رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المحاكمة أمام فيلكس + ويعطينا القديس لوقا أربع صور طريفة عن هذه الأيام في قيصرية الصورة الأولى: + الأولى تحملنا إلى قاعة المحاكمة في قصر الوالي، وقد جلس فِيلكس على كرسي الولاية، وجاء حنانيا مع المشتكين واستحضر معه خطيبًا اسمه ترتلّوس ليرفع الشكوى ضد الرجل الذي دعاه "الحائط المبيضّ". وفي هذه المرة تصالح الفريسيون مع الصدوقيين متكتلين ضد بولس. وكانت كلمة ترتلوس كلها رياء ومداهنة للوالي الذي أبغضه اليهود أكثر من أي والٍ آخر لبطشه بهم وقتله رئيسًا من كهنتهم ثم انتقل إلى اتهام رسول الأمم بأنه مفسد ومهيّج فتنة ومقدام شيعة الناصريين وقد شرع في أن ينّجس الهيكل وكانوا سيحكمون عليه وفقًا لناموسهم لولا أن كلوديوس ليسياس انتزعه بعنف من أيديهم. + ولكن فِيلكس يعرف الكثير عن هؤلاء "السادة المحترمين"، فيريد أن يسمع المشتكي عليه. ويقف الأسير ويداه مُكبلتان بالسلاسل، ولفوره يستحوذ على انتباه رجال البلاط. قال: "أني إذ قد علمت أنك منذ سنين قاض لهذه الأمة أحتجُ عما في أمري بأكثر سرور. وأنت قادر أن تعرف أنه ليس لي أكثر من أثنى عشر يومًا منذ صعدت لأسجد في أورشليم ولا يستطيعون أن يثبتوا ما يشتكون به عليّ الآن ولكنني أقرُ لك بهذا أنني حسب الطريق الذي يقولون له شيعة هكذا أعبد إله آبائي مؤمنًا بكل ما هو مكتوب في الناموس والأنبياء، ليقل هؤلاء أنفسهم ماذا وجدوا فيّ من الذنب وأنا قائم أمام المجمع..". + وليس من شك في أن هناك قوة مقنعة في موقف إنسان صادق وسط مرائين مُدعين. وليس من شك أيضًا في أن فِيلكس أحسّ بهذه القوة على الرغم من أنه لم يكن مستقيمًا. فأجّل الحكم ليستطلع كلوديوس ليسياس. الصورة الثانية: + والصورة الثانية غريبة وغير متوقعة، فلقد جئ ببولس ثانية أمام فِيلكس، وللمرة الثانية نرى أن الرسول الباسل هو الشخص المسيطر على الرغم من السلاسل المقيدة له. وهذه الوقفة ليست في قاعة محاكمة بل في صالون استقبال! وقد دعاه فِيلكس وعروسه الشابة دروسيللا ليسمعاه. عن أي موضوع؟ عن الإيمان بيسوع المسيح الذي وقع بولس في الأسر بسببه! + ياللعجب! وليس من شك في أن بولس نفسه تعجّب للطلب قدر تعجّبنا نحن. ترى، هل كانت دروسيللا هي الحافز؟ إنها يهودية. وهي ابنة هيرودس الذي اضطهد الكنيسة وقتل القديس يعقوب. ولكن بولس لم يُشر إلى هذا الواقع بكلمة لأن الله وحده يعرف ما في قلبها ويعرف السبب الذي دفعها إلى الرغبة في أن تسمعه. وهو في الوقت عينه لا يفكر في إمكانية نجاته لأن رسالته العظمى هي شاغله الشاغل. + واستحوذ بولس على انتباههما. ولسنا ندري ما جال في أعماق دروسيللا ولكن فِيلكس ارتعد وهو يصغي إليه وهو يتكلم عن البر والتعقّل والدينونة، فقد أمسك ضميره بخناقة، لأن تاريخه فائض بالجريمة والخيانة وهتك الأعراض. والضمير هو صوت الله الحنون ينادي إلى التوبة. وبدا في لحظة ما كأنه يريد أن يتوب، ولكنه -كغيره كثيرين- لا يريد أن يتوب لفوره، فقال لبولس: "اذهب الآن ومتى حصلت على وقت أستدعيك". + آه! متى حصلت على وقت! وياللأسف أننا كثيرًا ما نقف هذا الموقف. ولكن علينا أن نتيقن بأننا في كل مرة نلتقي بالسيد المسيح ونؤجل "لوقت مناسب" نباعد بيننا وبين إمكانية التلاقي. لأن كل تأجيل مثل هذا يلقى بغشاوة على العين الباطنة ويزيد القلب قساوة. + وأواه لك يا فِيلكس! فذلك الوقت المناسب لن يتيسّر لك. ففي شهور قليلة ستُلقى بعيدًا عن وظيفتك الكبيرة وتتلاشى من التاريخ نهائيًا. وهذه العروس سيبتلعها بركان فيزوفيوس في ثوراته هي وابنها ليلة أن ابتلع مدينة بومبي بأكملها(1). كم كان يكون لخيركما لو أنكما أطعتما بولس ذلك اليوم وهو يحدثكما عن البر والتعقل والدينونة ويخبركما عن معنى الإيمان بالسيد المسيح. + ولكن قبل أن نلومهما علينا أن نفحص أنفسنا بدقة لنعرف أين نقف بالضبط من رب المجد؟ الصورة الثالثة: + أما الصورة الثالثة فبعد سنة من الثانية، فقد رفع اليهود شكواهم إلى قيصر ضد فِيلكس، فاستدعاه إلى رومية لمحاكمته، ورغم أنه في الإمكان استرضاء مشتكيه بتركه بولس في السجن. ويقول لنا الكتاب أنه كان يأمل في أن يعطيه أسيره رشوة ليفرج عنه. + وجاء فستوس واليًا، وزعم اليهود أن في إمكانهم خداعه. فعاودوا طلبهم بإرسال بولس إلى أورشليم ولكن فستوس ليس بالبساطة التي توهموها. فأجابهم: "كلا فبولس يبقى هنا وأنتم تأتون بشكايتكم إلى قيصرية". وهكذا اجتمعوا ثانية في قاعة المحاكمة بقصر الولاية، ولكنهم لم يستطيعوا إثبات شيء بل إنهم أرهقوا الوالي بصخبهم وكثرة كلامهم. وفي ملله التفت إلى بولس وسأله: "أتريد أن تذهب إلى أورشليم؟". + على أن الرسول الباسل كان قد سئم التسويف والمماطلة وإذ وجد أن فستوس بدأ يتراخى اتخذ قراره الحاسم بأن استعان بحقه كمواطن روماني، فقال: "أَنَا وَاقِفٌ لَدَى كُرْسِيِّ وِلاَيَةِ قَيْصَرَ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ أُحَاكَمَ. أَنَا لَمْ أَظْلِمِ الْيَهُودَ بِشَيْءٍ، كَمَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَيْضًا جَيِّدًا. لأَنِّي إِنْ كُنْتُ آثِمًا، أَوْ صَنَعْتُ شَيْئًا يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ، فَلَسْتُ أَسْتَعْفِي مِنَ الْمَوْتِ. وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا يَشْتَكِي عَلَيَّ بِهِ هؤُلاَءِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَلِّمَنِي لَهُمْ. إِلَى قَيْصَرَ أَنَا رَافِعٌ دَعْوَايَ!". ومتى أعلن روماني في أي بلد من بلاد الإمبراطورية المترامية عن رغبته في الاحتكام إلى قيصر لا يستطيع أمير أو والٍ أن ينكر عليه هذا الحق. لذلك يقول لنا الكتاب إن فستوس بعد ما تكلم مع أرباب المشورة، قال له: "إِلَى قَيْصَرَ رَفَعْتَ دَعْوَاكَ. إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ!". (أع 25: 1-12). + وهكذا انتهت