مثل الخروف الضال والدرهم الضائع ووجه الله الرحيم
الأحد الرابع والعشرون: مثل الخَروف الضَّالِّ والدَراهِم الضَائع ووجه الله الرحيم (لوقا 15: 1-10)
النص الإنجيلي (لوقا 15: 1-10)
1 وكانَ الجُباةُ والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه. 2 فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَة يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: ((هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!)) 3 فضرَبَ لَهم هذا المَثَلَ قال: 4 ((أَيُّ امرِئٍ مِنكُم إِذا كانَ لَه مِائةُ خروف فأَضاعَ واحِداً مِنها، لا يَترُكُ التِّسعَةَ والتِّسعينَ في البَرِّيَّة، ويَسْعى إِلى الضَّالِّ حتَّى يَجِدَه؟ 5 فإِذا وَجدَه حَمَله على كَتِفَيهِ فَرِحاً، 6 ورجَعَ بِه إِلى البَيت ودَعا الأَصدِقاءَ والجيرانَ وقالَ لَهم: إِفرَحوا معي، فَقد وَجَدتُ خَروفيَ الضَّالّ! 7 أَقولُ لَكم: هكذا يكونُ الفَرَحُ في السَّماءِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ أَكثَرَ مِنه بِتِسعَةٍ وتِسعينَ مِنَ الأَبرارِ لا يَحتاجونَ إِلى التَّوبَة. 8 ((أَم أَيَّةُ امرَأَةٍ إِذا كانَ عِندَها عَشرَةُ دَراهِم، فأَضاعَت دِرهَماً واحِداً، لا تُوقِدُ سِراجاً وتَكنُسُ البَيت وتَجِدُّ في البَحثِ عنه حتَّى تَجِدَه؟ 9 فإِذا وَجَدَتهُ دَعَتِ الصَّديقاتِ والجاراتِ وقالت: إِفرَحْنَ معي، فقد وَجَدتُ دِرهَمِيَ الَّذي أَضَعتُه! 10 أَقولُ لَكم: هكذا يَفرَحُ مَلائِكَةُ اللهِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوب)).
مقدمة
يتناول إنجيل هذا الأحد (لوقا 15: 1-10) رحمة الله وبحثه عن الإنسان الضال وفرح السماء بخلاصه، وذلك من خلال مثل الخروف الضال ومثل الدرهم الضائع (لوقا 15: 1-10). وهذه الرحمة تجسَّدت في يسوع المسيح الذي يطلب الخطأة ويبحث عن المفقودين ويفتح أحضانه لكل ضال يرتد إليه وخاطئ يتوب، ممَّا يدل على قيمة النفس الواحدة عند الله، ونظرته الرحيمة خاصة تجاه الخطأة واستعداده لقبولهم. الفكر الجديد، الّذي يحمله هذا التعليم هو أنّ الله يهتم بالضائع ويشعر بفرح عظيم في العثور على ما هو ضائع (الخروف، الدرهم، الابن). بعكس الفريسيين والكَتَبَة الذين يعُّدون الخطأة لا قيمة لهم؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 15: 1-10)
1 وكانَ الجُباةُ والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه
تشير عبارة "الجُباةُ" إلى العشارين. والعشَّار هو الرجل الملتزم بجمع الأعشار(الضرائب) أي واحدة من عشَرة أو ما يُعرفُ بالعُشر من المحصول الزراعي أو الحيواني إلى الإمبراطورية الرومانية أو تسديدها من جيبه في حال عجزه عن جمعها. وكان يُعيِّن موظفين بالرِبا. ولذلك وصف اليهود العشَّارين بالقسوة والظلم حتى أنَّ الشعب احتقرهم ومنعهم من دخول الهيكل أو مجامعهم للاشتراك في الصلاة والحفلات (لوقا 3: 12-13، 19: 8). وكان زكا أحد العشارين في منطقة أريحا (لوقا 19: 1-2) وكان متى اللاوي وكيلاً لعشَّاري منطقة كفرناحوم (لوقا 5: 27). وقصد يسوع أن يُحرِّر العشَّارين من النقمة اللاحقة بهم مع انه لم يوافق على سيئات أصحاب المظالم منهم (متى 5: 46)، وكان الفِريسيّون والكَتَبَة ينبذون العشَّارين والخاطئين (لوقا 5: 30، 7: 34). أمَّا عبارة "يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه " فتشير إلى العشَّارين والخطأة الذين شعروا بحاجتهم ليسوع المسيح الذي يغفر الخطايا ويغفر لهم ماضيَهم، ويقبل الجميع دون استثناء بين فريسي وعشَّار وبين بار وخاطئ مرحِّبا بالجميع الذين يذهبون إليه لسماع كلمته، وذلك ما يؤكِّده بولس الرسول "وهو أَنَّ المسيحَ يَسوعَ جاءَ إلى العالَم لِيُخَلِّصَ الخاطِئِين، وأَنا أَوَّلُهم (1 طيموتاوس 1: 15). الربّ يرحِّب بالخطأة، لان الدين ليس امتيازًا للأبرار والأنقياء. في حين لم يجد هؤلاء الخطأة والعشَّارون في تعليم رؤساء اليهود ما يدلهم على طرق المصالحة لله. أما عبارة "جَميعاً" فتشير اللي تشديد لوقا الإنجيلي على كلمة "الجميع". إن الله يريد أن جميع الناس يخلصون وليست مجموعة معينة منهم. محبة الله قد شملت العالم كله، كما يؤكده بولس الرسول "فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 2: 4).
2 فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَة يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!
