رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 68 - تفسير سفر المزامير الملك الغالب في كنيستهاختلف الدارسون في تحديد مناسبة وضع هذا المزمور. فالبعض يرون أن داود النبي وضعه بخصوص الانتصارات على أعداء بلده بوجه عام. والبعض يرون أنه وضع بخصوص انتصارات وردت في 1 أي 19: 6-19؛ 2 صم 12: 26-31 ويرى آخرون أنه وضع ليُسبَّح به عند نقل تابوت العهد من قرية يعاريم أو من بيت عوبيد آدوم [54]. هذا المزمور هو الرابع والأخير في سلسلة مزامير التسابيح (65-68)، ترَنَّم به داود النبي عندما اهتزت نفسه فرحًا بالله الغالب في كنيسته. فقد انطلق موكب الفرح والتهليل بنقل تابوت العهد من بيت عوبيد أدوم إلى مدينة داود (2 صم 6: 12-15). انسحب قلب داود النبي وفكره وكل طاقاته ليرى الله الغالب، العامل في كنيسته عبر العصور، حتى يدخل بها إلى الموكب الأبدي، فقد عمل في الماضي، ويبقى عاملًا في الحاضر، وسيبقي هكذا في المستقبل حتى يهبها كمال نصرته على الظلمة وكل قوات العدو الشرير. رأى داود النبي وهو يحتفل بموكبٍ كنسيٍ شعبي قيادة الله "الملك" لشعبه خلال موسى وهرون، ليحرر شعبه من عبودية فرعون، ويجتاز بهم إلى البرية بكل متاعبها وتجاربها وحروبها، ويدخل بهم إلى أرض الراحة أو أرض الموعد. هذا عن الماضي، أما بالنسبة لعمل الله الخلاصي الذي ينعم به داود النبي، فقد رأى بعين النبوة السيد المسيح، كلمة الله المتجسد المصلوب القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات، يدخل بنا عبر الآلام والموت والدفن إلى قوة قيامته، وعربون المجد السماوي. فهو مزمور مسياني يكشف عن الخلاص الذي يُقدِّمه السيد المسيح لكل العالم. ويتنبأ أيضًا عن قبول الأمم للإيمان، وصعود السيد المسيح إلى سماء السماوات، وقيامته من الأموات، كما إلى امتيازات كنيسة العهد الجديد. اقتبس بولس الرسول عبارات من هذا المزمور، واعتبرها تحققت بالمسيح يسوع (أف 4: 8-13). أما بالنسبة للمستقبل، فبنظرة آخروية انقضائية رأى موكب النصرة الأخيرة، حيث يأتي الملك الديان في مجده على السحاب، يحتضن كنيسته، وينطلق بها إلى حضن أبيه، لتتمتع بكمال شركة المجد الأبدي، بينما ينهار العدو تمامًا، وتتحطم مملكته. كان لهذا المزمور التسبيحي المسياني الكنسي الاحتفالي الأخروي أثره في حياة الشعب قديمًا، فكانوا يرددونه في عيد الحصاد، وتذكار نزول الناموس على جبل سيناء. إنه مزمور عيديٌ احتفالي ليتورجي، يشير إلى عطايا السيد المسيح المُمجِّد لكنيسته. سماته 1. يبدأ بكلمات موسى النبي التي كان يرددها عند ارتحال تابوت العهد تحت السحابة: "قم يا رب، فلتتبدد أعداؤك، ويهرب مبغضوك من أمامك" (عد 10: 35). لعل رجال العهد القديم كانوا يرون في تحرك تابوت العهد قوة قيامة السيد المسيح. لا تزال تردد الكنيسة ذات الصلاة في أوشية الاجتماعات، وكأن سٌر بركة الشعب والاجتماعات هي قيامة السيد الغالب للظلمة والشر. 2. يقدم لنا صورة حيَّة عن الكنيسة المتهللة بالروح، لتمتعها بحلول مسيحها الغالب فيها، مسيح اليتامى والأرامل والمحتاجين والمقيدين والمحكوم عليهم بالدفن كما في القبور، ليقيم منهم مركبة الله النارية التي لا تعرف روح الفشل أو اليأس، بل روح القوة والسلطة. إنها كنيسة تسبيح، تبارك الله الذي يهبها سلطانًا، ويقيم منها رؤساء وجبابرة بأس روحيين. فيها يُسمَع صوت المخلص، صوت القوة والمجد والبركة والعزة. في اختصار يصور كمال جمال الكنيسة وقوتها بقوله: "عجيب هو الله في قديسيه" [35] 3. يرى البعض أن شرح هذا المزمور صعب، لأنه مشحون بالتعبيرات المجازية. 4. يمثل نبوة رائعة عن السيد المسيح. اقتبست الكنيسة القبطية عبارات منه في الهوس الكيهكي، وهو تسبحة يحوى عبارات مُقتبَسة من المزامير تتحدث مجيء السيد المسيح وعمله الخلاصي، كتهيئة لاستقبال عيد الميلاد، نترنم به في شهر كيهك. 5. لأول مرة يَستخدم سفر المزامير لقب الله "شاداي"، أي القدير أو ضابط الكل. الإطار العام 1. أقامنا معه 1. 2. يهبنا النصرة 2. 3. يهبنا فرحه السماوي 3. 4. يهبنا سكناه فينا 4-6. 5. يقودنا بنفسه 7-8. 6. يعمل بروحه القدوس فينا 9. 7. يهبنا الوصية الإلهية 10-11. 8. انهيار الأعداء وصعودنا معه 12-14. 9. يقيمنا جبالًا مقدسة 15-16. 10. يقيمنا مركبة إلهية 17. 11. مسبيون متهللون 18. 12. مسبيون ممجدون 19-23. 13. مسبحون عظماء 24-31. 14. دعوة كل الأمم للتمتع بالعطايا الإلهية 32-35. من وحي مز 68 العنوان "لإمام المغنين، لداود، مزمور، تسبحة". جاء في النسخة السريانية "نبوة عن تدبير المسيح، ودعوة الأمم للإيمان". إن كان داود الملك قد أقام رؤساء للمغنين؛ فإنه هو نفسه يُحسب "إمام المغنين"، أو رئيس فرق المُسبِّحين. إنه لقب يعتز به داود الملك أن يُحسب رئيسًا للمسبِّحين لله. وُجدت فرق للمسبِّحين في العهد القديم، لكن التسبيح لم يكن قاصرًا على هذه الفرق، فإنه يليق بالملك والكهنة واللاويين وكل الشعب أن يشتركوا في التسبيح لله. في أكثر من موضع يدعو داود النبي والملك كل الأرض وكل الأمم والشعوب أن تهتف لله وتسبحه! إنه مزمور تسبحة يكشف عن فرح الكنيسة بعريسها الغالب، الذي يرافقها كل الطريق، يتقدمها ويسكن فيها، ويرفعها إلى سماواته كنهاية الطريق. يحقق لها النصرة، حيث يدخل بها إلى عربون الحياة الأخروية وهي بعد في جهادها المستمر على الأرض. يظن البعض أن هذا المزمور من وحي روح الله لداود النبي والملك الذي لم يكن يسعى ليكون ملكًا. وحتى بعد أن مسحه صموئيل ملكًا في الخفاء لم يطالب باستلام العرش. لكن بقدر ما كانت قوات الظلمة تعمل بكل قوة لتستبعده عن الحكم، كان الله الذي عينه ملكًا يحول الضيقات والمقاومة المستمرة إلى دفعات قوية لا لاستلام العرش على يهوذا أو إسرائيل، إنما ليرى الله نفسه يتقدمه ليملك على قلوب البشر. يرى المرتل نفسه كحمامة وُهب لها جناحا حمامة مغشاة بكلمة الله الفضة النقية، وريشها بصفرة الذهب، أي بالسِمة السماوية. ما كان يشغل قلب داود لا أن تستقر مملكته، بل أن يملك الله ويسكن في وسط شعبه الذي يصير أشبه بمركبات سماوية، تشارك السمائيين تسابيحهم. كان داود النبي يرى ابن الله المتجسد، ابن داود، صاعدًا إلى السماء، حاملًا الذين فداهم بدمه كغنائم تستريح في حضن الآب، تتمتع بشركة المجد الأبدي. 1. أقامنا معه يَقُومُ اللهُ. يَتَبَدَّدُ أَعْدَاؤُه،ُ وَيَهْرُبُ مُبْغِضُوهُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِهِ [1]. تعتبر هذه التسبحة خاصة بقيامة السيد المسيح، الذي يهبنا أن نقوم معه ونحمل نصرته على إبليس وكل قوات الظلمة، ويقدم لنا الغلبة على آخر عدو وهو الموت. اقتبس المرتل هذه العبارة عن موسى النبي كما جاء في سفر العدد: "وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول: "قم يا رب فليتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك" (عد 10: 35).اعتاد اليهود أن يرتلوا بهذه العبارة، كلما نقل الكهنة تابوت العهد ليتحركوا به. فهو يرمز لحضرة الله، أو لإشراق السيد المسيح، شمس البرّ، على الجالسين في الظلمة. كما تتبدد ظلال الليل وظلمته أمام أشعة الشمس، هكذا يتبدد الشر، وتُزال الظلمة أمام شمس البرّ. يرى القديس أغسطينوس أن الأعداء هنا هم جاحدو المسيح، الذين لن يقووا على مقاومته، ولا يحتملون الظهور أمامه في يوم الرب العظيم، حيث يقولون للجبال أن تسقط عليهم، وللآكام أن تغطيهم من وجه الجالس على العرش. أما المؤمنون الحقيقيون فيتمتعون بحضوره في وسطهم كمصدر سعادتهم وفرحهم وحمايتهم. يليق بنا قبل كل تحرك أن نطلب من الله أن يخرج أمامنا، فنختفي نحن وراءه وفيه، فإننا لسنا نحن طرفًا في المعركة، وإنما طرفاها هما الله وإبليس. ليس لنا أعداء شخصيون، فلا نطلب نقمة من أحدٍ، إنما نطلب تدخُّل الله نفسه، وقيادته للمعركة ضد عدو الخير. *قال داود هذا عندما رفع تابوت العهد... ليأتي به إلى المحل الذي هيأه له. وكان هو وخلفاؤه عندما يرفعونه، عندما ينقلونه من مكانٍ إلى مكانٍ، كانوا يقولون: "قم يا رب، وليتبدد أعداؤك"، كما جاء في الأصحاح العاشر من سفر العدد. كلمة "قم" هي دعوة بأن يسرع الله إلى مجازاة الأعداء، أعني بهم الكفار والأبالسة. الأب أنثيموس الأورشليمي * يمكن تفسير هذا المزمور تفسيرًا خاصًا وعامًا. التفسير الخاص أنه يشير إلى الرب ذاته، كيف قام من بين الأموات وبدٌَد كل أعدائه، أعني الشيطان وجيشه أو اليهود. والتفسير العام، أنه ينطبق علينا حينما نصرخ في ضيقاتنا وضعفاتنا: "استيقظ يا رب، لماذا تنام؟ أعنا" (مز 44: 23، 26). تمامًا كما أيقظ التلاميذ الرب في السفينة، صارخين: "يا رب نجنا، إننا نهلك" (مت 8: 25). القديس جيروم كأننا في وسط الضيقة نصرخ، فنرى مسيحنا القائم من الأموات يعلن عن بهاء مجد قيامته في داخلنا، بينما لا يحتمل الأشرار حضرته، فيهربون من أمام وجهه. فتتحول ضيقتنا إلى خبرة لقاء مع المسيح المُقام، وإلى غلبة ضد الشر وتحطيم له. الآن كيف يبدد الله عدوه في كل الأجيال؟ إنه لا يحتاج إلى حرب مادية، وإلى إعداد فرق عسكرية، وإنما بحضرته لا يقوى العدو على البقاء، بل يهرب ويتبدد. 2. يهبنا النصرة كَمَا يُذْرَى الدُّخَانُ تُذْرِيهِمْ. كَمَا يَذُوبُ الشَّمْعُ قُدَّامَ النَّار يَبِيدُ الأَشْرَارُ قُدَّامَ اللهِ [2]. يستخدم المرتل رمزين للأعداء المقاومين للحق، الدخان في مواجهة الريح، والشمع في مواجهة النار. فإن كان الأشرار يظنون أنهم قادرون على الدخول في معركة ضد السماء والأرض، فإنهم إذ يحاربون السمائيين يكونون كالدخان الذي يذريه الريح، وإذ يقاومون الكنيسة على الأرض يكونون كالشمع قدام النار. يظن الأشرار أن نار حسدهم وغيظهم وبغضتهم لله ولأتقيائه قادرة أن تُحطِّم اسمه القدوس، وأن تُهلك خائفيه. ولم يدركوا أن هذه النيران لا تصيب الله ولا قديسيه، إنما تهلكهم هم أنفسهم وتجعلهم دخانًا أو رمادًا فتذريهم. لا يدرك الأشرار أنهم في حقيقتهم كالشمع الذي يذوب قدام نار شرورهم فيُبادون! *الأعداء والمبغضون هم الشياطين. إنهم أعداء لأنهم يعادون الله وخلائقه، ومبغضون لأنهم يبغضون الخير... الشياطين مثل دخان، لأنهم مثل تِبْنٍ تحرقه النار، ولسرعة زوالهم شبههم النبي بالدخان والشمع... شبَّه الأشرار بالشمع المُذاب، وأيضًا بالدخان لأنه جاء في أمثال الحكماء: كما أن الحصرم مُضِرٌّ للإنسان والدخان للأعين، كذلك الشر يضر ويعطل أسنان النفس؛ أعني قواها التي بها تصنع المعاني وتذوقها وتطحنها، كما يضر أعينها أيضًا أي بصيرتها وعقلها. الأب أنثيموس الأورشليمي يهِّبُ الله علينا كريحٍ عاصفٍ يبدد الأشرار كالدخان، بينما يُفَرِّح قلوب الصديقين ويهبهم تهليلًا، ويمتعهم بنعيم السرور وبعربون ملكوت النعيم. يُشَبَّه الأشرار بالدخان لأنهم يفسدون البصيرة الروحية بسبب هرطقاتهم أو فساد معتقداتهم، أو بث روح الفساد والشر. إنهم يعملون على نزع الاستنارة من القلب بالأفكار الخاطئة أو بالإغراءات المفسدة. عمل الروح القدس الذي حل في يوم الخمسين على التلاميذ وهم مجتمعين في العُلية حيث صار ريحًا عاصفًا هو نزع هذا الدخان، ورد للقلب بصيرته الداخلية، ليرى ملكوت الفرح في داخله. هكذا يخشى الأشرار الالتقاء بالله كريح عاصف بينما يفرح المؤمنون ويتهللون به، إذ يرون يوم الخمسين أو عطية الروح التي نالوها في سرّى العماد والمسحة المقدسة (الميرون) عاملة فيهم لإدانتهم. * ليفرحوا أنهم يتعبون ويبتهجون أمام الله، فإنهم لا يبتهجون هكذا كمن هم أمام الناس بافتخار فارغ، بل أمام ذاك الذي لا يخطئ النظر فيما يهبهم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). "ويطفرون فرحًا"، فلا يعودوا يبتهجون في رعبٍ، كما يحدث في هذا العالم، مادامت الحياة البشرية هي تجربة على الأرض (راجع أي 7: 1 LXX). القديس أغسطينوس * يتبدد الدخان في الهواء فلا يترك أثرًا لوجوده، ولا يمكن للشمع أن يوجد بعد انصهاره. الأخير يُغَذِّي اللهب بمادته، فينصهر ويتبدد في الهواء. كما يصير الدخان كلا شيء تمامًا، هكذا إذ يأتي ملكوت الله تتبدد كل الأشياء التي تسلطت علينا، فتنقشع الظلمة أمام النور، ويمضي المرض حينما تحل الصحة، وتتوقف الشهوات عن الإزعاج حينما يظهر اللاهوى apathia (غياب الأهواء الخليعة)، ويزول الموت ولا يوجد بعد الفساد، إذ تسود الحياة وعدم الفساد فينا بلا مناهض. القديس غريغوريوس النيسي يرتجف الأشرار من الحضرة الإلهية، لأنهم كالشمع لا يحتملون الله، النار الآكلة، فيذوبون ويهلكون. أما نحن فنرى في النار الآكلة سٌر تهليلنا، إذ حل على الكنيسة بروحه القدوس على شكل ألسنة نارية، وتحّول المؤمنون إلى "خدام الله لهيب نار لا ينطفئ"! يحملون القلب الناري الذي لا تستطيع مياه العالم كله أن تطفئه! حضرة الله وعمل روحه القدوس يسكب فرحًا على الصديقين، ويملؤهم تهليلًا، ويدخل بهم إلى التنعم بالسرور. بمعنى آخر يختبرون الفرح والتهليل (التسبيح) والنعيم. موكب النصرة الإلهي هو موكب الكنيسة المملوءة فرحًا، المُسبِّحة لله، والمختبرة لعربون ملكوت النعيم الأبدي! بالفرح والتسبيح وتذوُّق نعيم السماويات ننعم بالغلبة على قوات الظلمة أو بنصرة المسيح رأسنا! لقاء الله يحول حياة الأشرار إلى فزع ونوح وعويل مستمر، وحياة الصديقين إلى بهجة روحية وتسبيح دائم وشركة مع السمائيين. 