رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تحذير يسوع مِن رِيَاء الكَتَبَة والفِرِّيسيِّين النَّص الإنجيلي (متى 23: 1-12) 1 وكَلَّمَ يسوعُ الجُموعَ وتَلاميذَه قال: 2 ((إِنَّ الكَتَبَةَ والفِرِّيسيِّينَ على كُرسِيِّ موسى جالِسون. 3 فَافعَلوا ما يَقولونَ لَكم واحفَظوه. ولكِن أَفعالَهم لا تَفعَلوا، لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون. 4 يَحزِمونَ أَحمالاً ثَقيلَة ويُلقونَها على أَكتافِ النَّاس، ولكِنَّهم يَأبَونَ تَحريكَها بِطَرَفِ الإصبَع. 5 وجَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم: يُعَرِّضونَ عَصائبَهم ويُطِّولونَ أَهدابَهم. 6 ويُحِبُّونَ المَقعَدَ الأَوَّلَ في المآدِب، وصُدورَ المَجالِسِ في المَجامع، 7 وتَلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات، وأَن يَدعُوَهُمُ النَّاسُ ((رابي)). 8 ((أَمَّا أَنتُم فَلا تَدَعوا أَحَداً يَدْعُوكم ((رابي))، لأَنَّ لَكم مُعَلِّماً واحداً وأَنتُم جَميعاً إِخوة. 9 ولا تَدْعوا أَحداً أَباً لَكم في الأَرض، لأَنَّ لَكم أَباً واحداً هو الآبُ السَّماويّ. 10 ولا تَدَعوا أَحَداً يَدْعُوكم مُرشِداً، لأَن لَكم مُرشِداً واحِداً وهو المسيح. 11 وَلْيَكُنْ أَكبرُكُم خادِماً لَكم. 12 فمَن رَفَعَ نَفَسَه وُضِع، ومن وَضَع نَفسَه رُفِع. مقدمة يُسلط إنجيل هذا الأحد الأضواء على ريَاء الكَتَبَةَ والفرِّيسين في نظر يسوع (متى 23: 1-12) والرِّيَاء هو تظاهر المرء بخلاف ما في الباطن، لِمَا هو مَخفيّ من النَّوايا البَاطنة، بقصد الحُصول على ثَناء النَّاس ومدحهم وإعجابهم؛ إنَّه يقوم بأعمال تخالف الحقيقة. فالرّياء صفة من صفات المُنافقين، لكن هناك ثمّة فرق بين الرّياء والنَّفاق، فالرّياء كلمة مشتقّة من الرّؤية، وهو أن يعملَ الإنسان العمل ليراه النَّاس، لكن النَّفاق هو بحسب الشَّرع أن يُظهر من الدِّين والإيمان خلاف ما يُبطن من الكفر والعداوة للدين. والرياء هو أخطر شر يمكن أن تعرفه الجَّماعات المسيحية، لانَّ هذا الشَّر يتعارض مع روح الملكوت ويُغلق بابه. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النَّص الإنجيلي: (متى 23: 1-12) 1 وكَلَّمَ يسوعُ الجُموعَ وتَلاميذَه قال: تشير عِبَارَة "يسوعُ" إلى الصِّيغة العربية للاسم العِبري " יֵשׁוּעַ "ومعنى الاسم ((الله مُخلص)). وقد تسمى يسوع حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21)، ومريم (لوقا 1: 31). ويسوع هو اسمه الشَّخصي. أمَّا المسيح فهو لقبه. وقد وردت عِبَارَة "الرَّبّ يسوع المسيح" نحو 50 مرة في العهد الجَّديد. ويسوع المسيح أو المسيح يسوع، نحو مئة مرة. ووردت لفظة يسوع وحدها على الأكثر في الأناجيل، ويسوع المسيح، والرَّبّ يسوع المسيح في سفر الأعمال والرسائل. أمَّا عِبَارَة "تَلاميذَه" فتشير إلى كل من اتبع معلمًا (أشعيا 8: 16). وتستعمل لكل المؤمنين الذين قبلوا تعاليم المسيح (متى 10: 42) وبنوع أخص من الرُّسُل الاثني عشر (متى 5: 1). 2 ((إِنَّ الكَتَبَةَ والفِرِّيسيِّينَ على كُرسِيِّ موسى جالِسون، تشير عِبَارَة "الكَتَبَةَ" إلى كتَّاب النَّاموس والأسفار الأخرى من العهد القديم (ارميا 8: 8) الذين دعاهم العهد الجَّديد γραμματεῖς أي ناموسين أو νομοδιδάσκαλοι معلمي الشَّريعة، وهم خلفاء عزرا (عزرا 7: 6) وهم الذين قد خَصَّصوا نفوسَهم لدراسة الشَّريعة وتفسيرها، وكان يحاولون تطبيقها على تفاصيل الحياة اليوميَّة، وسلطتهم التَّعليمية تستند على التقليد أو السُّنة ويستشهدون بأقوال مشاهير المعلمين الربّيين القدماء لتأييد كلامهم (متى 2: 4). وأصبحت قرارات عظماء الكَتَبَةَ شريعةً شفويةً تدعى تقاليد. وكان يقومون أيضًا بدراسة أسفار الكتاب المقدس بنوع عام من حيث الوجهة التَّاريخية والتَّعليمية، وأخيرًا يقومون بمُهمَّة التَّعليم. وكان يلتفُّ حول كل كاتبٍ مشهورٍ جماعةٌ من الطُّلاب يتتلمذون على يديه. وقد بلغ أوج نفوذهم في أيَّام المسيح، وكانوا هم من أغلبية أعضاء السنهدريم (متى 16: 21). ومع انه وجد بينهم من آمنوا بتعاليم المسيح (متى 8: 19) إلاّ أنَّ أكثرهم قاموا ضَّده وتذمَّروا عليه وظنَّوا أنَّهم وجدوا أخطاء في أكثر ما عمل أو قاله هو وتلاميذه (متى 21: 15)، وعليهم يقع جزءٌ كبيرٌ من مسؤوليَّة صَلْب المسيح. وكان الكَتَبَةَ في أغلب الأحيان ينتمون إلى حزب الفِرِّيسيِّينَ؛ أمَّا عِبَارَة "الفِرِّيسيِّينَ" فتشير إلى حزبٍ يهوديٍ دينيٍ يُشددّ أعضاؤه على النَّاموس وعلى التَّقوى الشَّخصية والدِّين، وأُطلق عليهم هذا الاسم العبري הַפְּרוּשִׁים ومعناه منفصل أو مفروز أو منعزل، لأنَّهم يُنادون بالفصل بين اليهود والوثنيين وكل من يُشَك في انه يتعامل معهم. والصَّلاح في مفهومهم محصورٌ في طاعة النَّاموس، فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبيَّة داخليَّة. إنَّهم ينادون بتقليد سِماعي تتناقله الخلف عن السلف. وزعموا أنه مُعادل لشَريعة موسى المكتوبة أو أهم منها. فجاء تصريح المسيح بان الإنسان ليس مُلزَمًا بهذا التَّقليد (متى15: 2 -6). واشتهر معظمهم بالرِّيَاء والعُجب. فتعرَّضوا عن استحقاق للانتقاد اللاذع