تشير عبارة "الفِرِّيسِيُّونَ" كلمة آرامية הַפְּרוּשִׁים (معناها "المنعزل") إلى احدى الفئات اليهودية الرئيسية الثلاث التي كانت تناهض فئتي الصدُّوقيين والاسِّينيين. وكانت هذه الفئة أضيقها رأيا وتعليما (أعمال الرسل 26: 5). ظهر الفِرِّيسِيُّونَ باسمهم الخاص في عهد يوحنا هركانوس (135-105 ق. م.). وكانوا يؤمنون بخلود النفس وقيامة الجسد ووجود الأرواح (أعمال الرسل 23: 8) ومكافأة الإنسان ومعاقبته في الآخرة لكنهم حصروا الإنسان الصالح بطاعته للشريعة، فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبية داخلية. ولذلك وبّخهم السيد المسيح بشدة على ريائهم وادعائهم البِر كذبا وتحميلهم الناس أثقال العرضيات دون الاكتراث لجوهر الناموس، لذا قال يسوع لتلاميذه "إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَة والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات"(متى 5: 20)؛ أمَّا عبارة "الكَتَبَة" في الأصل اليوناني " γραμματεύς (معناها كاتب) فتشير إلى معلمي الشريعة الذين تخصَّصوا لدراسة الشريعة وتفسيرها وأصبحت قرارات كبار الكَتَبَة منهم شريعة شفاهية تدعى التقاليد. وبلغ أوج نفوذهم على الشعب في أيام المسيح. وقد وصف السيد المسيح بعض الكَتَبَة بأنهم مراؤون نظرا لاهتمامهم بالأشياء المادية العرضية وتطبيقها على تفاصيل الحياة اليومية دون الروحية الجوهرية (متى 23: 1-35)؛ أمَّا عبارة "يَتَذَمَّرونَ" فتشير إلى ردّ فعل قلق الفِرِّيسِيُّينَ والكَتَبَة المتدينين ظاهريًا، لكنهم ذويّ القلوب المُتحجِّرة والرقاب القاسية، الذين كانوا يحكمون على الآخرين ويرفضون قبول يسوع للفئات المهملة الخاطئة وينتقدونه ويتهمونه مخالف أحكاما رئيسية للربانيين لأنه يخالط الخطأة والعشارين (متى 9: 10-13)، واعتبروا الجديد، الّذي أدخله يسوع معاكسا ومنافياً لاعتقادهم، وهم غير قادرون على إدراك كرامة الإنسان المطلقة كما يراه الله الآب، إذ هم يديرون رأسهم بقساوة أمام يسوع الذي يرشدهم للخير، رافضين الاستماع له، رفضًا تامًا، لان يسوع جاء إلى الخطأة الذين لا رجاء لهم ليقدّم لهم البشرى السارة عن ملكوت الله. ويُعلق البابا فرنسيس "من لا يفعلون شيئا سوى الثرثرة والتذمر يغلقون الباب أمام الارتداد والحوار مع يسوع" (البابا فرنسيس في بنما). أمَّا عبارة "هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!" فتشير إلى أحد القاب يسوع. إنه يستقبل الجميع، لأنه إلهٌ محبٌ للبشر. انه اكتشاف غريب عن الله في العقلية اليهودية. أمَّا عبارة "هذا الرَّجُلُ " فتشير إلى استخفاف الفِرِّيسِيُّينَ والكَتَبَة بيسوع كأنه لم يستحق أن يُلقَّب بمعلم أو رباني أو نبي لأنه كان يعلم الخاطِئينَ. أما عبارة " يَستَقبِلُ الخاطِئينَ" فتشير إلى ملاطفة الخطأة والسماح لهم أن يتعلموا منه. دلّ قولهم على كبريائهم، وليس لهم شفقة على أولئك الخطأة ولا رغبة في خلاصهم. أمَّا عبارة "ويَأكُلُ مَعَهم" فتشير إلى فرصة يسوع لتعليمهم وإقناعهم بحبه لهم كما صرّح "هاءَنَذَا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُه، فإِن سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وفَتَحَ الباب، دَخَلتُ إِلَيه وتَعَشَّيتُ معه وتَعَشَّى معي "(رؤية 3: 20). وشكوى الفِرِّيسِيُّينَ عينها برهان على أنَّ يسوع هو المسيح المُخلص الذي يلغي كل التصنيفات بين فِرِّيسِيُّينَ وعشَّارين وخطأة، إذ جميعهم أبناء على قدم المساواة، ضالون ومدعوون لان يكونوا إخوة.
3 فضرَبَ لَهم هذا المَثَلَ قال:
تشير عبارة "المَثَلَ" إلى مثل الخروف الضال بما فيه من الراعي وقطيعه، وهو موضوع تقليدي في العهد القديم عن الخلاص (ميخا 4: 6-7). الله هو الراعي الحقيقي كما يؤكد حزقيال النبي إذ يقول: "أَنا أَرْعى خِرافي وأَنا أُربِضُها، يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، فأَبحَث عنِ الضالَّةِ وأَرُدُّ الشارِدَةَ وأَجبُرُ المَكْسورَةَ وأُقَوِّي. الضَّعيفَةَ وأُهلِكُ السَّمينَةَ والقَوِّية، وأَرْعاها بِعَدْل" (حزقيال34: 16). والغاية من هذا المثل إظهار قيمة خروف واحد، وإظهار شفقة الراعي في طلبه والبحث عنه. ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس" يدلُّ مَثَلَ الخروف الضالّ على حنان الله" (العظة رقم 168).
4 أَيُّ امرِئٍ مِنكُم إِذا كانَ لَه مِائةُ خروف فأَضاعَ واحِداً مِنها، لا يَترُكُ التِّسعَةَ والتِّسعينَ في البَرِّيَّة، ويَسْعى إلى الضَّالِّ حتَّى يَجِدَه؟
تشير عبارة "أَيُّ امرِئٍ مِنكُم" إلى السؤال الذي طرحه يسوع كرد على الفِرِّيسِيُّين والكَتَبَة الذين كانوا يَتَذَمَّرونَ على يسوع لاستقباله الخطأة. والغاية من هذا السؤال بالتحديد كأن يسوع يقول لهم "إذا كان أحد منكم لا يكره أن يتعب لرد خروف ضال أفمن الغريب أن اتعب أنا لإنقاذ نفس ضالة؟". وبهذا السؤال يدخل في حالاتهم القانونيّة ولا أحد منهم يجيب. أمَّا عبارة "مِائةُ " فتشير إلى عدد كامل؛ ويعلق القديس أمبروسيوس" الراعي غني، فنحن جميعًا نمثل واحدًا من مئة من ميراثه؛ له رعيَّة عظيمة من الملائكة ورؤساء الملائكة والسلاطين والسيادات (قولسي 1: 16). أمَّا عبارة " فأَضاعَ واحِداً مِنها" فتشير إلى استعارة وجود الخروف الضَّالّ في استعارات الخلاص التقليدية في الكتاب المقدس (ميخا 4: 6 -7 وارميا 23: 1 -4 وحزقيال 34: 11 -16). أمَّا عبارة "الضَّالّ" فتشير إلى ضلال على مستوى التعليم والعقيدة أكثر منه على مستوى الأخلاق كما ورد في إنجيل متى (24: 4) وكما يؤكده صاحب الرسالة إلى العبرانيين (10: 25). فالخروف الضَّالّ يُمثل الإنسان الخاطئ في غباوته والذي ضلَّ عن جهل. وهو يمثّل الإنسان الضائع بسبب إهماله الشخصي. