحَّر، فبناء على ذلك كانوا يحنقون كل الحنق ممن يتقلدون هذه الوظيفة من أبناء بلادهم تحت سيادة الحكومة الرومانية. وكان الإنسان المتولي هذه الخطة ممقوتًا ومحسوبًا من الخائنين بالديانة والأمة، فعلى ذلك كانت جباة المكوس فئة مزدراة ومبغُضة. فالآن دعا يسوع مَتَّى وكان عشارون آخرون كثيرون جالسين على المائدة مع يسوع وتلاميذه فأخذ الكتبة والفريسيون يتباحثون كيف يمكن لإنسان بار أن يأكل مع عشارين وخطاة، فسمع يسوع ذلك وأجابهم بحكمة إلهية. فبساطة هذا الجواب تضارع قوته: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة. فالعامل هنا هو النعمة وعمل يسوع هنا يباين الناموس كل المباينة؛ لأن الناموس يطلب من الإنسان عدلاً إنسانيًا، أما يسوع والإنجيل فيبشران بنعمة إلهية تُعلن بر الله للإنسان وما تلك إلا عطية مجانية. فالبر الإلهي كان مزمعًا أن يُعلن كل الإعلان حين إتمام عمل المسيح على الصليب. ذلك حق خطير وثمين جدًا، فيسوع المخلص أتى ليُفتش على الخطاة لا على القوم الأبرار حتى لو وُجدُ أشخاص كهؤلاء لما كانت حاجة للتفتيش عليهم، بل وافى بنعمتهِ العظيمة وجودتهِ الكاملة ليطلب الأثمة فلا يصرفهم عنه، بل يُنَشدهم فيستطيع أن يجلس ويأكل معهم ولا يمس ذلك قداسته الكاملة فهذا هو إعلان الله لمحبتهِ في وسط الخطاة ليُريح قلوب البشر ويجتذبها إليه وينشئ بها ثقة الله ويربط بذاتهِ كل قوى النفس بربطات المحبة وبرسم عليها صورته الطاهرة. فإن الصلاح الإلهي في شخص المسيح قد حل في وسط الشر لإنشاء هذه الثقة وقد أشترك مع الإنسان الساقط في شقائه وتعاستهِ ولم يطرد الأثيم لإثمهِ، بل دعاه للإتيان إليه لكي ينال المغفرة. لا جرم أن خراب الإنسان بدأ حين فقد هذه الثقة بالله، فإن إبليس كان قد نجح بإقناع حواء بأن الله لم يسمح لها بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر؛ لأنهُ علم إذا أكلَ منها الإنسان كان مثل الله يعرف الخير والشر، وأن الله نهاهُ عن مسّ الشجرة بسبب الغيرة، وأنهُ إذا كان لا يشاء تعالى أن نكون سعداء وجب علينا أن نُصَير أنفسنا في حال السعادة. فهذا ما كانت حواء تطلبهُ وما يصبوا إليه كل الجنس البشري، أي أن يفعلوا إرادتهم الذاتية، فمن ثمَّ سقط الإنسان ولا يزال مُقيمًا في ملء هذا الشقاء الذي هو ثمر الخطية متوقعًا حلول قضاء الله على الخطية نفسها. أما الله فقد أتى بمحبته الطالبة الخطاة والملائمة لحاجتهم والغير المفتقرة لبر الإنسان والمقدمة له خلاصًا ونعمة يحملانه على القدوم إلى الله متبرَّرًا بواسطة عمل المسيح وكفارته. فقد وافى بالمحبة للقوم الأثمة ليصالحهم مع نفسهِ، وبدلاً من أن يُقاصِّهم لأجل خطاياهم انتهز الفرصة لإعلان نفسه ذبيحة لأزالتها ومحوها. فيجب أن نلاحظ أن المسيح في مدة حياته كان يُعلن محبة الله ولطفهُ للإنسان، وما النتيجة من ذلك سرى رفضهِ، وأما في موتهِ فقام كإنسان في مقام ذبيحة لدى الله الذي جعله خطية لأجلنا؛ لكي نصير نحن برَّ الله فيه وبذلك العمل وضع أساسًا راسخًا لبركتنا، فإنهُ يستطيع أن يُباركنا الآن في شخص المحبوب باعتبار قيمة عملهِ وفضل شخصهِ وعظمتهِ. فنرى إذًا شيئين أولهما: إظهار المحبة الكاملة بخدمته نحو البشر، وأما الثاني: فهو تقديم كفارةً أمام الله. وفي ذلك كله نرى الله عاملاً لأجل الإنسان وليس طالبًا شيئًا منه إلا أن يُقبل فقط. بخلاف ما كان يعمل في مدة نظام الناموس، فإن الناموس كان القانون الكامل الواجب أن يسير به الإنسان بحسب كونهِ ابن آدم وقد طلب منه أن يقوم بحفظهِ ولعن كل مَنْ لم يفِ مطالبهُ وأيد نسبة الإنسان إلى الله بالسلطة الإلهية الذي أعطاه قانونًا كاملاً للسلوك وفقًا لتلك النسبة. فذلك القانون مما يُسهل على الإنسان الساقط نسيانهُ والتعدي عليه. فلم يُعطِ حياةً ولا قوةً ولا موضوعًا يجذب القلوب ويسود عليها، بل وطد نسبة الإنسان لإلههِ واخوتهِ بني البشر ولعن كل من لم يحفظهُ وكل الذين كانوا تحت سلطتهِ. لا جُرم أن الجسد لا يخضع ولا يستطيع أن يخضع لناموس الله، أما النعمة فتؤيد سلطة الناموس واللعنة نفسها؛ لأن المسيح فادينا العزيز قد حملها. فإن المغفرة تباين اللعنة كل المباينة، كما أن وفاء الدين يختلف عن طلب الدراهم. على أن من العدل طلب أداء الدَين، ولكن إن كان المديون عاجزًا كل العجز عن الإيفاء ولا شيء عنده فهو في بؤس وضنك فلو أدى ما عليه لفاز بالحرية والعتق فقط، أما المسيح فقد فعل أكثر من ذلك؛ لأنهُ لم يفِ الدَين فقط، بل أعطاهً ثروة جسيمة في حضرة الله. 18 وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ يَصُومُونَ، فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ:«لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» 19 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. 20 وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. 21 لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق، وَإِلاَّ فَالْمِلْءُ الْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَتِيقِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. 22 وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق عَتِيقَةٍ، لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق جَدِيدَةٍ». (عدد 18-22). هذا الفصل مما يوضح الفرق العظيم بين النظامين العتيق والجديد وأن لكل منهما ما يمتاز ويتصف به. فان تلاميذ يوحنا والفريسيين كانوا يصومون، فذكر الرب علة امتناع تلاميذه عن ذلك؛ لأن العريس كان حاضرًا فلم يكن وقت الصيام، ولكن سيأتي زمان حين يُرفَع العريس عنهم، فحينئذ يصومون لما يتحول فرح حضورهِ إلى حزن بغيابهِ وبالحاجة الناشئة في قلوبهم من ذلك الغياب. ثم يوجد شيء آخر وهو تعذر مزج النظامين معًا، فإن الخمر الجديدة أعني بها الحق وقوة الدين المسيحي الروحية لا يمكن وضعها في زقاق عتيقة، أي في فرائض الديانة اليهودية وطقوسها، فإذا فعل ذلك أتتلفت الخمر الجديدة الزقاق ففسد الاثنان معًا فالخمر تنصب والزقاق تتلف، وكذلك لا يلائم النسيج الجديد الثوب القديم؛ لأن الثوب يتمزق فيصير الخرق أردأ. فبالحقيقة أنهُ يتعذر ضمُّ قوة الدين المسيحي الروحية مع الطقوس الجسدية التي تصبو إليها الطبيعة البشرية؛ لأنهُ يتألف منهما ديانة بدون حياة جديدة وبدون أن يُمسَّ الضمير، كلاً بل يجب وضع الخمر الجديدة في زقاق جديدة ذلك أمر مهم علينا أن نذكرهُ. فإن النظام الأول قد تغير كل التغيير وأتى بدله نظام جديد، فقد تحول السابق وأُبطل أصبحت الأحوال تختلف عن سابقتها فلا يمكن أن يجتمعا معًا ويستحيل على الطقوس الجسدية الاتفاق مع قوة الروح القدس. فتأملوا بذلك يا أيها المسيحيون. فقد حاولت الديانة المسيحية أن تزين وتبهرج نفسها بالطقوس والاحتفالات وطالما فعلت ذلك في مظاهر وأساليب وثنيَّة، فماذا كانت النتيجة؟ أنها أصبحت بالحقيقة وثنية عندما تزينت بأزياء العالم القائم بتلك الصُوَر الخارجية حتى كادت روحيَّتها تُفقد كل الفقد. 23 وَاجْتَازَ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. 24 فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ:«انْظُرْ! لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟» 25 فَقَالَ لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ احْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ 26 كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَأَثَارَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ، وَأَعْطَى الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضًا». 27 ثُمَّ قَالَ لَهُمُ:«السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. 28 إِذًا ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا».(عدد 23-27). لا يُخفى أنهُ كانت للسبت أهمية عظيمة جدًا تحت نظام الناموس، وكان قد تعين من البداءة تذكارًا لراحة الله بعد تكميل عمل الخليقة، ثم بعد فداء بني إسرائيل من عبودية مصر جعلهُ الله علامة عهده بينهُ وبينهم، فانهُ كان من جملة مقاصدهِ بالنظام الأول لمن يمتحن إسرائيل وبالتبعية الإنسان مطلقًا ليرى إذًا كان وهو حاصل على قانون كامل ووسائط ناموسية تامة ومتمتع بحضرة الله في هيكلهِ يستطيع أن يخدمهُ ويكمل كل بر كابن آدم في الجسد. فالسبت لم يكن يومًا سابعًا الذي كفَّ بهِ الله عن الخليقة بعد إنجاز عمل الإبداع واستراح من عمالهِ. فالمسألة هي فيما إذا كان يستطيع أن يساهم خالقهُ بتلك الراحة؟ فإن بني إسرائيل صنعوا العجل الذهبي قبل نزول موسى من الجبل فصبر الله عليهم، لا بل على الإنسان وتمهل عليه إلى أن رُفض المسيح، فعند ذلك تبرهن عجز الإنسان عن الثبوت في الخير وعن القيام بما يُطلَب منهُ بحسب العهد القديم، ومن ثمَّ كان يتعذر ابرام عهد بين الله والإنسان حسب الجسد ينتج بركة ثابتة لهُ؛ لأنهُ يستحيل عليهِ التمتع براحة الله على مبدأ ناموسي، وفضلاً عن ذلك كان سبت الخليقة الأولى لأجل الإنسان، ومن ثمَّ المسيح الذي هو ابن الإنسان الذي تعينَّت له جميع حقوق آدم الأول التي أعطاهُ الله إياها قبل سقوطهِ صار ربَّ السبت الذي أُعطي من قِبل الله لراحة الإنسان، فلما عجز عن الدخول إلى الراحة بواسطة أعمالهِ قام الإنسان الثاني الذي هو بالحقيقة الرب من السماء وأخذ بعمل بحسب مبدأ آخر أي مبدأ النعمة فاضطرَّ إلى العمل في كل الأيام ليسدَّ حاجات البشر وكان لهُ حتى بذلك لكونهِ ربَّ السبت، فيشار إلى ذلك أولاً بزمان داود مسيح الرب، فانهُ لما رُفض كان كل شيء عامَّا ودنسًا فكذلك لما رُفض المسيح الدليل الأخير المعطى للإنسان حسب الجسد لم يكن شيء طاهرًا للإنسان فان ختم العهد الأول أي السبت قد أُلغيَ وفقد قوتهُ. ثم حين غادر المسيح إلى حين مقامهُ في إسرائيل كمسيا الموعود بهِ اتخذ حقوقه كابن الإنسان على دائرة أوسع جدًا من نسل داود ابن إبراهيم، كما نرى ذلك كثيرًا في الأناجيل (لوقا 21:9-22) فهو إذًا ربًّ السبت المُعطى للإنسان فمن ثمَّ تلاشت علامة العهد القديم بواسطة خطية الإنسان ورفضهِ المسيح. فقيامة المسيح كانت بداءة الخليقة الجديدة ودعامة العهد الجديد المؤسس على دمهِ، وهي علامة راحة الله لأجلنا فإنهُ تعالى قد اكتفى وتمجد بموت يسوع وأقامهُ من بين الأموات فوجد مقرَّا لمحبته وبرهِ وأصبحنا نحن موضوع محبتهِ وبرَّ الله بالمسيح. فتعين لنا يوم آخر لراحتنا أي اليوم الأول الذي تعلق ليس بالخليقة الأولى التي تشوشت بالخطية، بل بالخليقة الجديدة التي بدأت بقيامة المسيح. إذًا يوم الرب من عطايا الله الثمينة للإنسان. فالمسيحي الحقيقي يتمتع بهِ بملء القلب والنفس وإذا كان أمينًا وَجد نفسهُ بالروح ليتمتع بالله ويُسرَّ بالراحة من الأشغال العالمية ليعبد الله أباهُ ويفوز بالاشتراك روحيًا مع سيدهِ. فإذا تكلم المسيحي عن حرَّيتهِ واستخدامها للإزراء بيوم الرب وإهمال حفظهِ والانهماك في أعمالهِ الدينونة كان من الأدلة السيئة على صدق مسيحيتهِ، فانهُ وان كان حرَّ فإنما هو حرَّ من العالم والناموس ليخدم الرب. فكم من الخير يستطيع الإنسان أن يفعل في يوم الرب إذا أحسن استعمالهُ وفقًا لإرادة مولاهُ وهذا مبدأ ثالث يشتمل عليه الأصحاح الثالث من هذا الإنجيل. فائدة الوصية الرابعة التي أوجبت حفظ السبت على إسرائيل هي من ضمن العشر الوصايا، ولكنها تختلف عما سواها في بعض الأوجه بحيث أنها تتعلق بأمر مفروض على الإنسان فرضًا من قِبل مشيئة الله وليس قيمة أو صفة أدبية في الأمر نفسه، ومن ثمَّ يمكن لله أن يبطله إذا شاء إما وقتيًا أو نهائيًا. ولا نقدر أن نقول هذا عن الوصايا الأخرى، ولم يكن من اللياقة بالرب أن يقول: انهُ ربَّ الوصية الأولى مثلاً. |
||||
05 - 11 - 2012, 03:48 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح الثالث 1 ثُمَّ دَخَلَ أَيْضًا إِلَى الْمَجْمَعِ، وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. 2 فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي السَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. 3 فَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الْيَدُ الْيَابِسَةُ:«قُمْ فِي الْوَسْطِ!» 4 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟». فَسَكَتُوا. 5 فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِينًا عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ:«مُدَّ يَدَكَ». فَمَدَّهَا، فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. 6 فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ. (عدد 1-6). كانت النعمة قد حضرت في المسيح قادرة أن تعمل كل ما يلزم لتخليص البشر من النكبات والبلايا الناتجة من الخطية، فلا يليق بها أن تنحصر في القوانين الناموسية التي إنما ترتبت على الإنسان لإرشاده في العمل. فإذًا إن كان واضعها نفسهُ يحضر فمن الضرورة أنهُ يتصرف كما يليق بحقوق الله في العالم وليس بحسب الواجبات الإنسانية فقط، فإن الخالق ليس بملتزم في ما أوجبهُ على الخليقة حتى ولو أمتنع المسيح عن شفاء الرجل اليابس اليد لكان ذلك كأنهُ فعل الشر، كقولهِ لهم: هل يحلُّ في السبت فعل الخير أو الشر، تخليص نفس أو قتل؟ لأنهُ كان قادرًا على إجراء أعمال رحمة كهذه وكان حال البشر الشقي هو الذي أستدعى حضورهُ إلى العالم. ولا يمكن أن الله يكون قد وَضع شريعة تمنعهُ عن أن يفعل بحسب قدرته ونعمتهِ. فلما رأى الرب غلاظة قلوبهم إذ كانوا محافظين على شريعتهم حفظًا تعصُبيًا خارجيًا، وبما أنهم جهلوا النعمة وأرادوا أن يتخذوا الشريعة وسيلة لمنع الله عن العمل بالنعمة نظر حولهُ إليهم بغضب،ٍ ولكنهُ يقال أيضًا: انهُ كان حزينًا؛ لأن غضبهُ كان مقترنًا مع الحزن، مع أننا نقول: أن له حقًا أيضًا أن يغضب غضب النقمة إذا شاء ذلك، ولكنه إنما يفعل ذلك في الوقت المعين للقضاء. وأما نحن فلا يجوز لنا إلا غضب الحزن وذلك ليس إلا مؤقتًا (أفسس 26:4). 7 فَانْصَرَفَ يَسُوعُ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْبَحْرِ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ 8 وَمِنْ أُورُشَلِيمَ وَمِنْ أَدُومِيَّةَ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. وَالَّذِينَ حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ، جَمْعٌ كَثِيرٌ، إِذْ سَمِعُوا كَمْ صَنَعَ أَتَوْا إِلَيْهِ. 9 فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ أَنْ تُلاَزِمَهُ سَفِينَةٌ صَغِيرَةٌ لِسَبَبِ الْجَمْعِ، كَيْ لاَ يَزْحَمُوهُ، 10 لأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَى كَثِيرِينَ، حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهِ لِيَلْمِسَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِ دَاءٌ. 11 وَالأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ حِينَمَا نَظَرَتْهُ خَرَّتْ لَهُ وَصَرَخَتْ قَائِلَةً:«إِنَّكَ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!». 12 وَأَوْصَاهُمْ كَثِيرًا أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ. (عدد 7-12). فتبعهُ جمهور عظيم من كل جهات البلاد؛ لأنهم سمعوا عن المعجزات التي فعلها. فلنا هنا صورة حية عن تأثير خدمتهِ فالتزم السيد أن يركب سفينة صغيرة على البحيرة فكان الجمهور المزدحم حولهُ عظيمًا ليلمسوهُ ويشفوا من أمراضهم. وكانت الأرواح الشريرة تخر أمامهُ حين تراه قائلة: أنتَ ابن الله. فتأملوا أن الأرواح الشريرة استولت على الشعب كل الاستيلاء حتى نُسبت أعمالهم إليها، فكان يتفوه المصابون بها بما كانت تلقنهم إياه كان ذلك من أقوالهم الطوَّعية ذلك كثيرًا ما نراهُ في الأناجيل. فالعقل والجسم كانا سيادة تلك الأرواح هو أفكارهم الخاصة فكان الاستيلاء تامًا من كل الوجوه، كقول المصاب: أتيتَ لتعذِبنا قبل الزمان، أعرفك من أنتَ قدوس الله. تلك حقيقة كثيرًا ما تحدث، أما يسوع فلا يقبل شهادة الأبالسة ولا يسمح لهم أن يشهروهُ. 13 ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. 14 وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلِيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا، 15 وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ. 16 وَجَعَلَ لِسِمْعَانَ اسْمَ بُطْرُسَ. 