والتَّوبيخ القاسي. (متى 5: 20) ومع هذا كان في صفوفهم دومًا أفراد مُخلصون وأخلاقهم سامية، منهم نيقوديمس الذي دافع عن قضيَّة يسوع في محاكمته (يوحنا 7: 50). وبولس الرَّسُول في حياته الأولى (أعمال الرُّسُل 23: 6) ومعلمه جِمْلائيل (أعمال الرُّسُل 5: 34). أمَّا عِبَارَة "كرسي موسى" تشير إلى السلطة التَّعلمية الرَّسمية في العَالَم اليهودي التي كانت في يد الفِرِّيسيِّينَ والكتبة الذين تسلّموا ناموس موسى لكي يسجّلوه ويقرأوه ويفسِّروه، فما ينطقون به هو ثمرة الكرسي الذي يجلسون عليه؛ وذلك بناء على ما ورد في تعليم موسى النَّبي "اعمَلْ بِحَسَبِ القَرارِ الَّذي يُبَلِّغونَكَ إِيَّاه في المَوضِع الَّذي يَخْتارُه الرَّبّ، وتَنبهْ أَن تَعمَلَ بِكُلِّ ما أَوصَوكَ به" (تثنية الاشتراع 17: 10). كان لدى الكَتَبَة والفِرِّيسيُّون منصب موسى في السُّلطة، فأعترف يسوع بسُلطتهم. 3 فَافعَلوا ما يَقولونَ لَكم واحفَظوه. ولكِن أَفعالَهم لا تَفعَلوا، لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون: تشير عِبَارَة "فَافعَلوا ما يَقولونَ لَكم واحفَظوه" إلى حثِّ يسوع الشَّعب على الخُضوع لتعليم الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ، إنَّهم على علم بالعقيدة السليمة وموثوق بهم ويعلمونها دون تشكيك، إذ هم على" كُرسِيِّ موسى" يجلسون عليه. ليست المشكلة فيما يعلمونه، لكن فيما عدم التزامهم بما يعلّمون. هو في معنى ما جاء القرآن " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (سورة 44). ويُعلق القديس أوغسطينوس قائلاً: "الخادم المُتكبّر يُحسب مع الشَّيطان، أمَّا عطيّة المسيح (كلمة الوعظ)، فلا تَفسد بل تفَيض نقيّة خلاله وتعبُر كالمَاء إلى أرض مُخصبة"؛ أمَّا عِبَارَة " لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون " فتشير إلى تأنيب المسيح لرِيَاء الفِرِّيسيِّينَ والكَتَبَة حيث أن ذلك يُذكِّرنا بقول بولس الرَّسُول " أَفَتُعلِّمُ غَيرَكَ ولا تُعلِّمُ نَفْسَكَ؟ أَتَعِظُ بِالامتِناعِ عَنِ السَّرِقَةِ وتَسرِق؟ أَتَنْهى عنِ الزِّنى وتَزْني؟ أتَستَقبِحُ الأَصْنامَ وتَنهَبُ مَعابِدَها؟ أَتَفتَخِرُ بِالشَّريعةِ وتُهينُ اللهَ بِمُخالَفَتِكَ لِلشَّريعة؟ فقَد وَرَدَ في الكِتاب: ((يُجَدَّفُ بِاسمِ اللهِ بَينَ الوَثَنِيِّينَ وأَنتُمُ السَّبَب "(رومة 2: 21-24). وفي هذا الصدد يقول الشاعر أبي الأسود الدؤلي" يأيها الرجلُ المعلّمُ غيرَه -هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ. ونراك تُصلح بالرشاد عقولنا-أبدًا وأنت من الرشاد عديمُ-ابدأ بنفسك فانهَها عن غَيِّها-فإذا انتهت عنه فأنت حكيم-فهناك يُقبل ما تقول ويُهتدَى-بالقول منك، وينفع التعليمُ". ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما أسوأ أن نكون فلاسفة في الكلمات لا في الأعمال". والمسيح أعطانا أن نتمثَّل ونقتدي بالله لا بإنسان كما قال: "فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل"(متى 5: 48). فلا يصحُّ أن نعمل الخطأ مُبرِّرين ذلك أنَّ هذا أو ذاك مهما كان مَنْصبه يفعل هذا الخطأ. 4 يَحزِمونَ أَحمالاً ثَقيلَة ويُلقونَها على أَكتافِ النَّاس، ولكِنَّهم يَأبَونَ تَحريكَها بِطَرَفِ الإصبَع. تشير عبارة "أَحمالاً" في الأصل اليوناني φορτία (وبالعبرية מַשְׂאת معناها أَثْقَالُ) إلى مجمل الأحكام الشَّرعية التي اعتبر الكَتَبَة نفوسهم حماتها؛ أمَّا عِبَارَة "ثَقيلَة" فتشير إلى أحْكام يصعب تحمُّلها أو تطبيقها، بعكس أحْكام يسوع، فإنَّها خفيفة، كما صرّح لتلاميذه "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم. اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم، لأَنَّ نِيري لَطيفٌ وحِملي خَفيف " (متى 11: 28-30). قد توعّد يسوع الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ في موضع آخر مباشرة قائلاً " الوَيلُ لَكُم أَنتُم أَيضاً يا عُلَماءَ الشَّريعَة، فإِنَّكم تُحَمِّلونَ النَّاسَ أَحمالاً ثَقيلة، وأَنتُم لا تَمَسُّونَ هذِه الأَحمالَ بإِحْدى أَصابِعِكم" (لوقا 11: 46). يرغم الفِريسيُّون الآخرين على فعل ما لا يفعلونه هم أنفسهم. فهم يستغلون سلطتهم التعليمية لتجعل حياة الآخرين صعبة وثقيلة بعكس سلطة يسوع الذي يدعو الآخرين ليجعل حياتهم لطيفة ومريحة، كما صرّح " اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم، لانَّ نِيري لَطيفٌ وحِملي خَفيف"(متى 11: 29). 