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "الخروف الذي انفصل عن التسعة والتسعين ثم عاد ثانية لا يمثل بالنسبة لنا إلا المؤمن الذي سقط ثم عاد، إذ هو منتمي للبقيَّة، وكان موضع رعاية نفس الراعي، وقد ضل عن الشركة، وصار تائهًا على الجبال وفي الوديان في رحلة طويلة، مبتعدًا عن طريق الحق"؛ وصورة الخروف الضَّالّ هي صورة عن الخلاص كما جاء في نبوءة ميخا "في ذلك اليَومِ، يقولُ الرَّبّ أَجمعُ العَرْجاءَ وأَضُمُّ الضَّالّة والَّتي أَسأتُ مُعامَلَتَها" (ميخا 4: 6-7). كما اهتم يسوع الراعي الصالح بخروف ضال واحد وبحث عنه في البرِّية، كذلك يهتم الله بكل نفس بشرية يخلقها، فهو "لا يَشاءُ أَن يَهلِكَ أَحَدٌ، بل أَن يَبلُغَ جَميعُ النَّاسِ إلى التَّوبَة"(2 بطرس 3: 9). لا ينفي الله أنَّ هناك إمكانية الهلاك، لكن الله لا يريد ذلك؛ أمَّا عبارة "لا يَترُكُ التِّسعَةَ والتِّسعينَ في البَرِّيَّة " فتشير إلى حسابات الله التي هي غير حساباتنا، نحن نسعى وراء الأعداد والأرقام بينما في حسابات الله الواحد يساوي تسعة وتسعين؛ ذلك أنَّ أي إنسان له قيمة غير متناهية عند الله، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" لست أريد أن يخلص الكثيرون بل الكل، فإن بقي واحد في الهلاك أهلك أنا أيضًا. يبدو لي أنه يجب الاقتداء بالراعي الذي له التسعة والتسعون خروفًا لكنه أسرعَ وراء الخروف الضَّالّ". مهما كان عدد قطيعه فالراعي لا يترك ولا يتنازل عن أي واحدة منهم. ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس" فقد ذهبَ للبحث عمّا كانَ ضائعًا مع الاحتفاظ بما تركَه وراءه، كما وجدَ ما كانَ ضائعًا بدون أن يخسرَ قطيعه الذي كانَ يحرسُه"(العظة رقم 168). أمَّا عبارة "البَرِّيَّة" فتشير إلى مرعى القطعان المألوف في فلسطين، وهي تناسب الجبال الوارد ذكرها في متى (18: 12). وهي مكان لم يكن مزروعاً بانتظام مثل الحقول والحدائق في المدن، ويسكنه عادة البدو. وكانت ستعمل البَرِّيَّة أيضا كمراع للمواشي مع أنَّها لم تكن مراع خصيبة " لا تَخافي يا بَهائِمَ الحقول فإِنَّ مَراعِيَ البَرِّيَّةِ قدِ آخضَرَّت والشَّجَرَ حَمَلَ ثَمَرَه والتِّينَةَ والكَرمَةَ أعطيَتا ثَروَتَهما" (يؤيل 2: 22) وكان يسكنها البدو. وفي الرمزي " البَرِّيَّة " تعني أرض لم يباركها الله: تندر فيها المياه والنباتات، كما كان الحال في جنة الفردوس قبل هطول الأمطار (تكوين 2: 5)، وتستحيل فيها الحياة (أشعيا 6: 11). في هذه الأرض القاحلة تسكن الأرواح الشريرة (لاويين 16: 10، لوقا 8: 29) والشياطين، (لاويين 17: 7) والوحوش المؤذية الأخرى (أشعيا 13: 21، 14، صفنيا 2: 13-14). وبالإيجاز تعتبر البَرِّيَّة الأرض المالحة (ملح) التي تختلف عن الأرض المسكونة اختلاف اللعنة عن البركة. أمَّا عبارة "يَسْعى إلى الضَّالّ حتَّى يَجِدَه؟" فتشير إلى بحث الله في طلب أبنائه الضَّالّين. إن الله لا ينتظر أن يعود الخروف الضَّالّ، بل يذهب هو للبحث عنه، لأنه راعي النفوس كما يقول صاحب المزامير "إنَّ الرَّبَّ هو الله هو صَنَعَنا ونَحنُ لَه نَحنُ شَعبُه وغَنَمُ مَرْعاه" (مزمور 100: 3)؛ وفي هذا الصدد يقول القديس فرنسيس السالزي: نفس واحدة عبارة عن أبرشية كافية لعمل الأسقف". أمَّا عبارة "حتَّى يَجِدَه؟" فتشير إلى المسيح الذي عمل كل ما في استطاعته للبحث عن الخطأة ليجدهم بنفسه وتألم من أجلهم.
5 فإِذا وَجدَه حَمَله على كَتِفَيهِ فَرِحاً،
تشير عبارة "وَجدَه حَمَله" إلى يسوع الذي يحمل الخروف الضَّالّ، ولم يوبِّخه أو يُعنّفه، أو يجرح مشاعره، بل يضمَّه إلى صدره ويحمله على كَتِفَيهِ اللذين حملا خشبة الصليب ويرفعه ويردُّه برفق إلى القطيع ليُعينه على ترك طريقه الخاطئ القديم. لقد فضّلَ دورَه كراعٍ على دورِه كقاضٍ. فحوّلَ فورًا الإدانة إلى غفران، لأنه يرغب في عودته، لا في فقدانه. ويُعلق القديس غريغوريوس النيصي" عندما وجد الراعي الخروف لم يعاقبه، ولا سحبه إلى القطيع بالعنف، بل وضعه على كتفه، حمله برفق وضمه للقطيع"؛ أمَّا عبارة "الكتف" فتشير إلى رمز القوة. والقصد أن المسيح هو الراعي الذي حمل طبيعتنا البشرية وحمل خطايانا في جسده. وهذا يؤكد كلام يسوع القائل "ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه" (لوقا 19: 10)، هذه هي صورة رحمة الله. ويعلق القدّيس أمبروسيوس، أسقف ميلانو " الرّب يسوع المسيح، الذي أخذَ خطاياكَ على عاتقه، يحملُكَ في جسده " (تعليق على إنجيل القدّيس لوقا). فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ " (1 طيموتاوس 2: 4). ويخلصنا جميعًا، "فكما يَموتُ جَميعُ النَّاسِ في آدم فكذلك سَيُحيَونَ جَميعًا في المسيح" (1 قورنتس 15: 22)؛ أمَّا عبارة "فرحا" فتشير إلى السرور الديني (عز 6: 16) كما تشير إليه الآية (15: 10) ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس" في كلِّ مرّةٍ نجدُ فيها شيئًا أضَعْناه، نشعرُ بفرح كبير. وهذا الفرح يكون أكبر من ذاك الذي كنّا نشعرُ به عندما كان هذا الشيء محفوظًا لدينا قبل فقدانه"(العظة رقم 168)، والفرح هو أحد ثمار الروح (غلاطية 5: 22). ويقول الكتاب أن الملائكة يفرحون بتوبة الخاطئ (لوقا 15: 10). وأن فرح المؤمنين مجيد كما جاء في رسالة بطرس الرسول" ذلك الَّذي لا تَرَونَه وتُحِبُّونَه، وإلى الآنَ لَم تَرَوه وتؤمِنونَ بِه، فيَهُزُّكم فَرَحٌ لا يوصَفُ مِلؤُه المَجْد" (1 بطرس 1: 8). إنّ فرح هذا الراعي بعودة خروفه الضَّالّ كبيرة جدًا ولكن ليس بشيء مقارنة مع فرح الربّ، "رئيس الرعاة" الذي قدَّم نفسه ذبيحة حملٍ، " سيقَ إلى الذَّبْحِ ولم يَفتَحْ فاهُ "(أشعيا 53: 7).
6 ورجَعَ بِه إلى البَيت ودَعا الأَصدِقاءَ والجيرانَ وقالَ لَهم: إِفرَحوا معي، فَقد وَجَدتُ خَروفيَ الضَّالّ!