17 وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ، وَجَعَلَ لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ. 18 وَأَنْدَرَاوُسَ، وَفِيلُبُّسَ، وَبَرْثُولَمَاوُسَ، وَمَتَّى، وَتُومَا، وَيَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى، وَتَدَّاوُسَ، وَسِمْعَانَ الْقَانَوِيَّ، 19 وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ. 20 فَاجْتَمَعَ أَيْضًا جَمْعٌ حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلاَ عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ. (عدد 13-20). فصعد يسوع إلى الجبل ليتنحى عن الجمهور برهة وينفرد وحدهُ ودعا إليه من أرادهم فلاقوهُ. فقد ورد في إنجيل لوقا أنهُ صرف كل الليل بالصلاة لله قبل تعيين الرسل ذلك؛ لأن الإنجيل المذكور يتكلم بأكثر وضوح عن ناسوت المسيح وهذا أمر خطير في مكانهِ. فقد صلى حين انفتحت السماء وصلى حين تجلَّى وحين كان في شدة الألم في البستان صلى بأكثر حرارة، أما هنا فنرى بالحري تقدم خدمتهِ وارتقاءها التدريجي فشارك معهُ خدامًا آخرين لإدامة أعمالهِ وتوسيعها. فكان يجب أن يكونوا معهُ ثم أُرسلوا ليكرزوا بالإنجيل بقوة ويشفوا الأمراض ويُخرجوا الشياطين. فلاحظوا هنا أن يسوع لا يفعل المعجزات بنفسهِ فقط، بل يقلّد الآخرين أيَضًا القدوة على اجتراحها. فالرسل كانوا يستطيعون وضع الأيادي على غيرهم ليقبل الروح القدس، ولكنهم لم يكونوا يقدرون أن يمتحنوا الآخرين سلطانًا على صنع العجائب ولا إخراج الشياطين. ذلك أمر أعظم جدًا من اجتراح الآيات فما ذلك إلا قوة الله وسلطانهُ. ثم سمى أيضًا التلاميذ بأسماء. فلاحظوا هنا سلطتهُ الفائقة فإنهُ فعل ذلك وفقًا لمعرفتهِ الإلهية بصفاتهم قبل اختبارها والإطلاع عليها. 21 وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا:«إِنَّهُ مُخْتَل!». 22 وَأَمَّا الْكَتَبَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا:«إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ! وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ». 23 فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ بِأَمْثَال:«كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَانًا؟ 24 وَإِنِ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ. 25 وَإِنِ انْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَقْدِرُ ذلِكَ الْبَيْتُ أَنْ يَثْبُتَ. 26 وَإِنْ قَامَ الشَّيْطَانُ عَلَى ذَاتِهِ وَانْقَسَمَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ، بَلْ يَكُونُ لَهُ انْقِضَاءٌ. 27 لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَوِيٍّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ. 28 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ، وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. 29 وَلكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً». 30 لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ رُوحًا نَجِسًا». (عدد 21-30). وفي الوقت نفسه نرى كيفية قبول القوم شهادتهُ فإن أصدقاءهُ ظنوهُ مختلاً ورؤساء الشعب نسبوا أعماله لقوة إبليس فيا لجهالة هذا العالم وفسادهُ! فغل الإنسان لا يرى في أعمال الجودة الإلهية إلا الجنون وقوة الشيطان، ولكن لا ريب في أن الشيطان لا يُخرج شيطانًا فإن هذا ضرب من الحماقة والغباوة، فإذا كانت قد سُلِبت أمتعة القوي لا شك في أن إنسانًا أقوى منهُ قد أتى وربطهُ. فالثناء كل الثناء على القدرة الإلهية. فهذا القول إنما كان خطية وتجديفًا على الروح القدس لا يمكن لها المغفرة. فإنه لما قالوا: لا تؤمن به لأنهُ لا يحفظ السبت. وإن كان قبولاً رديئًا في الدرجة القصوى كان جديرًا بالمغفرة بعد التوبة والاعتراف بهِ، ولكن الكتبة ميزوا تلك القوة وعرفوا أنها أعظم من قوة الأبالسة فبدلاً من أن يعترفوا بإصبع الله نسبوها لرئيس الشياطين ودعوا الروح القدس شيطانًا. ذلك كان نهاية رجاء إسرائيل بالنظر لمسئوليتهم لدى الله. فالنعمة تستطيع أن تغفر للأمة، ولابد أن تفعل ذلك حين رجوع السيد بالمجد، أما الآن فقد انقضى تاريخهم كشعب مكلف لدى الله. 31 فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجًا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. 32 وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِسًا حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ:«هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجًا يَطْلُبُونَكَ». 33 فَأَجَابَهُمْ قِائِلاً:«مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟» 34 ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ:«هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، 35 لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي». (عدد 31-35). فنرى هنا أن الرب قطع كل نسبة مع الشعب الإسرائيلي المنقاد وراء رؤسائهم المجدفين، فإن أمهُ وأخواتهُ حضروا ليطلبوهُ بحسب حقوقهم الطبيعية والظاهر أنهم عملوا ذلك بموجب حكم الرؤساء ومشورتهم، ولكنهُ لم يشاء أن ينتسب إليهم. صرح بحقيقة عظيمة جدًا أي أن الكلمة هي الواسطة الوحيدة التي بها يربط بالنفس علائق جديدة، أما علاقتهُ مع إسرائيل فقد انقطعت. فلم يكن لأُمهِ من دعوى عليهِ فرفض دعوتها وقال: مَنْ هي أمي ومَنْ هم أخوتي والتفت إلى مَنْ حولهُ، وقال: لأن كل من يفعل مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي. فنرى هنا أن الانفصال بين السيد والشعب قد تم على انهُ لهُ المجد ظل بصبرهِ يبين جودة الله حتى الفصح الأخير، غير أن القضاء على الشعب كان صدر وتمَّ ولم يتباطأ عن التفوه بالدينونة عليهم ولم يطلب بعد ثمرًا في الكرم الإسرائيلي القديم. |
||||
05 - 11 - 2012, 03:48 PM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح الرابع 1 وَابْتَدَأَ أَيْضًا يُعَلِّمُ عِنْدَ الْبَحْرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَحْرِ، وَالْجَمْعُ كُلُّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ عَلَى الأَرْضِ. 2 فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «اسْمَعُوا! هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، 4 وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. 5 وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. 6 وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. 7 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَرًا. 8 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَرًا يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ». 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ» 10 وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ، 11 فَقَالَ لَهُمْ:«قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، 12 لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ». 13 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«أَمَا تَعْلَمُونَ هذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟ 14 اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ. 15 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ الْكَلِمَةُ، وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ الْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. 16 وَهؤُلاَءِ كَذلِكَ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ: الَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ، 17 وَلكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ، فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ. 18 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ الشَّوْكِ: هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ، 19 وَهُمُومُ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ الْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. 20 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا، وَيُثْمِرُونَ: وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً». (عدد 1-20). الرب نطق بمثل الزارع وهو جالس في السفينة عند جانب البحيرة، فذلك الزارع ذهب ليزرع زرعًا إذًا قبلهُ القلب أتى بفعل النعمة بالثمر الذي يطلبهُ الله . فالثمر لم يوجد في الكرم الإسرائيلي حيث كان قد أُمتحن الإنسان حين كان في الجسد مرتبطًا بالعهد القديم، فإن الناموس كُتب على ألواح من حجارة؛ فلهذا السبب لعن السيد شجرة التين التي لم تأتِ بأثمار، بل أنبتت ورقًا فقط. على أنهُ نقب حولها وسمدها غير أن ذلك كان عبثًا فمن ثمَّ وجب قطعها. فما أرهب هذا الحق المقدس!. لا جُرم أن النعمة ترفعنا فوق الخطية، غير أن الإنسان كان قد هلك بالنظر لمسئوليتهُ لدى الله. أما السيد فبدأ يُعَلّم الجموع بأمثال قائلاً: هوذا الزارع قد خرج ليزرع. فكما قلنا: هو لا يطلب ثمرًا بعد من الإنسان على الأرض ولا من شعبهِ القديم، بل يزرع ما يجب أن يأتي بثمر. فحين كان الزارع يزرع سقط بعض على الطريق وبعض على الأماكن المُحجرة وبعض في وسط الشوك وبعض على الأرض الجيدة. فتلك ليست مسألة تتعلق بالتعليم، بل بالنتائج التابعة زرع كلمة الملكوت وهي مسألة حقائق خارجية. فثلاثة أجزاء من الزرع لم تأتِ بثمر. ففي الحالة الأولى، حين تُزرع الكلمة في القلب تستمر على السطح الخارجي ولا تخرق إلى الداخل فيخطفها الشيطان بسهولةٍ فلا يكون ثمر. وفي الحالة الثانية، تُقبل الكلمة بفرح ويسرُّ السامعون بالإصغاء لصوت نعمة الملكوت وغفران الخطايا، ولكن حالما يلمُّ بهم من جرائها ضيق أو اضطهاد يتركونها وينبذونها عنهم. فإن السامع قد قبلها بفرح، ولكن لا يلبث حتى يُغادرها حين حلول الضيق؛ لأن الضمير لم يُؤتَ بهِ إلى حضرة الله ولم يمسهُ انزعاج واضطراب خوفًا من دينونة الله. فكلمة الله إنما تتأصل في نفسهُ يُعلن للقلب فيرى الإنسان نفسه في حضرتهِ شاعرًا بوجوده لدى فاحص القلوب. ثم يتبع ذلك القضاء على الذات فتتبدد الظلمة وتضمحل ويشرق نور الله في القلب. فحين يستفيق الضمير ويتدرب على المنوال المُشار إليهِ يأتي الإنجيل بالفرح والسلام الدائمين ويُلبي الله حاجة النفس، فمهما كانت نعمة الله ومحبتهُ عند بداءة إعلانهما لا ينشئان فرحًا؛ لأنهما يزعجان الضمير. فيخترق النور القلب؛ لأن الله نور. ولكن المحبة تُنشئ ثقة؛ لأن الله محبة فينجذب القلب ويتكل على المخلص نظير المرأة الخاطئة التي غسلت قدميه بدموعها، ولكن الضمير لا يكون قد طُهر بعد فلا يكون له فرح. فإذا كانت بشرى الغفران تُنشئ فرحًا حالاً يُخشى أن الضمير لم يستيقظ بعد. فالفهم والتمييز وربما العواطف الطبيعية تكون قد فهمت أنباء المحبة والغفران الجميلة الواردة في الإنجيل، غير أن العمل إنما هو على السطح الخارجي ولا عمق له فيزول ويتلاشى عند الامتحان. والقسم الأخر من الزرع وَقع بين الشوك فنبت الشوك وخنقهُ فلم يأتِ بثمر. وأخيرًا أتى الزرع الساقط على الأرض الجيدة بأثمار تتفاوت مقاديرها فغاية هذا المَثل لا ليُبين كيفية حدوث ذلك، بل ليتكلم فقط عن النتائج الظاهرة. فلا ريب في أن هذا هو فعل النعمة، ولكن لم يذكر شيء إلا الحقيقة على أن نرى فعل النعمة في هذا النوع الأخير، فإنهُ ينمو ويأتي بثمر ويظل ناميًا. فمن قَبلَ فعل النعمة في قلبهِ أصبح صالحًا لإبلاغها إلى الآخرين أيضًا. فربما ليس لهُ موهبة الكرازة غير أنهُ يحب الحق ويحب النفوس ومجد المخلص، فلابد أن يُضيء النور الذي أشرق قلبهُ على مَنْ حولهُ وهو أيضًا يزرع بحسب قوتهِ وهو مُكلف في أن يفعل ذلك. فالأمانة والخيانة في هذا الأمر ستعلنان كما سائر الأمور،فإن الله يُرسل النور إلى القلب لينبعث إلى الآخرين لا لكي يخفي ويستر. فإذا كنا أُمناء في إبلاغ ما نملكهُ إلى الآخرين كثرت عطايا الله لنا ازدادت. وإذا وُجدت في قلوبنا المحبة لابد من ظهورها وإعلانها، فالحق والمحبة قد أتيا كلاهما بيسوع، فما لم يكن القلب ملآن من المسيح لا يستطيع أن يُعلن الحق وإذا كان مُفعمًا من الأمور الدنيوية ومحبة الذات تعذَّر إعلان المسيح، ولكن متى حلَّ المسيح وحقهُ ومحبتهُ في القلب نستطيع أن نُظهرهُ للآخرين للبركة وننال نحن أنفسنا فيض البركة وتزداد عطايا الله لنا وتتمتع النفس بالحرية والسرور. فإذا لم يستفد الآخرون من نورنا نزع ذلك النور منا وتحوَّل إلى ظلام. نرى أيضًا أن خدمة الرب لليهود كأُمة على وجه العموم كانت قد انقضت، فإنه أخذ يوجه كلامهُ خصوصًا للذين كانوا قد قبلوا، إذ قال لهم: قد أُعطي لكم أن تعرفوا سر ملكوت الله وأما الذين هم خارج فبالأمثال يكون كل شيء، لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم؛ لأنهم تحت قضاء الله ودينونتهِ. فلا يعني الرب بهذا القول عدم إمكانية إيمان الأفراد ونوالهم المغفرة، بل أن الله ترك الأمة ونزع البركات وأصبحت عرضة للدينونة لأنها رفضت شهادة يسوع، فوبخ التلاميذ؛ لأنهم هم لم يفهموا أيضًا هذا المَثل، ولكنهُ فسرهُ لهم بنعمتهِ. 21 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ السَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى الْمَنَارَةِ؟ 22 لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ صَارَ مَكْتُومًا إِلاَّ لِيُعْلَنَ. 23 إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ» 24 وَقَالَ لَهُمُ:«انْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ. 25 لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ». (عدد 21-25). يعود الرب في هذا الفصل يُنبه التلاميذ على الإصغاء إلى كلمته وتخصيصها لأنفسهم وبعد ذلك تبليغها للآخرين؛ لأن الله إنما يمنحنا نوره لكي يُنيرنا قبل كل شيء ثم يستخدمنا لإنارة الآخرين وليس من خواص النور ان يُخفى. هل يؤتى بسراج ليوضع تحت المكيال أو تحت السرير، أليس ليوضع على المنارة؟ كان المسيح نفسهُ نورًا إلهيًا في العالم والمعلوم انهُ لم ينطق بأقواله ولا عمل في زاوية فإن أمورهُ كلها كانت ظاهرة لأجل إفادة البشر، كما قال: لأنهُُ ليس شيء خفي لا يظهر ولا صار مكتومًا إلا ليُعلن. كان هو خفيًا ومكتومًا في الأول، ولكنهُ صار ظاهرًا بخدمة المحبة وكذلك تلاميذه فإنه اجتذبهم إليهِ وأنارهم وبعد ذلك عينَّهم للإضاءة للآخرين، ونحن أيضًا كذلك إن كنا قد استفدنا منه حقيقةً فإننا قد صرنا نورًا مخفي. وعلى قدر ما نُنير للآخرين نزداد وننمو في النور، كما قال: بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم؛ لأن مَنْ لهُ سيُعطى، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منهُ. 26 وَقَالَ:«هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، 27 وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، 28 لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. 29 وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ». (عدد 26-29). ثم نطق بمثل آخر يُبين طرقهُ وأعمالهُ بيانًا صريحًا. فقد شبه الملكوت برجل ألقى البذار على الأرض ثم نام واستيقظ ليلاً ونهارًا والزرع ينمو ويزداد وهو لا يلاحظ ذلك فإن الأرض اطلعت ثمرًا من نفسها أولاً نباتًا ثم سنبلاً ثم قمحًا ملآن في السنبل. ولما أدرك الثمر أُرسل المنجل للوقت؛ لأن الحصاد قد حضر. فمن ثمَّ قد عمل الرب شخصيًا زرع كلمة الله على الأرض وفي النهاية سيعود ويعمل أيضًا شخصيًا عندما تأتي دينونة هذا العالم. أما الآن فيظل جالسًا عن يمين الله كأنه لا يهتم بحقله على أنهُ يعمل بنعمتهِ سرًا ويُنشئ كل شيء صالح، غير أن ذلك ليس بمعلن إعلانًا ظاهرًا. فهو يعمل غير منظور لإنماء الزرع بنعمتهِ بطريقة إلهية بينما يسمح للإنجيل حسب الظاهر بالنمو بدون أن يتداخل بهِ حتى الحصاد، ثم يظهر ثانيةً ويعمل بنفسهُ علنًا. 30 وَقَالَ:«بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ أَوْ بِأَيِّ مَثَل نُمَثِّلُهُ؟ 31 مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. 32 وَلكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا». 