أننا من خلال تاريخ الكتاب المقدس نتعرف على أننا جميعاً طبيعة بشرية واحدة، لا تختلف قط مهما تغير الزمان أو المكان أو الظروف، فنحن جميعاً كإنسان نتعرض لنفس ذات التجارب والسقطات والشهوات، وان اختلف شكل السقوط أو مظهره، فمن الممكن أن يسقط أي أحد في أي خطية مهما كان علمه أو تربيته أو أخلاقه أو حتى قامته الروحية، بل ومن الممكن أن يسقط في أعظم الخطايا شراً وعنفاً بل وقد تصل للزنا أو القتل أو أي نوع من أنواع الخطايا التي نعتبرها بشعة للغاية !!!!
فمثلاً حينما يدخل اي جيش في الحرب، لا يُميز العدو ما بين ضابط أو رئيس أو جندي بسيط، بل أنه يضرب الجميع بكل وسيلة دون تمييز، فالقنبلة أو الرصاصة تُطلق في ميدان المعركة ولا تُميز بين غفير ولواء أو بين ملك عظيم أو طفل فقير معدم لا حول له ولا قوة يسير صدفة في ميدان المعركة !!! وهكذا يحارب عدو الخير الجميع بلا استثناء أو تمييز، والكل مُعَرَضْ لكل شيء في هذه الحرب ويُصاب بكل جرح أن لم يحترز وينتبه متمسكاً بقوة الله غير متخلياً عن سلاح القوة الذي استلمه من الله الحي مهما ما كان جرحه لأن قائدنا العظيم يسوع يُشفى من كل جرح …
فبالرغم من ذلك كله أي من إمكانية إصابتنا من جراء العدو الشرس أي إبليس – ومهما ما حدث لنا – فأن الله ينقذنا ويقدم لنا طوق النجاة، وهو الإيمان به كمخلص، وإمكانياته لا تتغير لأنه هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، إذ أنه قادر بفعل نعمته أن يخلق من أشر المجرمين وأعظم العتاة وأفجر الخطاة قديسين وبلا لوم أمامه في المحبة …
فلنا أن نعرف أننا لا نختلف عن القديسين الذين نعتبرهم أعمده في الكنيسة، لا أقصد من جهة القامة أو المواهب، إنما من جهة إنسانيتنا الواحدة، والتي تتعرض للتجارب والسقوط وحرب عدو الخير من جهة معرفته بمداخل الشر عندنا من جهة خبرتنا التي قضيناها في الشر، فهو يدخل لنا من خلال محبتنا للذة معينة أو بسبب كبرياء القلب أو غيرها من الأسباب المتعددة والتي توجد في عمق كل شخص فينا ولم يتطهر منها بالتمام ولم يتمرس على الهروب منها، وفي هذا لا فرق بين صغير وكبير وقديس متقدم في الطريق ومبتدأ في الحياة الروحية !!!
فيا ترى ما هو الفرق الحقيقي بيننا وبين القديسين الذين نجدهم وصلوا للحرية الحقيقية والتطبع بالطبع الإلهي وحراسة القلب والفكر بقوة الله فتحرروا من الهوى في داخل القلب الذي هو المحرك الأساسي للخطية فينا !!!
عموماً الفرق الحقيقي بيننا وبينهم ينصب في أمرين :
[1] الأمر الأول : هو معرفتهم – الإيمانية – بإمكانية النعمة الإلهية المُخَلِّصة القوية القادرة أن تعمل بقوة الله في داخل النفس فتغيرها بالتمام، وقد وضعوا كل ثقتهم في الله المُغير مع تقديم توبة مستمرة عن كل خطأ طالبين ليلاً ونهاراً المعونة الإلهية لتسندهم ليقينهم أنهم بدون نعمة الله لا يقدروا أن يصنعوا شيئاً ولو كان بسيطاً، غير قادرين على أن يسيروا في طريق القداسة لأنهم لا يثقون في قوتهم الشخصية بل في قوة الله وحده !!! لذلك اعتمادهم على الله قوي بل ثابت كجبل من الصخر لا يتزحزح مهما أتت من رياح أو عواصف شديدة أو حتى تكسرت بعض أجزاؤه !!!