تشير عبارة "دَعا الأَصدِقاءَ والجيرانَ" إلى عادة متبعة في ذلك الزمان ان من يجد خروف يدعو أصدقاءه للفرح معه. وذكر المسيح ذلك لكي يعطي فرصة ليقابل الفرح بوجدان الخروف بفرح السماء بخلاص الخاطئ. أمَّا عبارة "إِفرَحوا معي" إلى دعوة المسيح للمشاركة في الفرح، وهي جوهرية في نظر لوقا الإنجيلي. الفرح العظيم يتطلب المشاركة في العواطف، وهي صورة رائعة لبساطة الحياة في القرية الفلسطينية. لذا فإذا رأى الفِرِّيسِيُّونَ العشارين والخاطئين يأتون إلى يسوع، عليهم أن يشتركوا في فرح يسوع الذي يجد أبناءه، كما يجب عليهم أن يتعاونوا مع يسوع في البحث عن الضَّالّين بدلا من النقد والتهكم. الله شخص يفرح ويُشركنا في فرحه. ولم يقل يسوع: "افرحوا مع الخروف الراجع" بل "افرحوا معي"، لأن فرحه هو حياتنا، وعندما نرجع إلى يسوع يكمل فرحه. وفرح الله هو أن يجد أبناءه الضَّالّين، لان كل خطيئة هي بُعد عن المسيح وبالتالي غربة وهلاك.
7 أَقولُ لَكم: هكذا يكونُ الفَرَحُ في السَّماءِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ أَكثَرَ مِنه بِتِسعَةٍ وتِسعينَ مِنَ الأَبرارِ لا يَحتاجونَ إلى التَّوبَة.
تشير عبارة " الفَرَحُ في السَّماءِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ " إلى موقفٍ بعيد كل البعد عن موقف الفريسيين وتذمّراتهم (لوقا (14: 10-32)؛ يعرف القديسون والملائكة قيمة النفس وعظمة العذاب الذي يقع على النفس الهالكة وعظمة السعادة التي تنالها النفس التائبة، فهم يعرفون محبة المسيح وما احتمله لأجل الخطأة، ولذلك يفرحون عند توبة الخاطئ. ويعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك الإسكندريّة " عندما تجلّى لنا الربُّ الإله وصار إنسانًا، كان مصدرَ ابتهاج القوّات العلويّة وجمهور الجند السماويّين والملائكة بكافة درجاتها! فإذا كان كلامُ الربّ حقًّا حينما قال "هكذا يكونُ الفَرَحُ في السَّماءِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ أَكثَرَ مِنه بِتِسعَةٍ وتِسعينَ مِنَ الأَبرارِ لا يَحتاجونَ إِلى التَّوبَة" (لوقا 15: 7)، فكيف نشكّ إذًا بأنّ الفرح والبهجة يغمران جمهورَ الجند السماويّين حين دعا الرب إلى التوبة، وبرّر بالإيمان ونشر النورَ بالتقديس؟ " (عن أشعيا، الفصل الرّابع). يقابل المسيح هنا فرح السماء لتوبة الخاطئ واحد بتذمر الفريسيين والكَتَبَة عليه لطلبه خلاص الخطأة. أمَّا عبارة " الفَرَحُ " فتشير السرور الديني (عزرا 6: 16). وقلما يكون في السرور الدنيوي (1 صم 18: 6). وأن المؤمنين سيفرحون بعد حزنهم (يوحنا 16: 22) وأن فرح المؤمنين مجيد لا يوصف (1 بط 1: 8) وأن ذلك الفرح واجب على المؤمنين (فيلبي 3: 1 و4: 4)، والفرح هو أحد ثمار الروح (غلا 5: 22)؛ أما عبارة "بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ" فتشير إلى التوبة كشرط ضروري لخلاص الخاطئ القادر على ذلك وواجب عليه. أمَّا عبارة " السَّماءِ " فتشير هنا إلى الله (لوقا 11: 11) ولكن السماء في الكتاب المقدس تدل كل ما هو ليس أرضاً، فيقول التكوين أن الله خلق السماوات والأرض، بمعنى أنه خلق النجوم والغيوم. وهناك السماء الهِيُولي والسماء الروحية، أما الهيولي فهي التي تظهر فوق رؤوسنا وتسمى القبة الزرقاء، وكان العبرانيون يقولون إنها الجلد (تكوين 1: 14) ويقولون مجازاً أن بها كوى ومصاريع ينزل منها المطر والصقيع والثلج (تكوين 7: 11 ومزمور 78: 23 ويعقوب 5: 18 وأيوب 38: 29). وقد سُميت النجوم نجوم السماء وجند السماء وأنوار الجلد (ناحوم 3: 16 وتثنية 4: 19 وتكوين 1: 14) وسوف يأتي اليوم الذي فيه تضمحل هذه السماء مع الأرض وتظهر بدلاً منهما أرض جديدة (2 بطرس 3: 10 ورؤيا 21: 1). أما السماء الروحية فهي مسكن الله الخاص، ولذلك يقال إن الله في السماء وأنه إله السماء، ومشيئته نافذة هناك ولذلك نصلي قائلين: " لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"؛ ويقال عن المسيح أنه الرب من السماء (متى 5: 45 و1 قورنتس 15: 47) وقد نزل المسيح من السماء وصعد إليها وهو فيها (يوحنا 3: 13) هناك تسكن الملائكة، ويسود الفرح والسلام. وقد هيأ المسيح فيها منازل كثيرة للمؤمنين به (لوقا 19: 38 ويوحنا 14: 2) وقد صعد إيليا في عاصفة إليها (2 ملوك 2: 1) كما أن لكل مؤمن ميراثاً فيها وهو يكنز فيها كنوزه (1 بطرس 1: 4 ومتى 6: 20). والكلمتان الفردوس وحضن إبراهيم تشيران إلى نفس الشيء (لوقا 23: 43 و16: 22). وقد قال الربيون أن هناك سبع سماوات، ولكن بولس الرسول يقول إنه صعد إلى السماء الثالثة في رؤياه (2 كورثوا 12: 2) وهي ما يعبر بها عن سماء السماوات، فالسماء الأولى سماء السحب والطيور، والسماء الثانية سماء الكواكب والنجوم، أما السماء الثالثة فهي مظهر المجد الإلهي ومسكن المسيح بالجسد والملائكة والقديسين. وحالتها فوق فهمنا وإدراكنا (أفسس 1: 3 ويوحنا 14: 2 و3 عبرانيين 4: 11)؛ أمَّا عبارة " الأَبرارِ " فتشير إلى صورة تهكمية إلى الفريسيين والكَتَبَة الذين يعتبرون أنفسهم أبرارا. بل عليهم أن يتوبوا سريعا (لوقا 5: 22) ليفرح الله بهم. أمَّا القديس كيرلس الكبير فيرى في الأبرار أنَّهم الصالحون ويُعلق "هل لأنه لا يهتم بالكثيرين أظهر رحمته بالواحد؟ لا... بل لأن الكثيرين في أمان، محروسين بيده القديرة. لذلك بحق يجب إظهار الرحمة بذاك الذي فُقِد، فبعودة ذاك الواحد يعود الكمال للمئة". البحث وراء المفقود لا يعني استهانة بالذين لم يخطئوا، إنما يليق إظهار النعمة والرحمة والحب للخاطئين. علّم يسوع في هذه المثل كنيسته أن تتمثل به في طلب الضَّالّين في برّية العالم الواسعة وان يفرحوا بسمعهم أنباء الإنجيل بين الأمم وقبولهم الخلاص.