33 وَبِأَمْثَال كَثِيرَةٍ مِثْلِ هذِهِ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا، 34 وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى انْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ. (عدد 30-34) ثم علَّم الشعب أيضًا بمثل آخر. لا نرى هنا شرح الملكوت واردًا كما في الأصحاح الثالث عشر من مَتَّى، بل نُعاين المُبادئة العظيمة وعمل الرب بالمقابلة مع إعلان الملكوت وتأسيسه بحضوره. فإنهُ ينمو في غيابهِ على كيفية لا يعرفها أحد معرفة إنسانية. فالملكوت يُشبه حبة الخردل أصغر البذور، ولكن حالما تنمو تُصبح نباتًا عظيمًا إلى أن تتحول إلى شجرة كبيرة تتآوى طيور السماء في أغصانها. ذلك يضارع الديانة المسيحية البذرة الصغيرة المتأصلة من إنسان محتقر ومخذول من العالم، فقد أمست قوة عظمى على الأرض ونشرت أغصانها على كل الأنحاء والجهات. يجب أن نلاحظ أن الرب لا يقول: الشجرة الكبيرة جيدة أم لا. غير أننا نعلم من محلات أخرى من الكتاب أنها لا تناسب عملاً روحيًا والوحي لم يُلهم مرقس لا يعطينا معاملات الله السياسية ولا يوضح هيئات الملكوت السرية بعد رفض المَلك. يوجد ملكوت إلهي في مدة غياب المسيح يعني الله نفسه لا يزال يعمل ويُقال لعمله ملكوت الله، وأما مرقس فإنما يشير إلى وجهين من أوجهه كما قدر رأينا في هذين المثلين ولا يجوز لنا أن ننسب له أخطاء أو تقصيرًا في المعرفة كأنه لم يعرف أن يوضح موضوعه توضيحًا كاملاً كمَتَّى؛ لأنهُ بالحقيقة إنما يوجد مؤلف واحد للأناجيل الأربعة وهو الروح القدس الذي شاء واستخدم مرقس أولا لإدراج مَثل البذار الملقى على الأرض، فالأهمية هنا لوقت الزرع ووقت الحصاد، وأما في أثناء ذلك فتجري الأمور مجراها كان صاحب البذار لا يدري ولا يبالي بما يحصل ولا يفرض بحسب صورة المثل مضى أكثر من جيل واحد أو بالأحرى موسم واحد فإن الأمر الأعظم بعد الزرع هو الحصاد. فكان الرب حاضرًا بقوة إلهية ألقى البذار على الأرض وسيحضر هكذا أيضًا لإجراء الحصاد أي الدينونة. وثانيًا مَثل حبة الخردل الذي إنما يُظهر حقيقة نمو الديانة المسيحية في العالم من أصغر بداءة إلى أن بلغت مقامًا عالميًا عظيمًا. فيتضح لنا إذا أمعنَّا النظر أن قصد الوحي بإدراج المثلين يختلف عن قصدهِ بما ألهم البشير مَتَّى، ثم كرر الإنجيلي كلامهُ بأن السيد كلَّم الجموع بأمثال ولم يُخاطبهم بسوى ذلك، ثم فسر لتلاميذهِ على انفراد معاني أقوالهِ. 35 وَقَالَ لَهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». 36 فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضًا سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. 37 فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. 38 وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِمًا. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» 39 فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ:«اسْكُتْ! اِبْكَمْ!». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. 40 وَقَالَ لَهُمْ:«مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» 41 فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!». (عدد 35-41). ثم نرى في هذا الفصل سُلطانهُ على العناصر المُضطربة وأَمن خاصتهِ في الأخطار والمصاعب حتى في حين يخال كأنهُ غير مُبالٍ بما ألمّ بهم من النوازل. ثم نرى نسبتهُ للأُمة اليهودية وقضاءهُ عليها فإنه بعد صرف الجموع دخل يسوع سفينةً وذهب لينام وإذا بعاصفة ثارت على البحيرة حتى ملأَت الأمواج السفينة، فارتاع التلاميذ كل الروع فأتوا وأيقظوه فنهض وانتهر الريح، وقال للبحر: اسكت. أبكم. فسكنت الريح وصار هدوءٌ عظيم، ثم وبخ التلاميذ على عدم إيمانهم. فيا أيها القارئُ أتظن أن ابن الله يعتري سُلطانه الفشل والنقص من نوء فُجائي على بحيرة جنيسارت؟ كلاَّ. إن ذلك بالمُستحيل؛ لأن مقاصد الله ومشوراتهَِ كانت مجموعة في شخصهِ ولم يكن للحوادث العرضية بحسب نظر البشر أن تهبط ما كان الله قد قصدهُ منذ الأزل وليس ذلك فقط، بل قد اختار أُناسًا من البشر وأتى بهم إلى المسيح وجعلهم مُقترنين معه كل الاقتران. أكان يليق بالتلاميذ الروع وهم في سفينة واحدة مع يسوع. فما ذلك الأمثال وتنبيه لنا. فإننا على الدوام في سفينة واحدة مع يسوع إذا كنا صانعين مشيئتُه وتلك السفينة تمرُّ بنا في أخطار الحياة المسيحية ومصاعبها في خلال سفرنا على الأمواج المزبدة من بحر الحياة العجاج والخدمة المسيحية. فربما خلنا أنهُ نائِم، ولكن وإن سمح للعاصفة بالهبوب امتحانًا لإيماننا لا يسمح بغرقنا وهلاكنا لأننا معهُ في النوء. لا جُرم أن لا سلطة الهلاك عليه ولا علينا. وربما لاح لنا انهُ غير مبال بنا ولكني أكرر ما قلته بأننا معه في مركب واحد فأمنهُ هو كأمتنا نحن لا محالة. |
||||
التعديل الأخير تم بواسطة john w ; 05 - 11 - 2012 الساعة 03:54 PM |
|||||
05 - 11 - 2012, 03:56 PM | رقم المشاركة : ( 6 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح الخامس 1 وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ. 2 وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ مِنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، 3 كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ، 4 لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيرًا بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ. 5 وَكَانَ دَائِمًا لَيْلاً وَنَهَارًا فِي الْجِبَالِ وَفِي الْقُبُورِ، يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ. 6 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ، 7 وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ:«مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ؟ أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!» 8 لأَنَّهُ قَالَ لَهُ:«اخْرُجْ مِنَ الإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ». 9 وَسَأَلَهُ:«مَا اسْمُكَ؟» فَأَجَابَ قِائِلاً:«اسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ». 10 وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ الْكُورَةِ. 11 وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى، 12 فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ الشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ:«أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا». 13 فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ. وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَاخْتَنَقَ فِي الْبَحْرِ. 14 وَأَمَّا رُعَاةُ الْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ. فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. 15 وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَنَظَرُوا الْمَجْنُونَ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّجِئُونُ جَالِسًا وَلاَبِسًا وَعَاقِلاً، فَخَافُوا. 16 فَحَدَّثَهُمُ الَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ وَعَنِ الْخَنَازِيرِ. 17 فَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ. 18 وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُونًا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ، 19 فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ، بَلْ قَالَ لَهُ:«اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ». 20 فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. (عدد 1-20). فكما أن تسكين الرياح والبحر يُبين سلطان الرب على الخليقة، كذلك الحوادث التابعة تُظهر سلطان الرب على الخليقة كذلك الحوادث التابعة تُظهر سلطانه على الأبالسة، فإنهُ أخرج لجئونًا بكلمتهِ. ولكننا نرى الآن نتيجة إعلان قوته ِفي العالم حتى حينما عُلمت بهِ تلك القوة لإنقاذ البشر، فقد طلبوا من يسوع الانصراف فانصرف. فيا لشقاء هذا العالم وتعاستهِ! فإن سطوة الشيطان الهادئة على القلب اشد خطبًا من قوتهِ الخارجية المنظورة. ذلك أمر يُرثى لهُ، غير أن قوة المخلص كافية لإخراجهِ، أما سطوة الشيطان الهادئة في القلب فطردت يسوع نفسهُ، ثم لاحظوا أنهُ حين يشعر الإنسان بحضور الله يرتاع ورعًا أشد من إبليس، فإنهُ يُريد أن يعتق نفسهُ منهُ ولكنهُ لا يستطيع. غير أن حضرة الله لا نطاق حين يشعر المرء بها. فحقًا قد طرد الإنسان الله بشخص يسوع المسيح من هذا العالم. نعم أن يسوع أعطى نفسهُ لأجلنا، أما الإنسان بالنظر لمسئوليتهِ الخاصة فقد طرد مُخلصهُ، ولا ريب عندي في أن هذه الحوادث كلها تمثل نهاية تاريخ المخلص، والخنازير تمثل نهاية الأمة اليهودية التي أسرعت إلى الهلاك كان إبليس استولى عليها في انقضاء تاريخها. فالعالم لم يرد الحصول على يسوع واليهود القوا بأنفسهم في هاوية خراب لا رجاء لهم منهُ بعد بحسب الجسد. أما الإنسان الذي شفي فجلس هادئًا وأراد أن يتبع يسوع العازم على الانصراف فلم يسمح لهُ بذلك، بل أمره بإنباء الآخرين عما فعل لهُ. فهذا يمثل واجبات التلاميذ وكل المسيحيين بعد انطلاق السيد هذا العالم، فإنهم يرغبون في أن يكونوا معهُ لكنهُ يبعث بهم إلى العالم؛ ليعلنوا العمل المبارك الذي صنعهُ لنفوسهم فيستطيعون أن يُبشروا عن اختبار بنعمة يسوع وسلطانهِ، ولكن يا لشقاء هذا العالم والإنسان! فإن حضور الشيطان أعظم احتمالاً له من حضور الله، على أن يسوع يُريد أن يصد إعلان قوة إبليس العنيفة، ولكنهُ لا يرى لذلك مجالاً فإن عصبة الأبالسة تقتحم ويعود الإنسان إلى حالهِ السيئة كالأول. فالله ليس بظالم كإبليس، بل هو وافر الجودة والنعمة ويعتق البشر بالمسيح من سلطة الشيطان مقدمًا بذلك دليلاً على حضور الله وقوتهِ، أما الإنسان فأظهر أن حضور الله غير محتمل لديهِ حتى في حين وافى الله به لإنقاذهِ من شرور الخطية وسلطة إبليس وكل العواقب الوخيمة المترتبة عليها. 21 وَلَمَّا اجْتَازَ يَسُوعُ فِي السَّفِينَةِ أَيْضًا إِلَى الْعَبْرِ، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ. 22 وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ اسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ. وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، 23 وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا قَائِلاً:«ابْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا!». 24 فَمَضَى مَعَهُ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ. 25 وَامْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، 26 وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيرًا مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئًا، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَال أَرْدَأَ. 27 لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ، جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ، وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ، 28 لأَنَّهَا قَالَتْ:«إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ». 29 فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ. 30 فَلِلْوَقْتِ الْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ الْجَمْعِ شَاعِرًا فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَقَالَ:«مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟» 31 فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«أَنْتَ تَنْظُرُ الْجَمْعَ يَزْحَمُكَ، وَتَقُولُ: مَنْ لَمَسَنِي؟» 32 وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هذَا. 33 وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ، عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا، فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ الْحَقَّ كُلَّهُ. 34 فَقَالَ لَهَا: «يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ، اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ». 35 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جَاءُوا مِنْ دَارِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ قَائِلِينَ:«ابْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ الْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟» 36 فَسَمِعَ يَسُوعُ لِوَقْتِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي قِيلَتْ، فَقَالَ لِرَئِيسِ الْمَجْمَعِ:«لاَ تَخَفْ! آمِنْ فَقَطْ». 37 وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَتْبَعُهُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ، وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ. 38 فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجًا. يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيرًا. 39 فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ». 40 فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ، وَأَخَذَ أَبَا الصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَالَّذِينَ مَعَهُ وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ الصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً، 41 وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا:«طَلِيثَا، قُومِي!». الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ: قُومِي! 42 وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتًا عَظِيمًا. 43 فَأَوْصَاهُمْ كَثِيرًا أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذلِكَ. وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ. (عدد 21-43). فحادثة ابنة يايرس المذكورة هنا تعلن نسبة المسيح الحقيقية لإسرائيل، فقد أتى يسوع لشفائهِ، غير أن إسرائيل كان بالحقيقة مائتًا روحيًا، فلزم أن يُقيمهُ يسوع بقدومهِ لو كانت مشيئة الله بأنه يحيا، فالسيد يستطيع أن يفعل ذلك وسيفعلهُ للأمة في الأيام الأخيرة، ولكنهُ كان حينئذ في الطريق مع الشعب وكانت جموع إسرائيل محتاطة فإذا لمسهُ أحد الأفراد بإيمانهِ شُفي وهذا الشيء نفسهُ حدث للمرأة البائسة المصابة. فلنلاحظ بعض تفاصيل هذه الحادثة، فنرى أن الرب ميَّز بين الإيمان الحقيقي وشوق الجمهور المنجذب بمعجزاتهِ والفوائد التي نالها منهُ، على أن القوم لم يكونوا خالين من عاطفة الخلوص فإنهم شاهدوا آياتهِ وتمتعوا بنتائجها، ولكن لم يكن لهم إيمان بشخص يسوع، أما المرأة فكانت لها علامة تميزها بالنعمة وهي لا تنفكُّ عن الإيمان، وما هي إلا الشعور بالحاجة، وإدراك سمو شخص المسيح وقوته الإلهية وكون ذلك مصحوبًا بوداعة حقيقية واتضاع جسيم بالنظر لنفسها. فقد كانت تلك المرأة البائسة متأكدة بأنها إذا لمست طرف ثوبهِ فقط شُفيتْ فلم تتباطأ عن القيام بذلك، وحالما برئت شعر يسوع بأن قوَّة خرجت منهُ وحلَّت على المرأة فأبرأتها كل البرء. فهكذا هو الحال دائمًا، فإن كثيرين يسمعون الإنجيل ويسرُّون بالإصغاء إليهِ، غير أن الإيمان أمرٌ آخر فهو الذي يقبل جواب الرب ويفوز بتلبية الطلب المعروض لديهِ. فربما قضى بحكمتهِ على المؤمن الطالب بالانتظار إذا وجد ذلك ملائمًا لامتحان إيمانهِ، لكنهُ لابد أن يُجيب بالمحبة. فقد شُفيت المرأة كل الشفاء، فالإيمان شأنهُ أن يحمل المؤمن على الاتضاع عند الشعور بشقائهِ. فإن المرأة أرادت أن تظلَّ مُتسترة، أما الرب فيُشجع المؤمن، فقال لها حينئذٍ: يا ابنة، ثقي إيمانكِ قد شفاكِ أذهبي بسلام. فمهما كانت النفس جبانة وخائنة في حضرة السيد بالأمور الروحية، ومهما شعرت بشقائها لابدَّ من ظهورها لديهِ واعترافها بنعمتهِ لا بالشقاء الذي حملها على طلب تلك النعمة، هذا إذا كانت الدعوة حقيقية. فحينئذٍ يأتي الرب على الفور ويُشجعها وينفث سلامهُ في القلب، فقد تميَّز الإيمان الشخصي في هذه الحادثة عن شوق الجمهور التابع يسوع للفرجة أو للفوائد التي نالها منهُ. غير أن قوة القيامة لا توجد إلاَّ بهِ وبواسطتهِ، كما ظهر في أقامتهِ ابنة يايرس التي حالتها تشبه حالة الأمة الإسرائيلية، فإن إسرائيل وإن كان مائتًا فالرب لا يحسبهم إلاَّ في حال الرقاد، ولا ريب في أن صوت الرب سيدعوهم للحياة في الحين الملائم. |