3. يهبنا فرحه السماوي وَالصدِّيقُونَ يَفْرَحُونَ. يَبْتَهِجُونَ أَمَامَ اللهِ، وَيَطْفِرُونَ فَرَحًا [3]. أي فرح أعظم مما يتمتع به المؤمنون في يوم الرب العظيم حيث يلتقون مع الرب وجهًا لوجه. ويلمسون حبه الإلهي العملي في أروع صورة. يدخلون كموكب متهلل مع العريس السماوي، تستقبلهم الطغمات السمائية وتتهلل معهم في دهشة، كيف صار للترابيين هذا المركز الأبدي الفائق، أن يستقروا في حضن الآب، ينعمون بشركة الأمجاد الأبدية. * يقول النبي عن الأشرار إنهم يهلكون ولا يُمحَى وجودهم... إنهم لا يرون وجه الله. أما الصديقون فيفرحون ويتهللون أمام الله، وذلك لمعاينتهم جلاله ومجده، لأن الروح الذي فيهم هو ثمرة المحبة والسلام. الأب أنثيموس الأورشليمي * يليق بنا أن نفرح فقط مع الذين نراهم يمارسون عملًا يستحق أن يُكتَب في السماء، سواء كان عمل برٍّ، أو محبةٍ أو سلامٍ أو رحمةٍ... بالمثل إن رأينا أناسًا يتحولون عن الخطأ، ويتركون ظلمة الجهل وراءهم ويأتون إلى نور الحق وغفران الخطايا يلزمنا أن نفرح معهم[55]. العلامة أوريجينوس * لا يستحق الأشرار معاينة الله، "الصديقون يفرحون"، هؤلاء الذين يحفظون براءتهم بلا رذائل يبتهجون بالرب. * "يفرحون ويتهللون أمام الله"... إنها علامة الثقة العظيمة أن يفرح (الإنسان) بالرب. فالوكيل (لو 16: 1-3) الذي يُدَبِّر أموال (موكله) حسنًا يلتقي بالرب بسرور. القديس جيروم يُترجَم هذا الفرح بالتسبيح على قيثارة الروح، وكما يقول القديس جيروم: [يتحقق التسبيح لله بالعمل الصالح، فمثلًا تمارس حاسة السمع خدمتها وهكذا الفم والعينان واليدان وكل أعضاء الجسم تتناغم معًا، وتعزف على أوتار القيثارة في وقار.] إذ تختبر الكنيسة حضرة الرب وسط آلامها، وتحسب نفسها مغبوطة أن تشارك مخلصها آلامه، لتدخل معه إلى خبرة بهجة قيامته، وتتمتع بقوة نصرته، تتحول حياتها إلى تسبيح مستمر، بل ويصير عملها الأساسي دعوة أبنائها لحياة التسبيح كحياة شركة مع العريس الإلهي: * يُسبِّح لله من يعيش لله، يرتل (يزمر) لاسمه من يعمل لمجده. القديس أغسطينوس إذ أدرك المرتل سلاح التسبيح وفاعليته، قال: "سبحوا لله، رتلوا لاسمه". نقدِّم التسبيح لا كعملٍ حماسي، ولا كاستعراض أمام الآخرين، وإنما كحياة داخلية تمس علاقتنا الشخصية بالله، واختبارنا لقوة اسمه. 4. يهبنا سكناه فينا غَنُّوا لله. رَنِّمُوا لاِسْمِهِ. أَعِدُّوا طَرِيقًا لِلرَّاكِبِ فِي الْقِفَارِ بِاسْمِهِ يَاهْ، وَاهْتِفُوا أَمَامَهُ [4]. طأطأ كلمةُ الله السماءَ ونزل إلينا، ليعلن اسمه "ياه" أي الكائن أو الساكن في وسط شعبه. كائن معهم بكونه الطريق الذي يدخل بهم إلى الأمجاد الفائقة. فيه نسير وإليه نذهب، وعنده نستقر ونستريح أبديًا. سكناه فينا يحول حياتنا إلى سيمفونية فرح وهتاف لا ينقطع. جاءت كلمة "القفار" في بعض الترجمات "المغارب". يشير الغرب إلى مسكن عدو الخير حيث لا يشرق فيه شمس البرّ. وجاء في سفر الأمثال: "سراج الأشرار ينطفئ" (أم 13: 9). وأيضًا كان اليهود يحسبون القفار مسكن إبليس، حيث الخراب والدمار. وكأن الله يتجه بمركبته لمقاومة إبليس وتحطيمه، من أجل خلاص المؤمنين. أيضًا إذ يتجه إلى المغارب، إنما يتجه إلى الأمم التي عاشت زمانًا طويلًا في الظلمة، فيشرق عليهم بنوره، ويصيرهم أبناء النور، يسبحونه ويبتهجون به. في القديم إذ كان الملك ينتصر، يقوم رجال الدولة بإعداد الطريق له حتى يدخل العاصمة، فمن جانبٍ يقدِّمون له الكرامة اللائقة بملكٍ منتصر؛ ومن جانب آخر يضعون في حسبانهم أية أمور طارئة في الطريق. كان لتحرُّك تابوت العهد ونقله استعدادات خاصة به. هنا يشير إلى السيد المسيح، "ياه"، أو "يهوه"؛ فإنه جاء العالم كمن يركب في القفار، إذ فقد العالم ثمار الفضيلة، وصار كمن في قحطٍ شديد، أو قفر. لقد أعَدَّ الآباء والناموس والأنبياء خاصة القديس يوحنا المعمدان الطريق لكي يتعرَّف العالم على شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي (إش 40: 3؛ مل 3: 1؛ مت 3: 3). من بين الإعدادات التي قُدِّمت له، التسبيح والهتاف له بروح الفرح والبهجة. * من يطأ العالميات ويُقرِّب لله تمجيدات لائقة من قلبٍ ناصع يُقال عنه يسبِّح الله، ويرتل لاسمه بكافة الحواس الجسدية وحركاتها. قوله عن الله إنه راكب يدل على أنه كائن بقدرته في تابوت العهد كمثل ملك راكب مركبته، وذاهب إلى أعدائه لمحاربتهم. الأب أنثيموس الأورشليمي يرى القديس أغسطينوس أن التسبيح لله لا يكون بالكلمات المجردة، وإنما يسبِّح له بحياته المتناغمة مع إرادة الله. كما يرى أنه يليق بالمؤمنين أن يعدُّوا طريق الرب في القفار، أي بين الأمم، لكي يأتي ويملك عليها. إنهم سيحتملون متاعب وآلام كثيرة، لكنهم يسبِّحون الله ويبتهجون أمام الله. تسبيحنا الروحي النابع من أعماق القلب، والمترجم بالفكر المقدس والسلوك الروحي، يهيئ طريقًا للرب كي يحوِّل أهل المغارب إلى مركبة إلهية. يرى العلامة أوريجينوس أن اليهود إذ عرفوا الله في فجر حياتهم حُسبوا "المشارق"، أما الأمم فعَرَفوه في ملء الأزمنة، لذا دُعوا "المغارب". كأن المرتل يدعو الله هنا "الراكب على المغارب" بمعنى الجالس على قلوب الأمم كعرشٍ له. يقول القديس جيروم: [إن لم تغرب شمس الدنس عنا، لا تشرق شمس البرّ والشفاء في أجنحتها (ملا 4: 2).] ويقول الأب أنثيموس الأورشليمي: [يركب على المغارب، أي على الخطاة التائبين الذين يبتعدون عن الشيطان الذي يتشبه بملاك نور (كأنه يشرق عليهم)، لذلك قيل إن نور المنافقين ينطفئ كما جاء في الأصحاح الثالث عشر من سفر الأمثال. بابتعادهم عنه وتركهم أعماله يقبلون نير المسيح الحلو وحمله الخفيف. هؤلاء هم المغارب الذين يركبهم المسيح. ويقول القديس كيرلس إنهم يُدعون بالمغارب، لأنهم ابتعدوا عن فردوس النعيم في المشارق، وصاروا في الظلمة، لكنهم إذ تابوا عن أعمال الظلمة، صاروا مركبة الله، وصار طريقهم هو العودة إلى الفردوس، كما قال ربنا للص التائب: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43). ويقول (القديس) أثناسيوس ويوسابيوس إن ركوب الله على المغارب هو تجسده وإخفاء نور لاهوته وقبوله صورة العبد, باختصار ركوبه المغارب يعني: أ. قبول الأمم الإيمان به في زمن متأخر. ب. قبول الخطاة شمس البرّ بعد رفضهم الشيطان الذي يظهر كنورٍ بكوته مخادعًا، كشمس مشرقة لكنها تنطفئ. ج. تجسد كلمة الله وتأنسه، إذ أخفى لاهوته، وشابهنا في كل شيء ما عدا الخطية. * بتسبيحكم وترتيلكم هكذا، أي بحياتكم وعملكم هكذا (في الرب) يقول: "اصنعوا طريقًا للصاعد على الجالسين". تصنعون طريقًا للمسيح، فإنه بواسطة الأرجل الجميلة للمبشرين بالخيرات، ينفتح له طريق بقلوب المؤمنين. القديس أغسطينوس الآن من هو هذا الذي نسبِّحه ونرتل له، فنفتح له بحياتنا وشهادتنا وقلوبنا طريقًا؟ قائد المتألمين والمطرودين والمنكسرين وسندهم. إنه يود أن يُبهِجَ كل البشرية المشارق والمغارب، كل الأمم والألسنة والشعوب، وبوجه خاص الأيتام والأرامل والمحتاجين والمقيدين. أَبُو الْيَتَامَى وَقَاضِي الأَرَامِلِ، اللهُ فِي مَسْكَنِ قُدْسِهِ [5]. يُدعَى الله أب الأيتام وقاضي الأرامل، لأنه مهما بلغ اهتمام البشرية بهم، تعجز عن أن تُشبِع احتياجاتهم وتحميهم من الضيقات والمتاعب. الله وحده قادر أن يحقق هذه الأمور، مباشرة أو خلال البشرية أو الطبيعة. إن كان المؤمن يهتف بصيحات النصرة ضد قوات الظلمة، فإنه يتهلل بالساكن فيه، بكونه أب اليتامى وقاضي الأرامل. فقد عانى الإنسان من حالة يُتم، إذ عزل نفسه عن أبيه السماوي، وصار يتيمًا تبناه إبليس ابنًا له، وصار في حالة ترمل حيث فقد اتحاده مع السماوي، كما تفقد العروس عريسها. حلوله في وسطنا ينزع عنا حالة اليُتم والترمل، لننعم بروح التبني لله، والاتحاد مع العريس السماوي. في اختصار صار المؤمن هيكلًا مقدسًا، أي مسكنًا لله، ابنًا له، وعروس سماوية. * يرتجف أعداؤه، أي غير المؤمنين به من حضور ربنا، وأيضًا ترتجف الشياطين إذ قالت: "ما لنا ولك يا يسوع ابن الله، أتيت لتعذبنا قبل الزمان". بقوله: "أب اليتامى وقاضي الأرامل" يخبر بزيادة عناية الله، كما يجب الاعتناء بالأكثر باليتامى والأرامل. الأب أنثيموس الأورشليمي * إذ سبق النبي فقال "يقوم الله"، ثم قال "مهدوا الطريق للراكب على المغارب"، فلئلا يظن السامعون أن في الله انتقالًا مكانًا اتبع قوله: "الله في موضع قدسه" هذا يتفق مع ما قاله ربنا له المجد في بشارة يوحنا الإنجيلي: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 3: 13). يعني بهذا الكلام أن الله لا يحصره مكان، ولا ينتقل إلى مكانٍ، لكنه لم يزل مستقرًا في قدسه، ولو أنه نزل إلى الأرض بالجسد إلا أنه لم ينفصل عن الآب والروح القدس... أيضًا يُقال إن السماء موضع قدسه، كما جاء في نبوة ميخا النبي: "هوذا الرب يخرج من مكانه وينزل ويمشي على شوامخ الأرض، فتذوب الجبال تحته، وتنشق الوديان كالشمع قدام النار" (مي 1: 3-4). وأيضًا مكان قدسه أورشليم لوجود الهيكل قديمًا لشريعته العتيقة. وأخيرًا حلول ربنا بالجسد وآلامه وسائر أعمال تدبيره للخلاص. وأيضًا مكان قدسه هو الجسد الحي الناطق الذي اتخذه من البتول واتحد مع اللاهوت وجعله هيكلًا للاهوته. أيضًا كنيسة المسيحيين هي مكان الله لوجوده فيها بجسده ونعمته وقدرته، كما وعد: "سأسكن فيهم وأتردد فيما بينهم". وكل من المؤمنين إذا طهر ذاته من الأدناس العقلية يكون مسكنًا لله. يقول القديس أثناسيوس: إن قول النبي "الله في موضع قدسه" معناه أنه وإن نزل إلى الأرض متجسدًا وانحدر إلى أعماق الجحيم ليخلِّص المعتقلين، لكنه عاد صاعدًا إلى السماء، وهو المكان الذي يُعرف أنه فيه من كافة الأمم، إذ الناس جميعهم عند تضرعهم يرفعون أياديهم إلى السماء. الأب أنثيموس الأورشليمي * قيل إنه كشف عن لمحة من لاهوته. لقد أعلن لهم أنه هو الله الذي يسكن في وسطهم[56]. القديس يوحنا الذهبي الفم * الآن فإنني أقدم هذه (الرسالة) لتكون الشهادة الأولى والعظمى عن عناية الله بك،ِ حتى لا يبتلعك الحزن، ولا تهدمك أفكارك الطبيعية، عندما تعمل هذه المضايقات فجأة على غمك. فإنكِ لستِ محتاجة إلى يدٍ بشريةٍ، بل يد القدير التي لا حد لفهمها. وإلى الحكمة التي اكتشفت "أبو الرأفة وإله كل تعزية" (2 كو 3:1)، فقد قيل: "هو افترس فيشفينا" (هو 2:6)، " سيضربنا ويعصب جراحاتنا ويشفينا". لقد كنتِ تتمتعين بالكرامة بوجود زوجكِ الطوباوي معك، كما كنت موضع عنايته وغيرته. حقًا لقد تمتعتِ بما كنتِ تتوقعينه من زوج. أما الآن وقد أخذ الله زوجكِ لنفسه، فإنه يحتل مكانه بالنسبة لك. هذا لا أقوله من عندي، بل يقول النبي الطوباوي: "يعضد اليتيم والأرملة" (مز 9:146). وفي موضع آخر يقول: "أبو اليتامى وقاضي الأرامل" (مز 5:68). وهكذا نجد الله يهتم بهذه الفئة من البشرية بغيرة كما عبَّر عن ذلك بعبارات كثيرة[57]. القديس يوحنا الذهبي الفم * يمكنني أن أُذكِّركم بأمور كثيرة الآن بطرق مُغايرة، لكن على أي الأحوال أُقدِّم لكم شهادة أخرى حتى تتأكدوا أن الله يُدعى "أبًا للبشر" في معنى غير مناسب (أي ليس بالطبيعة). هكذا خوطب الله في إشعياء: "فإنك أنت أبونا، وإن لم يعرفنا إبراهيم" و"سارة لم تتمخض بنا" (إش 63: 6). وإن كان المرتل يقول "ليضطربوا من هيئته، أب لليتامى (للذين بلا أب) قاضي الأرامل" (مز 68: 5 LXX)، أليس من الواضح