8 أَم أَيَّةُ امرَأَةٍ إِذا كانَ عِندَها عَشرَةُ دَراهِم، فأَضاعَت دِرهَماً واحِداً، لا تُوقِدُ سِراجاً وتَكنُسُ البَيت وتَجِدُّ في البَحثِ عنه حتَّى تَجِدَه؟
تشير عبارة " درهم" δραχμή إلى عملة يونانية رائجة بين اليهود وكان الدرهم في أيام هيرودس والولاة يساوي ثمنه دينارا denarius رومانيا وهي عملة فضِّية تساوي أجرة عامل ليوم واحد. وهذا الدرهم يمثل الأشخاص الضائعين بسبب إهمال الآخرين. أمَّا عبارة " عَشرَةُ دَراهِم" فتشير إلى ما يعادل أجرة العامل لعشرة أيام حينذاك. وكانت المرأة الفلسطينية عند زواجها تتلقى عشر قطع من الفضة (الدراهم) كهدية زواج. ولهذه القطع الفضية قيمة عظيمة أكثر من مجرد قيمتها المادية. ويُعلق البابا غريغوريوس الكبير "كان للمرأة عشرة دراهم، لأن الملائكة تسع طغمات. وكان لا بُد أن يتم رقم المختارين بخلقه الإنسان"؛ أمَّا عبارة "فأَضاعَت دِرهَماً واحِداً " إلى الخسارة الكبيرة بالنسبة إلى ربة البيت التي لا تملك إلاّ عشرة دراهم. قيمة درهم لامرأة لها عشرة دراهم أعظم من قيمة خروف لصاحب مئة خروف. وهذا الدرهم يمثل الإنسان الخاطئ في عدم شعوره بحالة الضياع التي وصل إليها، وقد أضاعه غيره. ويعلق البابا غريغوريوس الكبير "لما كان الدرهم عِملة تحمل صورة، هكذا المرأة التي تفقد الدرهم تعني عندما يشرد الإنسان المخلوق على صورة الله، يفقد تشبهه بخالقه بسبب الخطيَّة"؛ أمَّا عبارة "تُوقِدُ سِراجاً" تشير إلى إضاءة المصباح لكي تفتش عن الدرهم في بعض زوايا البيت المظلمة التي لا يقع عليها ضوء الشمس. فالسراج هو نور يوضع على حامل، أمَّا هنا فالنور هو اللاهوت الذي اتَّخذ ناسوتًا (صار إنسانًا). المسيح هو ذاك الحكمة الذي يتحدَّث عن منارة جسده. فهو نور اللاهوت في إناء الجسد(الناسوت)، قد تجسد المسيح نور العالم، لأن الإنسان أخطأ فضاع. ويعلق القديس كيرلس "بالنور قد خلص يسوع ما قد هلك، فصار فرح للقوات العلويَّة". أمَّا عبارة "تَكنُسُ " في الأصل اليوناني σαροῖ (معناها انقلابً الشيء رأسًا على عقب كما جاء في الترجمة اللاتينيةevertere" ) فتشير إلى اهتمام المرأة أن يقع نظرها على كل جزء من أجزاء ارض البيت . والتكنيس يرمز هنا إلى أن تنظف الإنسان من عاداته الرذيلة. في حين يرى البعض الآخر في عملية التَكْنيس إشارة إلى حث الناس على التوبة؛ وأمَّا عبارة "تَجِدُّ في البَحثِ" فتشير إلى التفتيش باجتهاد. كل التفاصيل المذكورة في الآية غايتها إظهار المفقود ورغبة صاحبته في وجدانه وفرحها بذلك.
9 إِذا وَجَدَتهُ دَعَتِ الصَّديقاتِ والجاراتِ وقالت: إِفرَحْنَ معي، فقد وَجَدتُ دِرهَمِيَ الَّذي أَضَعتُه!
تشير " إِفرَحْنَ معي، فقد وَجَدتُ دِرهَمِيَ الَّذي أَضَعتُه " إلى فرحة المرأة التي لا تكتمل إلاَّ بردِّها الدرهم المفقود. هذه الآية تلمح إلى بحث الله عن الخطأة. ربما نفهم أنَّ الله يغفر لخاطئ الذي يسعى إليه طلبا لرحمته، أن يبحث الله عن الخاطئ، ثم يغفر له، فلا بد أنه صاحب حبٍ فائقٍ. وهذا هو الحب الذي دفع يسوع المسيح إلى المجيء إلى الأرض والبحث عن الناس الضائعين الخاطئين ويُخلصهم. ويُعلّق القديس غريغوريوس النيزينزي "هذه هي غاية الله فينا، إذ صار إنسانًا من أجلنا وافتقر (2 قورنتس 8: 9) لكي يُقيم جسدنا (رومة 8: 11)، ويرد َّ صورته فينا (لوقا 15: 9)، ويُجدِّد الإنسان لنصير كلنا واحدًا فيه". أمَّا الأب أنطونيوس فكري فيفسّر الآية تفسيرا رمزيا روحيا بقوله " المرأة تمثل الكنيسة عروس المسيح، وواجبها أن تفتش عن كل مفقود. والدراهم رمز الوديعة التي أودعها الله للكنيسة. وكل درهم يشير للطبيعة الإنسانية التي طبع عليها صورة الملك السماوي كما يُطبع على العملة صورة قيصر. وضياع الدرهم يشير لضياع صورة الملك السماوي من الإنسان". ليتنا كدراهم فلنحتفظ بقيمتنا فنحمل صورة الملك الإلهي فينا. معنى هذا المثل هو إظهار محبة المسيح في طلب الخطأة الضَّالّين وفرحه بخلاصهم.
10 أَقولُ لَكم: هكذا يَفرَحُ مَلائِكَةُ اللهِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوب
تشير عبارة "يَفرَحُ مَلائِكَةُ اللهِ" إلى فرح الله، هو الذي يُشرك فيه ملائكته (لوقا 12: 8). كما أن الله يحزن على ضياع أي إنسان، كذلك يفرح عندما يرجع أحد أبنائه إليه ويعود إلى الملكوت، لان لكل إنسان قيمة ثمينة عند الله. في حين نسمع الرابي اليهودي اسمعيل بن اليشع يقول " يكون فرح قدام مقر العزة الإلهية حينما يختفي من على وجه الأرض الذين يغيظون الله ويبغضونه".
ثانيًا: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 15: 1-10)
انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي وتحليلها (لوقا 15: 1-10)، نستنتج أن المثلين -الخروف الضَّالّ والدرهم الضائع -يتمحوران حول موضوع بحث الله الرحيم عن الإنسان الخاطئ وفرحه بخلاصه.
1) الله يبحث عن الخاطئ قديما وحديثا
ا) الله يبحث عن الخاطئ في شعب العهد القديم
هدف الإنسان هو الله. ولكنّ الإنسان كثيراً ما يضل طريقه في البحث عنه تعالى، فيكتشف الإنسان أنَّ الله هو الذي جاء أولاً يبحث عنه. وأن البحث عن الإنسان يقوم على حركة عميقة من قلب الله نتيجة محبته للإنسان. والبحث عن الله يعني أن نكتشف أنَّ الله، قد أحبنا أولاً، كما صرّح يوحنا الرسول "أَمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه "(1 يوحنا 4: 19)، فالله في الواقع الذي أخذ يبحث عنا، وهو الذي يَجذبنا ليقودنا إلى ابنه كما جاء في تعليم يسوع “ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ، إِّلا إِذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني" (يوحنا 6: 44).