||||
05 - 11 - 2012, 03:59 PM | رقم المشاركة : ( 7 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح السادس 1 وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. 2 وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ، ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ:«مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ 3 أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. 4 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ». 5 وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ. 6 وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ. (عدد 1-6). إن قوة المسيح الإلهية وإن كانت عظيمة لم تظهر على أسلوب يُؤيد كبرياء الإنسان وعُجبِ طبيعتهِ البشرية، فالإنسان كان مُكلَّفًا بقبولهِ؛ لأنهُ أعلن صفات اللاهوت، فلم يشاء أن يملق ويُعضد الأهواء الإنسانية ولا أهواء اليهود كأُمة. فإذا قبِلَ الإنسان الله وجبِ عليهِ أن يقبلهُ كما هو غير أن الطبيعة الساقطة تأبى أن تفعل ذلك، ولا يُخفى أن الطبيعة الإلهية قد أعلنت باتضاع يسوع إعلانًا أجلى وأفضل مما لو جاء كمَلِك مجيد، لكنهُ لم يكن في حالٍ يصبو إليها القلب الإنساني؛ لأنهُ كان ابن النجار وذلك كان كافيًا لرفضهِ من البشر، فقد حكموا حسب الجسد؛ لأن أنسباء يسوع كانوا بينهم فلم يقضوا إلا بحسب رأي العين الجسديَّة. أما الرب فتعجب من عدم إيمانهم وتركهم بعد أن لبى طلب بعضهم؛ لأن نعمتهُ لا تُفرَغ ولا تستقصى، وقال: أن ليس لنبي كرامة في وطنهِ، فإنهُ هناك كان معروفًا حسب الجسد. وكذلك كان الأمر ليس في كفرناحوم فقط بل في إسرائيل أيضًا. انظروا كيف أن عدم الإيمان هو المانع الأعظم لإجراء قوة الله. أما إيمان المرأة العليلة التي لمست ثوبهُ فكان باعثًا على ظهور تلك القوة، كما أن جحود أبناء وطنهِ وعدم إيمانهم حال دون إجرائها، فقد رأينا كيف أنهُ لم يستطع أن يفعل آية واحدة هنالك. فنسألهُ تعالى أن يصوننا حتى لا نضع مانعًا في سبيل نعمتهِ التي لا تنفكُّ عن العمل إلا إذا حُجزتْ بعدم الإيمان، فعلينا أن ندرك قيمة الانتفاع بقوتهِ وان تحملها على العمل فينا بالإيمان. 7 وَدَعَا الاثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ، 8 وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًا فَقَطْ، لاَ مِزْوَدًا وَلاَ خُبْزًا وَلاَ نُحَاسًا فِي الْمِنْطَقَةِ. 9 بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَال، وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ. 10 وَقَالَ لَهُمْ:«حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. 11 وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ». 12 فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا. 13 وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ. (عدد 7-13). ثم أرسل يسوع تلاميذهُ للخدمة، فلنا بذلك بينة على قوَّتهِ اقطع من معجزاتهِ نفسها. فإنهُ أعطاهم السلطان على اجتراح الآيات وإخراج الشياطين فلا ريب في أن هذه قوة إلهية؛ لأن الله وحدهُ يقدر أن يجعل الإنسان قادرًا على صنع العجائب والآيات. أَيستطيع الإنسان أن يُعطي غيرهُ هذا السلطان؟ كلا. أما يسوع فمنح تلاميذهُ هذه الهبة فتقلدوها وأخرجوها الشياطين حقيقةً، وما ذلك إلاَّ لأن يسوع كان الله قد ظهر بالنعمة على الأرض. فقد سبقنا وقلنا أن معجزات الرب كلها ومعجزات تلاميذهِ لم تكن نتيجة القوة فقط مثل عجائب موسى وإيليا، بل هي أثمار الجودة الإلهية، على أنهُ ربما استثنينا من ذلك لعن شجرة التين غير أن هذه الآية ليست إلاَّ دليلاً على هذا الموضوع نفسهِ. أي حضور الله في الجسد بحيث أنهُ من الضرورة أنهُ يفعل الأعمال اللائقة بطبيعتهِ التي هي المحبة، ولكن إذا رُفض فلا بد أن يدين ولا دينونة كدينونة المحبة المرفوضة، فإن شهادة يسوع المرسومة بالمحبة والمُثبتة بآياتهِ الباهرة كانت قد رُفضت. وأصبح إسرائيل المُمَثل القلب الإنساني عقيمًا ولم يأتِ بأثمار بعد أن بذل الله بجودتهِ وإعلانهِ كل العناية المُمكنة لإصلاحهِ، ومن ثمَّ قضى على تلك الشجرة المجدبة قضاءً أبديَّا فلن تأتي بأثمار. وحُكم الله على إسرائيل هو حُكمهِ على الإنسان الساقط على وجه الإطلاق، ونقدر أن نقول: أن الإنسان قد أوضح صفاتهِ السيئَة تمامًا في تاريخ إسرائيل، أي أنهُ مُفعم من الإثم الفظيع حتى عجزت كل الوسائط التي استعملها الله عن إيقاظ عاطفة واحدة في قلبهِ نحو خالقه،ِ بل اتصل بهِ الشر والعناد إلى رفض ابنهِ الوحيد فأمسى مرفوضًا من الله ومقضيًا عليهِ نظرًا لحالتهِ الطبيعية. على أنهُ لهُ المجد يستطيع أن ينقذهُ بإعطائهِ طبيعة جديدة بروحهِ القدوس إنما لا رجاء لهُ في حالتهِ الطبيعية؛ لأنهُ مهما تكلفنا لأجل إصلاح البشر وإرجاعهم إلى الله، فلا نستطيع أن نعمل أكثر مما عمل الله لإسرائيل انظر (إش1:5-7)، ولم ينتج من جميع أعمالهِ اللطيفة سوى كشف الحقيقة المُحزنة أن الإنسان غير قابل الإصلاح فإذًا ينبغي أن يولد ثانيةً. وفضلاً عن أن ليسوع قوة على إعطاء تلاميذهِ سلطانًا على الأرواح الشريرة، لهُ سلطة أيضًا على إخضاع القلوب البشرية والتصرُّف بها كيفما شاء بحيث يستطيع أن يرتبها بعنايتهِ ويستخدمها لتتميم أوامرهِ موقنًا، كما يستخدم الرياح والعناصر. فإنهُ أوصى تلاميذهُ بالانطلاق وأن لا يأخذوا شيئًا في سفرتهم. ومع ذلك شهدوا أخيرًا حسبما ورد في إنجيل لوقا جوابًا لمُعلمهم أنهم لم يحتاجوا شيئًا. فقوة عمانوئيل قد عضدتهم. ذلك الذي نشر سلطانهُ في كل مكان فتقلدوا بهِ وحتم عليهم أن يمكثوا في كل بيت دخلوهُ إلى أن يرحلوا عن ذلك المكان، فكان يجب عليهم أن يؤَهّبوا أنفسهم لهذه الخدمة ويستعينوا بسلطان سيدهم للقيام بأعباء تلك الرسالة وأن يسلكوا بحسبها. وقد أُمروا أن ينفضوا غبار أرجلهم في كل مكان تُرفض بهِ تلك الرسالة شهادةً على ذلك الموضع الذي تكون حالتهُ أردأ من سدوم وعمورة في يوم الدين. فإنهُ يحسب رسالة التلاميذ هذه كالفرصة الأخيرة لإسرائيل ليتنبهوا أو يجزموا بمسألة حضور مسيحهم في وسطهم، وإن رفضوهُ فليس لهم بعد إلا الدينونة مثل سدوم وعمورة. معلوم من إنجيل لوقا أنهُ عاد وأرسل إليهم سبعين تلميذًا آخرين قبل صعودهِ إلى أورشليم في نهاية حياتهِ على الأرض ليكرزوا بالإنجيل، غير أن مبادئ خدمتهِ الواردة في إنجيل مرقس كانت الشهادة الأخيرة قبل قضائهِ على تلك الأُمة؛ فلذلك لا يوجد ذكر لرسالة السبعين كما في إنجيل لوقا. فتلك إنما كان الاستئناف الأخير المرفوع إلى ضمائر الشعب وقلوبهم لكي يقبلوا الرب ويتوبوا ويرجعوا إلى الله فينجوا من الدينونة الهائلة المحكوم بها عليهم وليعود منهم على الأقل بقية تؤثر بها كلمة الله الفعالة وتتمتع بجودة الله بالمسيح وتنال رجاء أفضل مما تستطيع الديانة اليهودية أن تعطيها. فانطلق التلاميذ يكرزون للقوم بالتوبة. فما أعظم النعمة المعلنة ببشارة الإنجيل! فإن الله لا يمنحنا فقط التمتع بخلاصهِ ومحبتهِ، بل يستخدم أُناسًا كآلات لإبلاغ تلك المحبة. فكم يجب أن نُباركهُ لتنازلهِ بأن يستخدمنا لحمل شهادة محبتهِ الفائقة وحقهِ وإيصالهما إلى قلوب البشر أو على الأقل إلى مسامعهم لكي يُبلغهما هو نفسهُ بنعمتهِ إلى قلوبهم. فنسألهُ تعالى أن يجعلنا نختبر اختبارًا يقينًا قيمة هذه المحبة وان يُفعم قلوبنا منها إن كَرزنا حتى نُمَثل تلك النعمة الداعية البشر إليهِ تمثيلاً حقيقيًا. فعلى ذلك رافقت قوة الله التلاميذ فأخرجوا الشياطين وأبروا المرضى. فائدة. قيل هنا: وأوصاهم أن لا يحملوا شيئًا للطريق غير عصا فقط، وأما في (مَتَّى 10:10) فيُقال: ولا عصا. فتوجد بحسب الظاهر مضادة بين العبارتين. كانت الرسالة واحدة، ولكنها قد ذُكرت باعتبار وجهين مختلفين فوجهها في مَتَّى هو أرسلهم من قِبل المَلك بعجل لينادوا بحضورهِ، فيعبر عن العجل واللجاجة بالعبارة ولا عصا. وأما القصد في مرقس فهو الكرازة بالتوبة وهي جزء من الخدمة المسيحية الاعتيادية. قابل مع رسالتهم المذكورة في آخر هذا الإنجيل (أصحاح 15:16، 20). 14 فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُورًا. وَقَالَ:«إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ». 15 قَالَ آخَرُونَ:«إِنَّهُ إِيلِيَّا». وَقَالَ آخَرُونَ:«إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ». 16 وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ:«هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!» 17 لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. 18 لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ:«لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ» 19 فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، 20 لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيرًا، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ. 21 وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ، 22 دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: «مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ». 23 وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ «مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي». 24 فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا:«مَاذَا أَطْلُبُ؟» فَقَالَتْ:«رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ». 25 فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً:«أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَق». 26 فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدًّا. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. 27 فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافًا وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. 28 فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَق وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. 29 وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ. (عدد 14-29). ففي هذا الحين بلغت أنباء أعمال يسوع وقوتهِ مسامع المَلك فاضطرب ضميرهُ في داخلهِ؛ لأنهُ كان قد قتل يوحنا المعمدان، فهنا نرى بداءة تاريخ الحوادث الكاشفة مضادة القلب الإنساني لشهادة الله. ووضح بموت سابق المسيح العدوان الحق والنور الذي لا يزال من الآن فصاعدًا يشتدُّ ضد المسيح نفسهُ إلى أن ينتج موتهُ أيضًا، أما ضمير هيرودس الطبيعي فكان قد حملهُ على الإصغاء ليوحنا وأنشأ فيهِ الخوف من ذلك الرجل الصالح الأمين في توبيخهِ على أعمالهِ الشريرة فظلَّ زمانًا يحفظهُ من عدوان هيروديا، غير أن العواطف الطبيعية ليست بكافية لتضبط الإنسان الطبيعي وتُرجعهُ عن سيرهِ في مسالك المُهلك؛ لأن شهواتهِ وان كانت مضبوطة إلى حين فلابد أنها أخيرًا في وقت التجربة تقوى على مخاوفهِ الطبيعية وعلى اعتبارهِ لأهل التقوى وتذهب بهِ إلى العمل بموجبها. فما لبث حتى أهاجتهُ خمرة الشهوة والكبرياء الملكية فأمر بقتل ذلك النبي الفاضل. وما ذلك إلاَّ مثال مؤلم على خداع الذات. وذلك حين يتصور الإنسان نفسهُ قويًا وقادرًا على إظهار سلطتهِ فينكشف على الفور ضعفهُ وعبوديتهُ للشهوات، فهذا جميعهُ مما يبين مشيئة الله الذي يتمم مشوراتهِ رغمًا عن شرور البشر. وإن ضمح لهيرودس المَلك ولغيرهِ بأن يسلكوا في سبيلهم، فلابد انهُ تعالى يتخذ سبيلهُ هو فان عدوان القلب الإنساني لابد من ظهورهِ فيصير إدخال أمور أفضل جدًا بنعمة الله الفائقة بواسطة رفض يوحنا المعمدان ويسوع المسيح نفسهِ. 30 وَاجْتَمَعَ الرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا. 31 فَقَالَ لَهُمْ:«تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً». لأَنَّ الْقَادِمِينَ وَالذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ. 32 فَمَضَوْا فِي السَّفِينَةِ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ. 33 فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ مُشَاةً، وَسَبَقُوهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. 34 فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا، فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا. 35 وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى. 36 اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الضِّيَاعِ وَالْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزًا، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ». 37 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ:«أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزًا بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيَهُمْ لِيَأْكُلُوا؟» 38 فَقَالَ لَهُمْ:«كَمْ رَغِيفًا عِنْدَكُمُ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا». وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا:«خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ». 39 فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقًا رِفَاقًا عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ. 40 فَاتَّكَأُوا صُفُوفًا صُفُوفًا: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. 41 فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ، 42 فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. 43 ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ السَّمَكِ. 44 وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. (عدد 30-44). فعاد التلاميذ وقصوا على يسوع كل ما فعلوهُ وعلَّموا بهِ، ذلك كان أمرًا طبيعيًا بأن يكونوا مفعمين مما جرى عن يدهم. أما يسوع فلم يقل شيئًا عن ذلك؛ لأن القوة عندهُ من الأمور الطبيعية التي كان معتادًا عليها فأراد أن ينفرد مع التلاميذ في مكان خلاء ليستريحوا قليلاً في العزلة. فيحسن بنا على الدوام، بل من واجباتنا نحن الضعفاء البائسون الغير القادرين على احتمال نتائج القوة الجارية بواسطتنا والمائلون لنسبتها لأنفسنا أن نعتزل أوقاتًا كثيرة في حضرة الله حيث نرى أنفسنا بالحقيقة، كما نحن وأن نتمتع بمحبتهِ في أمن مهما كانت البركات التي نحن حاصلون عليها في خدمتنا، بل كلما عظمت تلك البركات رأينا لزومًا لذلك. وذلك ما فعلهُ السيد برحمتهِ الفائقة نحو خاصتهِ. غير أن محبة الله لا تجد راحة في هذا العالم ولا تكف عن العمل، فالإنسان لا يجد محبة حقيقية في القلوب البشرية ولا يعرف ينبوع المحبة الذي في قلب الرب فكأنه يخاف أن يتعب الرب ولا يُريد أن يستمد منهُ كل ما يلزم لسد احتياجات المحتاجين. ونرى هنا مثالاً لذلك إذ تقدم إليهِ تلاميذهُ قائلين الموضع خلاء والوقت مضى أصرفهم لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالينا ويبتاعوا لهم خبزًا؛ لأن ليس عندهم ما يأكلون. أما المحبة الإلهية فلن ترفض الاهتمام بحاجات الإنسان فعرف القوم بوجود يسوع في ذلك المكان فبادروا من كل مدينة وخرجوا من عزلتهم ووافوا يسوع، فلما رأى ذلك الجمع العظيم تحنَّن عليهم؛ لأنهم كانوا كخراف لا راعي لها. فشرع يُعلَّمهم. تلك هي حاجة الشعب المتروك من رُعاتهِ الأولى الحقيقية. ومازال السيد مُهتمًا بحاجة شعبهِ الجائع، فأراد التلاميذ أن يصرفوا الجموع أما يسوع فشاء أن يَقوتهم. فلهذه الآية دلالة خطيرة بنفسها بالنظر لمحل إيرادها في هذا الإنجيل. فإن يهوه هو راعي إسرائيل الحقيقي وكان حاضرًا هنالك بشخص يسوع ذلك الذي كان بالحقيقة مرفوضًا، على أن شفقتهُ ومحبتهُ لم تضعفنا أو نقلا بعدم شكر الشعب وكنودهم. فقد أظهر أنهُ يهوه بالحقيقة بإتمام ما تنبئ عنهُ في (مزمور 15:133) «أتى اشبع مساكنها خبزًا». فهذا المزمور يُنبئ عن زمان المسيح الذي سيتم في الأيام الأخيرة، غير أن مُكملهُ كان حاضرًا، وإن كان قد رفض فقد برهن على أن يهوه افتقد شعبهُ بإشباع البائسين خبزًا، على انهُ كان قد أنبأ بأن ابن الإنسان سوف يُقتل وأن الشعب لا يقبلون مخلصهم وإلههم، لكنهُ مع كل ذلك لم يغادر محبتهُ. فإذا كان القوم لا يُريدون يهوه فهو يريدهم ويهتم بهم. فقد أعطى بذلك شهادة خطيرة على محبتهُ لأتكل، بل تفوق جهالة الإنسان وحمقهِ. فالمجد والسجود لأسمهِ على هذه المحبة. ذلك مما يؤيد استنادنا على فضلهِ الغير المتناهي حتى لا يسمح لنا بالسقوط في ورطة الإهمال، بل يُعَضدنا في ضعفنا؛ لأن محبتهُ أعظم من قصورنا وذلنا فهذا مما يحملنا على تأدية السجود لصبرهِ العجيب. ثم أننا نرى في هذه الآية حقًا آخر خطيرًا وهو، أن السيد لم يقل: أنا أُعطيهم ليأكلوا، بل أعطوهم أنتم ليأكلوا. فإنهُ أراد أن يعرف تلاميذهُ حقيقة استخدام قوتهِ لخير الآخرين لكي يعلموا كيف يستعملوها بالإيمان. فيا لسمو هذا الفكر! وهو أن الإيمان الحقيقي يستخدم قوة يهوه في أحوالٍ تُبين أن محبتهُ تفوق عدم أمانتنا وقصورنا. فما أهم هذا الحق، وما أرفعهُ لمن تأمل به بأن يسوع صورة هذه المحبة المتجسدة يعلن أفضلية نعمة الله وعلوها عن خطايانا! ولكن الله بين محبتهُ لنا؛ لأنهُ ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا. فموتهُ هو البرهان القاطع لمحبتهِ، غير أن ما وضح في موتهِ يصبح أيضًا على حياتهِ فالإيمان يستند إذًا على أمانة محبتهِ التي لا تُستقصى ويستعمل القوة المُكملة في الضعف. أما نظر التلاميذ الجسدي فلا ينظر إلا الوسائط الجسدية ولا يُعاين محبة الله وسلطانهُ، بل يرى الأشياء المنظورة فقط، لكنَّ السيد أعطى طعامًا للجموع الجائعة وأوضح بذلك أنهُ إله إسرائيل ومُخلصهُ. 