فالقديس هو إنسان مثلي ومثلك تماماً، له ضعفاتي وضعفاتك، لأنه عاش بنفس ذات الجسد بكل غرائزه وإمكانياته المعروفة، إنما هو أدرك القوة الإلهية وتلامس معها وتلاقى مع الحب الإلهي في قوة الصليب والفداء بدم حمل الله رافع خطية العالم، وعرف أنه هو زي ما هو ليس له شيء في ذاته يُنجيه أو يُخلصه حتى توبته نفسها، بل نعمة الله العاملة فيه وحدها، لهذا لا عجب في أن القديس بولس الرسول لا يكف عن أن يطلب من أجل شعب المسيح لكي تستنير عيونهم وقلوبهم فيدركوا تلك القوة الفائقة العظيمة التي تعمل في قلوب المؤمنين.
[2] والأمر الثاني الذي ميز القديسين: أن معرفتهم لم تقف عند حدود المعرفة العقلية الجافة كمعلومة أو فكرة للوعظ أو المعرفة أو للرد على الآخرين، أو الإيمان النظري الذهني الفكري، لكن آمنوا إيماناً حياً عاملاً بالمحبة. فالمعرفة الحقيقية تتطلب منا حياة مُعاشة، بالجهد والاغتصاب [ ملكوت الله يُغتصب والغاصبون يختطفونه ]، فينبغي أن نعمل ونجتهد جداً، وكما يقول القديس بولس الرسول: [ لكن بنعمة الله أنا ما أنا ونعمته المُعطاة لي لم تكن باطلة بل تعبت ... ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي ] (1كو15: 1) .
___من الأهمية ___
يا إخوتي أن لا تفزعوا أو تخوروا في أنفسكم وتفشلوا حينما تجدوا أنفسكم وقعتم في أشد الخطايا فظاعة وعنفاً، أو أحد القامات العليا وقعوا في خطايا لا يقع فيها المبتدئين، لأن جميعنا نضعف ونخور ونسقط لأسباب كثيرة متنوعة تختلف من واحد لآخر ومن قامة لقامة، إنما أفزعوا جداً وارتعبوا من عدم التوبة والعودة بقوة أعظم لحياة القداسة والتقوى والشركة المقدسة مع الله، لأن نعمة الله مخلصة ويد الرب لا تُقصر على أن تُخلص، فهو قادر أن يُغير الفجار ويرجعهم مثل الأطفال ويُقيمهم قديسين عظام جداً، فلا تفشلوا أو تحزنوا حزن بلا رجاء حي بيسوع المسيح الذي مات لأجل خطايا العالم كله، لأن الخطية خاطئة جداً تجرح وتُميت، وخطورتها تكمن في أنها تعطي روح الفشل واليأس والحُزن المُدمر للنفس، فلنا أن نبتعد عنها فوراً مهما تورطنا فيها أو سقطنا، ولا نهتم أبداً بروح الفشل والحزن الذي بلا رجاء الذي تولده فينا، لأن أي فشل وحزن واكتآب هو ثمرتها الطبيعية، ونعمة الله المخلصة هي أقوى منها بما لا يُقاس، وهي قادرة على تبديدها بل وتلاشيها تماماً وتفقدها كل سلطانها وتفرغها من كل قوة، لأن الخطية لها سلطان الموت، والنعمة المُخلِّصة لها سلطان الحياة في المسيح يسوع، والحياة في المسيح يسوع أقوى من الموت بل ولا تقاس قوة الحياة وتُقارن بالموت في شيء، لأن الحياة هي حياة الله وهي إيجابية لها قوة تفوق كل تصوراتنا بما يفوق كل إدراك لنا، و من آمن يرى مجد الله ويقوم من الموت حتى لو كان قد أنتن، لأن ربنا يسوع هو القيامة والحياة، الذي إن آمنا به يكون لنا حياة أبدية ولا نأتي لدينونة، بل به يحق أن ندخل للأقداس العُليا لأنه هو برنا وسلامنا الحقيقي …
فاليوم لنا أن نتوب ونعود لذلك الحضن الحلو وننسى أيام الجهل ونطرح كل عيوبنا على صليب المسيح الحي، فلا نفقد رجاءنا لأن اتكالنا عليه وحده، وهو الذي قام وأقامنا معه وصعد بجسم بشريتنا عن يمين الآب، في العظمة في الأعالي يشفع فينا وينجينا من فخ الصياد ومن الوباء الخطر ويدخلنا لعرش مملكه مجده لنتذوق حبه ونحيا له مُبَررين بدمه، لأننا إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل أن يغفر لنا خطايانا إذ يسمع لنا وبدمه يطهرنا من أي خطية أو إثم ….