وبما أنَّ الإنسان ينسى الله، ويجري وراء العالم وملذَّاته، فإنَّ الله يفكر دائماً كيف يبحت عنه و"يتكلم إلى قلبه" (هوشع 2: 15-16). وفيما أن ليس كل الرعاة يبحثون عن القطيع المشتت (حزقيال 34: 5-6)، فإن الله ذاته يعلن عن مقصده: إنه سينطلق ليجمع قطيعه، ويبحث عن "الخروف الضَّالّ" (حزقيال 34: 12).
كما توسل موسى النبي إلى رحمة الله، لدى سقوط شعبه في صحراء سيناء في عبادة العجل الذهبي (الخروج 32: 7-14) كذلك توسط يسوع للجنس البشري بأكمله. وهو لا يزال يتشفع للخطأة. في يسوع، يأتي الله إلى شعبه وإلى كل واحد منا -كراعٍ للبحث عن الضائعين (ا حزقيال 34: 11-16)، ليعيدنا إلى الآب السماوي، وهو التراث الدائم الذي وعد به أبناء إبراهيم منذ فترة طويلة.
ويكشف لنا كتاب نشيد الأناشيد، كيف أنَّ الله مفتونٍ بالبحث عن النفس الضَّالّة "اْلتَمَستُ مَن تُحِبُّه نَفْسي، التمسته فما وَجَدتُه" (نشيد الأناشيد 3: 1). ولقد كشف ابن الله لنا إلى أي مدى يذهب هذا الافتتان، حيث قال: " إن ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه "(لوقا 19: 10)، جاء في البحث عن الخروف الواحد الضَّالّ (لوقا 15: 4-10). وفيما يودِّع يسوع ذويه، فكر في اللحظة التي سيرجع فيها ليبحث عنهم، ويأخذهم معه " لِتَكونوا أَنتُم أَيضاً حَيثُ أَنا أَكون" (يوحنا 14: 3).
أعطيت لليهود شريعة لتطهير من يُخطئ كل بحسب خطيته (الأحبار 4-6). وقد قصد الرب من هذه الشريعة أن يُعلمهم أن يكرهوا الخطيئة، ويشعروا ببشاعتها، ولكنهم أساءوا فهمها، إذ نبذوا الخاطئ أيضًا. لذلك تعجب الفِرِّيسِيُّونَ إذ رأوا يسوع الذي يظهر بينهم كمعلم وبار يسمح للعشارين والخطأة من اليهود أن يقتربوا منه، بل يرضى أن يأكل معهم؛ فانفرد لوقا الإنجيلي بذكر مثلين: مثل الخروف الضَّالّ (لوقا 15:4-7)، والدرهم المفقود (لوقا 15: 8-10) ليؤكد أن الله الرحيم يبحث عن الإنسان الخاطئ ويفرح بعودته لأنه يُحبُّه ولا يُحبُّه فحسب بالرغم من خطاياه، وإنما يحبنا بسبب خطايانا التي تستثير شفقته علينا، هذا ما يؤكده القديس بولس " ولكِنَّ اللهَ الواسِعَ الرَّحمَة، لِحُبِّه الشَّديدِ الَّذي أَحَبَنَّا بِه، مع أَنَّنا كُنَّا أَمواتًا بِزَلاَّتِنا، أَحْيانا مع المَسيح ( بِالنِّعمةِ نِلتُمُ الخَلاص)" (أفسس 2: 4-5).
ب) الله يبحت عن الخاطئ ومثل الخروف الضَّالّ (لوقا 15: 3-7)
حاول السيد المسيح أن يَكشف بحث الله عن الإنسان الخاطئ من خلال ضربه لمثل الخروف الضَّالّ (لوقا 15: 3-7). إن الله "سعى إلى الخروف الضَّالّ حتَّى يَجِدَه؟ (لوقا 15: 4)؛ ويُمثل الخروف الضَّالّ الإنسان الخاطئ في شروده عن خالقه بكامل إرادته ومعرفته. وأمَّا الراعي فهو يسوع، "أَنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف" (يوحنا 12:10). ولم يهدأ له بال حتى لأعاد الخروف الضَّالّ إلى باقية الخراف. وكما يبحث الراعي عن خروفه الضَّالّ كذلك يبحت الله الآب عن الخاطئ. وصدق النبي أشعيا بقوله " كُلُّنا ضَلَلْنا كالغَنَم كُلُّ واحِدٍ مالَ إلى طَريقِه " (أشعيا 6:53). عادة يجب أن تموت الخراف لأجل الراعي، وذلك ببيعها للذبح من اجل اللحم لكي يحصل هو على المال. ولكن الراعي الصالح مات من اجل الرعية على صليب الجلجلة ليُخلصنا من خطايانا وليدفع العقاب الذي تستحقه خطايانا ويقرِّبنا إلى الله.
يبدو من الغباء أن يترك الراعي التسعة والتسعين خروفا ليبحث عن خروف واحد ضال (لوقا 15: 4). ولكن التسعة والتسعين في أمان، لذا يجب إظهار الرحمة لذاك الذي ضّل، والذي تحتاج إليه التسعة والتسعين لتكملة العدد ويعود الكمال للمئة. الله لا ولن يرضى بأن يضيع خروف واحد من خرافه. الله لا ولن يرضى بأن يهلك إنسان واحد قبل أن يصنع المستحيل لكي يُخلصه. لماذا؟ لأنه محبة. يقول يوحنا الرسول " وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا"(1 يوحنا 4: 10)؛ فإن حب الله لكل إنسان عظيم حتى انه يبحث عن كل واحد لا رجاء له، ليقدِّم له الخلاص. ولو لم يبحت الراعي عن الخروف الضَّالّ، لكان يحقُ للتسع والتسعين أن تشكّ بخلاصها، لأنها هي معرّضة للضلال وتكون إّذّاك معرّضة لعدم اكتراث الراعي. ولكن طالما أن الراعي ترك التسعة والتسعين ليبحث عن الضَّالّ، فإن هذا يعني أنَّ مشروع الخلاص يطال الجميع.
وخير مثال على بحث يسوع عن الخروف الضَّالّ ما جاء في سيرة القدّيس بولس الرسول الذي اختبر حقيقة محبّة الربّ، وكيف أنّ محبّة الربّ قد بحثت عنّه هو المُضطهِد للقطيع والمجدّف باسمه القدّوس – لكي يُجعل منه رسولًا وراعيًّا " أَشكُرُ لِلمَسيحِ يسوعَ رَبِّنا الَّذي مَنَحَني القُوَّة أَنَّه عَدَّني ثِقَةً فأَقامَني لِخِدمَتِه أَنا الَّذي كانَ فيما مَضى مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا... ففاضَت عَلَيَّ نِعمَةُ رَبِّنا مع الإِيمانِ والمحبَّةِ في المسيحِ يسوع" (1 طيموتاوس 1: 12-14).
نستنتج مما سبق أنَّ رعاة النفوس وجدوا في هذا المثل ينبوعًا حيًا للحب الرعوي الصادق، كما وجد فيه الخطأة رجاءً لا ينقطع بقبول كل نفس مهما كان فسادها. فشدِّد البابا فرنسيس على هذه الحقيقة في خطاب موجّه للأساقفة في ريو دي جينيرو عام 2013 فقال للرعاة: " على الأسقف أن يكون مع شعبه في ثلاثة مواضع: في المقدّمة كي يدلّهم على الطريق، في المركز كي يُبقيهم موحّدين ويُبعد عنهم التفرقة، وفي المؤخّرة حتى يمنع أيّ أحد من أن يشرد خارج القطيع ". يكشف لوقا البشير خلال مثل الخروف الضَّالّ عن مدى شوق الله وسعيه نحو الإنسان وفرح السماء بخلاصه وعودته إلى الشركة معه.