45 وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ، إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. 46 وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. 47 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. 48 وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. 49 فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً، فَصَرَخُوا. 50 لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ:«ثِقُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». 51 فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ، فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدًّا إِلَى الْغَايَةِ، 52 لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً. 53 فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا. 54 وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ. 55 فَطَافُوا جَمِيعَ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ، وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ. 56 وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ، وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ. (عدد 45-56). الحادثة المذكورة هنا تصور حالة المؤمنين بعد رفض الرب وهم مضطربون على بحر هذا العالم، ثم الترحيب الذي يصادفهُ الرب في ختام تاريخ العالم الذي قد رفضهُ حين يأتي إليهِ ثانيةٍ. فألزم يسوع تلاميذهُ بالذهاب وحدهم وصرف الجموع وبعد انصرافهم انطلق إلى الجبل ليُصلي، وهذا مَثل تلميح إلى ما حصل عند انتهاء خدمتهِ لإسرائيل ورَفضهم إياهُ فإنهُ صرفهم في عدم إيمانهم وصعد إلى السماء ليشفع في الذين آمنوا بهِ بينما هم يتخبطون في أحوال الحياة كما في أمواج الأبحار الهائجة، ومادام هو هناك ونحن هنا تكون الريح مضادة ونحن نتعب في الجذف وتتقاذفنا الأنواء والمصاعب والهموم، ونرى كأنه قد تركنا، لكنهُ يشفع فينا على الدوام ويحصل لنا رحمة ونعمة في حين الحاجة. أما إسرائيل فقد صُرف وتبدد في مدة إقامة الكنيسة على الأرض. فحادثة وجود التلاميذ على البحر تمثيل أيضًا البقية اليهودية التي قد أصبحت بالحقيقة الكنيسة بعد يوم الخمسين، غير أنها تُعتَبر في هذا المكان بصفة البقية الإسرائيلية فقط. لا يُخفى أن مدة غيابهِ كلها محسوبة ليلاً لهذا العالم المُظلم ولا نزال في حالة لا يوجد فرق بيننا نحن المؤمنين المسيحيين قبل الاختطاف وبين الأتقياء اليهود بعد ذلك، غير أننا ننتظرهُ كوكب الصبح المنير ليأخذنا لملاقاتهِ، وأما أولئك فينتظرون أن يأتيهم حيث هم. ولكن الحادثة المذكورة هنا تفيدنا روحيًا في جميع الأحوال المضطربة بحيث أن يسوع أدرك السفينة ماشيًا على البحر فإنهُ يستطيع أن يمشي بسكون على أحوال وظروف تُنشئ لنا اضطرابًا جسيمًا. فجزع التلاميذ، لكنهُ بادر لتعزيتهم وأكد أنهُ هو نفسهُ خليلهم ومُخلصهم العزيز فهذا الأمر نفسهُ يحدث في انقضاء الأزمنة، فإن يسوع سيظهر متعاليًا على كل الأحوال المُسببة لتلاميذهِ انزعاجًا وقلقًا ويُسكن لهم الرياح المضادة ويُبكم الأمواج المتلاطمة كما عمل لما مشى مع تلاميذهِ على الأرض في أيام جسدهِ. ثم نرى أنهُ بعد انضمام الرب إلى تلاميذهِ المضطربين صار لهُ قبول عند سكان أرض جنيسارت التي كانت قد رفضتهُ قبل (أصحاح 17:5)، وهي بمثابة هذا العالم الذي قد رفض الرب مرة، ولكنهُ سيقبلهُ عند إقبالهِ إليهِ بصفات مجدهِ؛ لأنهُ سيملأهُ بركة وفرحًا بعد سكب ضرباتهِ عليهِ لأجل تنقيتهُ ويكون لهُ القبول منهُ بدل الرفض. هذا مما تفيدنا هذه الحادثة على سبيل الرمز، ولكن في الوقت الحاضر تحتاج خصوصًا إلى ما تفيدنا من جهة مرورنا في الظروف المُتعَبة ونحن حاملون الصليب وراء السيد المرفوض. فهل قلوبكم متأهبة لقبول هذا التعليم؟ أتَعلَّمتم أن حمل الصليب إنما هو مقام المسيحي الحقيقي ونصيبهُ، وأنهُ هو السبيل الذي قادنا إليهِ يسوع؟ فإذا رُمنا أن نسير على هذه الكيفية افتقرنا لشخص يستطيع أن يسود على قلوبنا ويملك محبتنا وعواطفنا ويُثبتها على ما هو تلقاءنا ويقودنا إلى الأمام. وما ذلك إلا يسوع الذي أحبنا وأسلم نفسهُ إلى الصليب لأجلنا، وهو الآن في المجد ويقودنا نحوهُ ويُرينا ما هي طريق الصليب لكي نكون معهُ ومثلهُ سالكين في السبيل نفسهُ الذي سار فيهِ بمحبتهِ لأجلنا. فقد قال لهُ المجد: إن كان أحد يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي. |
||||
05 - 11 - 2012, 04:02 PM | رقم المشاركة : ( 8 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح السابع 1 وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. 2 وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ، أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ، لاَمُوا. 3 لأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ الْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ، لاَ يَأْكُلُونَ، مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ. 4 وَمِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا، مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ. 5 ثُمَّ سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ:«لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ، بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟» 6 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«حَسَنًا تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ! كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا، 7 وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. 8 لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ، وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«حَسَنًا! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ! 10 لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمُ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا. 11 وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ، أَيْ هَدِيَّةٌ، هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي 12 فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئًا لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. 13 مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». (عدد 1-13). هذا الأصحاح ملآن من التعاليم الخطيرة جدًا فإنهُ يحتوي: أولاً: على قضاء الرب على تقوى رؤساء الديانة اليهودية الخارجية التي لم تكن إلا بالظاهر فقط، وقد أبعدت عنها ناموس الله وشريعتهُ. فكل تلك الغسلات يحتقرها الله؛ لأن الفريسيين كانوا أهملوا وصايا الله ليحفظوا تقليداتهم. ويتضمن ثانيًا: تصريح الرب بأن ما يخرج من الفم يُنجس الإنسان؛ لأنهُ يصدر من القلب. لا ما يدخل الفم. ثم بعد قضائهِ على إسرائيل والبشر عمومًا أعلن بكيفية مؤثرة جدًا نعمة الله الفائقة المُخترقة كل حاجز لبلوغ حاجة الإنسان خارجًا عن الحقوق كلها المؤسَّسة على المواعيد. أعني حادثة الإمرأة الكنعانية المذكورة في هذا الأصحاح، فإن الرب بعد أن كشف رياء رؤساء إسرائيل نعم ورداءة القلب البشري مُطلقًا بادر إلى إعلان قلب الله ونعمتهِ التي تعين الذين أغاظوا الله بممارستهم الأعمال الدينية على طريق لا تقتضي طهارة القلب. فإن الإنسان يسهل عليهِ عمل الأشياء الخارجية، فإنهُ يصبو لأَن يتقلد الديانة ككساء خارجي ولا يفتقر لطهارة القلب. ويميل لأن يفعل الأمور الدينية الظاهرة ويتعظَّم ويُميز نفسهُ عن الآخرين بعملها. ولا يخفى أنهُ يفتخر بتقواهُ العظيمة أمام الناس ويفوز بالحصول على شهرة جسيمة، إنما في استطاعتهِ أن يكون في الوقت نفسهِ شريرًا؛ لأن تلك الأعمال الخارجية لا تأتي بهِ إلى حضرة الله الفاحص القلوب. فيستطيع الإنسان بتلك الأعمال أن يكون مُتعصبًا في الدين بدون قداسة القلب ويرى أن ذلك يُلائمهُ كل المُلائمة. فالفريسيون ليسوا فقط في زمان مُخلصنا، بل هم موجودون في كل زمان. فالديانة الفريسية تتعلق دائمًا بنظام كنائسي حيث يترأس البعض على الآخرين بموجب وظيفة كنائسية تُحسب إنها من الله والركن الأعظم فيهِ هو الخضوع إلى الترتيب البشري لا الإيمان الشخصي بكلمة الله، غير أن الإيمان الشخصي وحدهُ ينشئ قداسةً وشركة مع الله المُعلن نفسهُ بهما. أما سطوة الإنسان الرسمية التي يستخدمها لمنفعة نفسهِ فلا تبالي بإرادة الله ووصاياهُ ولا تكترث بها. ذلك كان جاريًا بين اليهود، فإنهم غسلوا أيديهم لا قلوبهم ودققوا بما يدخل الفم، ولكنهم تهاونوا بما يخرج من القلب. فهذه هي ديانة الإنسان في كل آن فيُحافظ عليها ويتزيّن بها ويتفاخر كفخرهِ في المجد العالمي، ولكنه لا يستطيع الحصول على القداسة بهذه الوسيلة ذلك واضح لدى أبصار الله الناظر كل ما في القلوب. فإن القداسة لا بد أن تظهر في حياة المؤمن الحقيقي وسيرتهِ، على أنهُ وربما سقط غير أن النفس المعضودة بالنعمة لا تطلب إلا رضى الله وتشعر بضعفها وتفرح بالله الحال بها فهو الذي ينشئ بها الاتضاع والوداعة. أما الفريسيون والصدوقيون بين اليهود، فقد استخدموا شهرتهم ومقامهم لحمل الأتقياء على تقديم عطايا كثيرة لله مدَّعين النيابة عنهُ فانتفعوا هم بها. فحملوا الشعب إلى مُخالفة شريعة الله الصريحة وإهمال بعض الواجبات العظيمة كالتي على الأولاد لوالديهم فقد أكرموا الله بشفاههم، أما قلوبهم فكانت بعيدة عنهُ واقتربوا منهُ بأفواههم لا بقلوبهم الملآنة من الطمع والإثم. فالله يرفض هذا الإكرام كل الرفض، كما قال بلسان إشعياء النبي: وباطلاً يعبدونني وهم يُعلّمون تعاليم هي وصايا الناس. فإن الله إنما يطلب القلب الطاهر المُقدَّس بالروح والحق ويُريد عبادةً تُقدَّم له بالروح والحق ولا يمكن السجود له إلا هكذا لا شك أنهُ يُظهر لنا نعمةً، غير أن الحق لازم للاستطاعة على الاقتراب إليهِ، فإنهُ يُريد قلبًا توجد فيهِ الحياة الإلهية. أما الديانة الإنسانية والعبادة الفريسية الكهنوتية فقد قضى عليها الرب حينئذ وفي كل حين أيضًا. فالله يطلب القلب الطاهر والطاعة الحقيقية، غير أن الإنسان يكسو نفسهُ بتلك الديانة ويكرم بها عوائدهُ القديمة وتقليدات آبائهِ وينسب إليها بأوهامهِ وتصوراتهِ قيمةً عظيمة. فكلما يُنظر بنور القدميَّة بروق للإبصار ويلوح بمظهر الهيبة والوقار، أما الله فلا يلتفت إلا إلى القلب فهذا الشيء نفسهُ يصدق علينا الآن، كما كان يصدق على اليهود وقتئذٍ. فما نحن إلا أمام الله وهو يرانا كما نحن. فالمسألة عنده تعالى إنما هي حالة الإنسان الحقيقية كما سنرى في الفصل القادم. 14 ثُمَّ دَعَا كُلَّ الْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ:«اسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. 15 لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 16 إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ». 17 وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. 18 فَقَالَ لَهُمْ:«أَفَأَنْتُمْ أَيْضًا هكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، 19 لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلاَءِ، وَذلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الأَطْعِمَةِ». 20 ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 21 لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، 22 سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. 23 جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ». (عدد 14-23). فما هي هذه القلوب البائسة في حالها الطبيعية، هذه هي المسألة الثانية التي يهتم بها الرب هنا ويعلنها. فقد مزَّق برقع الرياء الذي حاول الفريسيون والكهنة أن يستروا بهِ نجاسة قلوبهم وأن يستخدموا لنفعهم الذاتي التقوى الخارجية التي علَّموا بها الشعب فانكشفت البواعث الكامنة في قلوبهم وظهرت الوسائل التي استعملوها لستر خباثة طويَّتهم وأطماعها ووضح الرياء كل الوضوح. لا جرم أن السيد لم يُمزق برقع الرياء فقط، بل كشف ما يصدر من القلب أيضًا. فهذا ما يفعلهُ الله معنا، فإنه يفحص قلوبنا ويعلنها ثم يعلن قلبهُ نحونا، ذلك هو الكشف الصريح العام لا كشف قلوب الفريسيين فقط، بل قلوب البشر بأسرهم. فما يخرج من الفم يُنجس الإنسان؛ لأنهُ يخرج من القلب. فيا لها من صورة هائلة! لأن أثمار القلب الإنساني ليست إلا الأفكار الشريرة زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل وبالاختصار لا يخرج منهُ شيء إلا الرذائل بأنواعها. أكان الرب فاقد الإحسان والمحبة للإنسان؟ كلا. فإن مجيئهُ إنما كان بينة قاطعة على محبتهِ. أَ أراد أن يُخفي الصلاح الحال في الإنسان؟ أَشاء أن يشي بالمخلوق الذي وافى لإنقاذهِ ومُباركتهِ وليُعطيهُ مكانًا عنده ويُشاركهُ معهُ بالمجد والكرامة؟ كلا. فإن ذلك مستحيل، بل لأنه كان عارفًا القلب الإنساني كل المعرفة التزم أن يقول الحق، ولم يُحملهُ على كشف اعوجاج القلب البشري وشرَّهُ العظيم إلا المحبة؛ لكي لا يبقى الإنسان في تلك الحال ولا ريب في أن الأفضل كشف ذلك الآن في يوم النعمة مما في يوم الدينونة حين لا مناص من قصاص كل الأثام المُعلنة والقضاء على الإنسان. لاحظوا أيضًا أنهُ حين تعذَّر وجود القداسة الفعلية والطاعة في حياة رؤساء الدين المؤسس من الله أصبح آلة للخطية، والرياء، وتحريف الأفكار، وإماتة الضمير، والاستقامة في الجميع؛ لأن الأمور التي اعتبرها القوم كناية عن سلطان الله هَيجت بهم الرياء، والإثم، وأنشأت أيضًا عدم الإيمان؛ لأنهم رأوا أن الدِين مقترن بما تأباهُ العواطف البشرية، بل الضمير الطبيعي. فما أحزن تاريخ القلب الإنساني! نعم وكنيسة الله أيضًا التي قد جرت مجرى النظام اليهودي تمامًا، وانحطت مع انحطاط رؤسائها! تأملوا أيضًا كيف سطوة فساد السلطان الديني تُعمي أبصار الإنسان، وتُتلف فهمهُ الروحي. فأي شيء أوضح مما قالهُ الرب بهذا الصدد، غير أن الضمير الطبيعي يأتي الاعتراف بهذا الحق وهو: أن ما يدخل الفم لا يُنجس الإنسان، بل الذي يخرج منهُ؛ لأنهُ يصدر من القلب. فهذا أمر بسيط لا يفتقر لزيادة إيضاح. أما التلاميذ فلم يفهموا ذلك، بل طلبوا إيضاحًا؛ لان تقليدات الشيوخ كانت قد أعمت فهمهم الطبيعي، ففسد ذوقهم، اعوجَّت أفكارهم من طريقة الاحتجاج الذي أدعى بهِ أولئك الرؤساء بسلطانهم الكاذب، فلا عجب إذا كان الأمر كذلك. أَما نجد الآن كثيرين يعتقدون أن ما يدخل الفم يُنجس الإنسان، ومع ذلك هم سليمو النية وليس ذلك فقط، بل يذهبون إلىَّ أنهم إذا أكلوا نوعًا من الطعام اليوم تنجسوا، ولكن إذا أكلوهُ غدًا فلا يتنجسون وما ذلك إلا لمحافظتهم على تقليد الشيوخ. فهذا ما فعلهُ التلاميذ حقيقة،ً وقد وبخهم الرب عليهِ قائلاً: فأنتم أيضًا هكذا غير فاهمين. فنرى هنا قضاء السيد على أمور كثيرة تضبط النفوس في العبودية على أنها نفوس مخلصة بسيطة الطوبة كالتلاميذ. 