القضية مؤقتًا واضطر اليهود أن يعودوا خائبين، وقد أفحمتهم مهارة بولس. وهو رأى كيف ستتحقق كلمة الرب بأنه سيشهد له في رومية. وذهل أمام الوسيلة التي اتخذها هذا الرب العجيب لتوصيله إلى عاصمة الدولة. فما أقصر إدراكنا عن أن يتفهم كيفية استجابة الله لصلواتنا! ففي تدبير الله سيذهب إلى المدينة التي كان متلهّفًا على أن يصل إليها ولكنه سيذهب أسيرًا مقيدًا بالسلاسل! + ترى، هل امتلأت نفس بولس خيبة؟ إن الوحي الإلهي لا يقول ذلك. وليس من شك في أنه باختباراته العديدة مع ذاك الذي تصيده على الطريق إلى دمشق، استشف أن هذه الوسيلة قد وجدها الرب أفضل وسيلة لتوصيله إلى رومية. ونحن الآن نستمتع بالكنوز الفائقة التي نتجت عن السجن هناك. فقد كتب غالبية رسائله منها. وهو قد أعلن أنه "سفير في سلاسل" لأن كلمة الله لا تقيد. فمن الصالح أن نرفع كل طلباتنا إلى الله بالصلاة: الطلبات التافهة والخطيرة سواء بسواء ولكن من الأكثر صلاحًا أن نترك الإجابة بين يديه. ومن عجب أننا نسمع من بولس رنة الفرح وهو يعلن من هذا السجن للفيليبيين: "ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الإِنْجِيلِ، حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ الْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي الأَمَاكِنِ أَجْمَعَ"( فيلبي 1: 12، 13). ويختتم هذه الرسالة بعينها بقوله: "يُسلم عليكم جميع القديسين ولا سيما الذين من بيت قيصر". فكم هو جدير أن نذكِّر أنفسنا بما أنجزه الله على يد ذاك الذي كان مضطهدًا للكنيسة حين استجاب صلاته بأن أرسله "سفيرًا في سلاسل". الصورة الرابعة: + والصورة الرابعة تعطينا دفعة روحية عجيبة، نرى فيها الأسير المقيد الذي قاسى السجن لمدة سنتين يسيطر على أصحاب السلطان الذين في إمكانهم أن يقضوا على حياته! فقد حضر الملك أغريباس ومعه برنيكي ليقدما تهانيهما إلى فستوس، حضرا إلى القصر الذي كانت أختهما دروسيللا سيدته منذ شهور قليلة، وخلال أحاديثهم ذكر الوالي موضوع بولس وأنه ينادي بيسوع الذي مات وهو يؤكد أنه حي. + وكان أغريباس يهوديًا، وهو آخر ملوك أسرة هيرودس. كان جده الأكبر الذي قتل أطفال بيت لحم؛ وعمه هيرودس الذي سجن يوحنا المعمدان ثم قطع رأسه؛ وهو أيضًا الذي أرسل يسوع المسيح إلى بيلاطس بعد أن ألبسه ثوبًا أرجوانيًا؛ بينما كان أبوه هو الذي قتل يعقوب الرسول، وكان في نيته أن يقتل بطرس الرسول أيضًا لولا إنقاذ الملاك له. إذن فقد كان أغريباس على علم بيسوع الناصري الذي ينادي به بولس لذلك أعلن عن رغبته في أن يسمعه. + ففي اليوم التالي جاء أغريباس وبرنيكي بأبهة عظيمة تصحبهما حاشيتهما مع رؤساء الجند ووجوه المدينة. وبأمر من فستوس جيء ببولس. ووقف هنا الأسير والسلاسل في يديه وقلبه متهلل. كان يعلم أن هذه المحاكمة لا قيمة لها إطلاقًا ما دام أنه رفع دعواه إلى قيصر. ولكن، أليست فرصة مواتية ليتحدث فيها عن فاديه العجيب؟ + وتحدث باشتعاله المعهود، ثم أعلن كيف أن المسيا في مجده ظهر له من السماء؛ وكيف أرسله ليحمل الكرازة العظمى لكي يفتح أعين الناس، وينقلهم من الظلمة إلى النور، ومن ربقة الشيطان إلى الحرية التي حررنا بها المسيح. ثم أضاف: "وأنا هنا أقف، وسأقف مدى حياتي شاهدًا للصغير والكبير بما تنبأ به موسى وجميع الأنبياء أن السيد المسيح يجب أن يتألم، وأنه بقيامته من الأموات يعلن النور للجميع: لليهود وللأمميين". + ووسط اشتعاله الملتهب قاطعه فستوس: "أنت تهذي يا بولس، الكتب الكثيرة تحوّلك إلى الهذيان". أجابه: "لست أهذي أيها العزيز فستوس بل أنطق بكلمات الصدق والصحو. لأنه من جهة هذه الأمور عالم الملك الذي أكلمه جهارًا إذ أنا لست أًصدّق أن يخفي عليه شيء من ذلك. لأن هذا لم يُفعل في زاوية. أتؤمن أيها الملك أغريباس بالأنبياء؟ أنا أعلم أنك تؤمن". فقال أغريباس لبولس: "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا". وهنا نتعجب من رد بولس الفوري الصادر عن أعماقه: "كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى اللهِ أَنَّهُ بِقَلِيل وَبِكَثِيرٍ، لَيْسَ أَنْتَ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا جَمِيعُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي الْيَوْمَ، يَصِيرُونَ هكَذَا كَمَا أَنَا، مَا خَلاَ هذِهِ الْقُيُودَ" (أعمال 25: 13-27؛ 26). + وإلى هنا لم يحتمل السامعون أن تزاد لهم كلمة. لقد تراجعوا هم أيضًا كما تراجع فِيلكس ودروسيللا من قبل. ويا لبؤس هؤلاء المتراجعين! فالسيد المسيح واقف يقرع على باب كل قلب. وكأنه يستعطف خليقته أن تفتح له! ومع ذلك فكم هم الذين يلبّون النداء ويسارعون إلى فتح قلوبهم له؟ وهذا الجفاء القلبي هو الذي جعل العلامة المصري الكبير أوريجانوس ينصحنا بقوله: "صلوا لكي يفتح الله نوافذ قلوبكم لتدخل منها النعمة الإلهية". + ومع كونهم لم يؤمنوا إلا أن بولس هزّهم هّزة عنيفة. فقد كان يعرف الفرح والسلام والرجاء في أعماق قلبه، هذه التي يحتاج إليها العالم هنا وفي الدهر الآتي. كان يعرف أن للحياة معنى أعمق وأنبل لم يخطر قط على قلوب هؤلاء السادة فلا غرابة إذن أنهم اهتزّوا على الرغم منهم. ولا غرابة أيضًا بأنهم حين خرجوا كانت ضمائرهم تهمس: "هذا المتعصّب هو على الأقل رجل حقيقي" كذلك لا غرابة في أن أغريباس قال لفستوس: "كان يمكن إطلاق سراحه اليوم لولا أنه رفع دعواه إلى قيصر". + وعاد بولس إلى سجنه ليستعد للسفر بينما ذهب فِيلكس إلى مكتبه وكتب تقريره عن هذا الأسير العجيب وليس من شك في أن روح التقرير كان تعاطفًا معه مما أدّى إلى تبرئة بولس في محاكمته الأولى أمام نيرون. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
المحاكمة أمام السنهدريم (ع 1-2) |
كلمات بولس أمام قاضيه فيلكس الوالي |
حال بعضنا حال الحاكم فيلكس ايام الرسول بولس |
القديس فيلكس وريجولا أخته |
القديس فيلكس | فيليكوس |