5 وجَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم: يُعَرِّضونَ عَصائبَهم ويُطِّولونَ أَهدابَهم تشير عِبَارَة "جَميعُ أَعمالِهم" إلى المُمَارسات اليهودية الأساسيَّة الثَّلاثة: الصَّدقة (متى 6: 2-4) والصَّلاة (متى 6: 5-6) والصَّوم (متى 6: 16-18). أمَّا عِبَارَة "لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم" فتشير إلى إتَّهام يسوع للكتبة والفِرِّيسيِّين المُرائيين على نِفَاقهم حيث لا تطابق بين أعمالهم وأفكارهم، كما جاء في تعليمه " فإِذا تَصدَّقْتَ فلا يُنْفَخْ أَمامَكَ في البوق، كما يَفعَلُ المُراؤونَ في المجَامِعِ والشَّوارِع لِيُعَظِّمَ النَّاسُ شَأنَهم. الحَقَّ أَقولُ لكُم إِنَّهم أَخذوا أَجرَهم" (متى 6: 2). حكم يسوع على الكتبة والفريسيين، لأنَّه " كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم. ولا يَحتاجُ إِلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإِنْسان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان" (يوحنا 2: 24-25). وتنبأ عاموس النَّبي عن نفاق اليهود وعن مراءتهم قائلاً: "هَلُمّوا إلى بَيتَ إِيلَ وآعْصُوا وفي الجِلْجالِ أَكثِروا مِنَ المَعاصي وأْتوا في الصَّباحِ بِذَبائِحِكم وفي كُلِّ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ بِعُشورِكم أَحرِقوا مِنَ الخَمْيرِ ذَبيحَةَ شُكْرٍ ونادوا بتَقادِمَ طَوعِيَّةٍ وأَعلِنوها لِأَنَّكمَ هذا ما أَحبَبتُم يا بَني إِسْرائيل يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ" (عاموس 4: 4-5). ويُعلق العلاّمة ايرونيموس "كل إنسان يسلك لكي ينظره النَّاس هو فرِّيسي وكاتب". أمَّا عِبَارَة "عَصائِبَهم" في الأصل اليوناني φυλακτήρια (معناها "حماية") فتشير إلى عُلب صغيرة تحتوي على عصائب، والعَصابة عِبَارَة عن حرزٍ يتكوَّن من شريط من جِلد رقيق مكتوبٌ عليه بعض آيات التَّوراة (الأسفار الخمسة الأولى) مثلاً: اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد. فأَحبِبِ الرَّبّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتكَ. ولتكُنْ هَذه الكَلِماتُ الَّتي أَنا آمُرُكَ بِها اليَومَ في قَلبِكَ. ورَدِّدْها على بَنيكَ كلِّمْهم بِها، إِذا جَلَستَ في بَيتِكَ وإِذا مَشَيتَ في الطَّريق وإِذا نِمْتَ وقُمْتَ. وأعقِدْها عَلامةً على يَدِكَ، ولتكُنْ عَصائِبَ بَيْنَ عَينَيكَ. واَكتُبْها على دَعائِم أَبْوابِ بَيتِكَ" (تثنية الاشتراع 6: 4-7). ثم يضيف الرَّبّ "فاجعَلوا كَلِماتي هذه في قُلوبكم وفي نُفوسِكم، واعقِدوها عَلامةً على أًيديكم، ولتكُنْ عَصائِبَ بَينَ عُيونكم" (تثنية الاشتراع 11: 18)، “يَكون عَلامةً لَكَ على يَدِكَ، وذِكْراً بَينَ عَينَيكَ، لِكَي تَكونَ شَريعةُ الرَّبّ في فَمِكَ " (خروج 13: 9). ويربط اليهود العُلب بسير من الجِّلد على جِبَاههم وعلى ظهور أيديهم اليُمنى مُتتبِّعين في ذلك حرفية تفسير تثنية الاشتراع: " أعقِدْها عَلامةً على يَدِكَ، ولتكُنْ عَصائِبَ بَيْنَ عَينَيكَ. واَكتُبْها على دَعائِم أَبْوابِ بَيتِكَ" (تثنية الاشتراع 6: 8-9). وكانت تُلبس هذه العَصائِب عادة فقط أثناء الصلاة ولكن يبدو أنَّ الفِرِّيسيِّينَ كانوا يلبسونها دائمًا، وقد جعلوها ظاهرة بشكلٍ واضحٍ. ويُعلق القديس ايرونيموس "لم يفهم الفرّيسيّون أنه يجب حَمْل الوصايا في القلب، وليس على الجَّسد" أمَّا عِبَارَة "أَهدابَهم" فتشير إلى أطراف الرِّداء الأربعة التي تُربط بخيوط بنفسجية رمزًا إلى السَّماء، وتُذكِّر المُؤمن بوصايا الرَّبّ كما ورد في التَّوراة "كَلِّمْ بَني إِسْرائيلَ ومُرْهم أَن يَصنَعوا لَهم أَهْدابًا على أَذْيالِ ثِيابِهِم مدى أَجْيالِهم ويَجعَلوا على هُدْبِ الذَّيْلِ سِلْكًا مِنَ البِرْفيرِ البَنَفْسَجِيّ. فيَكونَ ذلك لَكما هُدْبًا فتَرَونَه وتَذكُرونَ جَميعَ وَصايا الرَّبّ وتَعمَلونَ بِها، ولا تَتيهونَ وراءَ قُلوبِكم وعُيونكمُ الَّتي أَنتُما تَزْنونَ وَراءَها" (عدد 15: 38-39). وكان يسوع يلبس مثل هذا الرِّداء كما ورد في الإنجيل " إِذا امْرَأَةٌ مَنزوفةٌ مُنْذُ اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنةً تَدْنو مِن خَلْف، وَتَلَمِسُ هُدْبَ رِدائِه" (متى 9: 20)، وكان الأهداب تُحاط بالإكرام "أَخذوا يسأَلونَه أَن يَدَعَهم يَلمِسونَ هُدْبَ رِدائِه فَحَسْبُ، وجَميعُ الَّذينَ لَمَسوه نالوا الشِّفاء"(متى 14: 36). 6 ويُحِبُّونَ المَقعَدَ الأَوَّلَ في المآدِب، وصُدورَ المَجالِسِ في المَجامع، تشير عِبَارَة "المَقعَدَ الأَوَّلَ" في الأصل اليوناني πρωτοκλισίαν إلى المُتكئات الأولى في المآدب والمجامع. أمَّا عِبَارَة "المَقعَدَ الأَوَّلَ في المآدِب" فتشير إلى تسابق على المتكأ الأول بدلًا من مشاركته الآخرين أفراحهم أو آلامهم بالحُب الدَّاخلي العملي. أمَّا عِبَارَة "صُدورَ المَجالِسِ في المَجامع " فتشير إلى احدى علامات درجات السُّلطة والنفوذ (لوقا 14: 7). لا يهتمّ الفريسيون بتقديم ما هو للبُنيان، إنّما يطلب المجلس الأول. ويحذّر يسوع هنا من احدى علامات ظهور السلطة "إِيَّاكُم والكَتَبَة، فإِنَّهم يُحِبُّون...وصُدورَ المجَالِسِ في المَجامِع، والمَقاعِدَ الأُولى في المَآدِب" (مرقس 12: 39). 7 وتَلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات، وأَن يَدعُوَهُمُ النَّاسُ ((رابي)). تشير عِبَارَة "تلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات" إلى طلب التَّحيَّات حيث لا يلتقون مع الشَّعب كأعضاء منهم؛ أمَّا عِبَارَة "السَّاحات" في الأصل اليوناني ἀγοραῖς فتشير إلى الأسواق. انه تحذير يسوع من احدى علامات الكَتَبَة أيضًا بقوله "إِيَّاكُم والكَتَبَة، فإِنَّهم يُحِبُّونَ ...تلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات" (مرقس 12: 38). ليس المقصود الاحتراس منهم بقدر ما هو الامتناع عن التَّشبه بهم. لا يمس الرِّيَاء مظهر ثيابهم فحسب، وإنما أيضا يسري على كل حياتهم، فيطلبون العظمة أينما وُجدوا، إن دُعوا كضيوف في الولائم أو كقادةٍ في المجامع أو حتى إن ساروا في الأسواق. 8 ((أَمَّا أَنتُم فَلا تَدَعوا أَحَداً يَدْعُوكم ((رابي))، لأَنَّ لَكم مُعَلِّماً واحداً وأَنتُم جَميعاً إِخوة. تشير عِبَارَة "فَلا تَدَعوا أَحَداً يَدْعُوكم رابي" فتشير إلى عدم مُطالبة النَّاس أن يدعونكم "رابي" أي “سيدنا"، فالاحترام ينبع من الآخر ولا يُفرض عليه. لأنه يقول إن الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ يحبُّون تلقِّي التَّحيات في الأسواق، وأن يدعوهم النَّاس سيدي. في فلسطين يقولون للجَدِّ يا سيدي لأنه أب آباء، والجَدُّ فعلًا له مقام محترم في الأسرة لكن يتعامل مع الآخرين مثل إخوته. قال السيد المسيح لا تُدعَوا سيدي ولا تُدعَوا معلمين، أي لا تفتخروا بالتَّعليم. لكن لا يَحرم قول يسوع هذا القيام بدور مُعلم مبادئ التَّعليم المسيحية. لا يُحسب كسرًا للوصيّة أن يؤكّد الرُّسُل وجود مُعلّمين في الكنيسة ما داموا يشتركون مع يسوع المسيح. يقول الرَّسُول: "ومَن لَه التَّعْليم فلْيُعَلِّمْ" (رومة 12: 7)، ويُلِّقب نفسه مًعلّمًا: "وإِنِّي أُقِمتُ لَها داعِيًا ورَسولاً ومُعَلِّمًا " (2 طيموتاوس 1: 11). يقول القديس ايرونيموس " ندعو إنسانًا مُعلّما بكونه يشترك مع المعلّم الحقيقي". أمَّا عِبَارَة "رابي" في الأصل اليوناني Ῥαββί، (كلمة آرامية الأصل معناها "רַבִּי" رابي أو سيدي ومعناها الحرفي "معلمي") فتشير إلى لقب يحمل أسْمى عبارات التَّقدير والاحترام بين اليهود في مخاطبتهم معلمًا دينيًا. وقد ظهر هذا اللقب في العهد الجَّديد تحت ثلاثة أشكال: רַבּ راب أو سيد وهو أدنى درجة من الشَّرف؛ والشَّكل الثاني רַבִּי رابي أي الحاخام، سيدي -عنوان كرامة أعلى يستخدمها اليهود للأطباء والمُعلِّمين؛ وأخيرًا רַבּוּנִי رابوني، يا سيد المُعظَّم أشرف من الكل. أمَّا عِبَارَة " لَكم مُعَلِّماً واحداً " في الأصل اليوناني διδάσκαλος فتشير إلى ادِّعاء سلطة التَّعليم التي تعود إلى المسيح وإلى الله. أمَّا عبارة " وأَنتُم جَميعاً إِخوة" فتشير إلى نمط علاقات سليمة على قدم المساواة. 9 ولا تَدْعوا أَحداً أَباً لَكم في الأَرض، لأَنَّ لَكم أَباً واحداً هو الآبُ السَّماويّ. تشير عِبَارَة "لا تَدْعوا أَحداً أَباً لَكم في الأَرض" إلى الآب وهو رمز السلطة، كما جاء في تعليم يسوع إلى تلاميذه "مَن أَرادَ أَن يكونَ كبيراً فيكُم، فَلْيَكُنْ لَكم خادِماً " (متى 20: 26). 10 ولا تَدَعوا أَحَداً يَدْعُوكم مُرشِداً، لأَن لَكم مُرشِداً واحِداً وهو المسيح. تشير عِبَارَة "مُرشِداً" ي الأصل اليوناني καθηγηταί (معناه قائد أو مُرشد) إلى توجيه ديني للفرد أو جماعة لتمكينهم من حلِّ مُشكلاتهم عن طريق الوعظ والإرشاد. يُعلّق القدّيس ايرونيموس قائلاً: "لا ينبغي أن يُسمّى أيّ أحد معلّمًا أو أبًا ما عدا الرَّبّ الآب، والرَّبّ يسوع المسيح. هو وحده الأب، لأنّ كلّ الأشياء أتت منه. هو وحده المُعلّم، لأنّ به صُنعت كلّ الأشياء، وبه تمّت مصالحة كلّ الأشياء مع الرَّبّ الإله. ولكن، قد يسال أحدهم: "هل هو ضد هذه القاعدة أن يسمّي الرَّسُول نفسه معلّمَّ الوثنيين؟ أو عندما، كما هو الحال في الحديث الشَّعبي الموجود بشكل واسع في أديار مصر وفلسطين، يُسمّي أحدهم الآخر أبو المؤمنون يدعون كل كاهن أبونا؟ تذكّر هذا الفرق. إنّه شيء أن يكون الشَّخص أبًا بحسب الطبيعة، وشيء آخر أن يكون أبًا عن طريق العطاء. يُسمّى الشَّخص معلّمًا عن حقّ فقط بالنَّظر إلى اتّحاده بالمعلّم الحقيقي. أكرّر حقيقة أن يكون لدينا ربٌّ واحد وابن واحد للربّ بالطبيعة لا يمنع وجود آخرين يعرفون كأبناء للربّ بالتَّبنّي. بنفس الطريقة، لا يجعل من عبارتي أب ومعلّم عديمتيّ الجَّدوى أو تمنع من تسمية آخرين أباً". وأبوَّة الكهنة هي أبوة مُستمدَّة من أبوَّة السَّيد المسيح. وقد دعا بولس الرَّسُول طيموتاوس ابنًا بقوله "أَستَودِعُكَ هذِه الوَصِيَّة، يا ابني طيموتاوُس" (1طيموتاوس 1: 18)، وكذلك دعا طيطس ابنًا له " إلى طيطُسَ ابنِيَ المُخلِصِ في إِيمانِنا المُشتَرَك "(طيطس 1: 4). فإن كان الابن يقول لأبيه الجَّسدي يا أبي، فهل كثيرًا أن يدعو الأب الرُّوحي يا أبي؟ 11 وَلْيَكُنْ أَكبرُكُم خادِماً لَكم. تشير عِبَارَة " خادِماً لَكم" في الأصل اليوناني διάκονος وبالعبرية מְשָׁרְת إلى وظيفة دينية تقوم بنشر كلمة المسيح ونعمته. علّم يسوع رسله أنَّ يروا في وظيفتهم خدمةً، فرؤساء الأمم يطمعون في السيطرة والسيادة، أمَّا هم فينبغي على غراره أن يجعلوا من أنفسهم خُدّاماً للجميع " تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها. فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك. بل مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيراً فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًا. ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْداً δοῦλος"(مرقس 10: 42-44). وتطلق الكلمة خاصة على خادم الإنجيل مثل بولس في خدمة الإنجيل (رومة 15: 16) وطيموتاوس (1 تسالونيقي 3: 2) أَبُلُّس (1 قورنتس 3: 5) وأبفراس (قولسي 1: 7). ويُعلق القديس أوغسطينوس: "كل واحد هو خادمٌ للمسيح على نفس الطريقة التي بها المسيح أيضًا خادمٌ". فالعظمة الحقيقية لا تكمن في عرض العصائب وتطويب الأهداب أو اختيار المَقعَدَ الأَوَّلَ في المآدِب، وصُدورَ المَجالِسِ في المَجامع، وتَلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات، والاهتمام بالألقاب (متى 23: 5-7)، إنَّما في الخِدمة الآخرين. والمعلم المثالي والوحيد في هذه الخدمة هو يسوع الذي غسل أرجل تلاميذه كما صرّح "جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم"(يوحنا 13: 15). 12 فمَن رَفَعَ نَفَسَه وُضِع، ومن وَضَع نَفسَه رُفِع. عِبَارَة "فمَن رَفَعَ نَفَسَه وُضِع، ومن وَضَع نَفسَه رُفِع" هي حكمة مستوحاة من النَّبي حزقيال "يُرفَعُ الوضيعُ ويُوضَعُ الرَّفيع "(حزقيال 21: 31)، ويُدين بها يسوع الفِرِّيسيِّينَ لثقتهم بالنَّفس المتشامخة، مبرزًا أهمية التَّواضع. يُحذّر يسوع من خطورة أن يسعى القادة إلى العظمة عِوض الخدمة، يرتفعون بأنفسهم فيسقطوا. لا تزيد القائد المتّواضع الألقاب إلاَّ شعورًا بالانسحاق وإحساسًا بالمسئوليّة واتّساعًا لقلبه لخِدمة الجَّميع من أجل الرَّبّ. ويُعلق كتاب الاقتداء بالمسيح "إذا اتّضَعَ الإنسانُ بِسَبَب نَقائصِه، فإنَ عَلَيهِ تَهدِئَهُ الآخَرين، واستِرضاءُ السَّاخِطينَ عليه". أمَّا عبارة " ومن وَضَع نَفسَه رُفِع" فتشير إلى التواضع. التواضع هو الحقيقة، والحقيقة هي أنّي لا شيء. وبالتالي، فإنّ أي شيء جيّد فينا يأتي من الله. ويعلق الراهب إسحَق السريانيّ "إنّ التواضع هو قوّة سريّة يتلقّاها القدّيسون، عندما يعيشون الزهد الكامل طوال حياتهم. في الواقع، لا تُعطى هذه القوّة إلّا لأولئك الّذين بلغوا كمال الفضيلة بقوّة النعمة " (أحاديث نسكيّة، المجموعة الأولى، الرقم 20). ثانياً: تطبيقات النَّص الإنجيلي: (متى 23: 1-12) بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي (متى 23: 1-12)، نستنتج انه يتمحور حول رِيَاء الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ. وقد كشف يسوع عن رِيائهم في التناقض بين أقوالهم وأفعالهم (متى 23: 3-4) وبين شخصهم في حقيقتهم وشخصهم في مظاهرهم. وأوصى تلاميذه والجَّموع أن يتجنّبوا الرِّيَاء ويتمسَّكوا بالتَّواضع والخدمة. ومن هنا نتساءل ما هو النَّقد الذي وجّهه المسيح إلى الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ، علماء الشَّريعة؟ وما هي توصياته لتلاميذه في هذا الموضوع؟ 1) ما هو النَّقد الذي وجّهه المسيح إلى الكَتَبَة ولفريسيين، علماء الشَّريعة؟ النَّقد الأول: الرِّيَاء بين القول والفعل (متى 23: 3-4) إن الكلمة اليونانية ὑποκριτά (مُراءٍ تعني «مُجيبا) تشير إلى ممثل مسرحي. ومع الوقت، أصبحت الكلمة تشير إلى كل شخص يمثِّل دورًا لخِداع الآخرين. كان يهوذا الإسخريوطي مرائيًا، شخصًا يتظاهر بغير ما هو عليه، شخصًا يُخفي دوافعه الرَّديئة وراء مظهرٍ من الإخلاص (متى 26: 47-50). فكان يسوع هنا يستخدم ولا شك الكلمة الآرامية חָנֵף، التي تعني عادة في العهد القديم " فاسق، كافر ": فالمرائي يصبح في مصاف الكافرين. ويستبدل الإنجيل الرابع لقب مراءٍ بلقب أعْمى: إن خطيئة الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ، تقوم على قولهم "إننا نرى" في حين أنهم عُمْيان (يوحنا 9: 40). يصيب الرِّيَاء الإنسان ويجعله يظهر للنَّاس بصورة غير حقيقية ليَخدع الغير في نِّفاق وكَذْب، ربما لكَسْب وُدّ الغير أو لإظهار بصورة التَّقوى والمحافظة على القيم لينال المديح والتَّبجيل والمَجد البَاطل. والرِّيَاء من أخطر أنواع الكَذب، لانَّ المُرائي يكذب ليخدع الغير، ويتقمَّص شخصية غير شخصيته، ويخدع البسطاء وقد يصدِّق نفسه ويحيا في ازدواجية لا تعطي فرصة للتوبة والرجوع إلى الله. والرِّيَاء في مدلولها الأكبر هو عدم مطابقة الفكر واللسان وعندئذ فهو كذب وغش وخداع (هوشع 4: 7). وكل هذه رجس عند الله (أمثال 12: 22). أدان السيد المسيح المرائيين، وأعلن أن الرِّيَاء لا بُدَّ أن ينكشف والخَفِي لا بُدَّ أن يظهر. لأنه لن يستطيع المُرائي أن يخدع كل النَّاس وفي كل وقت، ولن يستطيع أن يهرب من حُكم الله الدَّيان العَادل والذي كل شيء مكشوفٌ أمامَه، كما يقول صاحب المزامير "لأنه ليس كلمة في لساني إلاّ وأنت يا ربّ عرفتها كلّها" (مزمور 139-4). وفي النَّهاية سيُفضَح الرِّيَاء كما أعلن يسوع " فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم" (متى 10: 26)، وقد سبق وأعلن الملك الحكيم سليمان " لأًنَّ اللهَ سيُحضِر كُلَّ عَمَلٍ فيَدينُ كُلَّ خَفِي، خَيرًا كانَ أَم شَرًّا" (الجَّامعة 12: 14). اعترف يسوع بدور الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ الجَّالسون على كُرسِيِّ موسى بالرغم من ريائهم، فهم يقومون بتعليم النَّاس الدِّين والنَّاموس، وأوصى النَّاس بالاستماع إليهم فيما يقولون في الشَّريعة، فالشَّريعة هي تَّعبير عن مشيئة الله، كما جاء واضحًا في تصريحاته "َافعَلوا ما يَقولونَ لَكم واحفَظوه" (متى 23: 3أ). لكن يسوع كشف عما في سرِّهم من