_______خطوات في الطريق الروحي____________
+ الخطوة الرئيسية والأولى في الطريق الروحي
دائماً عند بداية الطريق الروحي، يبدأ بشعور الإنسان أنه غير نافع وغير صالح في شيء وليس له أي قدرة أن يحيا مع الله بأصوامه أو جاهده لأنه لن يُرضي الله بأي حال من الأحوال، لأن كل أعماله ستظل منقوصة لن يستطيع بها أن يُرضي الله أبداً لأنها تخلو من عنصري القداسة وطهارة القلب وقداسة الفكر، وحينما يحاول جاهداً أن يقدم صوماً ويتمم طقوس الكنيسة يعود ويرجع للخطية التي تعمل في أعماق قلبه وفكره بكل عنف وترديه صريعاً في النهاية غير قادر على التغلب عليها، فيصرخ في النهاية [ ويحيي أنا الإنسان الشقي من يُنقذني من جسد هذا الموت (رو7: 27) ] …
ومن هنا تبدأ التوبة، لأن التوبة في مفهومها الأصيل [ ألبسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات (رو 13: 14) ]، فيبدأ الله يتعامل مع النفس وتحل نعمة الله المُخلَّصة في القلب، ويتيقن الإنسان أن بالمسيح الرب وحده القيامة من موت الخطية، فيدخل في خبرة [ لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت (رو8: 2) ]، فيبدأ الإنسان في حياة الإيمان بشخص المسيح الكلمة الذي هو القيامة والحياة ويبدأ يُبصر مجد الله [ ألم أقل لك إن آمنتِ ترين مجد الله (يو11: 40) ]، ويبدأ التعرف على النعمة المُخلصة ويتذوقها بفرح حينما يجد قلبه يتحرر وينطلق نحو الله بالمحبة لأنه يشعر أنه هو من فداه وهو حياته الأبدية، فلا يعد يخاف شراً ولا كل حروب العدو لأن من معه أقوى ممن عليه، وله النصرة بيسوع وحده لأنه مخلص نفسه ومعطيه حياة باسمه، وله الوعد برجاء حي أنه يدخل للأقداس بدم المسيح يسوع حينما يستمر في حياة التوبة بإيمان حي لا يلين، وحتى لو سقط يعود ويقوم أعظم مما كان، بالرجاء الحي والثقة في شخص الكلمة الذي يعطيه النصرة ليغلب بالإيمان: العالم والجسد والشيطان [ وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه (يو 1: 12)، ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء (لو 10: 19) ] …
ومن هنا ينطلق الشكر من أعماق قلب الإنسان ليقول [ أشكر الله بيسوع المسيح ربنا ]، ويحب الاسم الحلو اسم [ يسوع ] ويصير أنشودة قلبه المبتهج به لأنه هو سر خلاصه وفرح حياته الخاص [ اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (مت 1: 21) ]…
+ الخطوة الثانية في الطريق الروحي :
ولكن الطريق يمتد ويطول، لأن كل هذا المجد يبدأ ويتداخل مع خطوات أخرى ليدخل الإنسان في حياة تُسمى التجديد المستمر والذي لا يتوقف قط [ تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة (رو 12: 2) ]، بل يستمر ليوم انتهاء أيامه على الأرض، لأن كل واحد فينا لازال وهو في الجسد معرض للسقوط والضعف واستمرار الحرب الروحية، وعليه أن يتقدم من مرحلة لمرحلة، قد تتوالي أو تتداخل أو تتباطأ أو تتسارع، لذلك نحن نتدرج في الطريق الضيق لكي نسير معاً في درب المسيح الحلو الذي سنبلغ منتهاه للسكنى في حضره الرب بل في حضنه المبارك ونتهلل بلقاؤه المفرح إلى الأبد …
[ فان مصارعتنا ليست مع دم و لحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات (اف 6: 12) ]، [ إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون (2كو 10: 4) ] …