للجميع أنه يدعو الله أبًا للذين فقدوا آباءهم متأخرًا، ليس لأنه ولدَهم، بل من أجل اهتمامه بهم وحمايته لهم؟! ولكن بينما نحن ندعو الله أبًا للبشر في معنى غير مناسب، فهو أب المسيح وحده بالطبيعة لا بالتبني. فبالنسبة للبشر هو أب في زمان، أما بالنسبة للمسيح أب قبل كل زمان، إذ يقول: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك، بالمجد الذي كان لي عندك قبل كوْن العالم" (يو 17: 5)[58]. القديس كيرلس الأورشليمي * إنكم تهاجمون حتى اليتيم، أي تهاجمونني أنا، حيث قد حُرمت من كل عونٍ بشري. ولما كان الله هو أب الأيتام (مز 68: 5)، فإنكم تجعلونه يغضب عندما تقاومونني. تريدون أن تطأوا صديقكم تحت الأقدام وذلك بكلماتكم. تطأون عليه بأكثر عنف مما لو كان ذلك تحت أقدامكم، وتستخفون بشرائع الصداقة. لكن الله يصنع هذه الأخطاء في الحسبان، هذا الذي ليس فقط يأمرنا بحب قريبنا كأنفسنا، بل يريدنا أن ندعوه "الحب"[59]. هيسيخيوس الأورشليمي يدعو نفسه أبًا لليتامى وقاضيًا للأرامل، حينما نقبل بإرادتنا التيتم بموت أبينا القديم إبليس (يو 8: 44) وأعماله الشريرة، ونتحد مع مسيحنا المقاوم له نقبل الله الآب أبًا لنا، يعتني بنا، ويدخل بنا إلى سماواته كبيت أبينا، وتصير لنا دالة للدخول حتى إلى عرش الله بكونه عرش أبينا. وحينما نرفض الاتحاد بإبليس تصير نفوسنا مترملة بالنسبة له، فتتهيأ لعريسها السماوي الذي يضمنا إلى حجاله، ونصير موضع اهتمام ورضا الآب بكونه "قاضيًا للأرامل". * يلد الشيطان الإنسان الذي يخضع له كمولود سوء، ويكون أباه، ويصير بمنزلة زوج لنفسه. لكنه إذا تاب ذلك الإنسان عن السوء، يصير يتيمًا وأرملًا، ويكون الله أباه وزوجًا لنفسه. الأب أنثيموس الأورشليمي * إذا أردتم زيارة أحد، فالأفضل أن تعطوا الكرامة للأيتام والأرامل والمعوزين أكثر من الأغنياء ذوي الشهرة والصيت. فقد قال الله نفسه إنه "أبو اليتامى وقاضي الأرامل: [6]، وأيضًا "اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة، وهلم نتحاجج يقول الرب" (إش 1: 17، 18). * الأرملة الحقيقية هي التي تصبح عروسًا للمسيح في ترملها[60]. القديس يوحنا الذهبي الفم ربما يتساءل البعض: ما هو الارتباط بين دعوة الله أب اليتامى وقاضي الأرامل، وبين الإعلان عنه أنه يسكن في موضعه المقدس؟ * مِنْ هؤلاء اليتامى والأرامل، أي الأشخاص المحرومون من شركائهم في رجاء هذا العالم، يبني الله نفسه هيكلًا، إذ يكمل (المرتل) قوله: "الله في مسكن قدسه" (مز 68: 5). القديس أغسطينوس اَللهُ مُسْكِنُ الْمُتَوَحِّدِينَ فِي بَيْتٍ. مُخْرِجُ الأَسْرَى إِلَى فَلاَحٍ. إِنَّمَا الْمُتَمَرِّدُونَ يَسْكُنُونَ الرَّمْضَاءَ [6]. جاء في تفسير القديس أغسطينوس، "الله مُسكن الذين بمزاجٍ واحدٍ في بيت". وكأن ما يراه القديس هنا أن المرتل يتحدث لا عن متوحدين في عزلة عن البشر، وإنما عن وحدة في الفكر أو المزاج أو الطبع، يجمعهم الله ويسكن في وسطهم، ويقيم منهم هيكلًا له بسبب روح الوحدة. وكأنه ليس من هيكل يقدسه الله، مثل الوحدة بين المؤمنين. * إذ نكون بمزاجٍ واحدٍ نسكن في بيت، نتأهل أنه هو أيضًا يتنازل ويسكن بيننا... هذا هو مسكن الرب المقدس، الأمر الذي يطلبه أغلب الناس، الموضع الذي تُسمع فيه الصلاة... فالرب لا يسكن في أي موضع أيًا كان، وإنما في موضعٍ يكون بالأكثر خاصًا ومكرمًا. هكذا لا يسكن الله في كل البشر الذين في بيته (إذ هو لا يسكن في أواني الهوان)، إنما مسكنه المقدس هم أولئك الذين لهم مزاج واحد، أو لهم سلوك واحد في بيتٍ. * لكي يبرهن أنه بنعمته يبني لنفسه هذا الموضع، وليس من أجل استحقاقات مُسبقة لهؤلاء الأشخاص الذين يقيم منهم مسكنًا له، انظروا ما يلي ذلك: "الذي يقود المقيدين (الأسرى) في قوة". فإنه يحل قيود الخطية الثقيلة، التي كانوا مقيدين بها، فلم يكونوا قادرين على المشي في طريق الوصايا؛ لكنه يقودهم في قوةٍ لم تكن لديهم قبل نوالهم نعمته. * تقود نعمة المسيح في قوةٍ. بأي قوة سوى تلك التي بها يجاهدون ضد الخطية حتى الدم؟ فإنه خرج من كل نوع أشخاص متأهلون أن يصيروا مسكنه المقدس، هؤلاء الذين إذ حُلوا (من القيود) قاموا إلى الحياة. فإنه حتى المرأة التي ربطها الشيطان 18 سنة حلّ (المسيح) قيودها بأمره (لو 13: 16). وغُلب موت لعازر بصوته (يو 11: 45). ذاك الذي فعل هذا في الأجساد، قادر بالأكثر أن يفعل أمورًا عجيبة في الشخصيات، ويجعل البشر الذين من مزاجٍ واحدٍ يسكنون في بيت "يقود الأسرى في قوة، مثل أناسٍ منزعجين يسكنون القبور". * يبني الرب له هيكلًا من الأيتام والأرامل، أي من الأشخاص المحرومين من الشركة في رجاء هذا العالم، لذا يُكَمِّل حديثه: "الله في موضع قدسه"... أناس لهم فكر واحد، ورأي واحد، هذا هو موضع قدس الرب. القديس أغسطينوس * هل تظن أنه يمكنك أن تثبت وتحيا إن كنت ترتدّ عن الكنيسة، مُشيِّدًا لنفسك بيوتًا أخرى، ومسكنًا مختلفًا، بينما قيل لراحاب التي سبق وأخذت صورة الكنيسة: "ويكون أن كل من يخرج من أبواب بيتك إلى خارج، فدمه على رأسه" (يش ٢: ١٩). وأيضًا نجد أن سرّ خروف الفصح لا يحوي شيئًا آخر في سفر الخروج مثلما أن الحمل الذي يُذبح يجب أن يؤكل في بيتٍ واحدٍ، وهو يمثل الكنيسة. فيقول الكتاب: "في بيت واحد يؤكل. لا يخرج اللحم من البيت إلى خارج" (خر ١٢: ٤٦). إن جسد المسيح ومقدَّسات الرب لا يمكن أن تخرج إلى خارج، ولا يمكن أن يكون هناك بيت آخر للمؤمنين إلاَّ الكنيسة الواحدة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ويشير الروح القدس إلى هذا البيت، وإلى العائلة المتحدة، ويعنيها، عندما يقول في المزمور: "الله مُسكِّن المتوحدين في بيت" (مز ٦8: ٦). ففي بيت الله في كنيسة المسيح، يسكن المؤمنون بنفسٍ واحدة، ويستمرون كذلك في وئام وبساطة[61]. * في بيت الله، في كنيسة المسيح، يسكن البشر بفكرٍ واحدٍ، ويستمرون في انسجامٍ وبساطةٍ. * إنهم يواظبون معًا في الصلاة، معلنين بإلحاح وباتفاق صلواتهم أن الله يُسكن من هم بفكرٍ واحدٍ في بيت، يُدخل فقط الذين لهم اتفاق في صلواتهم إلى البيت الإلهي. * أوصانا الله أن نكون صانعي سلام وفي وحدة وبفكرٍ واحدٍ في بيته... ويريدنا إذا وُلدنا ثانية أن نستمر هكذا. إذ صرنا أولاد الله نظل في سلام الله، وإذ صار لنا الروح الواحد يكون لنا أيضًا القلب الواحد والفكر الواحد. الله لا يقبل ذبيحة المخاصم، بل يوصيه أن يترك المذبح ويتصالح أولًا مع أخيه، حيث يُسر الله بصلوات صانع السلام. الشهيد كبريانوس إذ يدخل الله إلى قلوب شعبه المنكسرة يعلن مملكته، أو سكناه في وسطهم، ويجعل منهم بيتًا واحدًا متناغمًا ومنسجمًا، لهم "شكل واحد" هو "شكل ابن الله" أو التشبه به، مع تنوع مواهبهم وقدراتهم. يؤكد القديس إكليمنضس السكندري أن غاية المخلص في تعليمه والبشر وتدريبهم وتهذيبهم أن يصيروا على شاكلته. * "الله في موضع قدسه". يسكن الله دائمًا بين قديسيه، وحيث توجد القداسة يكون موضع قدس الله. "يُسكِن الله البشر ذوى الطريق الواحد"، هؤلاء الذين يختارون طريقًا واحدًا للحياة، ويتمسكون به. حقًا إن الإنسان البار مثابر، فإنه يقرر مرة يحيا حياة فاضلة، أما الخاطئ فعلى النقيض، إذ هو متقلب: "الشرير متقلب كالقمر" (ابن سيراخ 27: 11). وفي النص العبري: "الله مَّسكن المتوحدين في بيت"، حيث لا تجد الخطية لها موضعًا وسط المتوحدين". القديس جيروم * لأن الرب يُسكن البشر بفكر واحد في بيت. من ثم يمكن للحب وحده أن يدوم دون انزعاج وسط من لهم هدف واحد وفكر واحد، يريدون ويرفضون معًا نفس الأمور. الأب يوسف أ. يرى البعض أن المتوحدين هنا يُقصد بهم المهجورون، مثل المرأة المُطَلقة أو الأرملة، وليس لها موضع للسكن. فإن الله بحبه يهتم بالفئات العاجزة عن وجود مسكن مستقر. ب. يرى البعض أن المتوحدين هنا أولئك الذين يعانون من حدة الانفعال، فلا يجدون من يقبل السُكنَى معهم. فإن الله يترفق بهم، ويُعِد لهم مسكنًا حتى تستقر نفوسهم. ج. ربما يقصد بالمتوحدين أولئك الذين يعتزلون المجتمع، وينفردون. د. ربما يعني الذين سقطوا تحت أسرٍ، وحُرموا من بلدهم وبيتهم، فيشعرون بالعزلة القاتلة. ه. الشعب الذي عاش في مصر أثناء نظام السخرية وقد حُرِموا من أصدقاء لهم، أو الذين ساروا في البرية وقد عجزوا عن التمتع بالحياة الاجتماعية في صداقات... فإنهم يستقرون هم أو أولادهم في أرض الموعد، ويكوِّنون صداقات فيما بينهم. و. يرى البعض في هذه العبارة الكشف عن دور الله في اختيار الزوج أو الزوجة، فهو مهتم بإقامة الأسرة المقدسة متى سلَّم الإنسان حياته في يد الرب. "مُخْرِجُ الأسرى إلى فَلاَحٍ". خلق الله الإنسان ليتمتع بالحرية، فإن كان يسمح لبعض أولاده بالسقوط تحت الأسر، أو بالسجن، لكنه هو الذي يُطْلِقُ الأسرى ويُعْتِقهم من السجن، كما فعل مع يوسف. أو كما فعل بالشعب كله حين أطلقه من عبودية فرعون. "إنما المتمردون يسكنون الرمضاء (الأرض الجافة)": من يتمرد على الله، يَحرِم نفسه من عطية مياه الروح القدس؛ وتجف أعماقه لتصير قفرًا بلا ثمر، لا يجد تعزية داخلية، ولا قوت يُشبِع نفسه، أو ماءً يرويها. يتنازل الله ويجعل من شعبه مسكنًا له، فيقيم في وسطهم، وبحبه يقيم لهم بيتًا هو ملكوته، لكي يسكنوا فيه. إنه حب متبادل فائق! يشتهي الله السكنى وسط شعبه، ويهبهم الفرصة ليشتهوا السكنى في ملكوته. يتحدث هنا عن المتوحدين بكونهم يتركون كل شيء من أجل الله، وبروح الحب يعيشون في بيت واحد، هو الكنيسة. والأسرى هم الذين استعبدتهم الخطية وأَسَرَهُم عدو الخير، يُحَررهم المخلص من قيود الشر. وعن المتمردين الذين يسكنون القبور، الذين يظنون في العصيان نوعًا من الحرية، فيحرمون أنفسهم من بيت الله أبيهم، ليعيشوا في القبور، تحت سلطان الموت وقوات الظلمة. * قوله: "متوحدون" يدل على اليهود الذين كان بينهم وقد أسكنهم في بيت، أعني في أورشليم. أما متوحدو الحال (يقول القديس أثناسيوس) فهم الذين يتجنبون كل شهوة دنيوية، ويصيرون في حياة البتولية لله وحده، أبرياء من كل ريبٍ وشكٍ. هؤلاء يسكنهم في بيت، أي في ملكوت السماوات أبديًا... وأما قوله "مخرج المقيدين (الأسرى)" برجولته (بشريته)، فهم المتمردون الذين يسكنون في القبور، ويعني الإسرائيليين الذين كانوا مغلولين برق العبودية في مصر، وكأنهم كانوا أمواتًا يسكنون القبور وهم أحياء، أخرجهم بقوة عظيمة، مع أنهم كانوا يتمردون بضجرهم وتقمقمهم عليه وعلى نبيه. وأيضًا الذين قيدهم الشيطان في الجحيم حلَّهم ربنا برجولته، أعني بأخذه صورة رجل وبتأنسه وإبطاله الموت. أيضًا المقيدون هم الموجودون بعقال خطاياهم، المتمردون على الله بشنائعهم، الساكنون في قبور العقل والأموات بابتعادهم عن الحياة الأبدية. وأيضًا عابدو الأصنام الذين قيل عنهم في نبوة إشعياء النبي: "قائلًا للأسرى أخرجوا، للذين في الظلام اظهروا" (إش 49: 9). وأيضًا: "وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم، لتفتح عيون العُمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن" (إش 42: 6-7). الأب أنثيموس الأورشليمي قيل عن سجين أُطلق سراحه بعد سجنه زمانًا طويلًا ظلمًا، وفي الطريق وحوله عائلته وأصدقاؤه مبتهجين ومتهللين، وقف فجأة أمام تاجر حَمَامٍ ليشترى كل ما لديه من حَمَام، ثم فتح باب القفص، وترك الحَمَام يطير. سُئل عن سبب تصرفه هذا، فقال: "إن الذي ذاق مرارة الحبس لا يطيق أن يري كائنًا في حبس!" معروف أن الطيور والحيوانات تموت في زمن مبكر جدًا (حوالي نصف عمرها) متى كانت حبيسة، ولو في أقفاص ذهبية، ومهما قُدِّم لها من طعام, هكذا كل كائن، خاصة الإنسان، يدرك ما هو مفهوم الحرية. وقد تولي الله نفسه هذا العمل، لا ليطلق المأسورين ويحل رباطهم فيمارسون بشريتهم التي قتلها الذل حتى ليَحسِبوا تحررهم خروجًا من القبر، وخلاصًا من فساد طبيعتهم المتمردة، وإنما ليهبهم أيضًا ذاته "قوة وجبروتًا". * الله ذاته بقوته يحرر مَنْ ربطتهم الخطية وقيَّدَتهم بالشيطان، وذلك كما حرر المرأة التي ذُكِرَتْ في الإنجيل، تلك التي قيدها الشيطان ثماني عشرة سنة (لو 13: 11-13)، "أما المتمردون فيسكنون في القبور". الله حلو بطبيعته، أما الذين يحركونه إلى المرارة فهم الخطاة، يجعلون الله مرًا لهم. لا يُغَيِّر الله طبيعته، لكن الخطاة أنفسهم يجعلون الله مرارتهم، "فيسكنون في