24 ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ، 25 لأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. 26 وَكَانَتْ الامْرَأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً. فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. 27 وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا:«دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ، لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». 28 فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ لَهُ:«نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ!». 29 فَقَالَ لَهَا:«لأَجْلِ هذِهِ الْكَلِمَةِ، اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ». 30 فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ الشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ، وَالابْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ. (عدد 24-30). ولنلتفت الآن إلى إعلان محبة الله الفائقة بكلمات الرب للمرأة البائسة، فنراهُ يُصادق على حقوق اليهود وامتيازتهم أولاً، ثم نرى أن حق الله الجوهري المُعلن النعمة والمحبة يعلو تلك الامتيازات حين الاحتياج ويسمو عليها لا نحو أولاد الموعد، بل نحو أمة حُسِبتْ تحت اللعنة نحو امرأة من البلاد اشتهرت بصلابة الأعناق. فقد سمت محبة الله على كل الحواجز التي وضعها الإنسان الأثيم وعلى نظام الدين اليهودي المحصور بالأمة الإسرائيلية، بل على النظام الذي سنَّهُ هو نفسهُ وقد أُبطل الآن برفض المسيح. فانطلق الرب إلى تخوم صور وصيداء حيث شاء الاعتزال برهة، غير أن الصلاح المقترن بالقوة قلما يُكتم عن أبصار البشر المصابين بالبلايا التي تخومهم إليهِ، فإن الحاجة تُنبه النفس وتجلو عن عينها غياهب الظلام. فما وطأت أقدام السيد تلك الأرض حتى وافتهُ امرأة بائسة ابنتها منابة بالروح الشرير وقد شعرت بشقاء حالها وآمنت بسلطانهِ. فإن ما ألمَّ بها من شدة البؤس حملها على الرجاء بجودتهِ فأتت إليهِ لتسترحمهُ، أما يسوع فاستمر محافظًا على المواعيد المعطاة من الله لليهود وأجاب جوابًا مبنيًا على حقوق شعب الله أنهُ لا يستطيع أن يأخذ خبز البنين ويطرحهُ للكلاب. لاحظوا أن المرأة نفسها كانت من الأمة المحسوبة تحت اللعنة. فإذا نظرنا إلى سياسة الله ومعاملاتهِ لإسرائيل ما رأينا وعدًا واحدًا لتلك المرأة. فلم يكن لها حق واحد تشترك بهِ مع شعب الله، فإنها لم تكن حسب اعتقاد اليهود والنظام الناموسي إلا بمنزلة الكلاب، ولكنها كانت من المحتاجين إلى رحمة الله وقوتهِ الموجودتين في شخص المسيح وهي أدركت ذلك بإيمانها ووثقت بهِ كل الوثوق. هكذا هي الحال معنا دائمًا بحيث أن شعورنا العميق بحاجتنا الشديدة، والإيمان بجودة الرب، وقوتهِ يحملان على اللجاجة، والمواظبة في الصلاة، كما جرى لأولئك القوم الذين حملوا المفلوج حين زحمتهُ الجموع، غير أنهُ يوجد شيء آخر في قلب تلك المرأة عدا الثقة الناشئة فيهِ بنعمة الله وذلك أنها اعترفت بحقوق اليهود وأنهم شعب الله وأقرَّت أنها بمنزلة الكلاب بالنسبة إليهم وهذا هو الحق، ومع ذلك ألحَّت في طلبها لشعورها بأنها وإن كانت من تلك الرتبة فنعمة الله كافية لمن ليست لهم تلك الحقوق، فقالت: والكلاب أيضًا تأكل من فتات البنين فقد أقرَّت بحقيقة حالها، ولكنها اعترفت أيضًا بطبيعة الله، وآمنت بمحبتهِ نحو أولئك الذين ليس لهم حقوق ولا مواعيد، ووثقت بإعلان الله بيسوع الغير المحصور في السُنن الدينية القديمة والفائق على نظاماتها وفروضها. وقد علمت أن الله صالح واعتقدت أن الدالة إليهِ إنما هي الحاجة والشقاء المُلم بها. أيستطيع المسيح أن يُجيبها سلبًا ويقول لها: أن الله ليس بصالح، وجواد كما تزعمين. كلا، حاشا من ذلك. فإن جوابًا كهذا لا يكون مطلقًا للحقيقة. فلا ريب في أن هذا إيمان عظيم، وهو إيمان يعترف بشقائنا، وأن لا حق لنا بشيء، بل هو إيمان يعتقد بمحبة الله الظاهرة ظهورًا صريحًا بيسوع بدون وعد، ولكنها مُعلنة كل الإعلان، فلا يستطيع الله أن يُنكر نفسهُ ويقول: كلا لست أنا محبة. على أن لا حق لنا أن نترصد إجراء هذه المحبة نحونا، ولكننا نثق بأنَ إذا أتينا يسوع مُحركين على ذلك بالحاجة والافتقار، فلابد أن نجد جودة تامة ومحبة لإبرائنا من مرض الخطية، نعم، وكلما يلزم لاحتياجاتنا العديدة. ولنذكر أن الحاجة الحقيقية لا تنفك عن المواظبة؛ لأنها لا تستطيع الاستغناء عن القوة المُعلنة بالمسيح ولا عن الخلاص الذي أتى لنا بهِ. فلا خلاص إلا بالمعونة الحالة علينا بهِ في ضعفنا. فقوة الله إنما هي ينبوع رجائنا وإيماننا. فإذا سُئلنا: كيف نعلم ما في قلب الله؟ أجبنا: أنهُ مُعلن إعلانًا صريحًا بالمسيح. فمن وضع في قلب الله أن يُرسل ابنهُ لخلاصنا؟ ومَنْ وضع في قلب الابن أن يأتي ويحتمل كل الآلام لأجلنا؟ أ إنسان فعل ذلك؟ كلا؛ لأن فكرًا كهذا لم يخطر على بال إنسان، بل أن قلب الله إنما كان الينبوع، فنحن نؤمن بهذه المحبة، وبما فعلهُ يسوع وأكملهُ على الصليب، لكي يُبطل الخطية بذبيحة نفسهِ ونعلم قيمة ذلك وأهميتهُ، وفضلاً عن ذلك هو يفعل كل شيء حسنًا فإنهُ يجعل الصم يسمعون، والخُرس يتكلمون. فنعمة الله قد وضحت كل الوضوح نحو المرأة البائسة التي لم يكن لها حق ببركة ولا بوعد، فإنها كانت ابنة كنعان المقضي عليها، غير أن الإيمان يبلغ إلى قلب الله المعُلن بيسوع، وكذلك عين الله تبلغ أعماق قلب الإنسان. ومن ثمَّ يلتقي قلب الله مع قلب الإنسان في الشعور بأن الإنسان فاسد كل الفساد، وأن ليس لهُ حق واحد فيعترف بحالتهِ الحقيقية، ويُسلم نفسهُ لجودة الله الكاملة. 31 ثُمَّ خَرَجَ أَيْضًا مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ الْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ الْمُدُنِ الْعَشْرِ. 32 وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. 33 فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ، 34 وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ:«إِفَّثَا». أَيِ انْفَتِحْ. 35 وَلِلْوَقْتِ انْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ، وَانْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ، وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيمًا. 36 فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ. وَلكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيرًا. 37 وَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ:«إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنًا! جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ». (عدد 31-37). ثم خرج الرب من تخوم صور وصيداء وعاد إلى الجليل حيث وجد نفسهُ في وسط بني إسرائيل، ولكن كما قلنا: كان الشعب قد رفضهُ حقيقةً، فكان عالمًا أن ذلك الشعب المحبوب قد هلك، ولا يتوقع لهُ شيئًا إلا الخراب والدمار. فأتوهُ بأصم أعقد وطلبوا منهُ: أن يضع يدهُ عليهِ ليشفيهِ، فأخذه من بين الجمع على ناحية، ووضع أصابعهُ في أُذُنيهِ، وتفل ولمس لسانهُ ثم رفع نظرهُ نحو السماء فإن القوة لا تنفك عنه،ُ غير أن الحزن قد نقل قلبهِ؛ لأن الشعب كان بالحقيقة أصم عن سماع صوت الراعي الصالح، ولسانهُ مربوطًا وغير قادر على تسبيح الله. فأنات يسوع إنما تُمثل شعورهُ، كما أن حال ذلك الإنسان البائس تُمثل شعب الله المحبوب وكان يستطيع أن يعمل لهم لو انتبهوا وأتوا إليهِ العمل نفسهُ الذي عملهُ لذلك الرجل الأصم الأعقد. ليتهم انتبهوا وتمتعوا بمحبة ذلك الذي مشوراتهُ لن تتغير، وقد اتجهت نحوهم، واستقرت عليهم رغمًا عن معاملتهم السيئة لهُ. لا جُرم أن الرب كان بملء محبتهِ هنالك وقد تصرف وفقًا لتلك المحبة وتلك الأنات. فتطلع نحو السماء ينبوع المحبة والقوة حضورهُ بعد على أنهُ وإن كان ليس في طاقتهم قتلهُ لو لم يُسلِّم نفسهُ طوعًا، غير أن الزمان كان لابد أن يأتي حين يبذل نفسهُ إتمامًا لعمل الفداء. فقد أوضح على الدوام إلى أن حانت الساعة المعينة أنهُ إله الجودة والصلاح نحو المصابين وكل مَنْ كان في حاجة وافتقار. فإذا تأملنا بنظر المسيح نحو السماء وشاهدنا أنة قلبهِ عند معاينتهِ صمم الشعب عن سماع صوت الله، وانعقاد لسانهِ عن تمجيدهِ، وإذا أمعنا النظر بشعور قلبهِ المطابق عواطف السماء الظاهرة بمعاملتهِ للقوم القساة الصلبي الأعناق، رأينا مشهدًا مؤثرًا جدًا. فإنهُ وجد هنالك حقيقة المحبة المرفوضة من البشر وسُرَّ بالعواطف السائدة في السماء التي مَّثلها بحياتهِ على هذه الأرض المنكودة. فانفتحت أُذنا الأصم وانحلَّ لسانهُ. وأما الشعب فتأثروا تأثرًا وقتيًا، وأخذوا يشيعون ما فعلهُ يسوع قائلين: أنهُ عمل كل شيء حسنًا، جعل الصم يسمعون، والخُرس يتكلمون. فأعمال الرب تفتح الأذان، وتحمل القلوب الوضيعة على تسبيح الله والاعتراف بمحبتهِ، لكن وا أسفاه! ما أكثر الذين يصمون آذانهم عن سماع إله المحبة. فما هم إلا كالصل الأصم يسد أُذنهُ. الذي لا يستمع إلى صوت الحواة الراقين رُقي حكيم (مزمور 4:58). |
||||
05 - 11 - 2012, 04:03 PM | رقم المشاركة : ( 9 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح السابع 1 وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. 2 وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ، أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ، لاَمُوا. 3 لأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ الْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ، لاَ يَأْكُلُونَ، مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ. 4 وَمِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا، مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ. 5 ثُمَّ سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ:«لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ، بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟» 6 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«حَسَنًا تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ! كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا، 7 وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. 8 لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ، وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«حَسَنًا! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ! 10 لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمُ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا. 11 وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ، أَيْ هَدِيَّةٌ، هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي 12 فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئًا لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. 13 مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». (عدد 1-13). هذا الأصحاح ملآن من التعاليم الخطيرة جدًا فإنهُ يحتوي: أولاً: على قضاء الرب على تقوى رؤساء الديانة اليهودية الخارجية التي لم تكن إلا بالظاهر فقط، وقد أبعدت عنها ناموس الله وشريعتهُ. فكل تلك الغسلات يحتقرها الله؛ لأن الفريسيين كانوا أهملوا وصايا الله ليحفظوا تقليداتهم. ويتضمن ثانيًا: تصريح الرب بأن ما يخرج من الفم يُنجس الإنسان؛ لأنهُ يصدر من القلب. لا ما يدخل الفم. ثم بعد قضائهِ على إسرائيل والبشر عمومًا أعلن بكيفية مؤثرة جدًا نعمة الله الفائقة المُخترقة كل حاجز لبلوغ حاجة الإنسان خارجًا عن الحقوق كلها المؤسَّسة على المواعيد. أعني حادثة الإمرأة الكنعانية المذكورة في هذا الأصحاح، فإن الرب بعد أن كشف رياء رؤساء إسرائيل نعم ورداءة القلب البشري مُطلقًا بادر إلى إعلان قلب الله ونعمتهِ التي تعين الذين أغاظوا الله بممارستهم الأعمال الدينية على طريق لا تقتضي طهارة القلب. فإن الإنسان يسهل عليهِ عمل الأشياء الخارجية، فإنهُ يصبو لأَن يتقلد الديانة ككساء خارجي ولا يفتقر لطهارة القلب. ويميل لأن يفعل الأمور الدينية الظاهرة ويتعظَّم ويُميز نفسهُ عن الآخرين بعملها. ولا يخفى أنهُ يفتخر بتقواهُ العظيمة أمام الناس ويفوز بالحصول على شهرة جسيمة، إنما في استطاعتهِ أن يكون في الوقت نفسهِ شريرًا؛ لأن تلك الأعمال الخارجية لا تأتي بهِ إلى حضرة الله الفاحص القلوب. فيستطيع الإنسان بتلك الأعمال أن يكون مُتعصبًا في الدين بدون قداسة القلب ويرى أن ذلك يُلائمهُ كل المُلائمة. فالفريسيون ليسوا فقط في زمان مُخلصنا، بل هم موجودون في كل زمان. فالديانة الفريسية تتعلق دائمًا بنظام كنائسي حيث يترأس البعض على الآخرين بموجب وظيفة كنائسية تُحسب إنها من الله والركن الأعظم فيهِ هو الخضوع إلى الترتيب البشري لا الإيمان الشخصي بكلمة الله، غير أن الإيمان الشخصي وحدهُ ينشئ قداسةً وشركة مع الله المُعلن نفسهُ بهما. أما سطوة الإنسان الرسمية التي يستخدمها لمنفعة نفسهِ فلا تبالي بإرادة الله ووصاياهُ ولا تكترث بها. ذلك كان جاريًا بين اليهود، فإنهم غسلوا أيديهم لا قلوبهم ودققوا بما يدخل الفم، ولكنهم تهاونوا بما يخرج من القلب. فهذه هي ديانة الإنسان في كل آن فيُحافظ عليها ويتزيّن بها ويتفاخر كفخرهِ في المجد العالمي، ولكنه لا يستطيع الحصول على القداسة بهذه الوسيلة ذلك واضح لدى أبصار الله الناظر كل ما في القلوب. فإن القداسة لا بد أن تظهر في حياة المؤمن الحقيقي وسيرتهِ، على أنهُ وربما سقط غير أن النفس المعضودة بالنعمة لا تطلب إلا رضى الله وتشعر بضعفها وتفرح بالله الحال بها فهو الذي ينشئ بها الاتضاع والوداعة. أما الفريسيون والصدوقيون بين اليهود، فقد استخدموا شهرتهم ومقامهم لحمل الأتقياء على تقديم عطايا كثيرة لله مدَّعين النيابة عنهُ فانتفعوا هم بها. فحملوا الشعب إلى مُخالفة شريعة الله الصريحة وإهمال بعض الواجبات العظيمة كالتي على الأولاد لوالديهم فقد أكرموا الله بشفاههم، أما قلوبهم فكانت بعيدة عنهُ واقتربوا منهُ بأفواههم لا بقلوبهم الملآنة من الطمع والإثم. فالله يرفض هذا الإكرام كل الرفض، كما قال بلسان إشعياء النبي: وباطلاً يعبدونني وهم يُعلّمون تعاليم هي وصايا الناس. فإن الله إنما يطلب القلب الطاهر المُقدَّس بالروح والحق ويُريد عبادةً تُقدَّم له بالروح والحق ولا يمكن السجود له إلا هكذا لا شك أنهُ يُظهر لنا نعمةً، غير أن الحق لازم للاستطاعة على الاقتراب إليهِ، فإنهُ يُريد قلبًا توجد فيهِ الحياة الإلهية. أما الديانة الإنسانية والعبادة الفريسية الكهنوتية فقد قضى عليها الرب حينئذ وفي كل حين أيضًا. فالله يطلب القلب الطاهر والطاعة الحقيقية، غير أن الإنسان يكسو نفسهُ بتلك الديانة ويكرم بها عوائدهُ القديمة وتقليدات آبائهِ وينسب إليها بأوهامهِ وتصوراتهِ قيمةً عظيمة. فكلما يُنظر بنور القدميَّة بروق للإبصار ويلوح بمظهر الهيبة والوقار، أما الله فلا يلتفت إلا إلى القلب فهذا الشيء نفسهُ يصدق علينا الآن، كما كان يصدق على اليهود وقتئذٍ. فما نحن إلا أمام الله وهو يرانا كما نحن. فالمسألة عنده تعالى إنما هي حالة الإنسان الحقيقية كما سنرى في الفصل القادم. 14 ثُمَّ دَعَا كُلَّ الْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ:«اسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. 15 لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 16 إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ». 17 وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. 18 فَقَالَ لَهُمْ:«أَفَأَنْتُمْ أَيْضًا هكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، 19 لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلاَءِ، وَذلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الأَطْعِمَةِ». 20 ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 21 لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، 22 سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. 