+ ما الذي ينبغي أن نسعى إليه بكل طاقتنا في الطريق الروحي:
أول شيء ينبغي أن نسعى إليه ونقتنيه هو المحبة، والمحبة ليست كلمة تقال إنما هي فعل ذات سلطان، لأنها وحدها القادرة أن تدخلنا لله بجدارة، وبدونها سنفقد كل شيء حتى قوة النعمة المُخلِّصة، لأن بدون المحبة ليس هناك علاقة شركة مع الله القدوس الحي، لأن هدف المسيحي الحقيقي هو أن يكون له شركة حيه مع الله بإيمان رائي وقلب شديد الحب …
ونشكر الله لأن المحبة ليست صناعة بشر ولا عمل إنسان، بل هي انسكاب الروح القدس في داخل القلب الذي يؤمن بالله القدوس الحلو، لأنه مكتوب في رسالة رومية 5 [ محبة إلهنا قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ] …
والمحبة في طبعها ليست سلبية تنسكب ونسكت ولا نتحرك أو نقوم بفعل – لا بأعمالنا الخاصة – بل بفعل المحبة كثمر في حياتنا، لأن طبيعة المحبة مثمره ـ وثمرتها هي حفظ وصية المحبوب يسوع، لأن من يحب الرب يحفظ وصاياه [ إن أحبني احد يحفظ كلامي و يحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلا (يو 14: 23) ]، ومن يحفظ وصاياه يبحث عن كلام الرب بشغف لكي يحيا به، ومن يحيا به يبحث عن إرادة الله وينفذها بكل شوق واجتهاد عظيم، لأن المحبة في قلبه كالنار تشتعل فيه وتقوده لله بقوة وعزم لا يلين ….
+ اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك لأن المحبة قوية كالموت الغيرة قاسية كالهاوية لهيبها لهيب نار لظى الرب (نش 8: 6)
+ مياه كثيرة لا تستطيع أن تُطفئ المحبة والسيول لا تغمرها أن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقارا (نش 8: 7)
+ المتوكلون عليه سيفهمون الحق والأمناء في المحبة سيلازمونه لان النعمة والرحمة لمختاريه (الحكمة 3: 9)
+ وتطلب التأديب هو المحبة والمحبة حفظ الشرائع ومراعاة الشرائع ثبات الطهارة (الحكمة 6: 19)
+ بنو الحكمة جماعة الصديقين وذريتهم أهل الطاعة والمحبة (سيراخ 3: 1)
+ الحكمة والعلم ومعرفة الشريعة من عند الرب المحبة وطرق الأعمال الصالحة من عنده (سيراخ 11: 15)
+ القداسة:
والآن لنا أن نعرف أن القداسة ليس معجزات ولا خوارق، بل أساسها المحبة، أي إفراز النفس وتخصيصها لله، لتكون إناءه الخاص يحل فيها ويسكنها، ومن هنا تأتي قداستنا لأننا نكون اللابسي الله، أو المتوشحين بالله، فعلى الفور نصير قديسين لأن القدوس السماوي يسكننا وهو القدوس الذي يشع فينا قداسته …
+ نصيحة آبائية من جهة الخبرة:
لا ترتعبوا وتفشلوا وتيأسوا بسبب سقوطكم في خطية، إنما ارتعبوا من عدم التوبة، وافزعوا من أن تكون توبتكم ليس لها هدف الشركة مع الله، واحزنوا جداً أن لم تسكن محبة الله في قلوبكم لتعيشوا كما يحق لإنجيل ربنا يسوع، ولا تسكتوا عند هذا، بل اصرخوا لله ليجود عليكم بالمحبة وغسل القلب وتطهير النفس …
وافرحوا بالرب قوتنا كل حين واطلبوه ليلاً ونهاراً ولا تدعوه يسكت حتى يسكب محبته بالروح القدس في قلوبكم فتعيشوا الوصية بتدقيق وإخلاص المحبين لله والطالبين اسمه ليلاً ونهاراً …