ج) الله يبحث عن الخاطئ ومثل الدرهم الضائع (لوقا 15: 8-9)
كما أنَّ المرأة لا ترضى أن تفقد درهما واحدا، ولم يهدأ لها بال حتى أعادت الدرهم الضائع إلى باقية الدراهم العشرة كذلك الله، قلبه الرحيم لا يقبل أن يهلك إنسان واحد بل يبحث عنه حتى يعود إلى باقي الأبرار؛ فالله يريد خلاص جميع البشر كما جاء في تعليم بولس الرسول "إِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ"(1 طيموتاوس 2: 4). الإنسان في نظر الله أغلى وأثمن من ذهب العالم كله.
وجد رعاة النفوس ينبوعًا حيًا للحب الرعوي الصادق في محبة الآب للإنسان، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يبدو لي أنه يجب الاقتداء بالراعي الذي له التسعة والتسعون خروفًا لكنه أسرع وراء الخروف الضَّالّ. لست أريد أن يخلص الكثيرون، بل الكل، فإن بقي واحد في الهلاك أهلك أنا أيضًا".
يرغب الله في خلاص الإنسان الخاطئ أو الضائع في عودته أولا للعيش في أخوة لا تستثني أحداً: فريسيًا كان أم عشارًا، بارًا أم خاطئًا؛ فالجميع مدعوون ليكونوا عائلة جديدة حيث يوجد مجال للجميع. إننا جزء من عائلته وإنه لن يتركنا بل هو معنا.
وعندها يعطي يسوع حياته للجميع حتى يتمَّ جمع شمل الإنسانية، المُشتَّتة والمُنقسمة، مرة أخرى في عائلة الله الواحدة، دون انقسامات وتهميش وفصل وعزل وتصنيفات التي تؤدي إلى التفرقة: هنا الصالحون وهنا الأشرار، هنا الأبرار وهنا الخطأة. ويعلق البابا فرنسيس "أن يسوع لا يقبل هذا، أي ثقافة النعت وتعريف الأشخاص بالصفات، بينما اسم الشخص هو مَن هو وماذا يفعل، ما هي أحلامه وبماذا يشعر في قلبه". نظرة الله هذه، والتي يقول لنا جميعا عبرها إننا جزء من عائلته وإنه لن يتركنا بل هو معنا. المثلان متوازيان وهما يوحيان ببحث الله الآب عن الخاطئ وعودته ليفرح به. ويعلق القدّيس أوغسطينوس " فقد كنّا تِهنا إلى غير عودة لو لم يقمْ الله بالتفتيش عنّا وإيجادنا... " (عظات عن القدّيس يوحنا، الرقم 7).
2) الله يفرح بخلاص الخاطئ
نلمس الفرح في إنجيل لوقا أكثر منه في الأناجيل الباقية؛ فقد بشّر يسوع المسيح المتواضعين بفرح الخلاص ففرح الناس بميلاده (لوقا 1: 14)، وغمر الأبرار بفرحه (متى 13: 17). إن في يسوع المسيح يكون ملكوت الله حاضراً (لوقا 17: 21)، وتلاميذه يفرحون عندما يعلمون أن أسماءهم مكتوبة في السماء (لوقا 10: 20)، لأنهم يدخلون في مصاف الفقراء الذين لهم ملكوت السماوات (لوقا 6: 20).
شدَّد لوقا الإنجيلي على الفرح حيث تكرَّرت كلمة "الفرح" ثلاث مرات: "فإِذا وَجدَه حَمَله على كَتِفَيهِ فَرِحاً" (لوقا 15: 4)، "إِفرَحوا معي، فَقد وَجَدتُ خَروفيَ الضَّالّ!"(لوقا 15: 6)، "هكذا يكونُ الفَرَحُ في السَّماءِ" (لوقا 15: 7). فنجد الله مُصرّاً على إعادة الضَّالّ إلى جماعة الأبرار بنعمته وحنانه ورحمته. فهذا المثل يكشف لنا عن الحب الفريد الذي يشعر به الله تجاه كل إنسان ويكشف لنا أيضا عن فرح الراعي وفرح السماء، الذي هو فرح الثالوث القدوس وفرح الملائكة والقديسين بعودة الضَّالّ إلى حضن الله.
لم يتردَّد السيد المسيح أن يجذب الخطأة أيضا إلى فرح التوبة والخلاص ويُهيِّئهم لقبوله بفرح كما حدث مع زكا العشَّار (لوقا 19: 6). بهذه التوبة سوف يفرح التلاميذ، كإخوة حقيقيين كما قال الأب لابنه الأكبر " قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد"(لوقا 15: 32)، كما يفرح بها في السماء الآب والملائكة (لوقا 15: 7 و10 و24)، وكما يفرح بها الراعي الصالح، الذي بمحبته خلّص خروفه الضَّالّ وحمله على كتفه ليشعر به أنه قريب منه، ثم أشرك فيه فرحه الأصدقاء والجيران (لوقا 15: 6)، وكما فعلت أيضا المرأة التي وجدت الدرهم المفقود. إلا أننا حتى نشاركه في فرحه، ينبغي أن نُحبَّ كما أحَّبّ هو.
حب الله لكل إنسان عظيمٌ حتى انه يبحث عن كل واحد لا رجاء له، ليُقدِّم له الخبر السار. ويُعبر لوقا الإنجيلي عن ذلك بقوله "إِذا وَجدَه حَمَله على كَتِفَيهِ فَرِحاً كَتِفَيهِ فَرِحاً (لوقا 15: 5)؛ فالكتف رمز القوة. والقصد أن المسيح حمل طبيعتنا البشرية وحمل خطايانا. إذ نزل إلى الأرض باحثا عن الإنسان لا ليعنّفه، ولا ليُجرح مشاعره، بل ليضمُّه إلى صدره ويحمله على كتفه ويردَه برفق إلى القطيع ويُساعده على ترك طريقه الخاطئ القديم. ثم يضيف لوقا الإنجيلي " إِفرَحوا معي" (لوقا 15: 6)، ولم يقل افرحوا مع الخروف الضَّالّ، لأن خلاصنا هو فرحه. ويدعو الفريسيين لدخول في هذا الفرح، إذ أن الفرح العظيم يتطلب مشاركة الأصدقاء والجيران فيه. وخلاصة القول، يعكس المثلان فرح السماء بخلاص الإنسان الخاطئ.
العبرة
المغزى الذي يحمله مثل الخروف الضَّالّ ومثل الدرهم الضائع هو قيمة النفس عند الله ورحمة الله للإنسان الخاطئ. فكل إنسان هو ابن الله، والناس متساوون في عينه فلا تفرقة عنده، ولا تمييز بين فريسي وعشّار، بين بار وخاطئ، عبد وحر، والسبب؟ هو أنَّ قيمة الإنسان الحقيقية ليست فيما يقوم به من أعمال، ولا فيما يفخر به من مقام اجتماعي، بل قيمته في انه موضوع محبة الله. الله محبة والمحبة لا تفرّق ولا تميّز ولا تحتقر. محبة الآب هي أساس تصرّف يسوع الرحيم تجاه الناس خاصة الخطأة والمنبوذين الذي جاء "لِيَجمَعَ أيضاً شَمْلَ أَبناءِ اللهِ المُشَتَّتين" (يوحنا 11: 52).