23 جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ». (عدد 14-23). فما هي هذه القلوب البائسة في حالها الطبيعية، هذه هي المسألة الثانية التي يهتم بها الرب هنا ويعلنها. فقد مزَّق برقع الرياء الذي حاول الفريسيون والكهنة أن يستروا بهِ نجاسة قلوبهم وأن يستخدموا لنفعهم الذاتي التقوى الخارجية التي علَّموا بها الشعب فانكشفت البواعث الكامنة في قلوبهم وظهرت الوسائل التي استعملوها لستر خباثة طويَّتهم وأطماعها ووضح الرياء كل الوضوح. لا جرم أن السيد لم يُمزق برقع الرياء فقط، بل كشف ما يصدر من القلب أيضًا. فهذا ما يفعلهُ الله معنا، فإنه يفحص قلوبنا ويعلنها ثم يعلن قلبهُ نحونا، ذلك هو الكشف الصريح العام لا كشف قلوب الفريسيين فقط، بل قلوب البشر بأسرهم. فما يخرج من الفم يُنجس الإنسان؛ لأنهُ يخرج من القلب. فيا لها من صورة هائلة! لأن أثمار القلب الإنساني ليست إلا الأفكار الشريرة زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل وبالاختصار لا يخرج منهُ شيء إلا الرذائل بأنواعها. أكان الرب فاقد الإحسان والمحبة للإنسان؟ كلا. فإن مجيئهُ إنما كان بينة قاطعة على محبتهِ. أَ أراد أن يُخفي الصلاح الحال في الإنسان؟ أَشاء أن يشي بالمخلوق الذي وافى لإنقاذهِ ومُباركتهِ وليُعطيهُ مكانًا عنده ويُشاركهُ معهُ بالمجد والكرامة؟ كلا. فإن ذلك مستحيل، بل لأنه كان عارفًا القلب الإنساني كل المعرفة التزم أن يقول الحق، ولم يُحملهُ على كشف اعوجاج القلب البشري وشرَّهُ العظيم إلا المحبة؛ لكي لا يبقى الإنسان في تلك الحال ولا ريب في أن الأفضل كشف ذلك الآن في يوم النعمة مما في يوم الدينونة حين لا مناص من قصاص كل الأثام المُعلنة والقضاء على الإنسان. لاحظوا أيضًا أنهُ حين تعذَّر وجود القداسة الفعلية والطاعة في حياة رؤساء الدين المؤسس من الله أصبح آلة للخطية، والرياء، وتحريف الأفكار، وإماتة الضمير، والاستقامة في الجميع؛ لأن الأمور التي اعتبرها القوم كناية عن سلطان الله هَيجت بهم الرياء، والإثم، وأنشأت أيضًا عدم الإيمان؛ لأنهم رأوا أن الدِين مقترن بما تأباهُ العواطف البشرية، بل الضمير الطبيعي. فما أحزن تاريخ القلب الإنساني! نعم وكنيسة الله أيضًا التي قد جرت مجرى النظام اليهودي تمامًا، وانحطت مع انحطاط رؤسائها! تأملوا أيضًا كيف سطوة فساد السلطان الديني تُعمي أبصار الإنسان، وتُتلف فهمهُ الروحي. فأي شيء أوضح مما قالهُ الرب بهذا الصدد، غير أن الضمير الطبيعي يأتي الاعتراف بهذا الحق وهو: أن ما يدخل الفم لا يُنجس الإنسان، بل الذي يخرج منهُ؛ لأنهُ يصدر من القلب. فهذا أمر بسيط لا يفتقر لزيادة إيضاح. أما التلاميذ فلم يفهموا ذلك، بل طلبوا إيضاحًا؛ لان تقليدات الشيوخ كانت قد أعمت فهمهم الطبيعي، ففسد ذوقهم، اعوجَّت أفكارهم من طريقة الاحتجاج الذي أدعى بهِ أولئك الرؤساء بسلطانهم الكاذب، فلا عجب إذا كان الأمر كذلك. أَما نجد الآن كثيرين يعتقدون أن ما يدخل الفم يُنجس الإنسان، ومع ذلك هم سليمو النية وليس ذلك فقط، بل يذهبون إلىَّ أنهم إذا أكلوا نوعًا من الطعام اليوم تنجسوا، ولكن إذا أكلوهُ غدًا فلا يتنجسون وما ذلك إلا لمحافظتهم على تقليد الشيوخ. فهذا ما فعلهُ التلاميذ حقيقة،ً وقد وبخهم الرب عليهِ قائلاً: فأنتم أيضًا هكذا غير فاهمين. فنرى هنا قضاء السيد على أمور كثيرة تضبط النفوس في العبودية على أنها نفوس مخلصة بسيطة الطوبة كالتلاميذ. 24 ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ، 25 لأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. 26 وَكَانَتْ الامْرَأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً. فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. 27 وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا:«دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ، لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». 28 فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ لَهُ:«نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ!». 29 فَقَالَ لَهَا:«لأَجْلِ هذِهِ الْكَلِمَةِ، اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ». 30 فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ الشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ، وَالابْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ. (عدد 24-30). ولنلتفت الآن إلى إعلان محبة الله الفائقة بكلمات الرب للمرأة البائسة، فنراهُ يُصادق على حقوق اليهود وامتيازتهم أولاً، ثم نرى أن حق الله الجوهري المُعلن النعمة والمحبة يعلو تلك الامتيازات حين الاحتياج ويسمو عليها لا نحو أولاد الموعد، بل نحو أمة حُسِبتْ تحت اللعنة نحو امرأة من البلاد اشتهرت بصلابة الأعناق. فقد سمت محبة الله على كل الحواجز التي وضعها الإنسان الأثيم وعلى نظام الدين اليهودي المحصور بالأمة الإسرائيلية، بل على النظام الذي سنَّهُ هو نفسهُ وقد أُبطل الآن برفض المسيح. فانطلق الرب إلى تخوم صور وصيداء حيث شاء الاعتزال برهة، غير أن الصلاح المقترن بالقوة قلما يُكتم عن أبصار البشر المصابين بالبلايا التي تخومهم إليهِ، فإن الحاجة تُنبه النفس وتجلو عن عينها غياهب الظلام. فما وطأت أقدام السيد تلك الأرض حتى وافتهُ امرأة بائسة ابنتها منابة بالروح الشرير وقد شعرت بشقاء حالها وآمنت بسلطانهِ. فإن ما ألمَّ بها من شدة البؤس حملها على الرجاء بجودتهِ فأتت إليهِ لتسترحمهُ، أما يسوع فاستمر محافظًا على المواعيد المعطاة من الله لليهود وأجاب جوابًا مبنيًا على حقوق شعب الله أنهُ لا يستطيع أن يأخذ خبز البنين ويطرحهُ للكلاب. لاحظوا أن المرأة نفسها كانت من الأمة المحسوبة تحت اللعنة. فإذا نظرنا إلى سياسة الله ومعاملاتهِ لإسرائيل ما رأينا وعدًا واحدًا لتلك المرأة. فلم يكن لها حق واحد تشترك بهِ مع شعب الله، فإنها لم تكن حسب اعتقاد اليهود والنظام الناموسي إلا بمنزلة الكلاب، ولكنها كانت من المحتاجين إلى رحمة الله وقوتهِ الموجودتين في شخص المسيح وهي أدركت ذلك بإيمانها ووثقت بهِ كل الوثوق. هكذا هي الحال معنا دائمًا بحيث أن شعورنا العميق بحاجتنا الشديدة، والإيمان بجودة الرب، وقوتهِ يحملان على اللجاجة، والمواظبة في الصلاة، كما جرى لأولئك القوم الذين حملوا المفلوج حين زحمتهُ الجموع، غير أنهُ يوجد شيء آخر في قلب تلك المرأة عدا الثقة الناشئة فيهِ بنعمة الله وذلك أنها اعترفت بحقوق اليهود وأنهم شعب الله وأقرَّت أنها بمنزلة الكلاب بالنسبة إليهم وهذا هو الحق، ومع ذلك ألحَّت في طلبها لشعورها بأنها وإن كانت من تلك الرتبة فنعمة الله كافية لمن ليست لهم تلك الحقوق، فقالت: والكلاب أيضًا تأكل من فتات البنين فقد أقرَّت بحقيقة حالها، ولكنها اعترفت أيضًا بطبيعة الله، وآمنت بمحبتهِ نحو أولئك الذين ليس لهم حقوق ولا مواعيد، ووثقت بإعلان الله بيسوع الغير المحصور في السُنن الدينية القديمة والفائق على نظاماتها وفروضها. وقد علمت أن الله صالح واعتقدت أن الدالة إليهِ إنما هي الحاجة والشقاء المُلم بها. أيستطيع المسيح أن يُجيبها سلبًا ويقول لها: أن الله ليس بصالح، وجواد كما تزعمين. كلا، حاشا من ذلك. فإن جوابًا كهذا لا يكون مطلقًا للحقيقة. فلا ريب في أن هذا إيمان عظيم، وهو إيمان يعترف بشقائنا، وأن لا حق لنا بشيء، بل هو إيمان يعتقد بمحبة الله الظاهرة ظهورًا صريحًا بيسوع بدون وعد، ولكنها مُعلنة كل الإعلان، فلا يستطيع الله أن يُنكر نفسهُ ويقول: كلا لست أنا محبة. على أن لا حق لنا أن نترصد إجراء هذه المحبة نحونا، ولكننا نثق بأنَ إذا أتينا يسوع مُحركين على ذلك بالحاجة والافتقار، فلابد أن نجد جودة تامة ومحبة لإبرائنا من مرض الخطية، نعم، وكلما يلزم لاحتياجاتنا العديدة. ولنذكر أن الحاجة الحقيقية لا تنفك عن المواظبة؛ لأنها لا تستطيع الاستغناء عن القوة المُعلنة بالمسيح ولا عن الخلاص الذي أتى لنا بهِ. فلا خلاص إلا بالمعونة الحالة علينا بهِ في ضعفنا. فقوة الله إنما هي ينبوع رجائنا وإيماننا. فإذا سُئلنا: كيف نعلم ما في قلب الله؟ أجبنا: أنهُ مُعلن إعلانًا صريحًا بالمسيح. فمن وضع في قلب الله أن يُرسل ابنهُ لخلاصنا؟ ومَنْ وضع في قلب الابن أن يأتي ويحتمل كل الآلام لأجلنا؟ أ إنسان فعل ذلك؟ كلا؛ لأن فكرًا كهذا لم يخطر على بال إنسان، بل أن قلب الله إنما كان الينبوع، فنحن نؤمن بهذه المحبة، وبما فعلهُ يسوع وأكملهُ على الصليب، لكي يُبطل الخطية بذبيحة نفسهِ ونعلم قيمة ذلك وأهميتهُ، وفضلاً عن ذلك هو يفعل كل شيء حسنًا فإنهُ يجعل الصم يسمعون، والخُرس يتكلمون. فنعمة الله قد وضحت كل الوضوح نحو المرأة البائسة التي لم يكن لها حق ببركة ولا بوعد، فإنها كانت ابنة كنعان المقضي عليها، غير أن الإيمان يبلغ إلى قلب الله المعُلن بيسوع، وكذلك عين الله تبلغ أعماق قلب الإنسان. ومن ثمَّ يلتقي قلب الله مع قلب الإنسان في الشعور بأن الإنسان فاسد كل الفساد، وأن ليس لهُ حق واحد فيعترف بحالتهِ الحقيقية، ويُسلم نفسهُ لجودة الله الكاملة. 31 ثُمَّ خَرَجَ أَيْضًا مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ الْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ الْمُدُنِ الْعَشْرِ. 32 وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. 33 فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ، 34 وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ:«إِفَّثَا». أَيِ انْفَتِحْ. 35 وَلِلْوَقْتِ انْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ، وَانْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ، وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيمًا. 36 فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ. وَلكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيرًا. 37 وَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ:«إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنًا! جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ». (عدد 31-37). ثم خرج الرب من تخوم صور وصيداء وعاد إلى الجليل حيث وجد نفسهُ في وسط بني إسرائيل، ولكن كما قلنا: كان الشعب قد رفضهُ حقيقةً، فكان عالمًا أن ذلك الشعب المحبوب قد هلك، ولا يتوقع لهُ شيئًا إلا الخراب والدمار. فأتوهُ بأصم أعقد وطلبوا منهُ: أن يضع يدهُ عليهِ ليشفيهِ، فأخذه من بين الجمع على ناحية، ووضع أصابعهُ في أُذُنيهِ، وتفل ولمس لسانهُ ثم رفع نظرهُ نحو السماء فإن القوة لا تنفك عنه،ُ غير أن الحزن قد نقل قلبهِ؛ لأن الشعب كان بالحقيقة أصم عن سماع صوت الراعي الصالح، ولسانهُ مربوطًا وغير قادر على تسبيح الله. فأنات يسوع إنما تُمثل شعورهُ، كما أن حال ذلك الإنسان البائس تُمثل شعب الله المحبوب وكان يستطيع أن يعمل لهم لو انتبهوا وأتوا إليهِ العمل نفسهُ الذي عملهُ لذلك الرجل الأصم الأعقد. ليتهم انتبهوا وتمتعوا بمحبة ذلك الذي مشوراتهُ لن تتغير، وقد اتجهت نحوهم، واستقرت عليهم رغمًا عن معاملتهم السيئة لهُ. لا جُرم أن الرب كان بملء محبتهِ هنالك وقد تصرف وفقًا لتلك المحبة وتلك الأنات. فتطلع نحو السماء ينبوع المحبة والقوة حضورهُ بعد على أنهُ وإن كان ليس في طاقتهم قتلهُ لو لم يُسلِّم نفسهُ طوعًا، غير أن الزمان كان لابد أن يأتي حين يبذل نفسهُ إتمامًا لعمل الفداء. فقد أوضح على الدوام إلى أن حانت الساعة المعينة أنهُ إله الجودة والصلاح نحو المصابين وكل مَنْ كان في حاجة وافتقار. فإذا تأملنا بنظر المسيح نحو السماء وشاهدنا أنة قلبهِ عند معاينتهِ صمم الشعب عن سماع صوت الله، وانعقاد لسانهِ عن تمجيدهِ، وإذا أمعنا النظر بشعور قلبهِ المطابق عواطف السماء الظاهرة بمعاملتهِ للقوم القساة الصلبي الأعناق، رأينا مشهدًا مؤثرًا جدًا. فإنهُ وجد هنالك حقيقة المحبة المرفوضة من البشر وسُرَّ بالعواطف السائدة في السماء التي مَّثلها بحياتهِ على هذه الأرض المنكودة. فانفتحت أُذنا الأصم وانحلَّ لسانهُ. وأما الشعب فتأثروا تأثرًا وقتيًا، وأخذوا يشيعون ما فعلهُ يسوع قائلين: أنهُ عمل كل شيء حسنًا، جعل الصم يسمعون، والخُرس يتكلمون. فأعمال الرب تفتح الأذان، وتحمل القلوب الوضيعة على تسبيح الله والاعتراف بمحبتهِ، لكن وا أسفاه! ما أكثر الذين يصمون آذانهم عن سماع إله المحبة. فما هم إلا كالصل الأصم يسد أُذنهُ. الذي لا يستمع إلى صوت الحواة الراقين رُقي حكيم (مزمور 4:58). |
||||
05 - 11 - 2012, 04:05 PM | رقم المشاركة : ( 10 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: أنجيل مرقس ( شرح أية أية )
الأصحاح الثامن 1 فِي تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 2 «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. 3 وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ، لأَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ». 4 فَأَجَابَهُ تَلاَمِيذُهُ:«مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هؤُلاَءِ خُبْزًا هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟» 5 فَسَأَلَهُمْ:«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا:«سَبْعَةٌ». 6 فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا، فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. 7 وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هذِهِ أَيْضًا. 8 فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَل. 9 وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ. 10 وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ. (عدد 1-10). إن يسوع ما فتئ يُظهر جودةٍ إلهية ذلك أمر جوهري جدير بالملاحظة في هذا الجزء من الإنجيل، فكان قد أعطى الجياع طعامًا، فما ذلك إلا آية بينة عن حضور يهوه، كما قد رأينا في ( أصحاح 35:6-44)؛ لأنه كان ينبغي بحسب النبوات أنهُ يفعل ذلك عند حضورهِ في وسط شعبهِ، ونرى هناك في المرة الأولى أنهُ امتحن إيمان تلاميذهُ وقصد أن يُدربهم على الاتكال التام على جودة إله إسرائيل القادر أن يعول شعبهُ البائسين، كما فعل بعد خروجهم من مصر، إذ قال لهم: أعطوهم ليأكلوا، وأما هنا فدعاهم إليهِ، وأخبرهم بشفقتهِ على الجمع، وأنهُ لا يريد أن يُصرفهم صائمين إلى بيوتهم؛ لئلا يخوروا في الطريق. ولا يُخفى أن عدد سبعة إنما يدلُّ على الكمال في الأمور الروحية. فشفقة السيد حملتهُ على الاهتمام بحاجة البائسين، وأما التلاميذ فلم يهتموا إلا بالوسائط البشرية المنظورة لإشباع أنفسهم. ومثلهم مثلنا بحيث ننسى جودة إلهنا وأوقاتًا كثيرة نجعل دائرة نظرنا الضيقة قياسًا على قدرتهِ كأنهُ لا يستطيع أن يمنحنا أكثر مما نشاهدهُ عيانًا في الوقت الحاضر، ولكنه يجب علينا أن نثق فيهِ كالقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تفعل فينا (أفسس 20:3). حتى في احتياجاتنا الجسدية يُريد أن يُبرهن اعتناءهُ الأبوي بنا، ويمكنهُ أن يُبارك القليل الموجود عندنا ويجعلهُ كافيًا، أو بالأحرى يُنمينا روحيًا حتى نكتفي بما عندنا، ولو استحسن أن يتركنا على حالة الفقر. 11 فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ. 12 فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ:«لِمَاذَا يَطْلُبُ هذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هذَا الْجِيلُ آيَةً!» (عدد 11-12). ثم غادر يسوع الجموع وانصرف إلى نواحي دلمانوثة. وهنالك طلب منهُ الفريسيون آية من السماء، على أنهم كانوا قد شاهدوا من آياتهِ الباهرة ما كان كافيًا لإقناعهم، لكن الغير المؤمن لا يقنع ولا يكتفي فلم يجب طلبهم؛ لان زمان الامتحان كان قد انقضى وقد فاتت الفرصة فتركهم وانطلق، ولكن لاحظوا عواطف قلبهِ نحو ذلك الجيل الملتوي، فقد تنهد بروحهِ قائلاً: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ فإن النهاية كانت قد أتت أدبيًا فلا فائدة من إعطاء أدلة لقلوب قد صممت على الجحود. على أنهُ له المجد كان مُفعمًا من الصبر العجيب، والمحبة، والشفقة القصوى، والحزن عند تأملهِ بعدم إيمان رؤساء الشعب وقواده. فكلما كانت تزداد قلوبهم صلابة، كانت تنجلي تلك الصفات جلاءً صريحًا، ولكن عبثًا تجترح الآيات لقلوب عوَّلت على الكُفر بالإله المحسن إليها، وفضلاً عن ذلك لا يليق بجلالهِ تعالى إعطاء آيات لقوم أبوا قبولهُ. فإنهُ لو فعل ذلك كان كمن يُلقي دررهُ أمام الخنازير. 