_______فلاحة النعمة____________
+ حينما نعي الطريق الروحاني وهو الرب يسوع نفسه الذي قال [ أنا هو الطريق والحق والحياة ] ونبدأ ندخل إليه بالتوبة لنسير فيه، إذ قد عرفنا أننا مزدرى وحياتنا برمتها قبيحة لا تُرضي الله مهما ما صنعنا فيها، بل ولا نستطيع مهما ما قدمنا أن نتجاوب مع قداسة الله التي لا يستطيع أحد أن يفحصها أو يعرف عمق اتساعها، لأن الله غير مفحوص أو مدرك ولا حتى من الملائكة، إلا في حدود إعلانه عن ذاته حسب إمكانية كل واحد، وعمل الله فيه بالروح ليفتح ذهنه بالنور قليلاً قليلاً ليدرك أقل من أقل القليل عن الله، لأن الله في كمال اتساعه لا يُحد، فهو أعلن لنا عن ذاته في الابن الوحيد الذي اتخذ جسم بشريتنا ليُدخلنا إلى داخل الله، لأنه يستحيل أن نعرف الله إلا من خلال الطريق المرسوم منه، والطريق الذي أعده لنا هو تجسد الكلمة، والذي من خلاله فقط نعرف الله :
[ الله لم يره احد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر (يو 1: 18)؛ أيها الآب البار أن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني (يو 17: 25) ] وحينما نأتي إلى الرب المسيح البار بالتوبة والإيمان الشخصي، ندخل فيه كطريق حي نرعى فيه ونأخذ منه قوة الحياة الجديدة لنتجدد كل يوم حسب صورته هو [ أنا هو الباب إن دخل بي أحد فيخلص و يدخل و يخرج و يجد مرعى (يو 1 : 9) ]، بل وتنمو فينا بذرة الحياة الأبدية التي ذرعها فينا بالمعمودية لننمو في النعمة والقامة كل يوم ونتعمق في معرفته ونتأصل في حياة القداسة والبرّ فيه، ولكن بالرغم من نعمة الله المجانية والتي لا تُعطى لنا بسبب برنا الشخصي أو لأن فينا ما هو صالح، لأن كما رأينا سابقاً أن كل أعمالنا مستحيل أن تُرضي الله، لأن أصبح طبيعياً – بسبب السقوط وشدة الفساد – لا نقدر أن نصل لله أو نعمل أعمال برّ ولا قداسة، أما في المسيح يسوع، وحسب الإنسان الجديد الذي نلناه بمعموديتنا تصبح أعمالنا كلها معمولة بالله، لأننا طُعمنا في الكرمة الحقيقية بسبب التجسد [ أنا الكرمة وأنتم الأغصان الذي يثبت في وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً (يو 15: 5) ] إذن في المسيح يسوع ربنا نقدر أن نعمل أعمال الله بقوة الله، وعمل الروح القدس في داخلنا، ولكن علينا أن نثبت في الكرمة ونُثمر لله، فواجب علينا الآن أن نفلح حياتنا بفلاحة النعمة، وفلاحة النعمة تبدأ بوعينا التام أنه ينبغي في كل حين نجدد العهد مع الله بالتوبة الدائمة، ومفهوم التوبة الصحيح هو لبس الرب يسوع وعدم صنع تدبير أو تخطيط للجسد لأجل الشهوات، أي أن نلبس قداسة المسيح الرب وبره وطهارته كل يوم، وهذا هو عمل الله الإيجابي فينا بالروح القدس الذي يأخذ من المسيح الرب ويعطينا، ويتم ذلك باستمرار الاعتذار عن أقل هفوة في حياتنا معترفين أمامه بخطايانا ولا نعود إليها مرة أخرى (وحتى أن عدنا نطلب القوة من الله وبعزم القلب لا نعود إليها)، بل نتمسك بالرب يسوع طالبين أن يلبسنا ذاته لنتشح به ويسكن فينا بقوته لتنحل كل رباطات الخطية وتهرب الظلمة الداخلية أمام نوره المُشرق فينا :
[ والنور يُضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه (يو 1: 5) ] [ ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلا أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة (يو 8: 12) ] [ أنا قد جئت نوراً إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة (يو 12: 46) ]
