الاستنارة في حياة آباء البرية
اتسمت حياة آباء البرية(1) (أقصد: Abbots) بالاستنارة واتساع الأفق الروحي واللاهوتي، وكلما كان الأب أمينا في الطريق، وتكرس قلبه بمحبة الله ولها، منحه السكون الذي يعيشون فيه استنارة داخلية(2).
هكذا أشرق الله عليهم بحبه منذ البداية فتركوا كل شيء وتبعوه (أولئك الذين أشرقت عليهم بشعاع من حبك لم يحتملوا السكنى بين الناس - الشيخ الروحاني).
وعندما سئل القديس أنطونيوس عن أدواته ولغته في حياته قال: "إن لغتي هي السكون. لذلك أستطيع أن أقرأ لغة الله في أي وقت أشاء" (يقصد الاستنارة).
ويقول القديس موسى الأسود: "كل الأمور الروحية يختبرها الإنسان بالإفراز ويميزها، ولن يأتينا الإفراز ما لم نتقن أسباب مجيئه وهي السكون، لأنه كنز الراهب. والسكون يولد النسك ....الخ).
ومحبة الآباء لله جعلتهم يسمون فوق القانون. فالقانون هو للمبتدئ ولكن الذين استنيروا تخطوا القانون. وصارت لهم الحرية في التدبر.. ولقد درب الآباء أولادهم كيف يستنيرون ويأخذون من الله ويشرق بنوره فيهم، حتى يستطيعوا من ثمّ أن يرشدوا هم آخرين. فهي ليست مسألة تلقين ولكنها نقل الشعلة (أن كلمة تقليد في الأصل اليوناني تعني نقل الشعلة من شخص إلى آخر).
+ عندما سَلَّم القديس بيصاريون تاييس التائبة إلى رئيسة الدير طلب منها قائلًا (أفسحي لها المجال لتتدبر كيفما تشاء) ذلك بسبب الإشراقة العجيبة التي سطعت في قلبها فانتشلتها من الماخور إلى البرية (بحسب تعبير الشيخ الروحاني في أنشودة التوبة).
فلم يكن الصوم في حد ذاته هدفًا.. ولا الصلاة.. فيعاقب شخص بالصوم بينما ُيعاقب آخر بالأكل.. إذا كان ذلك على سبيل العلاج. كما نقرأ عن القديس باخوميوس أنه منع شخصًا من الصلاة لأنها لم تكن لحساب الله(3). في ذلك يقول القديس يوحنا الدرجي: "أحيانًا يكون دواء أحد سما للآخر. أحيانًا يكون الدواء عينه شافيه للإنسان عينه في وقت دون الآخر"(4).
وهناك أيضا ما يسمى بالثمرة الطبيعية، فقد ورد في سيرة القديس باخوميوس أيضًا، أنه اضطر للسفر وترك أحد الأخوة بتدبير احتياجات الآباء من الطعام، والذين شكوا له من عند عودته من إهمال الأخ، فما كان من القديس باخوميوس إلاّ أنه استدعى ذلك الأخ واستفسر منه عما حدث، فأخبره بأنه فكر في مساعدة الآباء على النسك وذلك بعدم تقديم الطعام المطبوخ لهم، بل الاكتفاء الخبز والقليل من الطعام البسيط، على أن يستثمر هو وقته في عمل القفف. وهنا أمره القديس بإحضار جميع ما أنجزه وكان كثيرًا جدا. جمع القديس كل الرهبان حول كومة القفف ثم قال للأخ: لقد أبطلت الثمرة الطبيعية للفضيلة! (وكان يقصد بالطبع أن النسك يجب أن يكون اختياريًا).
لذلك فقد سعى الآباء لتدريب أبنائهم كيف يتدربون مع الوقت ليصيروا هم آباء، حسب قول القديس بولس: "وأما الروحي (المستنير) فيحكم في كل شيء وهولا يحكم فيه من أحد (1كو 2: 15)،وقد اجتهد القديس أنطونيوس كثيرًا في تدبيره لتلاميذه لكي يجعلهم يعتمدون علي أنفسهم، فيحفرون لهم المغارات بعيدا عنه، ولا ينتسبون إليه بل إلى الله.. ويختبرون ذلك بأنفسهم. فقد قال للقديس بولا البسيط: "اذهب إلى البرية الجوانية وذق طعم الوحدة" فكان يطلب لهم الاستنارة ويطلب بإلحاح من الله لأجلهم ويطلب إليهم الإلحاح هم أيضا إلى الله في ذلك..
_____
الحواشي والمراجع:
(1) أُطْلِقَت كلمة Abbots على الآباء مديري الرهبان ورؤساء الأديرة منذ عصر مبكر. انظر كتاب التلمذة الروحية - راهب من دير البرموس (الأنبا مكاريوس الأسقف العام).
(2) يرد في بستان الرهبان قصة عن أب أراد معلمه الروحي أن يشرح له علاقة السكون بالاستنارة، فجعله يصب الماء في كوب ثم نظر فيه وإذا به هائج وعكر فلمّا تركه لبعض الوقت هدأ وصار صافيًا.
(3) (سيرة الأنبا باخوميوس. بستان الرهبان).
(4) الدرجى ص 309.