القبور". "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون"، لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة!" (مت 23، 27). كما أن القديس هو هيكل الله، هكذا يجعل الخاطئ نفسه قبرًا. القديس جيروم 5. يقودنا بنفسه اَللهُمَّ عِنْدَ خُرُوجِكَ أَمَامَ شَعْبِك،َ عِنْدَ صُعُودِكَ فِي الْقَفْرِ، سِلاَهْ [7]. بعدما تحدث المرتل عن الموكب الإلهي، موكب الملك الغالب في كنيسته، بدأ يستعرض مثالًا عمليًا عاشه الشعب قديمًا، عندما حررهم الله من عبودية فرعون، وانطلق بهم في البرية بيدٍ قويةٍ وذراعٍ رفيعة، حتى يَدخُل بهم إلى أرض الموعد، رمز كنعان السماوية. لقد صعد رأس الكنيسة إلى سماواته، ليُصعد معه الجسد أيضًا. 1. يقول: "خرجت"، فإنه لا يستطيع الشعب أن يخرج ما لم يخرج الله أمامهم، ويقودهم بنفسه، وكما قيل عن الكنيسة: "من هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها" (نش 8: 5). إنه يفتح الطريق أمامها، ويخرج معها، ويرافقها الطريق، ويتحرك معها بكونه "الأول والآخر"، أي يبدأ معها لتبقى مستندة عليه كل الطريق حتى تبلغ نهايته. يقول القديس جيروم: [هذا يتفق مع التاريخ، حينما تقدَّم الله شعبه عند خروجه من مصر (خر 13: 21).] يرى القديس أغسطينوس أن خروج الله ليس تحرُّكًا مكانيًا، وإنما هو اكتشاف المؤمنين عمله العجيب من أجلهم، وتمتعهم بإمكانياته في كل تحركاته. * لما كنت يا الله متقدمًا شعبك عندما أخرجتهم من أرض مصر، وجزت بهم في برية سيناء صار حينئذٍ ريح عاصف وغمام وصوت الأبواق وسائر الآيات التي فعلتها، فقد اضطربت وارتجفت من خوفها سكان الأرض عندما سمعت عن عظائمك. السماوات قطرت المن من أمام وجه سيناء، أي بأمر الله الذي ظهر في سيناء، وأيضًا الغذاء الروحي، أي بشرائع إلهية. الأب أنثيموس الأورشليمي * خروجه يُعرف عندما يظهر في أعماله. لكنه لا يظهر لكل البشر، إنما لأولئك الذين يعرفون كيف يستكشفون أعماله. فإنني لست أتحدث الآن عن تلك الأعمال الواضحة لكل البشر: السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، إنما أتحدث عن الأعمال التي بها يقود الأسرى في قوةٍ، مثل أناسٍ منزعجين يسكنون القبور، ويجعلهم بمزاجٍ واحدٍ يسكنون في بيتٍ. هكذا يخرج أمام شعبه، أي أمام أولئك الذين يدركون نعمته. القديس أغسطينوس 2. يسير الله نفسه في الطريق الصعب: "عند اجتيازك البرية"، لكي يحملها في قفر هذا العالم على منكبيه، كما تحمل الأم رضيعها والراعي خروفه المُتَعب. يُقَدِّم لها كل احتياجاتها، حتى تعبر برية هذا العالم، وتنعم بالسكنى معه في الأمجاد الأبدية! إن كانت برية هذا العالم قد دُعيت "وادي الدموع"، فقد نزل إليها، ليرافقنا فيها، فننسي دموعنا بشركتنا معه، وحوار الحب الدائم معه! وجوده معنا وفينا يُحوِّل بريتنا إلى عربون للسماويات! 3. يرى القديس أغسطينوس أن البرية التي اجتازها هي الأمم التي عبر إليها المخلِّص ليعلن حبه لكل بشرٍ. [البرية هي الأمم التي لم تعرف الله، كانوا برية حيث لم ينالوا من الله شريعة، ولا سكن بينهم نبي، ولا سبق فأُخبروا عن مجيء الرب.] الأَرْضُ ارْتَعَدَتِ. السَّمَاوَاتُ أَيْضًا قَطَرَتْ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ. سِينَاءُ نَفْسُهُ مِنْ وَجْهِ اللهِ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ [8]. في العهد الجديد يحملهم المخلص إلى سماواته، هذا الذي أصعدهم في العهد القديم من أرض العبودية إلى أرض الموعد، كنعان. أخرجهم بيدٍ قويةٍ وبذراعٍ رفيعة، وقدم لهم كل احتياجهم، فأمطر عليهم المن من السماء، وأيضًا السلوى 4. إذ يخرج معنا طريقنا القفر ترتعد الأرض وتقطر السماوات ماءً، وتنهار الجبال، فلا تقف عائقًا في الطريق. هذا ما ترنمت به دبورة النبية عن خبرة عملية عاشتها (قض5: 4، 5). يتزلزل جسدنا (أرضنا)، كما ارتجت مدينة أورشليم عند دخول المسيح (مت 21: 10)، يرتعد ليصير أشبه بالعُلِّية التي امتلأت "كما من هبوب عاصفة" (أع 2: 2). فلا يكون للشهوات الجسدية سلطان، بل تتقدس عواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا بروح الله القدوس. تقطر نفوسنا (السماء) بأمطار عمل نعمة الله السماوية، فتتحول كما إلى جنة مثمرة، لتناجي عريسها قائلة: "ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16). تنهار كل العوائق في طريق عبورنا إلى السماء، فلا تقدر حتى الجبال الراسخة أن تقف أمامنا! 5. يقول الأب أنثيموس إن هذا الحديث يشير إلى الكرازة بالإنجيل، حيث خرج السيد المسيح من وسط شعبه وانطلق إلى برية الأمم، فتزعزع اليهود كأرض، وانهار بيتهم الذي تركه لهم السيد المسيح خرابًا، إذ رفضوا ما أمطرته السماوات من نعم، أي رفضوا المعاني الإلهية لنبوات الأنبياء. هذا ما حدث عند الصلب حيث تزلزلت الأرض، وتشققت الصخور، ليظهر أنه هو بنفسه الذي زلزل الأرض عند ظهوره في سيناء. كما يقول لقد تزلزلت أرض الأمم لتقبل الإيمان بالمخلص، وترفض عبادة الأوثان. لقد أمطر عليهم الرسل مياه الكرازة بالإنجيل. * تزعزعت الأرض، إذ تأثر الأرضيون بالإيمان... * أخيرًا "عند صعودك في القفر الأرض ارتعدت" [7-8]. القفر هو الأمم التي لم تعرف الله. كانوا برية حيث لم يتسلموا من الله ناموسًا، ولا سكن بينهم نبي، يتنبأ لهم عن مجيء الرب. لذلك "عند صعودك في القفر"، عندما يُكرز بك في الأمم، ارتعدت الأرض، إذ أثير الأرضيون للإيمان. "السماوات أيضًا قطرت أمام وجه الله". ربما هنا يتذكر الإنسان ذاك الزمان الذي كان فيه الله يتقدم شعبه، أمام بني إسرائيل، على شكل عمود سحاب في النهار، وبهاء النار في الليل (خر 13: 21). ويقرر بأن "السماوات قطرت أمام وجه الله" منًا يُمطر على شعبه (خر 16: 15). نفس الأمر ما تلي ذلك: "جبل سيناء نفسه من وجه إله إسرائيل" [8]، "مطرًا غزيرًا نضحت يا الله لميراثك" [9]. بمعنى أن الله تكلم مع موسى على جبل سيناء عندما أعطاه الشريعة، فيكون المن هو المطر الغزير الذي نضح به على ميراثه، أي على شعبه، إذ هم وحدهم أطعمهم هكذا دون سائر الأمم الأخرى... كل هذه الأمور حدثت معهم في رمزٍ، حتى يظهر النار، وتزول الظلال (نش 2: 17). القديس أغسطينوس 6. يقول القديس جيروم: [تشير سيناء إلى التجربة، فإن الله يسكن في المُجَرَّبين والذين يُغلَبون في التجارب، أما في الشهوانيين فلا يقطن.] 7. يمطر علينا بالمن السماوي علامة رضاه عن شعبه، ميراثه ونصيبه، حتى لا يخوروا في الطريق. 6. يعمل بروحه القدوس فينا مَطَرًا غَزِيرًا نَضَحْتَ يَا اللهُ. مِيرَاثُكَ وَهُوَ مُعْيٍ أَنْتَ أَصْلَحْتَهُ [9]. جاء في الترجمة السبعينية أن الله وهب شعبه القَلِق منًا كعطية مجانية من قِبَلْ حنوه الإلهي. بالرغم من العنف الذي اتسم به هذا الشعب لكن الله في حبه للبشرية التي يود أن يقيم منها ميراثه، لم يترك شعبه في البرية خائرًا، بل أمطر عليهم منًا طازجًا وسلوى، وأخرج لهم ماءً من الصخرة. وكأنه حوَّل كل الطاقات والإمكانيات لحساب شعبه حتى يُصلِحَ من شأنه ولا يتركه في الضعف. استخدم السماء (المن) والجو (السلوى) والأرض (الصخرة) لخدمة مؤمنيه. حينما نقبل الله ميراثًا لنا، يرتضي بفرح أن نكون نحن ميراثه الحي، الذي يُحرِّك كل شيء لحسابنا ولبنياننا. * "مطرًا اختياريًا تفرز يا الله لميراثك..." يقول النبي "مطرًا" عن المن الذي كان يُمطره على الإسرائيليين في برية سيناء، ويدعوه "اختياريًا" بما أنه كفاف اليوم، ولأنه كان يقودهم حسب اختيارهم، ولأن نزوله لم يكن في فعل الطبيعة إجباريًا، بل بحالٍ بديع كما اختار الله. وقوله: "تفرز يا الله لميراثك" معناه أن مطر المن لم يكن عامًا كالمطر المعتاد، لكنه مُفرَز لشعب إسرائيل الذي كان في ذلك الوقت ميراث الله الخاص. وأيضًا تعليم الإنجيل المقدس يشبه المطر النازل على الجزة (قض 6: 37) لأنه اختياري... وقد أفرزه الله لميراثه وهم المؤمنون به. الأب أنثيموس الأورشليمي يرى القديس أغسطينوس أنه كما أمطر الله على شعبه الذي هو ميراثه منًا ليقوتهم، هكذا يمطر الآن على كنيسته الإيمان بالمخلص، الذي هو عطية الله، لا بأعمالٍ، حتى لا يفتخر أحد بل بالله العامل فينا (أف 2: 8-10). الآن يمطر بما هو أعظم على كنيسته، يهبها المن السماوي، جسد الرب ودمه المبذولين، ليعترف كل عضو فيها، قائلًا: "وضعفتُ، أما أنت فهيأتها" [9]. أي بذاتي أنا أرض جافة وبرية قفر، ولكن بأمطار نعمتك تحول بريتي إلى جنتك، وعوض جفافي أشبع بثمر الروح، وعوض فسادي أتهيأ للعرس السماوي الأبدي! يري القديس أغسطينوس أن الضعف هنا يُنسَب للناموس الذي أُعطى للشعب القديم كمطرٍ نازلٍ من السماء على ميراث الله أو شعبه، إذ يقول: [يمكن أن يفهم الناموس أنه ضعيف، لأنه لم يُكَمِّل، ليس لأنه في ذاته هو ضعيف، وإنما لأنه جعل الناس ضعفاء، إذ هدد بالعقوبة دون أن يُعِين بالنعمة]. ويُكَمِّل القديس أغسطينوس تعليقه مؤكدًا أن الله لم يترك ميراثه في الضعف إذ قدم لهم ذاته: [أنت يا الله قد جعلت ميراثك كاملًا، فإنه في ذاته هو ضعيف لكنه بك يصير كاملًا.] الآن، قد أمطرت على شعبك بالمن السماوي لإشباع أجسادهم، ووهبتهم الناموس عونًا، لكنهم بالناموس اكتشفوا ضعفهم، وأدركوا عجزهم، وشعروا بالحاجة إليك كي تكملهم. فإنك الغني القادر أن تغني ميراثك وتفيض عليهم بخيراتك! 7. يهبنا الوصية الإلهية قَطِيعُكَ سَكَنَ فِيهِ. هَيَّأْتَ بِجُودِكَ لِلْمَسَاكِينِ يَا اللهُ [10]. يرى البعض أن الحديث هنا خاص بإسرائيل الذي عاش في أرض العبودية في مذلة كمساكين، أسكنهم في أرض الموعد في أماكن آمنة وفاخرة. عالهم في البرية وقدَّم لهم السلوى والمن، كما عالهم في أرض الموعد حيث الأرض التي تفيض عسلًا ولبنًا. إنهم القطيع الناطق الذي يتمتع برعاية الله الذي يتقدم شعبه ليدخل بهم إلى مراعيه الخضراء، وإلى مياه الروح القدس الواهبة الراحة، بصلاحه أو عذوبته يسد كل أعوازهم. * "الحيوانات التي لك (قطيعك) يسكنون هناك" [10]. "لك"، وليس "لأنفسهم"، فإنهم يخضعون لك، وليسوا لأنفسهم، هم محتاجون إليك، وليسوا مكتفين بذواتهم. أخيرًا يكمل حديثه: "هيأت بعذوبتك للفقير يا الله" [10]. صار ضعيفًا لكي يكتمل. إنه يعرف نفسه أنه معوز لكي يُزود. هذه هي العذوبة التي قيل عنها في موضع آخر: "لأن الرب يعطي عذوبة، وأرضنا تعطي ثمرتها" (مز 85: 2)، وذلك لكي يُمارس العمل الصالح لا عن خوف، وإنما عن حب، ليس خشية العقوبة، وإنما حبًا في البرَ. القديس أغسطينوس إذ يدخل الله بشعبه إلى مراعيه، يهبهم أيضًا قوة، يهب جنوده الغلبة والنصرة على الأعداء، ويُسَلِّمهم غنائم كثيرة يفرح بها كل الشعب، يعطيهم قوة للكرازة المُفْرِحة بعجائب هذا الإله القائد المحبوب. الرَّبُّ يُعْطِي كَلِمَةً. الْمُبَشِّرَاتُ بِهَا جُنْدٌ كَثِيرٌ: [11] مع تقديم أرض الموعد لشعبه الذي كان قبلًا مُستعبدًا، يهبه ما هو أعظم: كلمته ليكرز بها! كلمة الله لا تُقدَّر بثمن، تُوهَب كعطية مجانية يتمتع بها المؤمنون به، ويمارسونها بروح القوة مع الفرح والتهليل. جاءت كلمة "المبشرات" في العبرية بالمؤنث. يشير هنا إلى تسبحة دبورة (قض 5)، فهي بوحي روح الله، بكونها كلمة الرب التي تبث روح البشارة والفرح. كان للنساء والفتيات دورهن في التسبيح والهتاف بألحان النصرة. كما فعلت مريم أخت هرون ومعها النساء (خر 15: 21)، وعندما غنين لداود بعد انتصاره العظيم (1 صم 18: 6)، كما أرسل السيد المسيح القائم من الأموات اثنتين تخبران التلاميذ بقيامته (مت 18: 10). وربما قصد بالمؤنث أن كل نفس تلتزم بالشهادة لعمل راعيها وقائدها أمام الغير. أما في الترجمة السبعينية فجاءت بالمذكر: "للمبشرين". وكما يقول القديس جيروم، [يشير المُرنم إلى الرسل، لأن الرب أعطاهم قوة عظيمة للكرازة بالإنجيل.] يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح أقام كنيسته، بكونها بيته الجميل، وقد قيَّد إبليس وجنوده، ونزع عنه غنائمه، ليجعلها غنائم المسيح التي تتمتع ببيت الرب. * جميل هو البيت الذي صنعه المسيح لنفسه، أي الكنيسة، بأن يقسِّم لها غنائمها... يربط المسيح الشيطان بقيودٍ روحية، بنصرته على الموت، وصعوده من الجحيم إلى السماوات. لقد قيَّده بسرّ تجسده، إذ لم يجد فيه شيئًا له يستحق الموت، ومع هذا سمح بأن يُقتَل؛ بهذا قيَّده وأخذ أوانيه كغنائم. فإنه كان يعمل في أبناء المعصية (أف 2: 2)، الذين بعدم الإيمان جعلهم يتممون إرادته. هذه الأواني غسلها الرب بغفران الخطايا، مقدسًا الغنائم التي انتزعها من العدو الذي انبطح وقُيِّد، هؤلاء قسمهم لجَمَال بيته. فجعل منهم البعض رسلًا والبعض أنبياء، والبعض رعاة، والبعض مُعلِّمين، وذلك لعمل الخدمة، لبناء جسد المسيح... هذا هو جمال البيت الذي فيه قُسِّمت الغنائم، حيث التهب ذاك المحب لهذا الجمال، فصرخ: "يا رب، أحببتك نعمة بيتك" (مز 26: 8). * "الرب يعطي كلمة"، بمعنى يعطي طعامًا لقطيعه الذي يسكن فيها. القديس أغسطينوس يقول القديس غريغوريوس النيسي إن الذي أعطى الوصية هو يعطي القوة لتنفيذها. فإذ أمر بالبحث في الكتب المقدسة (يو 5: 39)، فإننا وإن عجزنا عن إدراك عظمة المفاهيم الموجودة فيها علينا أن نثابر قدر طاقتنا فإنه بالتأكيد يهبنا فهمًا. وهكذا يعطي أيضًا كلمة بقوةٍ عظيمةٍ للمبشرين[62]. 