فالمسيح الرب يُشرق في داخل النفس كنور مبدداً ظلام النفس ويزيل خبرتها في الشر ليرجعها لبساطتها الأولى التي شوهتها الخطية وظلمة الفساد، وعلى الإنسان أن يحفظ نور الله في قلبه بقراءة الكلمة بوعي مع الحفاظ على صلاته بقلب محترف للتوبة الصادقة محباً لله الذي فداه وأعطاه حياه باسمه، مستمراً في شركة الكنيسة في سر الإفخارستيا بكل نشاط وعزم لا يلين، وهذه تُسمى فلاحة النعمة …
يا إخوتي لا تظنوا أن الدينونة مجرد حساب على ما نقترفه من أعمال لا تليق، لأن وأن كان كتب أنه يُجازي كل واحد حسب أعماله، ذلك لا من أجل الأعمال ذاتها بل من أجل أنها تظهر كثمرة عن ما في داخل النفس، لأن كل عمل هو ناتج من الداخل، فالعمل الخارجي يدل على البذرة الحقيقية المزروعة في داخل الإنسان، فأن كانت بذرة الحياة، سنثمر ما يتفق مع الحياة التي فينا، أي تظهر حياة الله فينا، أما أن كانت البذرة غير صالحة فستخرج أعمال الموت باستمرار، وأنا هنا لا أتكلم عن حالة ضعف عابرة حتى لو تكررت، إنما اتكلم عن حالة دائمة مستمرة لا تتوقف في كل مناحي الحياة باستمرارية بدون أقل قوة للغلبة عليها، وعموماً الرب كشف لنا سر الدينونة إذ قال بفمه الطاهر: [ وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة (يو 3: 19) ]
يا أحبائي لنا أن نحذر جداً من أن نحب الظلمة أكثر من النور، ونهمل حياتنا ولا نُفَلَّح القلب فلاحة النعمة، ليُزال كل ما في تربة القلب من شوائب تعيق بذرة الحياة أن تنمو فينا، لأن الشوك والحسك يخنق الزرع الجيد، ويتحول في النهاية لموت داخلي لا تسعفه حياة !!!
وأيضاً فلنحذر من أن نعتقد أننا وصلنا للكمال لئلا نتوقف عن السعي وننتفخ ونتكبر فنخسر النعمة وعمل الله في داخلنا، لأن كما قلنا أن كل واحد يستوعب غنى وأسرار النعمة حسب قامته ونموه في الروح، لأن الزرع الجيد يأتي بثمر جيد بعد أن يصل للوقت المعين الذي فيه تظهر الثمار، ونحن مهما ما وصلنا في معرفة الله مستحيل أن ندرك أعماقه، لأن كل ما ندركه هو القليل جداً لأن الله مطلق في اتساعه، مستحيل يدركه إنساناً مهما ما بلغ من قامة، والكنيسة كلها كأعضاء معاً تُدرك الله لأنه حي فيها وتنبض بحياته، فالكنيسة كلها معاً بأنبياء وأتقياء العهد القديم إلى آخر إنسان يأتي قبل مجيء الرب ويؤمن وينضم لها، هما معاً سيدركون عظمة بهاء مجد الله في ملكوته الآتي معاً لتصل الكنيسة ككل إلى ملء قامة المسيح كما هو مكتوب:
[ إلى أن ننتهي جميعناً إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح (اف 4: 13) ]
_______الشركة والاتحاد بالعريس السماوي____________
هذه الخطوة مهمة للغاية وهي الدخول في سر الشركة والاتحاد بالعريس السماوي على مستوى الخبرة، وكما رأينا سابقاً أهمية فلاحة النعمة في القلب، فسرّ ضياع مواهب النعمة الإلهية هو الكبرياء والكسل، لأن النعمة الإلهية المُخلصة تُحفظ وتزداد باتضاع القلب والاهتمام الجاد على المستوى العملي وليس الفكري، فللأسف أحياناً كثيرة نجد أن الذين كانوا ممتلئين من نعمة الله وفرح الروح القدس وقلوبهم متقدة بالمحبة والغيرة الإلهية، ولهم شوق عظيم للشركة مع الثالوث القدوس، محبين للكنيسة وشركة القديسين في النور، قد انطفأت فيهم النعمة وفقدوا حرارة المحبة الأولى، وذلك بسبب تراخيهم وتكاسلهم، وهذه تعتبر مشكلة المبتدئين في الطريق الروحي، حيث أنهم نالوا النعمة وحصلوا على بعض عزاء النعمة، وفي الراحة والشوق والحلاوة الروحية، ونزلوا لحقل الخدمة باندفاع الحماسة الأولى بالمحبة، واتكلوا على هذا وتوقفوا عن فلاحة القلب وظنوا أنهم كاملين، والنتيجة الطبيعية لذلك أنهم يتكبرون، ثم يصيرون مهملين، ويشعرون بالاكتفاء، ولا يعرفون طريق انسحاق القلب، ولا يكون لهم عقل متضع، ولا يقدرون على الوصول للتحرر من الأهواء والأوجاع الداخلية من طول خبرة حياة الشر والفساد السابقة …