الرِّيَاء وحَذّر من سلوكهم ومن روح الفِرِّيسيّة المُنافقة، فأعلن لتلاميذه قائلا "لكِن أَفعالَهم لا تَفعَلوا، لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون" (متى 23: 3ب). يقوم هذا النَّقد لغياب المنطق في تعليمهم، فقد كانوا يعرفون الكتب المقدسة، ولكنَّهم لم يعيشوا بمقتضاها "يَقولونَ ولا يَفعَلون" (متى 23: 3)، ويتبادر إلى الدهن هنا مثل الإبْنَين(متى 21: 28-32)، الموجَّه إلى الفريسيين، حيث يتمَّ تشبيههم بالان الذي يقول "نعم" للآب: ولكنه بعد ذلك لا يذهب للعمل في الكرم. والمُرائي، أشبه بممثل على مسرح ὑποκριτά، يواصل تمثيل دوره بقدر ما تكون مكانته ذات شأن وكلمتُه مُطاعة (متى 23: 2 -3). لم يدنْ يسوع المسيح دائمًا ما كانوا يعلّمون به، ولكنَّه أدان ما كانوا عليه من الرِّيَاء. حيث أن خطيئة الفِرِّيسيِّينَ تكمن في ممارساتهم الشَّريرة أكثر من تعليمهم، لأنَّهم، هم أنفسهم، لم يمارسوا ما يعظوا به. لذا قال يسوع المسيح عنهم "أَيُّها المُراؤُون، أَحسَنَ أَشَعْيا في نبوءته عَنكم إِذ قال: هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيْه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي"(متى 15: 7-8). يقولون انهم يُحبّون الله، لكنّهم لا يراعون وصاياه، أمروا النَّاس بإطاعة التَّقاليد التي يتناقلونها لكنَّهم لا يعملون هم بها، يقولون انهم يُحبُّون القريب، لكنهم يظلمونه، يُلقنون الآخرين دروسًا في الوداعة، وهم يستعلون على الآخرين، كما جاء في مثل الفريسي والعشار "فانتَصَبَ الفِرِّيسيُّ قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاس السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجَّابي"(لوقا 18: 11)، ويطالبون النَّاس بدقائق النَّاموس وحرفيته، وهم بعيدون عن تطبيقه كما وصفهم يسوع: "أَيُّها القادَةُ العُميان، يا أَيُّها الَّذينَ يُصَفُّونَ الماءَ مِنَ البَعوضَةِ ويَبتَلِعونَ الجَمَل" (متى 23: 24) ويحمّلون النَّاس أحمالا ثقيلة من النَّاموس، ولا يحملون من النَّاموس شيئًا. يبطلون وصيّة الله تحت وطأة تقاليدهم الإنسانية (متى 15: 1-20(. وينصح القدِّيس كارلُس بُرُّومِيُوس كهنته بقوله: " عَظْ بحياتكَ وأخلاقِك. وإلاَّ إذا رآك الناس تقول شيئًا وتعمل عكسه هزُّزوا رؤوسَهم واستخفُّوا بكلامك." ( من أعمال كنيسة ميلانو، 1599، 1171). تظاهر الكَتَبَة والفِرِّيسيُّون أنَّهم معلمون لشريعة الله، لكنَّهم في الواقع ملأوا عقول النَّاس بتعاليم بشرية تحوِّل انتباههم عن الله. أصرّ الكَتَبَة والفريسيون بتزمُّت على حرفيَّة الشَّريعة، أي تطبيقها في الأعمال فقط، مدقّقًين في بنودها كلِّها بدون ترك أيِّ مجال لعمل الروح. لكنهمَ أنَّهم تجاهلوا المبادئ الأساسيَّة التي تعكس المحبة والرحمة، والتواضع ونكران للذات؛ وكانوا يتظاهرون علنًا بأنَّهم أتقياء ومُتعبدون لله، لكنَّهم في الواقع، كانوا مملوئين سوءا وخبثًا. ولم تنسجم أفعالهم مع أقوالهم قط "فجَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم" (متى 23: 5). كم نحتاج في هذه الأيام أن نحيا حياة الشَّفافية والصدق والأمانة أمام الله والقريب والاعتماد فقط على رحمة الله. النَّقد الثاني: الرِّيَاء بين الشَّخص في حقيقته والشَّخص في مظاهره (متى 23: 5-7) لم يكشف يسوع المسيح رِيَاء الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ بين القول والفعل فحسب، إنما أيضا بين حقيقة شخصهم ومظهرهم. فموضوع نقد يسوع الثَّاني للكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ هو التَّظاهر بالفضيلة لكي يراهم النَّاس (متى 6: 1-6). لم يكن يهمهم الفريسيون أن يكونوا أتقياء، بل كان يكفيهم مجرد ظهورهم بمظهر التَّقوى ليحوزوا إعجاب النَّاس ومديحهم. يهتمون بالمظهر دون الاهتمام بالجَّوهر، يهتمون بأن تكون أياديهم نظيفة قبل الأكل مع أن قلوبهم مملوءة بالنَّجاسة، فقال لهم يسوع تكرارًا، مشهِّرًا رِيَاءهم بجرأة "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَة والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأَمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة (متى 23: 27). لكل وظيفة مزاياها وامتيازاتها، فأحب الكَتَبَة والفرِّيسيُّون المَزايا المرتبطة بوظائفهم، ولكن هذه المزايا والامتيازات أصبحت للكتبة والفِرِّيسيِّينَ أهم من تَأدية العمل بأمانة. لان الدِّين أصبح عندهم في عَصائبهم التي يُعرِّضونها، وفي أرديتهم التي يُطوِّلونها، وفي ابتغاء المقاعد الأولى، وصدور المَجالِسِ وتلقي التَّحيات في السَّاحات. فقد جاء وصفهم واضحًا "يُعَرِّضونَ عَصائبَهم ويُطِّولونَ أَهدابَهم ويُحِبُّونَ المَقعَدَ الأَوَّلَ في المآدِب، وصُدورَ المَجالِسِ في المَجامع، وتَلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات، وأَن يَدعُوَهُمُ النَّاس رابي" (متى 23: 5-7). وصفهم يسوع انهم مراؤون، لأنَّهم عنوا بالأشياء المادية العرضية دون الرُّوحية الجَّوهرية فصّرح قائلا "جَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم" (متى 23: 5). حذَّر يسوع من رِيَاء الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ الذين يُحبُّون التظاهر أنهم أتقياء ليحظوا بإكرام النَّاس لهم، بينما هم في الحقيقة زائفون مُتظاهرون. وأطاعوا الشَّريعة ليس إكرامًا لله بل لإظهار أنفسهم أنَّهم صالحين أتقياء. ليس الرِّيَاء الدِّيني مجرد كذب، إنَّه غش للغير بقصد كسب تقديره عن طريق ممارسات دينية لا تكون النَّيّة فيها بسيطة. فيبدو المرائي كأنَّه يعمل من أجل الله، في حين أنه يعمل في الواقع من أجل ذاته والأنانية. إنَّ أكثر الأعمال صلاحًا، كالصَّدقة، والصَّلاة، والصَّوم، تُفسد وتنحرف عن صلاحها، عند الاهتمام "بالظهور أمام النَّاس" (متى 6: 2 و5 و16، 23: 5). فأنهم مراؤون لان سلوكهم لا يعبّر عن أفكار قلوبهم وقد وصفهم يسوع بالعُميان. "أَيُّها القادَةُ العُميان، يا أَيُّها الَّذينَ يُصَفُّونَ الماءَ مِنَ البَعوضَةِ ويَبتَلِعونَ الجَمَل" (متى 23: 24). فالمرائي من فرط رغبته في خداع الآخرين، ينتهي به الآمر إلى خداع نفسه ذاتها، فيصبح في حكم الأعمى عن حالته، عاجزًا أن يرى النَّور. إن للقادة الرُّوحيين دورًا لا بُدّ منه على الأرض، ولكن ألا يأخذون مكان الله نفسه، وذلك عندما يستبدلون بالشَّريعة الإلهيَّة سُنناً بشريَّة. إنهم عُميان يريدون أن يقودوا غيرهم، "إِنَّهُم عُميانٌ يَقودونَ عُمياناً. وإِذا كانَ الأَعمى يَقودُ الأَعمى، سَقَطَ كِلاهُما في حُفْرَة" (متى 15: 14)، وتعليمهم ما هو إلا خميرة خبيثة حذّر يسوع تلاميذه منهم قائلا " إِيَّاكُم وَخَميرَ الفِرِّيسيِّينَ، أَي الرِّيَاء" (لوقا 12: 1). "أيُّها الفِرِّيسيُّ الأَعمى، طَهِّر أَوَّلاً داخِلَ الكَأس، لِيَصيرَ الظَّاهِرُ أَيضاً طاهراً" (متى 23: 26). هناك كثيرون من النَّاس في أيّامنا، ممّن يعرفون الكتاب المقدّس وتعاليم الكنيسة، لكنّهم، مثل الفِرِّيسيِّينَ لا يتركون لهما الفُرصة كي يُغيّرا حياتهم، فيقولون أنّهم يتبعون الرَّبّ يسوع، ولكنّهم لا يعيشون مبادئه، مبادئ المحبّة، وهذا ما دفع المهاتما غاندي أن يخاطب المَسيحيّين قائلاً: "خذوا مسيحيّتكم وأعطوني مسيحَكم". النَّقد الثالث: التَّباهي بالامتيازات والألقاب (متى 23: 8-9) إنتقد يسوع المسيح رِيَاء الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ أيضا بالتَّباهي بالامتيازات والألقاب. لقد نهى يسوع عن اتخاذ ألقاب "معلم" و"مرشد " و"أب" على طريقتهم، على أنَّها مستمدة من ذواتهم، وما نهى عن اتخاذ الألقاب على طريقته، على إنها مستمدة من الله. انهم يُردّون التَّعليم والسيادة والأبوَّة إلى ذواتهم، ولا يردّونها إلى الله، كما كان يعمل بولس الرَّسُول " فقَد يَكونُ لَكم أُلوفُ الحُرَّاسِ (باليونانية παιδαγωγοὺς أي مرشدين) في المسيح، ولكِن لَيسَ لَكم عِدَّةُ آباء، لأَنِّي أَنا الَّذي وَلَدَكُم بِالبِشارة، في المسيحِ يَسوع،" (1 قورنتس 4: 15). وفي الواقع عامل بولس الرَّسُول الجَّماعة المسيحية في تسالونيقي كأب لهم " لَطَفْنا بِكُم كما تَحتَضِنُ المُرضِعُ أَولادَهما"(1 تسالونيقي 2: 7) وعاملهم كمعلم فلقّب نفسه مُعلّمًا "وإِنِّي أُقِمتُ لَها داعِيًا ورَسولاً ومُعَلِّمًا " (2 طيموتاوس 1: 11). يبدو أنّ يسوع كان يُحذّر كلّ من تلاميذه والقادة الدِّينيّين من تجربة السَّعي وراء الألقاب ومراكز الشَّرف لزيادة الشَّهرة الشَّخصيّة ونيل إعجاب الآخرين. يُعطي الكتاب المقدّس قدراً وافراً من التَّحذير عن خطر كبرياء البحث عن الذات: "قبل الخيبة الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح" (أمثال 16، 18). "الله يكابر المتكبّرين ويُنعم على المتواضعين" (يعقوب 4، 6 وأمثال 3، 24). فكسر يسوع أبواب قلوبهم، وفضحهم أمام الآخرين (متى 23: 1-3)، عن طريق إدانة خطيئتهم الأساسية، وهي فسادهم الخفي (متى23: 27-28)، وذلك أفضل من تركهم يشاطرون مصير الأشرار (متى 24: 51، لوقا 12: 46). لم يتسامح يسوع مع الرِّيَاء والمرائين لأنها تضر بهم شخصيا، وبالذين حولهم وبصورة الله التي يمثلونها. حاول يسوع محاولة أخيرة لكي يوقظ المرائين وفتح عيونهم العمياء، هي صرخة الحب الذي لم يستطع أن يفعل شيئا. وهي صرخة تقع في خط أقوال الأنبياء ضد الشَّعب الذي نقض عهد ربّه ونسي أنّ يوم الرَّبّ آتٍ. وهذه المحاولة ليست المقصود منها الاحتراس من رِيَاء الكَتَبَة والفِرِّيسيِّينَ بقدر ما هو الامتناع عن التَّشبُّه بهم. فيحترس التَّلاميذ وعامة الشَّعب من هذا النَّوع من التَّدين المطبوع بالرِّيَاء. ومن هنا جاءت توصيات يسوع في هذا الموضوع. 2) وما هي توصيات المسيح لتلاميذه لتجنب الرِّيَاء؟ (متى 23: 10-12) يُعبّر يسوع، بشكل واضح في الآية الخِتاميّة للمقطع الإنجيلي عن توصياته لتلاميذه وللجموع لمُقاومة روح الرِّيَاء التي يتعرض له كلُّ مسيحي، ولاسيما متى كان يقوم بدور الرائد. إن بطرس نفسه لم ينجُ من هذا الخطر، في حادث أنطاكيا، الذي جعله يقع في خلاف مع بولس، فسلكه كان "رِيَاء" (غلاطية 2: 13). وبطرس ذاته يُوصى المُؤمن بأن يعيش بسيطًا لا كطفل حديث الولادة، عالمًا بأنَّ الرِيَاء واقف له بالمرصاد قائلا: "أَلقُوا عَنكم كُلَّ خُبْثٍ وكُلَّ غِشٍّ وكُلَّ أَنواعِ الرِّياءِ والحَسَدِ والنَّميمة"(1 بطرس 1:2)؛ والرِّياء قد يقود المُؤمن إلى الإرْتداد عن الإيمان "والرُّوحُ يَقولُ صَريحًا إِنَّ بَعضَهم يَرتَدُّونَ عنِ الإِيمانِ في الأَزمِنَةِ الأَخيرة، ويَتْبَعونَ أَرْواحًا مُضِلَّةً ومَذاهِبَ شَيطانِيَّة، وقَد خَدَعَهم رِياءُ قَومٍ كَذَّابينَ كُوِيَت ضمائِرُهم"(1 طيموتاوس 4: 2). لمقاومة الرِّيَاء وضع يسوع المسيح قاعدة حياة التَّلاميذ ومقياس في الأعمال الصالحة والقيادة الدِّينية، وهي الأخوة والخدمة والتَّواضع. التَّوصية الأولى الأخوة: "أَنتُم جَميعاً إِخوة" (متى 23: 8) قدَّم يسوع لتلاميذه قاعدةَ حياةٍ ما يجب أن تكون عليه روح الأخوة في الجَّماعة: لا يأخذ التَّلميذ محل المسيح، أو محل الله، بل هو يعمل عمل التَّعليم والخِدمة في خُطى المسيح وباسمه الذي جاء لا ليُخدم بل ليَخدم. كما أوصى تلاميذه "َلْيَكُنْ أَكبرُكُم خادِماً لَكم" (متى 23: 11). يريدنا يسوع أن نكون أخوة بين الأخوة الّذين يعيشون مبدأ الفِداء. يجب أن يفدي الأخ أخاه الآخر من الخطيئة ومن الموت مُقدّماً (باذلاً) حياته للموت بدافع المحبّة، والحَنان. التَّوصية الثانية الخدمة: "لْيَكُنْ أَكبرُكُم خادِماً لَكم" (متى 23: 11) يسعى الكَتَبَة والفِرِّيسيِّونَ وراء مراكز القيادة في الشَّؤون الدِّينية أيضًا. ويصبح هذا خطرًا متى أصبحت محبة المراكز أقوى من ولائهم لله، فيسوع لا يعترض على كل قيادة، فنحن بحاجة إلى قادة مؤمنين ولكن يعترض يسوع على كل قيادة تخدم ذاتها أكثر مما تخدم الآخرين. "وَلْيَكُنْ أَكبرُكُم خادِماً لَكم" (متى 22: 11). وأشار في هذا المنظور إلى سلّم القيم الجَّديد: لا تكمن عظمة المسيحي في السيطرة على الآخرين، بل في وضع الإنسان ذاته في خدمتهم. فالخدمة تجعلنا مُتنبّهين لحاجات الآخرين، وتحفظنا من التَّركيز على ذواتنا وبالتالي إلى الرِّياء. إن قاعدة الجَّماعة المسيحيّة هي الخدمة الخالصة بأكبر مستوى من التَّواضع، ممّا يجعلنا ننطلق من المكان الأخير. يحتّم إيماننا المسيحي على كل من يوجد في مركز رفيع أن يعتبر نفسه خادمًا للربّ، والخدمة تعني الاتضاع والاتضاع يعني الخدمة. تحدى يسوع المسيح معايير المجتمع، فالعظمة عنده تأتي من الخدمة ومن البذل من الذات لخدمة الله والآخرين. فالخدمة تجعلنا منتبهين لحاجات الآخرين، وتحفظنا من التَّركيز على ذواتنا، فقد جاء يسوع ليَخدم الآخرين. "هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متى 20: 28). التَّوصية الثالثة التَّواضع: "من وَضَع نَفسَه رُفِع" (متى 23: 12). مَن رَفَعَ نَفَسَه وُضِع، ومن وَضَع نَفسَه رُفِع" (متى 23: 12). التَّواضع هو معرفة الذات على حقيقتها. إن التَّواضع هو صفة تشبه صفات الخادم، يمكّننا من وضع حياتنا في خدمة الرَّبّ وخدمة القريب. والألقاب لا تزيد القائد المتّواضع إلا شعورًا بالانسحاق وإحساسًا بالمسئوليّة واتّساعًا لقلبه لخدمة الجَّميع من أجل الرَّبّ. ولا يعتمد المتواضع على نفسه، بل يثق في الرَّبّ وبمحبّته ونعمته الخلاصيّة "فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات" (متى 18: 4)، فالمتواضعون هم وحدهم، شبيهون بالله، الذين هم أبناؤه، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسُول "أَيُّها الأَحِبَّاء نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو"(1 يوحنا 3: 2). نستنتج مما سبق أنَّ من يبحث عن الله ينبغي أن يهرب من كل رِيَاءٍ ومخاتلة (حكمة 1: 1)، بحيث لا شيء ينبغي أن يتقاسم قلبه (مزمور 119: 113)، أو يُضلّل نيَّته (1 ملوك 9: 4)، وبالتالي لا اعوجاج في سلوكه (أمثال 10: 9، 28)، ولا في كلامه (سيراخ 5: 9). ولا في نيَّته (منى 10: 16). الخلاصة إن موقف المسيح من الفِرِّيسيِّينَ هو نفس موقفه من أي إنسان خاطئ. لقد جاء المسيح لهداية النَّاس وخلاصهم وفدائهم، وكان يهمّه طبعًا أن يبتعد الفِرِّيسيُّون عن تديّنهم الزائف، وريائهم وأن يتوبوا عن خطاياهم ويهتمّوا بجوهر الدِّين لا بالقشور، ويحيوا حياة الإيمان الحقيقي، وتكون حياتهم مُثمرة في الإيمان والأعمال الصَّالحة، بمعنى أن يعيشوا حسب إرادة الله وتعليمه ووصاياه، وأهم من كل شيء أن يدركوا بأن المسيح هو الإله الذي ظهر في الجَّسد لأجل خلاص البشر، وإنه هو الطريق والحق والحياة، ولا أحد يأتي إلى الآب إلا به (يوحنا 6:14). يحْمِلُ وصمة الفريسيّة كل من يتستّر وراء قناع البِرِّ، بقصد إعفاء ذاته من سلوك البِرَّ في الحياة، أو من الاعتراف أنّه خاطئ، ومن الإصغاء لنِداء الله، أو حينما يحبس محبة الله داخل حدود معرفته الدِّينية؛ والفريسيّة تهدّد المسيحية بقدر ما تتقهقر المسيحيّة إلى مستوى التَّمسّك بالقانونية الجَّامدة، وتتجاهل السِّمة العالميّة الشَّاملة في النَّعمة. الدعاء أيها الآب السَّماويّ، نطلب إليك باسم ابنك يسوع المسيح الذي حذَّرنا من الرِّيَاء، أن تنجينا من روح الرِّيَاء والفِرِّيسيَّة التي تشوّه كنيستك، وتمنحنا محبة بلا رِيَاء (رومة 12: 9) " وإيمان بلا رِيَاء (1 طيموتاوس 1: 5) وكبرِيَاء وأنانية وخداع وتكبّر على الآخرين، فتكن أفعالنَّا منسجمة مع عقائدنا فيثق بنا الآخرون ونكون مصدر قوة وتشجيع حقيقيَّين لمن حولنا (فيلبي 2: 4) وخُدّامًا حقيقين للأخوة وننال رضاك أيها إله المُحبّ البشر. آمين |
|