8. انهيار الأعداء وصعودنا معه مُلُوكُ جُيُوشٍ يَهْرُبُونَ يَهْرُبُونَ. الْمُلاَزِمَةُ الْبَيْتَ تَقْسِمُ الْغَنَائِمَ [12]. يتحدث هنا عن جيوش الأعداء، سواء في البرية أو في أرض الموعد، فعلى الرغم من خبراتهم طويلة في الحروب، إلا إنهم هربوا في رعبٍ أمام شعب كان يعاني من العبودية، لا خبرة له بالحروب في ذلك الحين. أما "الملازمة البيت" فيقصد بها المرأة، حيث كانت السيدات والفتيات يلازمن البيت، ولا يحاربن مع الرجال والشباب. يشير هنا إلى ملوك عظماء لهم شهرتهم وقدرتهم العسكرية، هربوا أمام إسرائيل أو قتلوا بواسطتهم (مز 135: 10-11؛ 136: 17-20؛ يش 8: 2؛ قض 1: 6-7؛ 4: 24؛ 1 صم 30: 24). إِذَا اضْطَجَعْتُمْ بَيْنَ الْحَظَائِرِ، فَأَجْنِحَةُ حَمَامَةٍ مُغَشَّاةٌ بِفِضَّةٍ وَرِيشُهَا بِصُفْرَةِ الذَّهَبِ [13]. كانوا كعبيدٍ يعيشون في مذلة بين الحظائر، ليس لهم بيوت يستقرون فيها. الآن جعلهم الله برعايته الفائقة أشبه بحمامة تطير نحو السماء، جناحاها مغشيان بالفضة، وريشها بصفرة الذهب. جميلة ورائعة وغنية، وقادرة على الطيران. من هي هذه الحمامة المغشاة بالفضة وريشها بصفرة (بريق) الذهب إلا كنيسة العهد الجديد، التي إذ تمتعت بسكنى الروح القدس وقيادته لها صارت حمامة وديعة تحمل سمات عريسها السيد المسيح الوديع. أما أنها مغشاة بالفضة، فلأن الفضة تشير إلى كلمة الله المصفاة (مز 12: 6)، وريشها يشير إلى المؤمنين الذين أشبه بالريش الخفيف الطائر نحو السماء، وقد حملوا السمات السماوية التي يشار إليها بالذهب. في حديث القديس أمبروسيوس عن إبراهيم يقول بأن لوطًا كان غنيًا بالقطعان والبقر والخيام (تك 13: 5)، لكن لم يكن له فضة ولا ذهب مثل إبراهيم (تك 13: 3)، إذ لم يكن بعد قد تمتع بكلمة الله ولا بالشركة في سمات المسيح السماوي. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه الحمامة العجيبة في شكلها هي الرحمة، التي تطير بمن يمارسها لتدخل به إلى السماء، وتقيم نفسه ملكة. * عمل الرحمة كما لو كان أعظم الفنون روعة، حاميًا العاملين به. الرحمة عزيزة لدى الله، تقف دومًا بجواره، مستعدة تسأل نفعًا لمن يريد، إن كنا لا نسيء استخدامها... عظيمة هي قوتها، حتى للذين يخطئون. إنها تُحَطِّم القيود، وتُبَدِّد الظلمة، وتُطفئ النيران، وتقتل الدود، وتنزع صك الأسنان. تُفتح لأبواب السماء بأمان عظيم. وكما عند دخول ملكة لا يجرؤ أحد من الحراس المقيمون عند الأبواب أن يسألها من هي، إنما يستقبلها الجميع حالًا، هذا ما يحدث مع الرحمة. إنها بالحقيقة مَلِكة، تجعل البشريين، متشبهين بالله، إذ يقول: "كونوا كاملين كما أن أباكم كامل" (لو 6: 36). إنها ذات جناحيْن ومبتهجة، لها جناحان ذهبيان بطيرانها تبهج الملائكة. لذلك يُقال: "أجنحة حمامة مغشاة بفضة، وريشها بخضرة الذهب" (LXX). تطير كحمامة ذهبية حية، بمنظر جميل وعين حانية. ليس شيء أفضل من تلك العين. الطاؤوس جميل، لكن بالمقارنة بها يُحسب غرابًا. جميلة ومستحقة كل إعجاب هذه (الحمامة)، تتطلع دومًا إلى فوق، ومحاطة على الدوام بفيضٍ من مجد الله. إنها بتول بأجنحة ذهبية، مزينة بمنظرٍ رائعٍ ورقيقٍ. إنها ذات جناحيْن ومبتهجة، تقف بجوار العرش الإلهي. عندما نُدان، فجأة تطير وتُظهِر ذاتها، وتُخَلِّصنا من العقوبة، وتحمينا بجناحيها. الله يحبها أكثر من الذبائح. كثيرًا ما يتحدث الله عنها، إنه يحبها![63] القديس يوحنا الذهبي الفم * "شُبهت عيناها بالحمامتين لأنها تفهم الآن الكتاب الإلهي، لا من خلال الحرف، بل بواسطة الروح، وتدرك فيه الأسرار الروحية. لأن الحمامة تشير غالبًا إلى الروح القدس. ولذا فإن إدراك الناموس وفهم الأنبياء بالمعنى الروحي هو أن يكون لنا عينا الحمامة، لهذا قيل هنا إن عينيها حمامتان. وفي المزامير تشتاق تلك النفس أن يكون لها جناحا حمامة (مز 13:68) لتطير بهما نحو فهم الأسرار الروحية، فتستريح في أحضان الحكمة[64]". العلامة أوريجينوس إذ تطلع المرتل إلى كنيسة المسيح الجميلة، التي تقسم الغنائم التي انتزعها من يد إبليس وقوات الظلمة، يتحدث الآن مع هذه الغنائم. فإنها تستريح وتنام بين الحظائر. أي بين أسفار العهد القديم والعهد الجديد. تتمتع بالوعود الإلهية وعمل الخلاص، لتصير أجنحة الكنيسة، الحمامة الواحدة المحبوبة! إنها أجنحة مغشاة بكلمة الله، أي الفضة، أما ريشها الذي به تطير في العلويات فهو من الذهب أي الحياة السماوية. * ما هي الأجنحة ذاتها سوى وصيتا الحب، اللتان بهما يتعلق الناموس كله والأنبياء (مت 22: 40)؟ ما هو الحِمْل الخفيف إلا الحب ذاته الذي في هاتين الوصيتين يتحقق؟ فإن ما يبدو صعبًا في وصية هو خفيف بالنسبة للمحب. القديس أغسطينوس عِنْدَمَا شَتَّتَ الْقَدِيرُ مُلُوكًا، فِيهَا أَثْلَجَتْ فِي صَلْمُونَ [14]. قارن المرتل بين جيوش المقاومين التي هربت، ونسائهم وفتياتهم اللواتي سُبين في مذلة، وبين المؤمنين الذين انطلقوا من بين الحظائر ليعيشوا في أرض تفيض عسلًا ولبنًا. الآن يقارن بين ملوك الوثنيين الذين شتتهم الله القدير وبين المؤمنين الذين صاروا في بهاء مثل الثلج في صلمون. لون تل صلمون قاتم بطبيعته، ومنظره معتم، لكن إذ يتغطى بالثلج، يصير منظره جميلًا وبهيًا. هكذا إذ يثير الملوك الأشرار المعارك تصير أرض المعركة معتمة، وعندما تتحقق نصرة شعب الله تصير أرض المعركة موضع بهجة وفرح لهم. حينما تجلى السيد المسيح، صارت ثيابه بيضاء كالثلج، هكذا تصير كنيسة المسيح كالثلج وإن كانت في ذاتها ظلام، لكن يعكس شمس البرّ بهاءه عليها فتتلألأ بياضًا كالثلج. كنيسة المسيح تتلألأ بالفضائل التي في حقيقتها هي شركة الطبيعة الإلهية، أي في سمات السيد المسيح. * اعتمد المسيح في الأردن، حيث أسس شكلَ (طقس) form المعموديةِ الخلاصية (قابل مت 3 :1317). الاسم "الأردن"، يعنى "نزول أو هبوط"، وقد نزل الرب يسوع، حينما طهَّر السكان القريبين من الأردن من عدوى الخطية... هذا المجرى يقسم أَرضَ الموعد. لهذا فإن المضطربَ، إذا ما أتبع المشورةَ الصالحة، عليه أن يخرج من مصر، ويتبع طريق النور، لأن حرمونَ تفسيره "طريق السراج أو المصباح". لهذا اخرجوا أولًا من مصر، إن كنتم ترغبون في رؤية نور المسيح. وقد خرجت المرأةُ الكنعانية من مقاطعةِ الوثنيين فوجدت المسيح. فقالت له " ارحمنى يا ابن داود!" (مت 15 :22). وخرج موسى من مصر وصار نبيًا وأُرسِل ثانية إلى الشعب. ليخلِّص نفوسهم من أرض الضيقة (قابل خر 2 :114 :17) أيضًا فإن السراج هو في جسد المسيح، وهذا هو السراج الذي ينير الطريق، لهذا السبب أيضًا يقول القديس داود: "سراج لرِجَّلي كلامك" (قابل مز 119 :105)، وهو سراج. لأنه قد أنار أنفسَ جميعِ البشر (قابل يو 1 :9)، وأنار الطريقَ في الظلمة، وطريقُ السراج هو الإنجيل، الذي يُشرقُ في الظلام، أي العالم. ولهذا السبب أيضًا نجد في نصٍ آخر: "سيصيرون بيضًا كالثلج، على جبلِ صلمون" (مز 68 :14 LXX) أي في الظِل. (كلمة صلمون معناها ظل[65].) القديس أمبروسيوس 9. يقيمنا جبالًا مقدسة جَبَلُ اللهِ، جَبَلُ بَاشَانَ. جَبَلُ أَسْنِمَةٍ، جَبَلُ بَاشَانَ [15]. بعد أن تحدث عن أمم لها خبراتها في الحروب، ولها ملوكها الجبابرة، وقد سقطت وانهارت أمام شعب الله في ذلك الحين، يتحدث هنا عن مقارنة بين جبل صهيون والجبال الأخرى، التي تعتز بها الأمم المحيطة. حقًا كان جبل صهيون صغيرًا ومنخفضًا بالنسبة للجبال المرتفعة، مثل جبل باشان، لكنه يسمو على جميع هذه الجبال، إذ اختاره الله مسكنًا له، وهو يشير إلى كنيسة العهد الجديد (عب 12: 23). جبل باشان يشير إلى الأمة الوثنية التي تود أن تتشامخ على شعب الله، إذ تحمل حسدًا وحقدًا ضده. جبل باشان مشهور بحجمه وجماله وخصوبته، أما جبل صهيون فلا يُقارَن بجوار جبل باشان، أما ما سُكِبَ عليه من جمال فهو لاختيار الله له؛ بهذا صار أبرع جمالًا من جبل باشان. وكما قيل بإشعياء النبي: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وإليه تجري كل الأمم. وتسير شعوب كثيرة، ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب" (إش 2: 1-2). لماذا يدعو جبل باشان جبل الله؟ لم يختره الله ليكون جبله المقدس، الذي يقيم هيكله عليه، إنما دُعي هكذا لأنه بسبب ضخامته وجماله وخصوبته صار شاهدًا لعمل الله الخالق المُبدع. لِمَاذَا أَيَّتُهَا الْجِبَالُ الْمُسَنَّمَةُ تَرْصُدْنَ الْجَبَلَ الَّذِي اشْتَهَاهُ اللهُ لِسَكَنِهِ؟ بَلِ الرَّبُّ يَسْكُنُ فِيهِ إِلَى الأَبَدِ [16]. تشير الجبال إلى الأمم، وهي كثيرة الأجراف المنحدرة، تتشامخ على جبل الله المقدس. الكلمة العبرية المترجمة هنا "ترصدن" يترجمها البعض "تثبن". كأن الجبال المحيطة بجبل الله صهيون في نوع من السخرية لا تحتمل الصمت السكوت، بل تثب حوله وتسخر منه، وتدهش كيف يختار الله جبلًا كهذا، تاركًا الجبال الجميلة الشامخة والخصبة. لقد اختار الله الجبل المُحتقَر وترك الجبال العظيمة. لعل كلمة "ترصدن" تعني أن عيون هذه الجبال على هذا الجبل، تحاول أن تجد شيئًا ما يبرر اختيار الله له. وكما يقول الرسول بولس عن التلاميذ والرسل والمبشرين كجبال مختارة من قبل الله: "اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء. واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمُزدرَى وغير الموجود ليُبطلَ الموجود؛ لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه" (1 كو 3: 27-29). * تخلَّص أنت، يا رجل الله، من هذا الروح الرديء ولا تصر جبلًا محترقًا خرِبًا، بل بالأحرى تكون جبلًا دسمًا قويًا (مز 16:68) يحب الرب أن يسكن فيه، وتكون فيك مركبة الله ربوات ألوف مكرَّرة (مز 18:68)، وتظهر رائحة بخورك الزكي في السماء يفوح عبيره وسط القديسين، وتكون معينًا للأرضيين، قويًا وظافرًا في الحرب، حتى يكمل عليك المكتوب: "إن جبل الرب يكون ظاهرًا" (مي 1:4)، و"جبل الرب يكون على رأس الجبال" (إش 2:2). فلتكن في هذه الكرامة، أيها المجاهد، فتحظى بإكليل الفرح من الرب لأجل أتعابك وأنت جالس في قلايتك. القديس أنبا بولا الطموهي 10. يقيمنا مركبة إلهية مَرْكَبَاتُ اللهِ رَبَوَاتٌ أُلُوفٌ مُكَرَّرَةٌ. الرَّبُّ فِيهَا. سِينَا فِي الْقُدْسِ [17]. مرة أخرى يتحدث عن رعاية الله لشعبه. فما حدث قديمًا مع المصريين الذين هلكوا في البحر الأحمر، لم يكن بقدرة بشرية، إنما أرسل الله مركبات بأعدادٍ كبيرة قهرتهم. عادة يشير رقم "ألف" إلى الإمكانية السماوية، كما يشير إلى كثرة العدد غير المُحصَى. بقوله "ربوات ألوف مكررة" ربما يقصد ربوات (عشرة آلاف)، وهو أكبر رقم كان معروفًا في ذلك الحين، وألوف مكررة، ألوف ألوف (بمعنى الملايين). الرب فيها، أي يسكن في صهيون، كما ظهر قبلًا على جبل سيناء، وقدَّم لهم شريعته على يدي موسى النبي. كان أعداء إسرائيل غالبًا ما يحاولون أن يرعبوهم بالمركبات (خر 14: 7؛ قض 4: 3؛ 1 صم 13: 5؛ 2 صم 8: 4؛ 10: 18)؛ لكن كيف يمكن لهذه المركبات أن تقف أمام مركبات الله! عندما انفتحت عينا جيحزي كطلب أليشع النبي "أبصر، وإذا الجبل مملوء خيلًا ومركبات نار حول أليشع" (2 مل 6: 17). * هكذا إنه عدد ضخم من القديسين والمؤمنين، الذين إذ يحملون الله يصيرون بطريقة ما مركبة الله... إذ يسكن فيها ويقودها كما لو كانت مركبته، يبلغ بها إلى النهاية، كما إلى موضعٍ معين. "المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه، وبعد ذلك