وعموماً الإنسان الذي لا يحفظ نعمة الله بقلبه بكل جهد ومثابرة، يفقد حياة المحبة ويحيا في كبرياء قلب ولا يستطيع أن يقبل الأتعاب الكثيرة ويحتمل الضيقات والمشقات والتجارب المتنوعة بل يتذمر على الله في النهاية ويحاول أن يحفظ كرامته بل ويتعدى على أولاد الله في النهاية ويحتقر التعليم الإلهي الصحيح وفق مشيئة الله وإعلانه الحي، بل تصل به الجسارة أن يعتدي على القديسين ويرفض كلماتهم وتعليمهم الذي هو بالروح القدس حسب الحق أي المسيح الرب، بل ولا يقبل أن يُعلمه أحد ويفقد قلب التلميذ الذي يُميز القديسين الذين يتبعون الرب حاملين الصليب بروح قيامة يسوع …
ولنا الآن أن نستمتع بالتعليم الأبائي ونقرأ معاً عظة القديس مقاريوس الكبير وهي العظة العاشرة عن الشركة والاتحاد بالعريس السماوي حيث يقول لتعليمنا الآتي :
[ المحبة الحارة في المسيح :
1 – إن النفوس التي تحب الحق وتحب الله، وتشتهي برجاء كثير وإيمان أن تلبس المسيح كُلية، لا تحتاج كثيراً إلى تذكرة من الآخرين، بل أنها لا تحتمل ولا إلى لحظة أن تكون محرومة من حبها المشتعل للرب واشتياقها السمائي له بل بالحري إذ يكونون مسمرين تماماً وكُلية في صليب المسيح، فإنهم يشعرون بإحساس النمو والتقدم الروحي نحو العريس الروحاني، وإذ يكونون مجروحين بالشوق السماوي، وجائعين إلى برّ الفضائل، فإنه يكون لهم رغبة عظيمة لا تنطفئ في إشراق وإنارة الروح.
وحتى إذا نالوا بواسطة إيمانهم امتياز معرفة الأسرار الإلهية وحتى إذا جُعلوا شركاء في بهجة النعمة السماوية، فإنهم مع ذلك لا يضيعون ثقتهم في أنفسهم، ولا يظنون أنهم شيء بل بقدر ما يحسبون أهلاً لنوال المواهب الروحية، بقدر ما يزدادون عطشاً للشهوة السماوية، ويزدادون في طلبها باجتهاد وسهر.
وبقدر ما يشعرون في أنفسهم بالتقدم الروحاني، فإنهم يزدادون جوعاً وعطشاً إلى شركة النعمة وازديادها .. وبقدر ما يزدادون في الغنى الروحاني، فإنهم بقدر ذلك يعتبرون أنفسهم فقراء، إذ أنهم لا يشبعون من الشوق الروحاني الحار إلى العريس السماوي، كما يقول الكتاب : " الذين يأكلون يعودون إليَّ جائعين، والذين يشربونني يعطشون " (ابن سيراخ 24: 21) ...
التحرر من الشهوات وشركة الروح السرية :
2 – فمثل هذه النفوس، التي تحب الرب حباً حاراً لا ينطفئ، تكون أهلاً للحياة الأبدية، ولهذا السبب تُمنح لهم نعمة التحرر من الشهوات وينالون إشراق الروح القدس بالتمام، وحضوره الذي يفوق الوصف، والشركة السرية معه في ملء النعمة... ولكن بعض النفوس تتراخى ولا يكون لها همَّة وجراءة، فلا تطلب وهي هنا على الأرض في الجسد، أن تنال – بصبر وطول أناة – تقديس القلب، وليس جزئياً بل تقديساً تاماً، إذ هي لم تتوقع أبداً أو تترجى أن يكون لها شركة كاملة في الروح المعزي بكل ثقة ويقين، وبكل إحساس واعٍ، ولم تتوقع أبداً أن تتحرر من شهوات الشر بقوة الروح، أو ربما تكون، بعد أن نالت نعمة الله مرة، قد انخدعت بالخطية وأسلمت ذاتها للإهمال والتكاسل ...