تمثل الشخصيات الثلاث في المثلين يسوع، والخطأة (العشارين) بالإضافة إلى الفريسيين والكَتَبَة. ويمثل الأصدقاء المقربون والجيران، والكَتَبَة والفِرِّيسِيُّونَ أولئك الذين دائمًا مع الله: «يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً» (لوقا 15: 31). أمَّا الخروف الضَّالّ والعملة المفقودة يمثلان المذنبين والعشَّارين. والعنصر الأخير الّذي يميز المثلين هو الفرح. يفرح الله (الراعي، المرأة) عندما يجد ما فقده. فالجميع مدعوون للدخول في فرح الراعي والمرأة حتى الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَة بالرغم من قساوة قلوبهم ورقابهم، مدعوون أيضًا للدخول في فرح العثور على المفقودين. ويهدف المثلان إلى رواية قصة الله مع البشرية لتحريرها من قسّاوة الرقاب والقلوب من ناحية وخلاص ما ضاع من ناحية أخرى. وهكذا حتى يومنا هذا لمّ ولن يتوقف الله عن البحث عنّا نحن الأشرار لنعود إليه بكل قلوبنا من خلال ابنه يسوع المسيح.
يدعو المثلان الخروف الضَّالّ والدرهم الضائع إلى التعرف على حب إلهي أمام قساوة البشر الناقدين لرسالة المسيح وخدمته وطريقته في التصرف تجاه الخطأة من ناحية، ويدعونا من ناحية أخرى إلى التشبه بالآب السماوي الرحيم الغفور. فيعلمنا كيف نغيّر طريقة تعاملنا مع الناس، بحيث تتوافق ومواقف الله الآب. فكما أنَّ الله فتح كنوز محبته ورحمته للجميع خاصة للخطأة لئلا ييأسوا من خلاصهم ومن الله، هكذا نحن علينا ألاَّ نحتقر ولا نهمل أحداً بل نتجاوب مع الجميع خاصة الخطأة، فخلاص الخطأة يسرُّ الله ويُسبب فرحً في السماء وعلى الأرض.
يمكننا تطبيق القصة على أنفسنا أيضا. فنحن أحيانا كالخروف التائه. كان هذا الخروف ضالاً، لا يستطيع مساعدة نفسه، كان في خطر، ولم يكن باستطاعته العثور على طريق عودته. كان النبي أشعيا صائباً عندما قال: "كُلُّنا ضَلَلْنا كالغَنَم كُلُّ واحِدٍ مالَ إلى طَريقِه" (أشعيا 53: 6). ويذكرنا الرسول بطرس أنَّنا رجعنا إلى الله بفضل سيدنا يسوع المسيح "فقَد كُنتُم كالغَنَمِ ضالِّين، أَمَّا الآن فقَد رَجَعتُم إلى راعي نُفوسِكم وحارِسِه" (1بطرس 25:2). ويسوع هو الراعي. انه الراعي الصالح (يوحنا 11:10)، الراعي العظيم (عبرانيين20:13) ورئيس الرعاة (1بطرس 4:5). الراعي الذي ذهب ليبحث عنا، وقد وجدنا فيه رجاءً لا ينقطع بقبول كل نفس مهما كان فسادها.
الخلاصة
انفرد لوقا الإنجيلي بذكر ثلاثة أمثال قالها السيد المسيح مؤكِّدا أنه جاء من أجل الخطأة، وأنه يحبهم، وأنه سيقبل الأمم كما يقبل اليهود، مثل الخروف الضَّالّ (4-7)، والدرهم المفقود (8-10)، والابن الضَّالّ (11-32)، بينما أكتفي القديس متى بذكر مثل الخروف الضَّالّ فقط (متى 18: 12-14). ويعلق القدّيس أمبروسيوس، أسقف ميلانو "لم يورد لنا القدّيس لوقا ثلاثة أمثال على التوالي بدون سبب: مَثَل الخروف الضال الذي وُجِدَ، مَثَل الدرهم المفقود الذي عُثِرَ عليه، ومَثَل الابن الضالّ الذي كانَ ميتًا وعادَ إلى الحياة. لقد أوردَ هذه الأمثال الثلاثة لكي نُداويَ جِراحنا، بواسطة هذا العلاج الثلاثي... مَن هم ذاك الأب وذاك الراعي وتلك المرأة؟ أليسوا هم الله الآب، والرّب يسوع المسيح، والكنيسة؟" (تعليق على إنجيل القدّيس لوقا).
ويريد يسوع أن يكشف لنا من خلال مثل الخروف الضَّالّ والدرهم الضائع ووجه الله الرحيم. في المثل الخروف الضَّالّ يشبه الله رجلا صاحب قطيع كبير مؤلف من مئة خروف. ولا يرضى بان يضيع خروفا واحدا من خرافه. الله لا يرضى بان يهلك إنسان واحد قبل أن يصنع المستحيل لكي يخلصه. انه يبحث عن الخروف الضَّالّ بكي يُعيده إلى الحضيرة آمنا. لو لم يبحت الراعي عن الخروف أيضا، لكان يحق للتسع والتسعين أن تشك بخلاصها، لأنها هي أيضا معرّضة للضلال وتكون بالتالي معرِّضة لعدم اكتراث الراعي.
أمَّا مثل الدرهم الضائع فيدور حول امرأة فقيرة لا ترضى أن تفقد دراهما واحدا كذلك الله قلبه رحيم لا يقبل بان يهلك إنسان واحد، لان الإنسان في نظره أثمن من ذهب العالم كله. حب الله يبحث عنا، كما بحث الراعي عن خروفه الضَّالّ وكما بحثت المرأة عن درهما الضائع. ومن منا لم يكن يوما الخروف الضَّالّ أو الدرهم الضائع، فلا نياس. الله ارحم الراحمين.
كل إنسان هو ابن الله، والناس جميعاً متساوون في عينه. فلا تفرقة عنده بين فريسي وعشار، وبين بار خاطئ والسبب هو أنَّ قيمة الإنسان الحقيقية هي انه موضوع محبة من قبل الله، أيا كان وإلى آية فئة انتمى. الله محبة، والمحبة لا تفرّق ولا تميِّز ولا تحتقر. وحب الله سابق لحب الإنسان "وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا. أمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه" (1 يوحنا 4: 10، 19).ويُحرم من الفرح الحقيقي من يبتعد بإرادته، ويتوه في ملذات هذا العالم، وهذا يحزن السماء عليه جدًا. ولكن عند عودته تفرح السماء به ويحتفظ بمكانه هناك.
دعاء
أنت يا رب، تعرف كل واحد منا باسمه وتحبه وترحمه. شكراً يا رب، لحبِّك الشخصي والمُتميّز لكل واحد منا ولرحمتك اللامتناهية. لك المجد والعزة والإكرام الآن وكل أوان. آمين