النهاية" (1 كو 15: 23-24). هذه هي الكنيسة المقدسة التي تتبعه، "ألوف من البشر يفرحون". فإنهم بالرجاء هم فرحون، حتى يبلغون إلى النهاية، الأمر الذي يتطلعون إليه الآن بصبرٍ (رو 12: 12)... يعطي السبب لماذا هؤلاء الألوف يفرحون. لأن مركبة الله الحاملة الرب هي فيهم، كما يقول: "سينا في القدس"، أي الرب فيهم، الرب في الوصية، والوصية مقدسة، كما يقول الرسول: "إذًا الناموس مُقدَّس، والوصية مقدسة وعادلة وصالحة" (رو 7: 12). القديس أغسطينوس *إن قوة غير مرئية دمرت قوات المصريين خلال معجزة البحر الأحمر، وهذه القوة يسميها النص "الفرسان"، ويمكن أن نفترض أن الفرسان كانوا جيشًا من الملائكة التي يذكرها حبقوق النبي: "ركبت خيلك ومركباتك مركبات الخلاص" (حب 3: 8). وذكر داود أيضًا مركبات الله قائلا: "مركبات الله ربوات" (مز 68: 17)[66]. *جهز الملك الذي جاء من نسل داود الإنسان ليكون القلعة الآمنة من السقوط. بناها داود بالنعمة، وحصنها بالأتراس الكثيرة، حتى لا يتمكن العدو من الاقتراب منها بسهولة. والأتراس معلقة وليست على الأرض ويمكن رؤيتها معلقة في الهواء، ويوجد معها الحراب التي تُثير الفزع في العدو حتى لا يحاول الهجوم على البرج. إني أفكر فى أن هذا البرج بما عليه من أتراس وحراب يشير إلى الحرس الملائكي. لا يذكر النشيد ببساطة الحراب، ولكنه يضيف الرجال الأقوياء يحاربون إلى جانبنا فنغلب... رقم الألف ناتج رقم مائة مضروبًا في عشرة، يُشير إلى أن العدد كبير. هكذا يُشير الكتاب في العادة إلى الأعداد الكبيرة بالرقم ألف. كما يقول داود: "مركبًات الله ربوات ألوف مكررة، الرب في وسطها فصار جبل صهيون مماثلًا لجبل سينا في القداسة" (راجع مز 68: 18). ثم "شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (مز 118: 72)[67]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص * إذ يتكلمون ضد صعود المخلِّص كأمر مستحيل، ليذكروا كيف حمل ملاكٌ حبقوقَ من شعر رأسه[68]، فبالأحرى جدًا يستطيع إله الملائكة والأنبياء أن يصعد على سحابة من جبل الزيتون بقوته الخاصة. يمكنكم أن تتذكروا عجائب كهذه لكن لتُعطَ المكانة الأولى لله صانع العجائب. فهؤلاء رُفعوا أما هو فرافع كل الأشياء. تذكروا أن أخنوخ نقُل، أما يسوع فصعد. تذكروا ما قيل بالأمس عن إيليا أنه أُصعد في مركبة نارية (2 مل 2: 11)، أما مركبات المسيح فربوات ألوف (مز 68: 17)[69]. القديس كيرلس الأورشليمي 11. مسبيون متهللون هنا يعود فيوجه الحديث إلى الرب نفسه: صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْيًا. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ، وَأَيْضًا الْمُتَمَرِّدِينَ لِلسَّكَنِ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ [18]. وكنوعٍ من السخرية بالمتمردين، كان الملوك أيضًا يلقون بالمال عليهم، حتى يظهر المتمردون كمن يتلقفون فضلات المنتصرين[70]. "للسكن أيها الرب الإله"، كثير من الملوك المنتصرين، إذ يعودون ومعهم الغنائم، يقومون بعد الانتهاء من الاحتفالات الخاصة بالنصرة بالسكن وسط الشعب ليقدموا لهم من خيرات النصرة، ويحققوا نوعًا من الاستقرار بعد متاعب الحرب ونفقاتها الباهظة على الشعب. هكذا مع الفارق يسكن الله وسط شعبه ليعلن اهتمامه بشعبه، ورعايته، فيقدم لهم من خيرات نصرته، ألا وهو الشركة في حياته المقامة، والتمتع بعربون صعوده إلى السماء. لقد قيد الله العدو إبليس وملائكته كما بقيود، وأعطى شعبه سلطانًا عليهم حتى لا يخافوهم، بل ولا ينشغلوا بهم، إنما يتهللون بالحياة المُقامة والجلوس في السماويات. * أشار الرسول إلى ذلك، موضحًا هذا في حديثه عن الرب يسوع: "ولكن لكل واحدٍ منا أُعطيت النعمة حسب قياس هبة المسيح، لذلك يقول: إذ صعد إلى العلاء سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا" (أف 4: 7-8)... لقد أعطى عطايا للناس، مرسلًا إليهم الروح القدس الذي هو روح الآب والابن. القديس أغسطينوس "قبلت عطايا بين الناس"، يرى القديس أغسطينوس أن الابن إذ صار إنسانًا، قبل روحه القدوس كعطية لحسابنا، مع أنه هو روحه الأزلي. ونحن إذ نناله كأعضاء جسده يحسب ذلك كأنه هو الذي ناله. وذلك كما عندما نُضطهد يحسب ذلك اضطهادًا له، فيقول لشاول: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4). فإن كان يقول: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم" (مت 25: 40)، فلماذا نتشكك أنه يتقبل في أعضائه الهبات التي يتقبلها الأعضاء؟ "سبيت سبيًا": لا نعجب إن كان الذين سباهم إبليس يحررهم السيد المسيح من هذا السبي ليصيروا مسبيين في الحب الإلهي بفرحٍ وسرورٍ بملكوت الله. الذين كانوا مسبيين للعبودية لحساب مملكة الظلمة، صارت مسرتهم أن يُسبوا بالحب لمملكة النور. * لماذا لا يكون السبي مُبهجًا إن كان البشر يُصطادون لهدفٍ صالحٍ؟ لهذا قيل لبطرس: "من الآن تكون تصطاد الناس" (لو 5: 10)... فإنهم إذ يخلصون من الخطية التي كانوا عبيدًا لها يصيرون عبيدًا للبرّ (رو 6: 18)، أبناء له. فإنه هو نفسه فيهم، يعطي عطايا للبشر، ويتقبل العطايا فيهم. ولهذا فإنه في هذا السبي، في تلك العبودية، في تلك المركبة، تحت هذا النير، لا يوجد ألوف من البشر في حزن،ٍ بل ألوف في فرحٍ، لأن الرب فيهم، في سيناء، في قدسه. * الصلاح هبة من الله كما يقول يعقوب الرسول: "كل عطية صالحة، وكل موهبةٍ تامةٍ، هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار" (يع 1: 17)، وحسبما يعلن يوحنا سابق المسيح: "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطى من السماء" (يو 3: 27). إنه من السماء حيث أرسل الروح القدس عندما صعد يسوع إلى العلى سابيًا سبيًا ومعطيًا هبات للبشر (مز 68: 18؛ أف4: 8). فإن كانت استحقاقاتهم الصالحة هي عطايا إلهية، لهذا لا يكلل الله استحقاقاتكم لكونها منكم، بل لأنها عطيته[71]. * تذكروا ما قاله المزمور بوضوح: "صعد الله بهتاف" (مز 47: 5). تذكروا أيضًا ما جاء في المزمور من حديث القوات الإلهية مع بعضها البعض: "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم" (مز 24: 7). تذكروا أيضًا المزمور القائل: "صعد إلى العلا وسبى سبيًا" (مز 68: 18). تذكروا النبي القائل: "الذي يبني صعوده نحو السماء..."[72]. وغير ذلك من الأمور التي سبق ذكرها بسبب مغالطات اليهود[73]. القديس كيرلس الأورشليمي * خلال الآلام صعد الرب إلى العُلى، وسبى سبيًا، وأعطى الناس عطايا (مز 68: 18؛ أف 4: 8)، ووهب الذين يؤمنون به سلطانًا أن يدوسوا على الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدو، أي سلطان على قائد الارتداد[74]. القدِّيس إيريناؤس * يُسَلِّم حياته، لكن له سلطان أن يأخذها (يو 10: 17-18)... إنه يموت، لكنه يهب الحياة (يو 5: 21)، وبموته يحطم الموت، يُدفَن لكنه يقوم. ينزل إلى الجحيم، لكنه يُصعِد النفوس (أف 4: 8-9؛ مز 68: 18)؛ يَصعَد إلى السماء، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات[75]. القديس غريغوريوس النزينزي 12. مسبيون ممجدون مُبَارَكٌ الرَّبُّ يَوْمًا فَيَوْمًا. يُحَمِّلُنَا إِلَهُ خَلاَصِنَا. سِلاَهْ [19]. الكلمة العبرية amos المترجمة هنا "يحملنا"، تعني يرفعنا أو يحملنا إلى فوق، أو يسندنا أو يعيننا في أحمالنا. رعاية الله بنا يومية، عطاياه لا تنقطع. مراحمه جديدة في كل صباح. إنه إله خلاصنا، الذي يحمل أثقالنا اليومية حتى ننعم بالمجد الأبدي. مبارك هو الرب الذي لا يتوقف عن العمل حتى النهاية، فيسبي بحبه أناسًا كل يوم، ويقبل فيهم- كأعضاء جسده- ما يقدمه لهم. * يفعل هذا يوميًا حتى إلى النهاية، إذ يسبي سبيًا ويقبل عطايا في الناس. القديس أغسطينوس * تنقسم الألقاب الأخرى لله إلى مجموعتين متمايزتين، المجموعة الأولى تخص قوته، والثانية ترتيبه للعالم بالعناية الإلهية... ومن الأمثلة الواضحة للألقاب التي تخص قوته: "إله الجنود"، "القادر على كل شيءٍ" (عا 3: 13؛ رؤ 4: 8)، "ملك المجد" (مز 24: 10)، "إله المجد إلى دهر الدهور" (1 تي 1: 17)، "إله القوات" (مز 68: 13)، "ملك الملوك" (1 تي 6: 15)، "رب الصباؤوت" (إش 1: 9؛ رو 9: 29)، "رب الأرباب" (1 تي 6: 15). وفيما يخص ترتيب العناية الإلهية: "إله خلاصنا" (مز 68: 19)، "إله النقمات" (مز 94: 1) "إله السلام" (رو 15: 33) و"إله البرّ" (مز 4: 1)، "إله إبراهيم وإسحق ويعقوب" (خر 3: 6) أو إله إسرائيل الروحي (قارن رو 9: 6، 11، 26؛ غل 6: 16) الذي نظر الله وجهًا لوجه (تك 32: 30)[76]. القديس غريغوريوس النزينزي اَللهُ لَنَا إِلَهُ خَلاَص،ٍ وَعِنْدَ الرَّبِّ السَّيِّدِ لِلْمَوْتِ مَخَارِجُ [20]. كثيرًا ما يشعر الإنسان أنه ليس من مَخْرَجٍ من طريق الموت، فهو أمر حتمي على كل جنس البشر. لكن في يد الله الحياة والموت، وعنده مخارج من الموت. وكما تمتع الشعب بالخروج، عندما انطلقوا من أرض العبودية إلى أرض الموعد، هكذا بالصليب يخرج بنا من الجحيم إلى الفردوس، ويحملنا من العالم لنحيا في السماويات. وَلَكِنَّ اللهَ يَسْحَقُ رُؤُوسَ أَعْدَائِهِ، الْهَامَةَ الشَّعْرَاءَ لِلسَّالِكِ فِي ذُنُوبِهِ [21]. لعله يشير هنا إلى أبشالوم المتمرد على والده، الذي كان معجبًا بشعره الطويل والجميل، ولكن صار له هذا الشعر أشبه بحبل المشنقة حيث دخل فيه فرع شجرة وهو ممتطي فرسه، وإذ تحرك الفرس صار مُعلقًا في الشجرة، وانتهى الأمر بقتله. قَالَ الرَّبُّ: مِنْ بَاشَانَ أُرْجِعُ. أُرْجِعُ مِنْ أَعْمَاقِ الْبَحْرِ [22]. يرى القديس أغسطينوس أن كلمة "باشان" معناها "ارتباك" وأيضًا "جفاف". فإنه الرب يسمع صرخات الذين في وسط الارتباك أو الذين يعانون من الجفاف والمجاعة. يرجع إليهم حتى وإن كانوا في أعماق البحر، لكي يهبهم السلام، والشبع الحقيقي. فالخطية التي تفسد القلب وتدخل به إلى مجاعة لا تقف حائلًا عند رجوع الله إلى الخاطي لكي يحمله من أعماق البحر ويضمه إلى مركبته المتهللة السابق الحديث عنها. إنه مخلِّص البشر، واهب النصرة على إبليس وكل جنوده وأعماله الشريرة. ماذا يقصد بقوله: "من باشان أرجع؟" توجد ثلاثة آراء بخصوص هذه العبارة. 1. يُذَكِّر الرب شعبه كيف خلَّصهم من عوج ملك باشان، هو وجيوشه (عد 21: 32-35). 2. يَذْكُر أمثلة من المخاطر التي تعرضوا لها، منها سقوطهم تحت سلطان عوج ملك باشان، ومخاطر البحر الأحمر، ومع هذا فإن الرب لم يتركهم أثناء شدتهم. 3. الحديث هنا موجه لا إلى شعب الله بل إلى أعدائهم، فإنهم وإن هربوا إلى جبل باشان المرتفع؛ أو اختفوا في أعماق البحر، فمن هناك يأتي بهم ليعاقبهم. الله في رعايته لشعبه واهتمامه بخلاصهم، يأتي بهم حتى إن كانوا في أماكن بعيدة مثل باشان، أو مواضع تبدو مستحيلة مثل أعماق البحر. فقد اهتم بشعبه القديم حين كانوا تحت العبودية في مصر وعبَر بهم خلال أعماق بحر سوف. كما اهتم بخلاصهم في باشان حين دخلوا في معارك سيحون وعوج. لِكَيْ تَصْبِغَ رِجْلَكَ بِالدَّمِ. أَلْسُنُ كِلاَبِكَ مِنَ الأَعْدَاءِ نَصِيبُهُمْ [23]. قلنا قبلًا إنه كان من عادة بعض الشعوب حين ينالون نصرة في معارك يغسلون أقدامهم في دم القتلى من أعدائهم علامة الغلبة النهائية (راجع 2 مل 9: 36؛ إش 63: 1-6؛ إر 15: 3). يرى البعض أنها عادة أخَف من شُرب دم القتيل التي تحمل عنفًا شديدًا وإصرارًا على قسوة القلب. أما المؤمنون فتتطلع أعين قلوبهم إلى ما حدث ليلة خروج شعب إسرائيل حين دُهنت قوائم بيوتهم بدم الحَمَل، لكي لا يدخل المُهْلِك ويقتل أبكارهم. هكذا يرون في دم السيد المسيح، الحَمَل الحقيقي الغلبة على إبليس وملائكته الأشرار، والتطهير من الخطايا، والتمتع بالخلاص الأبدي. "ألسن كلابك من الأعداء نصيبهم": يذكرنا هذا القول بما حدث مع إيزابل الشريرة ورجلها الملك أخاب. جاء عن تأديب الأشرار المصريين على شرورهم وعصيانهم ومقاومتهم للحق الإلهي: "فألقى الملاك منجله على الأرض، وقطف كرم الأرض، فألقاه إلى معصرة غضب الله العظيمة، وديست المعصرة خارج المدينة فخرج دم من المعصرة حتى إلى لجم الخيل مسافة ألف وست مئة غلوة" (رؤ 14: 19-20). * اغمس جسدك في دم المسيح، كما هو مكتوب، إن قدمك يغمس في الدم (مز 68: 23). لتخضل (يرطب) أثر قدمي روحك وخطوات ذهنك بالاعتراف الأكيد بصليب الرب. إنك تغمس جسدك في دم المسيح، إذ تغسل الرذائل، وتنظف