3 – فهؤلاء إذ قد نالوا نعمة الروح، وحصلوا على بعض عزاء النعمة، في الراحة والشوق والحلاوة الروحانية، فإنهم يتكلون على هذا ويتشامخون، ثم يصيرون مُهملين، ولا يكون لهم انسحاق القلب، ولا عقل متضع، فلا هم يصلون إلى الدرجة الكاملة – درجة الحرية من الشهوات – ولا هم ينتظرون ويطلبون الامتلاء التام بالنعمة بكل اجتهاد وسهر وإيمان، بل إنهم يشعرون بالاكتفاء، ويخلدون إلى الراحة قانعين بالعزاء القليل الذي نالوه من النعمة... فالنمو القليل الذي حصلت عليه هذه النفوس كانت نتيجة الكبرياء بدلاً من التواضع، ولذلك فأنهم على المدى الطويل يتجردون من كل نعمة أُعطيت لهم، بسبب احتقارهم وإهمالهم، وبسبب خداعهم لأنفسهم بالعجرفة الباطلة.
الشركة السرية مع العريس السماوي :
4 – والنفس التي تحب الله والمسيح حقيقة، حتى إذا عملت عشرة آلاف من أعمال البرّ، فهي تعتبر ذاتها أنها لم تعمل شيئاً، بسبب حبها المشتعل الذي لا يخمد من نحو الله... وبالرغم من أنها تجهد الجسد بأصوام و بأسهار، إلا أنها في نظرتها إلى الفضائل تعتبر نفسها كأنها لم تبدأ بعد بأي عمل جدي لأجلها...
وبالرغم من مواهب الروح المتنوعة، والاستعلانات والأسرار السماوية التي ينعم بها عليها، فهي تشعر في ذاتها أنها لم تحصل على شيء بالمرة، وذلك بسبب حبها غير المحدود، والذي لا ينطفئ من نحو الرب ...
إنها تشتاق طول النهار وتجوع وتعطش بالإيمان والمحبة وبمداومة الصلاة، وهي تستمر في شوق بلا شبع لأسرار النعمة، ولتتميم كل فضيلة. وهي تكون مجروحة بحب حار مشتعل حب الروح السماوي، ويتحرك في داخل نفسها باستمرار بالنعمة إلهام وشوق حار للعريس السماوي، راغبة أن تدخل دخولاً كاملاً إلى الشركة السرية الفائقة الوصف معه، بتقديس الروح .
رؤية العريس السماوي في نور الروح :
وإذ يرتفع الحجاب عن وجه النفس، فإنها تُحدق في العريس السماوي وجهاً لوجه في نور الروح الذي لا يُعبَّر عنه، وتختلط به بملء الثقة، وتتشبه بموته، وترقب دائماً بشوق عظيم أن تموت لأجل المسيح، وهي تثق بيقين شديد أنها ستنال بقوة الروح انعتاقاً كاملاً من الخطية ومن ظلمة الشهوات، حتى إذا ما اغتسلت وتطهرت بالروح، وتقدست نفساً وجسداً، يُسمح لها حينئذ أن تكون إناءً طاهراً مُعداً لاستقبال المسحة السماوية، وحلول المسيح الملك الحقيقي، وحينئذٍ تؤهل للحياة الأبدية إذ تكون قد صارت منذ تلك الساعة مسكناً طاهراً للروح القدس.
الأتعاب والتجارب في طريق الملكوت :
5 – ولكن النفس لا تصل إلى كل هذه الدرجات مرة واحدة أو بدون امتحان ... فبأتعاب كثيرة ومجاهدات ووقت طويل واهتمام جاد، وبامتحان وتجارب متنوعة، تنال النمو والتقدم الروحاني إلى أن تصل إلى درجة الحرية الكاملة من الأهواء والشهوات، حتى إذا احتملت كل تجربة يجربها بها الشرير، بصبر وشجاعة، فإنها حينئذٍ تتمتع بامتياز الحصول على الكرامات العظيمة، والمواهب الروحية وكنوز الغنى السماوي، وهكذا تصير وارثة للملكوت السماوي بالمسيح يسوع ربنا الذي له المجد والقدرة إلى الأبد آمين ] العظة العاشرة للقديس مقاريوس الكبير، من كتاب عظات القديس مقاريوس الكبير – ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد، مؤسسة القديس أنطونيوس – المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة – نصوص آبائية 85، الطبعة الرابعة 2004 – من ص 98 إلى ص 101