13 ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَدَخَلَ أَيْضًا السَّفِينَةَ وَمَضَى إِلَى الْعَبْرِ. 14 وَنَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ إِلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ. 15 وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «انْظُرُوا! وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ» 16 فَفَكَّرُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ». 17 فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ أَنْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى الآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟ 18 أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ؟ 19 حِينَ كَسَّرْتُ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ لِلْخَمْسَةِ الآلاَفِ، كَمْ قُفَّةً مَمْلُوَّةً كِسَرًا رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا لَهُ:«اثْنَتَيْ عَشْرَةَ». 20 «وَحِينَ السَّبْعَةِ لِلأَرْبَعَةِ الآلاَفِ، كَمْ سَلَّ كِسَرٍ مَمْلُوًّا رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا:«سَبْعَةً». 21 فَقَالَ لَهُمْ:«كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟» (عدد 13-21). نرى هنا أن التلاميذ أنفسهم كانوا عميانًا أيضًا، ولكن ليس عن تعمد بل بالفعل والواقع. فإن يسوع حذرهم من خمير الفريسيين وخمير هيرودس، أما هم فكانوا قد نسوا أن يأخذوا خبزًا. ومن ضعف إيمانهم أخذوا يفتكرون أن الرب يلومهم لأنهم ما أخذوا زادًا كافيًا للسفر، فيا للأسف! كيف أن التلاميذ أنفسهم لم ينتبهوا لقدرة مُعَلمهم الظاهرة في اجتراح المعجزات؟ وكيف أنهُ أشبع آلافًا ببضعة أرغفة؟ فوبخهم الرب بشدة قائلاً: ألا تشعرون بعد ولا تفهمون أحتى الآن قلوبكم غليظة؟ ألكم أعين ولا تبصرون، ولكم آذان ولا تسمعون ولا تذكرون؟ فكأنهم تقسوا بنظر تلك المعجزات الكثيرة ولم يفهموا شيئًا من معجزتي المسيح بتكثير الخبز، فإنهُ إنما يقصد أن يُحذرهم من تعليم الفريسيين والهيرودسيين. 22 وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ، 23 فَأَخَذَ بِيَدِ الأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ: هَلْ أَبْصَرَ شَيْئًا؟ 24 فَتَطَلَّعَ وَقَالَ:«أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ». 25 ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضًا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحًا وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيًّا. 26 فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً:«لاَ تَدْخُلِ الْقَرْيَةَ، وَلاَ تَقُلْ لأَحَدٍ فِي الْقَرْيَةِ». (عدد 22-26). فجاء إلى بيت صيدا وهي واحدة من المدن التي نادى بالويل لها أنها ما نابت عند مشاهدة أعمال القوة التي صُنعت فيها. فقدموا إليهِ أعمى وطلبوا إليهِ أن يلمسهُ. فلم يتأخر عن أن يُلبي طلبتهم، غير أنهُ اعتزل بالأعمى المسكين عن الجمع إلى خارج القرية، وتفل في عينيهِ، ووضع يديهِ عليهِ، فأتاهُ البصر شيئًا فشيئًا. ونستفيد من هذه الحادثة أن مُلامسة شخص المسيح تُعطي بصرًا للعميان تزيدهُ أيضًا. وحالة الأعمى تُمثل حالة التلاميذ تمامًا بالمقابلة مع إسرائيل على وجه العموم، بحيث أن المسيح كان قد أفرزهم عن الجمع ولمسهم. ونتج من مُلامستهم إياهُ أنهم أخذوا ينظرون نظرًا مُلبدًا فكأنهم رأوا الناس كأشجار يمشون. فقد أحبوا الرب بالحقيقة، لكن العوائد اليهودية غشت أبصارهم وحالت دون إدراكهم مجدهُ إدراكًا جوهريًا. نعم أنهم آمنوا بكونهِ مسيا الموعود به، غير أن أميال قلوبهم كانت متجهة إلى أشياء أخرى، كانوا بالنعمة قد حصلوا على التعلق بشخص السيد معلمهم، لكنهم لم يدركوا مجدهُ الإلهي الذي كان كأنه محجوب في أُقنومهِ، مع أنهُ كان مُعلنًا بكلماتهِ وأعمالهِ. فكانوا قد تركوا كل شيء ليتبعوهُ، ولكن كان يعوزهم الفهم الروحي بعد الإيمان، فإنهُ كان لهم إيمان مع أنهُ كان ضعيفًا نظير بصر الأعمى بعد اللمسة الأولى، غير أن عظمة صبرهِ تضارع سلطانهُ، فإنهُ مثل عن حالة قلب التلاميذ ومثل أيضًا عن جودتهِ القصوى التي لم تترك الأعمى حتى أبصر بصرًا جليًا، فإنهُ لم يتوقف عن العمل حتى أكملهُ وهكذا عمل مع التلاميذ روحيًا؛ لأنه عاد بعد قيامتهِ ونفخ فيهم وفتح أذهانهم؛ ليفهموا الكتب، ثم أرسل لهم الروح القدس من السماء؛ ليرشدهم إلى جميع الحق فابصروا حينئذٍ جليًا. ونرى مقابلة بين التلاميذ والشعب، حيث أن التلاميذ كانوا معتزلين مع المسيح، وما كانوا عميانًا عن قصد، وأما الشعب فلم يُريدوا أن يبصروا، بل فضَّلوا العمى والظلمة على البصر والنور. ثم نرى أن يسوع نهى الأعمى عن الدخول إلى المدينة، أو أن يقول لأحد شيئًا عما جرى له، ذلك ليس فقط لأنه لم يطلب مجد الناس الفارغ فقط، بل لأنهُ أراد مُجَانبة جمهور الشعب الآتي للفُرجة فقط، وذلك إنما يعوق عملهُ الحقيقي الذي قصد أن يعملهُ في قلوب الناس وضمائرهم، ولكنهُ يُظهر أيضًا أن زمان الشهادة في إسرائيل قد انتهى، وسيظهر ذلك أكثر جليًا في الفصل القادم. 27 ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً لَهُمْ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟» 28 فَأَجَابُوا:«يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». 29 فَقَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ الْمَسِيحُ!» 30 فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ. (عدد 27-30). قد تنحى الرب إلى حدود أرض إسرائيل القصوى، وسأل تلاميذهُ قائلاً: مَنْ يقول الناس أني أنا؟ فأجابوا: يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون واحد من الأنبياء. تلك آراء مختلفة، ولكن خالية من الإيمان. ثم سألهم: وأنإ مَنْ تقولون أني أنا؟ فأجاب بطرس وقال: أنتَ المسيح. يجب أن نلاحظ أن مرقس إنما يدرج إقرار بطرس أن يسوع هو المسيح فقط، ولا يذكر انهُ ابن الله الحي ولا أن الآب قد أعلن ذلك لهُ إعلانًا خصوصيًا كما قد رأينا في (مَتَّى 13:16)، ولا نرى هنا شيئًا من كلام الرب في شأن الكنيسة التي كان مزمعًا أن يبنيها على ذاتهِ بعد قيامتهِ من الأموات، فالواضح أن مرقس إنما أُلهم بأن يذكر ما يدل على إيمان بطرس الشخصي فقط إعلان الآب. ثم انتهرهم الرب ونهاهم نهيًا جازمًا كي لا يقولوا لأحد عنهُ. ذلك برهان جلي على أن الشهادة في وسط الشعب كانت قد انقضت كل الانقضاء، على انهُ كان لم يزل المسيح بعينيهِ، لكنهُ كان مرفوضًا عند الشعب الذي كان عدوًا لنفسهِ برفضهِ نعمة الله العجيبة. 31 وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. 32 وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. 33 فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا ِللهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». (عدد 31-33). ثم بدأ يُعلَّم تلاميذهُ جهارًا بأنه ينبغي أن يتألم كابن الإنسان. وما ذلك إلا مقام ولقب ساميان كل السمو بالنظر لاتساع سلطانهِ وعظمة السيادة المنوطة بهِ فإن كل الأشياء ستخضع لسلطانهِ كابن الإنسان، ولكن كان يجب أن يتألم ويموت ويقوم من بين الأموات لينبوا كابن الإنسان منزلتهُ في المجد. فكانت الضرورة أن يتم الفداء وأن يدخل الإنسان إلى مقام جديد وإلى حالة حديثة لم يكن عليها فيما سلف حتى في طهارتهِ الأصلية، أما مقام المسيح كمسيا فكان قد عزل الآن جانبًا ودخل هو منزلة أسمى حيث الأشياء العتيقة كانت قد تُركت وراء الموت وكل مَنْ تأسس على عمل المسيح وموتهِ تبوأ رتبة جديدة وأبدية. فالموضوع هنا يتعلق بالأكثر على آلام المسيح فقد وضع الصليب أمام تلاميذه، ولكنهُ يتكلم دائمًا عن الموت والقيامة. وقال هذا القول علانيةً فكان ذلك عثرة لبطرس؛ لأنهُ لم يُرد أن مُعلمهُ يُهان لدى أبصار الجمهور، غير أن الصليب إنما هو نصيب الذين يختارون إتباع يسوع. أما بطرس فقد وضع بهذا القول عثرة في سبيل التلاميذ، فعلم الرب ذلك فالتفت نحو التلاميذ ووبخ بطرس ذلك الذي بنعمة الله اعترف بهِ منذ برهة، وقال لهُ: «اذهب عني يا شيطان؛ لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس». فنرى بهذا القول درسًا خطيرًا، بل أكثر من درس واحد. أولاً- أن المسيحي يجب أن يفهم كل الفهم أن طريق الخلاص والسبيل المؤدي إلى المجد والسماء الذي سلك فيهِ المسيح نفسهُ ويُريد أننا نتعلمهُ فيه،ِ إنما هو أن نُنكر أنفسنا ونتألم ونغلب. ثانيًا- لنتعلم من ذلك أنهُ يمكن أن يكون للمسيحي إيمان حقيقي، وأن يكون مُتعلمًا من الله كما كان بطرس بدون أن يخضع جسدهُ ويقضي عليهِ حتى يكون قادرًا على السلوك في السبيل الذي يقودهُ إليهِ هذا الحق الإلهي. فعلينا أن نذكر هذا الأمر المهم وهو أن الإنسان يستطيع أن يكون مخلصًا بدون أن يعرف نفسهُ حق المعرفة. فمقام المسيح الجديد الغير المُنفك عن الأمجاد السماوية والمشترك بها الإنسان الساقط الممتاز بالأفضلية والسمو على كل الأشياء يتحد كل الاتحاد بالصليب ويجعل حملهُ أمرًا ضروريًا لكل مؤمن، ولكن حين يُعلن الرب نتيجتهُ الفعلية لا يطيق الإنسان احتمالها. فما أكثر القلوب التي تُصدق عليها هذه الحالة! تلك قلوب لا ريب بخلوصها، ولكن ليس لها الشجاعة الروحية لقبول العواقب المترتبة على الحق المؤمنة بهِ. فانظروا الفرق في حال بولس عندما تَقوى بالروح القدس والإيمان وقال: «لكي أعرفهُ (أي المسيح) وقوة قيامتهِ وشركة آلامهِ متشبهًا بموتهِ» (فيلبي 10:3). فقد كانت قوة الروح القدس حالَّة عليهِ فحمل دائمًا في جسدهِ إماتة الرب يسوع لكي تُظهر حياة سيدهُ في جسدهِ. فيا لغبطة ذلك الإناء المصطفى! فإنهُ كان يُفضل على الدوام أن يحتمل كل آلم على عدم اتباع سيدهِ المجيد بكل قلبهِ، وعلى عدم الاعتراف باسمهِ مهما كانت العواقب المترتبة على ذلك، وبعد أن يسير بنعمة الله بأمانة ينال جائزة دعوتهِ السماوية. 34 وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. 35 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. 36 لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ 37 أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ 38 لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ، فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ». (عدد 34-38). أما الرب فلا يكتم العواقب ولا يُريد إخفاءها. فقد حذر الجموع ويُحذرنا أيضًا بأنَ إذا شئنا أن نكون معهُ وأن نتبعهُ، وجب أن نُنكر أنفسنا ونحمل صليبنا. فعلينا أن نقبل كلام الرب فلكي نكون معهُ إلى الأبد، وجب علينا أن نتبعهُ وإذا تبعناهُ وجدنا في الطريق كل ما وجدهُ هو نفسهُ. على أن ذلك ليس بمسألة آلام تكفيرية كالتي احتملها من يد الله عن الخطية، بل احتمالهُ من يد الإنسان مقاومة الخطاة ومضادَّتهم والعار والإهانة حتى الموت نفسهِ. أما نحن فلا نعرف حق المعرفة ما هو التألُّم لأجل اسم يسوع، ولكن اذكروا أيها المسيحيون ما يقولهُ الرب: أولاً- مَنْ أراد أن يأتي وراءي فلينكر نفسهُ، فإنهُ يمكن لنا كل يوم أن نُنكر ذواتنا في الأشياء العالمية التي تلذُّ لنا لذة جسدية، ثم إذا كنا معتادين على نكران الذات نستطيع بنعمة الله أن نقبل العار والإهانة من أجل اسم المسيح. فإن مَنْ أراد أن يُخلص نفسهُ، أي مَنْ حمل الصليب وراء المسيح المرفوض يُهلكها، ومَنْ يُهلك نفسهُ من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يُخلصها؛ لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلهُ وخسر نفسهُ. أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسهِ. فلا نرى سوى طريقين. أي طريق العالم وطريق المسيح، ولكل منهما ما يتصف بهِ، ومَنْ سلكهُ يصل إلى نهاية لا محالة. ولكنهُ لا يُخفى أن ما يُربي الجسد ومحبة الذات، هو ذلك النظام العظيم المدعو العالم. فإن الإنسان يحب أن يكون شيئًا عظيمًا في عيني نفسهُ ويصبو لأن ينسى الله ويجعل نفسهُ سعيدًا ومغبوطًا إن أمكن بدونهِ تعالى. فهكذا فعل قايين حين طُرد من حضرة الله بعدما قتل هابيل فقد فرَّ من أمام وجه القدير بعد أن بقى عليهِ قضاء حرمهُ من رجاء العودة إلى حضرة الله والتمتع بشركتهِ الطاهرة؛ لأن الله جعلهُ تائهًا وهاربًا على سطح الأرض (ذلك رمز مؤثر يُمثل حال اليهود في هذا الحين بعد أن أماتوا الرب يسوع أخاهم حسب الجسد)، غير أن قايين لم يشاء أن يظل بائسًا تائهًا. وعلى كلٍ لم يُرد أن يترك عائلتهُ في حال كتلك، بل أحب النجاة من بؤسهِ وشقاء حالهِ، فبنى لهُ مدينة في أرض نود تعني في اللغة العبرانية تائهًا، فقد رغب في أن تقطن عائلتهُ البلاد التي جعلهُ الله بها تائهًا فسمى المدينة على اسم ابنهِ، كما يفعل عظماء هذا العالم فهنالك نشأ مخترعو الآلات الموسيقية وآلات النحاس والحديد وهنالك حشدت وارتكمت ثروة الأجيال الحاضرة ووفرت القنية والمواشي فهذا هو العالم. لا جُرم أن قلب الإنسان بعد انفصالهِ عن الله حاول أن يجعل الأرض التي قد ابتعد بها عنهُ تعالى موطنًا سارًا وبَهِجًا لنفسهِ حسب الإمكان، وقد استخدم لنوال هذه الغاية عطايا الله وخليقتهُ للاستغناء عنهُ. ولقائل أن يقول: أن لا ضرر باستعمال هذه الأشياء. أَجبنا: أن هذا مُسَلم، غير أن هذه ليست هي المسألة الجوهرية، فهذه الأمور حسنة؛ لأنها خليقتهُ تعالى فقد قيل على سبيل الرمز والإشارة أن نتمتع بالترانيم الموسيقية في السماء أيضًا، ولكنها لا تُستعمل هنالك لتسلية الأفكار واللهو بدون الله. فالمسألة إنما تتعلق على كيفية استعمال تلك الأشياء مثلاً لا ضرر بالقوة، بل بالأسلوب الذي نستعملها فيهِ فإن الإنسان يستطيع أن يضر بها قريبهُ. ألا نرى أن العالم الذي لا يعرف الله يستعمل كل أنواع الملاهي والمسرات للتنعم بها خلوًا من الله؟ فإن القلب الفارغ من الله يُحاول أن يُسلي نفسهُ فيستخدم لذلك كل الأشياء المنظورة والمسموعة والمخترعة كالملاعب والمراقص والموسيقى وكل نوع من وسائط الطرب والسرور، وذلك لأنهُ خالٍ من الله ومُفعم بالهموم والأحزان ولا يُشبعهُ شيء. ولابد أن يجد نفسهُ بعد بضعة أعوام حافظ بها على نشاطهِ الطبيعي وشهواتهِ الجسدية متعبًا وكليلاً، وبعد أن يكون قد امتحن كل شيء يقول مع سليمان المختبر تلك الأمور: باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح، فإن الله قد أُهمل والنفس هلكت. على أن الملاهي تبعد أيضًا المسيحي عن الله وتفني شركتهُ معهُ تعالى، فكل ما في العالم إنما هو: شهوة الجسد، وشهوة العيون وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوتهُ وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد. فالشيطان الذي أضلَّ حواء بهذه الأشياء هو إله هذا العالم، وقد حاول أن يغرِ مخلصنا أيضًا بهذه الأمور على أنهُ شكرًا لله لم ينجح بهذه القمة، ولكنهُ كثيرًا ما ينجح بدون تعب جزيل في خداع قلوب البشر عمومًا حتى المسيحيين، وأن يجعل لمسرات هذا العالم سلطةً على نفوسهم أكثر مما للمسيح نفسهِ ولمحبتهِ التي برهنها لنا بموتهِ. فهكذا كانت الحالة مع بطرس المغرور، على أنهُ لم يكن قد قبل الروح القدس حينئذٍ، غير أن هذا لا يُغير طبيعة أشواقهِ؛ لأنهُ كان يصبوا إلى المجد في هذا العالم تحت رداء محبة السيد. فتأملوا هنا أيضًا بمحبة يسوع لتلاميذه،ِ وما أعظم عنايتهُ الرحيمة بهم! فإنهُ التفت ونظر جسامة العثرة التي وضعها بطرس أمام التلاميذ فوبخهُ بصرامة حسب استحقاق كلامهِ. ثم وضع أمام التلاميذ مبدائين: أولاً- أن قيمة النفس تفوق على سائر الأشياء وأن الإنسان لا يستطيع أن يفديها بشيء. وثانيًا- أن يسوع كان مزمعًا أن يدخل المجد وأن كل من استحى بهِ في هذا العالم الفاسد حيث قد رُفض يستحي بهِ ابن الإنسان حين يأتي في مجد أبيهِ مع الملائكة القديسين.ويا للخسائر الباهظة التي ألمت بكنيسة الله من حين تغافلت عن سرعة مجيء سيدها ورفضت حمل الصليب وأخذت تتهور في طريق العالم! |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أنجيل مرقص - يوم في كفرناحوم |
أنجيل مرقص - سر الحياة |
أنجيل مرقص - فلس الأرملة |
أنجيل مرقص - خادم الجميع |
أنجيل مرقص - من أنا في رأيكم |