الخطايا، وتحمل موت المسيح في جسدك، كما يعلمنا الرسول قائلًا: "حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع" (2 كو 4: 10)[77]. القديس أمبروسيوس 13. مُسَبِّحون عظماء رَأُوا طُرُقَكَ يَا اللهُ، طُرُقَ إِلَهِي مَلِكِي فِي الْقُدْسِ [24]. جاء هذا تصويرًا لما يحدث عند رجوعهم بتابوت العهد إلى أورشليم بعد تمتعهم بالنصرة في الحرب. كان داود المرتل والملك يرقص قلبه طربًا، وتهتف أعماقه الداخلية حين كان ينظر موكب النصرة تحت قيادة الله نفسه الذي كان تابوت العهد يُمَثل حضرته وسط شعبه وقيادته للجيش. يستقبل المُسَبِّحون موكب النصرة، ويشتركون فيه بالتسابيح والتماجيد لله واهب الخلاص، كما تشترك الفتيات ضاربات الدفوف، ويبارك كل الشعب الله واهب الغلبة، تخرج الجموع من كبيرهم إلى صغيرهم لينضموا إلى هذا الموكب. هنا يسبِّح المرتل مع كل الجماعة، الله، إله الجميع. لكن في وسط عمله مع الجمع لا يستطيع أن يتجاهل لمسات الحب الشخصي والعلاقة الخاصة بينه وبين إلهه، فيقول: "إلهي، ملكي". ما يشغله ليست النصرة في ذاتها، وإنما طرق الله إله المستحيلات، الله القدوس، غالب الظلمة والفساد والشر! "في القدس": وهم يسبِّحون الله الذي ينزل إلى شعبه ويقودهم في معركتهم ضد إبليس والخطية والظلمة، يحول أرض المعركة إلى مقادس إلهية، فيقول: "في القدس". فهو القدوس الذي يحول الأرض إلى سماء مُقدسَّة. * "يرون خطواتك يا الله" [24]. الخطوات هي أولئك الذين يكونون معك خلال مجيئك إلى العالم، كما لو كانوا المركبة التي بها تجتاز حول العالم، وهي مركبة السحاب الملاصقة له جدًا، بكونها قديسيه ومؤمنيه في الإنجيل، حيث يقول: "حينئذٍ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحابٍ" (مر 13: 26)... هؤلاء هم "خطواتك التي تُرى"، أي يعلنون نعمة العهد الجديد. لذلك قيل: "ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخيرات" (رو 10: 15؛ إش 53: 7؛ نا 1: 15). فإن هذه النعمة وتلك الخطوات مختفية في العهد القديم، ولكن إذ يحل ملء الزمان يُسَر الله أن يعلن عن ابنه (غل 4: 4)، حيث يُعلَن عنه بين الأمم. "رأوا خطواتك يا الله، خطوات إلهي، ملكي في القدس" [24]. القديس أغسطينوس مِنْ قُدَّامٍ الْمُغَنُّونَ. مِنْ وَرَاءٍ ضَارِبُو الأَوْتَارِ. فِي الْوَسَطِ فَتَيَاتٌ ضَارِبَاتُ الدُّفُوفِ [25]. صورة رائعة لكنيسة المسيح المُنتَصِرة على الدوام. يحتل صفوفها الأولى جماعة الشاكرين، الذين يسبِّحون الله الصالح، الذي يحوِّل الضيقات والمعارك إلى أفراح ومحافل مقدسة وأعيادٍ لا تنقطع. وفي نهاية الصفوف ضاربو الأوتار، الحاملون آلات العزف، الذين يلعب روح الله القدوس على أوتار أجسادهم وأحاسيسهم وعواطفهم وأفكارهم وكل طاقاتهم الخاصة بالروح والنفس والجسد، لكي ما تصدر سيمفونية مقدسة تعلن الحب نحو الله. إنها جماعة المُقدَّسين جسديًا وروحيًا! الذين يعمل روح الله فيهم وبهم كآلات موسيقية ثمينة. أما في الوسط، فالفتيات ضاربات الدفوف. إنه قلب الكنيسة الذي يرقص بالتهليل بالله والفرح بعمله الخلاصي. في اختصار الموكب كله موكب الهتاف والتهليل والفرح السماوي الذي لا ينقطع. هذه الصورة تبدو كأنها صورة غير عادية تتشكل فقط عندما تقوم معركة، وتنتهي بالنصرة، فتتحول فرق الجيش إلى موكب ديني بقيادة الكهنة واللاويين، ويتقدم الموكب تابوت العهد. إنه موكب يومي يختبره المؤمن حيث ينعم كل يوم بنصرات جديدة، وتنطلق أعماقه من مجدٍ إلى مجدٍ، بقيادة روح الله القدوس، في المسيح يسوع السماوي، الذي يُصعِد قلوبنا إلى الأمجاد السماوية بلا توقُف. جاءت كلمة "مغنون" في الترجمة السبعينية: "الرؤساء". ويرى القديس أغسطينوس أن الرؤساء هم الرسل الذين يتقدمون الشعب ويرتلون بأخبار الإنجيل المفرحة. يرتلون بمزمار الأعمال الصالحة كأدوات موسيقية تُسَبِّحه وتمجده. هؤلاء الرسل وسط ضاربات الدفوف أي الخدام الذين يمارسون الخدمة المُكَرَّمة، بإخضاعهم أجسادهم للعمل لحساب ملكوت الله. فِي الْجَمَاعَاتِ بَارِكُوا اللهَ الرَّبَّ، أَيُّهَا الْخَارِجُونَ مِنْ عَيْنِ إِسْرَائِيلَ [26]. "في الجماعات": موكب النصرة الديني لا يقوم في خيمة الاجتماع وحدها أو الهيكل. من هم هذه الجماعات؟ يرى القديس أغسطينوس أن الجماعات هنا هي الكنائس التي تبارك الرب، إذ تعزف على الرقوق التي هي الأجساد العفيفة التي تُقدِّم نغمات روحية. إنها الجماعات الخارجة من عين إسرائيل، أي من ينابيع الخلاص التي تقيم من البشرية شعبًا مقدسًا لله! يرى المؤمن القائد الحيّ أنه قائد جماعة مقدسة؛ حواسه وعواطفه وأفكاره الخ.، الكل لا عمل له إلا مجد الله بوسيلة أو أخرى. والبيت المسيحي الحقيقي، هو جماعة مقدسة، يسكن السيد المسيح واهب الفرح فيها. الجماعة المقدسة هي الكنيسة التي تضم المؤمنين من آدم إلى آخر الدهور، حيث تتحول في يوم الرب العظيم إلى موكب سماوي على السحاب ينطلق في صحبة العريس السماوي، مع بهجة كل الطغمات السماوية بالعروس الممجدة! يرى القديس جيروم "عين إسرائيل" هنا تشير ينابيع المخلص التي تفيض بالتعليم الإنجيلي، وذلك كقول السيد المسيح نفسه (يو 7: 37-39)[78]. هُنَاكَ بِنْيَامِينُ الصَّغِيرُ مُتَسَلِّطُهُمْ رُؤَسَاءُ يَهُوذَا، جُلُّهُمْ رُؤَسَاءُ زَبُولُونَ رُؤَسَاءُ نَفْتَالِي [27]. كيف يأمر الله الآب الابن بعزه أو قوته؟ إذ صار الابن ممثلًا لنا، وحاملًا إيانا فيه، أقامه ورفعه لكي نقوم نحن فيه وبه ونرتفع معه إلى السماوات كأعضاء جسده. هنا وصف لجانب آخر من جوانب هذا الموكب المفرح؛ حيث يذكر أربعة أسباط كممثلين لكنيسة العهد القديم المتحدة مع كنيسة العهد الجديد. أ. يبدأ بنيامين الصغير الذي كان السبط الملوكي في عصر أول ملك لإسرائيل، شاول بن قيس. فمع ما فعله شاول من شرور بسببها فقد السبط سِمَته الملوكية، وكاد السبط كله أن يبيد (قض 19: 21)، إلا أنه يوجد بين هذا السبط رجال الله القديسين، لا ينساهم الله بسبب شرور الغالبية. وإن كان بنيامين قد صار صغيرًا، لكن الله يَذْكرَهم أولًا بين المشتركين في الموكب، ليفتح باب الرجاء لكل إنسانٍ في كل العصور، دون أن ييأس بسبب شرور أسرته أو مجتمعه! يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يتطلع إلى بولس الرسول الكارز بين الأمم، والقائل عن نفسه: "من سبط بنيامين" (في 3: 5). جاء في الترجمة السبعينية: "بنيامين الذي في دهش أو في نشوة". فإذ تحدث عن الكنيسة المتهللة التي تبارك الله، فهي في نشوة الفرح ودهش، تتمتع برؤية الله، وتتعرف على أسراره. إنها "بنيامين" الجديد، أي الابنة التي تجلس عن يمين أبيها السماوي كملكة، لأن كلمة بنيامين معناها "ابن اليمين". ب. "متسلطهم رؤساء يهوذا": "يهوذا" معناه "اعتراف" أو "حمد"، فتعترف الكنيسة بصلاح الله الذي اختارها ملكة سماوية. هذا السبط الذي احتل مكان سبط بنيامين كسبطٍ ملوكي، صار في يديه السلطة والحكم. لكن ينضم السبطان معًا في موكب الخلاص بروح الحب والتواضع والوحدة على مستوى أبدي. ج. رؤساء زبولون ورؤساء نفتالي: "زبولون" معناه مسكن، فإنها إذ تطلب السكنى في السماء تتحرر من كل الزمنيات. "نفتالي" معناها "متسع"، فإذ تحمل سمة عريسها "الحب الحقيقي"، يتسع قلبها ليصير مسكنًا لله، ومحبًا لكل البشرية. كانت أراضي زبولون ونفتالي بعيدة جدًا عن مدينة أورشليم، كأن لا دور رئيسي لهما في حياة شعب إسرائيل، ومع ذلك يقدمهما المرتل كممثلين كل الأسباط، أو كل الشعب. فالله لا يستخف بعمل أي إنسان أو جماعة. قَدْ أَمَرَ إِلَهُكَ بِعِزِّكَ. أَيِّدْ يَا اللهُ هَذَا الَّذِي فَعَلْتَهُ لَنَا [28]. ختم حديثه مع الشعب ببث روح الطمأنينة، فقد صدر أمر إلهي بعزهم ومجدهم. فيليق بهم أن يُقَدِّموا تسبحة شكر وحمد لله المعتني بعزهم. يوجه حديثه الآن إلى الله ليشكر على ما سبق ففعله الله مع شعبه في الماضي، وعن الأوامر الإلهية الصادرة لحساب مجد شعبه. وها هو بعد أن يشكر يسأل الله أن يُكَمِّل عمله، ليس لأن الله غير أمين في تنفيذ وعوده، إنما لأن الإنسان ينسى أحيانًا الله في وقت الفرج بعد أن ينال الكثير من بركاته، فيطلب التدخل الإلهي حسبما يحقق ما يشتهيه الله لشعبه. * عرف المغبوط داود جيدًا أنه لا يستطيع بمجهوداته الذاتية أن يضمن ازدياد عمله وجهده، ومن ثم توسَّل بصلوات متجددة أن ينال "التوجيه" لعمله من الرب، قائلًا: "وجِّه يا الله عمل أيدينا... وأيضًا يقول: "أيَّد يا الله هذا الذي فعلته فينا" (مز68: 28)[79]. القديس يوحنا كاسيان مِنْ هَيْكَلِكَ فَوْقَ أُورُشَلِيمَ، لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا [29]. يتحدث المرتل بروح النبوة عن الأمم القادمة، تقبل الإيمان وتصير أعضاء في الكنيسة، وتقدم هدايا لله. يتحدث عن ملوك وحكام وثنيين يؤمنون، مثل قسطنطين الكبير، كما يتحدث عن كل مؤمنٍ قادم من الأمم، إذ يصير مَلِكًا، باتحاده بملكٍ الملوك ورب الأرباب. * صار إبراهيم أممًا، بمعنى أن إيمانه قد انتقل إلى الأمم وإلى ملوك العالم، الذين صاروا مؤمنين، خاضعين لسلطان الرب يسوع، الذي قيل له: "لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا" (مز 68: 29). إنه ليس بالأمر غير المعقول، لأن سلالة إبراهيم لا تصير فقط ملوكًا من جهة الرُتبة، وإنما هم ملوك بالمعنى، إذ ليسوا عبيدًا للخطية؛ إنهم شعب لن يغلبه الشر، لأن لا سلطان للموت عليهم[80]. القديس أمبروسيوس * أية هدايا مقبولة مثل ذبائح التسبيح؟ القديس أغسطينوس انْتَهِرْ وَحْشَ الْقَصَبِ صِوَارَ الثِّيرَان،ِ مَعَ عُجُولِ الشُّعُوبِ، الْمُتَرَامِينَ بِقِطَعِ فِضَّةٍ. شَتِّتِ الشُّعُوبَ، الَّذِينَ يُسَرُّونَ بِالْقِتَالِ [30]. من هم وحوش القصب إلا التماسيح وغيرها من الحيوانات المائية أو البرمائية المتوحشة. يطلب المرتل من الله أن ينتهر الذين يريدون افتراس الكنيسة، والمقاومين لإنجيل الخلاص، سواء كانوا من اليهود أو الأمم. إنهم يجدون مسرتهم في مقاومة الحق، والدخول في قتال ضد أولاد الله، لهذا يطلب المرتل أن يشتتهم، أي يُفسد خططهم، كما أفسد خطة شاول الطرسوسي، وهداه إلى الحق، ليصير كارزًا بعد أن كان مُجَدِّفًا ومُضطهِدًا ومفتريًا. لا يحتمل عدو الخير أن يرى كنيسة المسيح وقد تمتعت بالعز والقوة، وصار أعضاؤها ملوكًا وكهنة، يُقَدِّمون هدايا مقبولة، أي تسابيح الحمد والشركة، فيثير عليهم الأشرار كوحوشٍ قادمة من بين القصب، وثيران وعجول من بين كل الشعوب. * يدعوهم ثيرانًا بسبب كبرياء عنقهم العنيد الذي لا يقبل الترويض، إذ يشير إلى الهراطقة. وبقوله: "بقر الشعوب" أظن أنها النفوس التي تنحرف بسهولة، إذ بسهولة تتبع تلك الثيران. فإن (الهراطقة) لا يُضلُّون كل الشعوب، الذين من بينهم أناس جادون وثابتون. لذلك كُتب: "في شعبٍ عظيم أُسَبِّحك" (مز 35: 18). إنما يضلون فقط البقر الذين يجدونهم بين الشعوب. فإنه من هؤلاء هم الذين يدخلون البيوت ويسبون نُسيات محملات خطايا، منساقات بشهوات مختلفة، يتعلمن في كل حين، ولا يستطعن أن يقبلن إلى معرفة الحق أبدًا (2 تي 3: 6-7). القديس أغسطينوس * إذ يرى النبي المقدس داود بالروح أنه ينبغي علينا أن نصير بالنسبة للوحوش الضارية مثل ساكني السماء، يقول: "انتهر وحوش الغابة" [30] وهو لا يشير في الواقع إلى الغابة التي تهتز لركض الحيوانات المفترسة وتروع لزئير الحيوانات، بل الغابة التي كُتب عنها "وجدنا" في حقول الوعر (الغابة). (مز132: 6) التي فيها كما يقول النبي: "الصديق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان" (92: 12) تلك الغابة التي تهتز عند قمم الأشجار، تحدث عنها في النبوة إذ جاء منها غذاء الكلمة السماوي (اللوغوس)، تلك الغابة التي دخلها بولس حقًا كذئبٍ مفترسٍ، لكنه خرج منها راعيًا للخراف "لأنه في كل الأرض خرج منطقهم" (مز 19: 4). لكن الآن بالروح القدس انتهى فإن هياج الأسود ووثبات النمور وخداع الثعالب وخطف الذئاب من مشاعرنا. عظيمة إذن النعمة التي غيَّرت الأرض إلى سماء، حتى أن سيرتنا نحن الذين كنا قبلا نجول كوحوش ضارية في الغابة، قد صارت في السماويات (في3: 20). القديس كبريانوس * "انتهر وحش القصب"، أي المخلوقات التي تكتب إثمًا، وتتكلم بالأكاذيب ضد الرب، وترفع أفواهها ضد العلي[81]. القديس جيروم يَأْتِي شُرَفَاءُ مِنْ مِصْرَ. كُوشُ تُسْرِعُ بِيَدَيْهَا إِلَى اللهِ [31]. الكلمة المترجمة هنا "تُسْرِع"، يترجمها البعض "تسبق". وإن كانت الترجمتان تنطبقان على الأمم التي سبقت اليهود وصارت عروس المسيح، كنيسة الأمم، هذه التي متى كملت، يقبل اليهود الإيمان بالسيد المسيح في آخر الأزمنة، كقول الرسول بولس (رو 11: 25-26). يرى القديس أغسطينوس في مصر وكوش إشارة إلى كل الأمم حيث يأتي منها سفراء للسيد المسيح أو شرفاء، يبشرون بكلمة الإنجيل المفرحة، ويسرعون بأياديهم إلى الله، إذ يعلنون إيمانهم بالعمل. * لم يقُل شيئًا سوى: "كوش تسرع بيديها إلى الله" [31]، بمعنى أنها ستؤمن به. فإنه هكذا ستأتي بيديها، أي بأعمالها. * ليس من الإسرائيليين وحدهم اُختير الرسل، وإنما أيضًا من بقية الأمم، لكي يكونوا كارزين بالسلام المسيحي. القديس أغسطينوس * "كوش ستمد يدها لله" (مز 68: 31 LXX). بهذا تعني مظهر الكنيسة المقدسة، التي تقول في نشيد الأناشيد: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم" (نش 1: 5). سوداء بالخطية، وجميلة بالنعمة. سوداء بحالها الطبيعي، وجميلة بالخلاص. هكذا هي سوداء بتراب أعمالها، لهذا فهي سوداء في جهادها، لكنها جميلة عندما تتكلل بزينة النصرة[82]. القديس أمبروسيوس * يمكن أن تكون العروس سوداء وجميلة في آن واحد، ولكن احذر، فإنه إن لم تُقدِّم توبة قوية ستوصف روحك أنها سوداء وذميمة، وحتى لا يكسيك الخزي مرتين لأنك أسود بخطاياك السابقة، ودميم لأنك ماضي في نفس خطاياك، أما إذا قدمت توبة، فنفسك ستكون سوداء بسبب الخطية ولكن من أجل توبتك سيكون لها الجمال الأثيوبي كما جاء في الكتاب حينما تكلم هارون ومريم على موسى بسبب المرأة الكوشية (عد 1:12) موسى الجديد اتخذ أيضا لنفسه زوجة كوشية. لقد وصلت وصاياه إلينا، فليتكلم إذن هارون كاهن اليهود، ولتتكلم مريم التي تمثل مجمعه، فموسى لا يضع وزنًا لكلامها، فهو يحب الكوشية، التي قال عنها النبي: "من أقصي عمق النهر يقدمون لك الذبائح" (مز8:71) وأيضا أثيوبية تسبق أيدي إسرائيل أمام الله (مز 31:68). بالحق تكلم الكتاب "يسبق" ففي العهد الجديد سبقت نازفة الدم ابنة رئيس المجمع (مت 18:9). بهذه الطريقة شفيت الكوشية ومازال إسرائيل مريضًا لأن بزلتهم (إسرائيل) صار الخلاص للأمم لإغارتهم (رو 10:11). العلامة أوريجينوس * دعونا نشرح معني العبارة التي قالها القديس بولس الرسول، فما المقصود بأن جميع إسرائيل سيخلص، عندما يدخل ملء الأمم؟ كان يوجد إسرائيل للخلاص: فإن كان الجزء الأكبر من إسرائيل قد سقط، لكن حصلت بقية حسب اختيار النعمة (رو 11: 5)، بقية قيل عنها في إيليا: "أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل". وفي شرح المقصود بهذه البقية، يقول بولس الرسول: "فكذلك في الزمان الحاضر أيضًا، قد حصلت بقية حسب اختيار النعمة" (رو 11: 5). إذًا كان يوجد في إسرائيل بقية للخلاص حينما كانت إسرائيل مطرودة. ولم يقل الرسول: "عندما يخلص جميع الأمم، فحينئذ سيخلص جميع إسرائيل"، وإنما: "إلي أن يدخل ملء الأمم. وهكذا سيخلص جميع إسرائيل". فإن إسرائيل سيخلص ولكن ليس بعد أن يخلص كل الأمم، وإنما بعد أن يخلص ملء الأمم[83]. فمن هو قادر أن يحسب لنا بعقله الوقت المتبقي، في رأيه، والذي فيه تعبد جميع الشعوب الله، وكما هو مكتوب في صفنيا: "من عبر أنهار كوش المتضرعون إلي متبددي يقدمون تقدمتي" (صف 3: 10). وكما يقول المزمور 68 أيضًا، حينما تسرع كوش بيدها إلي الله (مز 68: 31)، وبعد كم من الوقت والزمان سوف يعطي "كلمة الله" الأمر لجميع ممالك الأرض قائلًا: "يا ممالك الأرض، غنوا لله، رنموا لإله يعقوب" (مز68: 32)[84]. العلامة أوريجينوس * ثم إن ملاك الرب دعا فيلبس في الطريق من أجل الإثيوبي الخصي التقي جدًا، إذ سمع بوضوح الروح يقول له: "تقدم ورافق هذه المركبة" (أع 8: 29). لقد علَّم الخصي، وعمّده، فذهب إلى إثيوبيا كرسول المسيح، كما هو مكتوب: "إثيوبيا تبسط يدها" (مز 31:68). واختطف الملاك فيلبس، فصار يبشر بالإنجيل في المدن بالتتابع[85]. القديس كيرلس الأورشليمي 14. دعوة كل الأمم للتمتع بالعطايا الإلهية يَا مَمَالِكَ الأَرْضِ غَنُّوا لله. رَنِّمُوا لِلسَيِّدِ. سِلاَهْ [32]. شهوة قلب داود إمام المغنين أن يتحول العالم كله إلى خورُس المسبِّحين لله. فحينما يدعو الأرض كلها للإيمان، يسألهم أن يهتفوا وأن يُغنُّوا ويرنموا لله مخلصهم. فمن يتحول قلبه إلى خورُس للتسبيح يكون حتمًا قد قَبِلَ الإيمان. لِلرَّاكِبِ عَلَى سَمَاءِ السَّمَاوَاتِ الْقَدِيمَةِ. هُوَذَا يُعْطِي صَوْتَهُ صَوْتَ قُوَّةٍ [33]. إذ صعد الرب إلى سماء السماوات أعطى صوته، صوت القوة القادر أن يجتذب حتى المقاومين إلى الإيمان به والالتصاق به، لكي يتمتعوا بعربون السماء. *قال العريس: "لا يكفي أن تقوموا من سقطتكم على الأرض، ولكن يجب أن تتقدموا في عمل الخير وتَصِلوا إلى آخر الطريق في الفضيلة." نتعلم هذا من مثال المفلوج في الإنجيل (مت 8: 6)، فلم يقل السيد المسيح للمفلوج أن يحمل سريره فقط، بل أمره أن يمشي. إنني اعتقد أن هذا النص يوضح التقدُّم والسير نحو الكمال. يقول المسيح: "قُمْ وتعالَ". ما هي القوة التي تَكْمُنُ في هذا الأمر؟ حقًا إن صوت الله هو صوت القوة (مز 68: 33). يقول: "أعطوا عِزًّا لله على إسرائيل جلاله وقوته في الغمام". ثم يقول: "لأنه قال فكان، هو أَمَرَ فصار" (مز 33: 9). انظر أيضًا ما يقوله العريس لعروسه: "انهضي ثم تعالي"، وفي الحال يتحوَّل أمره إلى حقيقة، وفي نفس الوقت تستقبل العروس قوة كلمة الله، فتقف وتتقدم نحوه، وتقترب من النور. ويشهد كلمة الله عندما يراها ويقول: "أجاب حبيبي، وقال لي: قومي يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالي" (نش 2: 10)[86]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص جاء في الترجمة السبعينية: "للراكب على سماء السماوات نحو الشرق eastward. "يرى القديس مار أفرام السرياني أن السيد المسيح الذي صعد من المشارق يوجِّه نظره إلى العالم، وبالتالي ينجذب العالم إلى الشرق، مشتاقًا أن يسمع صوته الإلهي. * من لا يؤمن بقيامته وصعوده لا يفهم هذه الكلمات عن المسيح. لكن، أليس بإضافة قوله "نحو الشرق" يُعبِّر عن تلك البقعة عينها، حيث قام وصعد في مناطق الشرق؟ لذلك فوق سماء السماوات جلس عن يمين الآب. هذا ما يقوله الرسول: "الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السماوات" (أف 4: 10). القديس أغسطينوس * حقق لنا أن إلهنا يسوع المسيح جالس بناسوته على عرشه في الشرق، ووجهه إلى العالم ناظر، لكي يكون كل من يُصلِّي إلى الشرق ويسجد بين يديه، يُصلِّي ويتضرع إلى رحمته[87]. القديس مار أفرام السرياني أَعْطُوا عِزًّا لله. عَلَى إِسْرَائِيلَ جَلاَلُه، وَقُوَّتُهُ فِي الْغَمَامِ [34]. إذ يسمع العالم صوت المخلِّص، لا ينتفع السيد بشيء، فهو ليس بمحتاج إلى عبادتنا. إنما يرتد هذا إلينا، فيمتلئ إسرائيل الجديد، أي الكنيسة بإشراقات جلال الله وبهائه، وتُعلَن قوة المخلِّص في قديسيه الذين يُشَبَّهون بالغمام أو السحاب. مَخُوفٌ أَنْتَ يَا اللهُ مِنْ مَقَادِسِكَ. إِلَهُ إِسْرَائِيلَ هُوَ الْمُعْطِي قُوَّةً وَشِدَّةً لِلشَّعْبِ. مُبَارَكٌ اللهُ! [35] يقيم الله من مؤمنيه هيكلًا مقدسًا، يحمل مهابة الله فيه، ويقدم له قوة وإمكانيات سماوية، فيصير الكل خورُس للتسبيح، يباركون الله مخلِّص العالم. * "لا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير... لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الدهور". فالله إنما يهب القوة للإنسان الذي يطيعه "لأن لك القوة"، لأنه مكتوب: "الرب يعطي القوة والشدة لشعبه". (مز 35:68) القديس إسطفانوس الطيبي من وحي مز 68 موكب المسيح الصاعد إلى السماوات * في تهليل فائق ودهشة، يستقبلك السمائيون، يرون موكبك العجيب! أنت وحدك الذي من السماء، تقدر أن تدخل بنا إلى سماواتك، لتقم وتقيمنا معك. لتصعدنا معك نحن أعضاء جسدك. تقبلنا كمركبات مقدسة، تصعد، وليس من يقدر أن يعوقها، فأنت قائد الموكب كله! يهيج إبليس وجنوده، لكنهم يتبددون كالدخان أمام الريح، ويذوبون كالشمع أمام النار. * تقود موكبك السماوي، إذ يجد الأيتام فيك أبًا لهم، وتجد الأرامل وكل المظلومين فيك قاضيًا. تقيم منهم مركبات نارية، تجعلهم هيكلًا مقدسًا، وتدخل بهم إلى أورشليم العليا. تقيم للمنبوذين مسكنًا خاصًا يستقرون فيه، وتجعل لك مسكنًا تستريح فيه. تَحِل قيود المربوطين وتُحَرِّر الأسرى، تأسرهم بحبك وغنى نعمتك. عوض أسر إبليس المظلم الكئيب، يأسرهم برُّك ويملأهم فرحًا. يحملون نيرك العذب، ويشتركون مع السمائيين في تسابيحهم. * أنضحت على شعبك منًا في القديم، والآن تنضح عليهم بروحك القدوس قائدًا ومُقَدِّسًا لهم. يهبهم روحك جمالًا فائقًا. يطيرون كما بأجنحة حمامة، مغشاة بفضة كلمتك، وريشها يحمل سمة السماويات. يطفي عليهم بهاءً فائقًا، ويصيرون كالثلج عوض الطبيعة القاتمة. * موكبك عجيب، يضم مؤمنيك الذين اخترتهم بحبك! تجعل منهم جبالًا لك، مثل جبل صهيون المُزيَّن ببيتك المقدس. ليس لهم في ذواتهم ما يفتخرون به. لكن عطشك إليهم وشوقك إلى السُكنَى فيهم سرّ بهائهم. * موكبك عجيب، تكشف لمؤمنيك طرقك، ويتعرفون على أسرارك، فيمتلئون فرحًا وتهليلًا. لا يتوقفون عن العزف معًا. يعزفون بأرواحهم وأجسادهم، بعقولهم وعواطفهم وأحاسيسهم. كل كيانهم يُهَلِّل لك بكل الطرق. لك المجد يا قائد الموكب العجيب! * ما أعجبك أيها القدوس، نزلت إلىَّ، والتقيت بي، أنا المدفون في قبر خطاياي! من أجلي، قبلت الآلام والموت والدفن! قمتَ يا مخلصي بالجبروت، وحطَّمتَ كلَّ قُوَى العدو، وأدخلتني إلى موكب نصرتك، فأحيا دومًا ببهجة قيامتك وقوَّتها! * أرسلتَ لي روحك القدوس، قائد كنيستك، كريح عاصف يُبَدِّد شرِّي كالدخان، فأنعم برؤية صادقة لأسرار حبك لي! وكنارٍ ملتهبةٍ تحرق كل أشواك الخطية، وتُشعِل فيها نيران حب، لا يقدر العالم كله أن يُطفئها! * عجيب أنت في قيادتك! حضورك يحطم الشر، ويبهج مؤمنيك! بحضورك تهرب الظلمة، فتتهلل نفوسنا وتسبحك! علمني كيف أرتل لك بالمزامير. ينطق بها لساني، ويلهج بها قلبي وفكري، وتمارسها كل أعضاء جسدي! * إن كان العدو قد خدعني بنوره الكاذب، أشرَق عليّ فملأني ظلمة، وصرتُ من المغارب. فلتُشرق يا شمس البِر عليَّ، ولتحتل قلبي طريقًا لك في المغارب. لقد رفضتُ نورَ العدو المُخادِع، لأصير له من المغارب، وقبلت قيادتك، فأصير لك من المشارق. لتغرب أيها العدو عن أعماقي، ولتُشرِق أيها العريس السماوي في إنساني الداخلي! * يا قائد موكب النصرة، يا أب الأيتام وقاضي الأرامل ومُحَرِّر المأسورين. لقد رفضتُ أبوة إبليس وشركته، تعالَ إليّ، فإني يتيم وأرمل ومأسور! تعالَ، اسكنني مع كل المحتاجين إليك، فأصير لك مقدسًا، احمل روح القداسة والحب والوحدة! حرَّر نفسي من قيود الخطية، أطلقني من قبر خطاياي. اخرجْ أمامي أيها القيامة فأخرج معك! * لتجتز معي أيها القائد برية هذه الحياة، فيتزعزع إنساني القديم كأرض يابسة، وتمطر نفسي بعمل نعمتك كسماءٍ جديدةٍ! سرّ معي في سيناء حيث التجارب والآلام، حتى أنعم بكنعان السماوية. * لتمطر عليّ بفيض نعمتك، هذا المطر العجيب الذي أفرزته لأولادك الذين هم ميراثك! أنت وحدك تعرف قفر حياتي وجفافها، أنت وحدك تهبني بمطرك السماوي ثمر الروح! * أمطرت على شعبك بالناموس من السماء، هذا الذي صار ضعيفًا، لأنه هددنا بالعقوبة دون أن يُقَدِّم النعمة! وأما نحن الضعفاء، فبك صرنا ميراثك الكامل، لأنك قدَّمت ذاتك نعمةً لنا، يا واهب النعم السماوية! * أيها القائد العذب، ملك القوات الجبار، بعذوبتك أغنيتني أنا الفقير، وبروحك أعطيتني قوة للكرازة بأعمالك، لأحمل إلى بيتك البهي غنائم كثيرة! * هب لي أيها القائد أن أضطجع وسط الأنصبة، أستريح وسط مواعيدك الإلهية، فأصير في عينيك كحمامةٍ نقيةٍ، أطير بجناحي الحب إلى أغصان شجرة الصليب، وتتسم أعماقي بالفكر السماوي. * هب لي سلطانًا، وأقمني مَلِكًا، أعرف بروحك القدوس كيف أضبط جسدي، وأُسَلِّمك كل أعضائي آلات بَّر تعمل لحساب ملكوتك. * أعطني أن أنعم بالحياة الكنسية الإنجيلية، فأصير كحمامة تطير بنقاوة وبساطة نحو السماويات، وكجبل دسم يحمل ثمر الروح، وكمركبة نارية لا تكف عن الجهاد الروحي ضد الظلمة! |
|