- القس بيشوي فايق
ماذا يفعل البسطاء والعامة من الناس أمام فلسفات الديانات الكثيرة، التي قد تبدو منطقية؟ وماذا يميز الإيمان المسيحي؟ وهل على مَنْ يبحث عن الحق أن يدرس كل هذه الفلسفات؟ وهل نحن مسيحيون لأننا وُلدنا هكذا في الإيمان المسيحي؟
الإجابة:
انتشرت الثقافة اليونانية بفلسفاتها الكثيرة في العالم في القرون الستة السابقة لميلاد ربنا يسوع المسيح. لقد استهوت الفلسفات والتعاليم الغريبة الناس في ذلك الحين طمعًا في الشهرة والرفعة، فاهتم الكثيرون بالبحث عن ما هو جديد دون الالتفات لمضمونه، وقد سجل سفر الأعمال هذه الظاهرة قائلًا عن أهل أثينا، الذين حضر إليهم الرسول بولس ليبشرهم: "فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى أَرِيُوسَ بَاغُوسَ، قَائِلِينَ:"هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ هذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ الَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ.... أَمَّا الأَثِينِوِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَالْغُرَبَاءُ الْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ، إِلاَّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئًا حَديثًا" (أع17: 19- 21).
إن المسيحية ديانة لم تُؤسس على الفلسفة إطلاقًا، وفيما يلي ما يثبت ذلك:
أولًا: المسيحية ليست معتقدات تعتمد على الفلسفة:
التعاليم المسيحية إلهية المصدر:
الإيمان المسيحي ليس معتقدًا فلسفيًّا؛ لأن التعاليم والوصايا المسيحية ليست نتاج بحث ذهني. إنها ترتبط بشخص الله ذاته، الذي يجب الإيمان به أولًا، ثم طاعته. ولا يمكن للمسيحي السلوك وفق وصايا، وتعاليم الله مهما اجتهد، دون معرفة شخص ابن الله يسوع، والإيمان به؛ بل والثبات فيه بقوة روح الله القدوس كقول الرب يسوع: "أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا" (يو5:15).
السلوك المسيحي يعتمد على قوة روح الله:
السلوك المسيحي ليس نتيجة اقتناع بمنهج فكري، ولكنه نتيجة للإيمان بالله، وحبٌّ وخضوعٌ له، ولشخص الرب يسوع ابن الله فادينا، الذي يحبنا ويسكن فينا بقوة الروح القدس.
إننا لا نحيا لأنفسنا ولكننا نحيا له وبه، كقوله أيضًا: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي" (غل20:2).
غرور الحكمة البشرية يبطل عمل النعمة:
يندفع الكثيرون وراء التعاليم والفلسفات الكثيرة، وكل ما هو جديد دون التدقيق في محتواه بغرض حب الظهور، وتمجيد الذات، وبالطبع من يبحث عن مجده الشخصي لن يطلب مجد الله، ولن يطلب ما يخص البشر إخوته، وبالتالي يفقد عمل نعمة الله فيه.
لقد حذر الرسول بولس من الفلسفات والتعاليم المتنوعة؛ كاشفًا أن الغرور الباطل هو الدافع وراء تهافت الناس على هذه الفلسفات قائلًا: "اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ" (كو2: 8). وأيضًا قوله: "كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالًا مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ" (أف14:4).
فرق شاسع بين شريعة الكمال، والحكمة البشرية:
كمال شريعة المسيح ليس له مثيل في عظمته وسط ديانات، وفلسفات العالم الكثيرة؛ لأنها شريعة الله الكامل، الذي قال: "فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" (مت 48:5)
إن شريعة المسيح أساسها المحبة الكاملة الباذلة حتى المنتهى لله، وللقريب. لقد وصف معلمنا بولس الرسول هذه المحبة قائلًا: "...الْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلكِنَّ الْمَحَبَّةَ تَبْنِي." (1كو8: 1). إننا لا ندعي عدم وجود بعض الخير، والصلاح وسط الفلسفات المتنوعة والديانات العالمية؛ لأنها نتاج العقل، الذي هو عطية من الله، لكن كمال تعاليم المسيح لا حدود له كقول المرنم: "لِكُلِّ كَمَال رَأَيْتُ حَدًّا، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا." (مز119: 96).
ولكن هناك أمر يجب الانتباه إليه، وهو أن فلسفة وحكمة العالم كثيرًا ما تتعارض مع شريعة وحكمة الله. لقد رفض اليهود الإيمان بالمسيح المصلوب، لأنهم حسبوه ضعيفًا، ورفض اليونانيون الإيمان به؛ لأنهم حسبوا أنفسهم أحكم منه، كما ذكر معلمنا بولس الرسول قائلًا: "لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً" (1كو1: 22).
حكمة وفلسفة المسيحية في الاستعداد للحياة الأبدية:
ليست المسيحية وصايا، وتعاليم للحياة الفضلى في هذا العالم، كباقي الفلسفات الأرضية؛ ولكن المسيحيون ينتظرون أرضًا جديدة وسماء جديدة، أي حياة أبدية يحيون فيها مع الله ذاته. لقد أكد الرسول تلك الحقيقة قائلًا: "إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ" (1كو19:15).
ثانيًا: تعتمد المسيحية في كرازتها على الإعلان والدعوة الإلهية:
الإله العظيم يجب أن يعلن ذاته:
إن عظمة الخالق الإله الحقيقي تُصّعب على البشر الضعفاء كيفية معرفة، وإدراك أسراره، وأبسط تشبيه يؤكد ذلك هو صعوبة معرفة عامة الشعب البسطاء للعظماء من الملوك.. فإذا فرض أن أحد البسطاء حاول التعرف على أسرار عظمة رئيس دولة عظمى، بالتأكيد ستعيقه حواجز، وصعوبات كثيرة، وإذا فُرض وحظى أحد عامة الشعب بمقابلة ذاك الرئيس، كيف يمكنه فهم حكمته في تدبير، وإدارة دولته، وهو بسيط الفهم والمعرفة، وغير مُختبر.. إنه من الخيال أن يتخيل ذلك المسكين لنفسه القدرة على فهم ما يجهله عن ذلك العظيم. لقد اعترف أبونا إبراهيم بعظمة الله قائلًا: "فَأَجَابَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ:"إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ" (تك18: 27).
وقد أوضح أيوب البار أن الله في علوه غير مدرك قائلًا: "هُوَذَا عَبِيدُهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ، وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ، الَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي التُّرَابِ، وَيُسْحَقُونَ مِثْلَ الْعُثِّ؟" (أي4: 18- 19).
إننا نخلص مما سبق بأن الإله العظيم لابد أن يعلن ذاته؛ بل عليه أن يتباسَط ليدرك المخلوق البسيط بعضًا من أسراره فيعرفه.
الإعلان الإلهي لابد أن يعم الجميع:
إن إعلان الله عن ذاته لابد أن يشمل الجميع البسطاء وذوي العلم، على حد سواء لأنه مسئولية الله تجاه البشر؛ لذلك فالقول بوجوب بحث ودراسة فلسفات جميع الديانات ليتمكن الإنسان من اكتشاف الدين الحقيقي قول غير ممكن، وغير عملي. فإن افترضنا مقدرة الإنسان على البحث في فلسفات الديانات جميعها، فكم سيستغرق ذلك من الجهد والوقت؟ وأيضًا الأمر يحتاج للدراسة المقارنة للكثير من الفلسفات لمعرفة الأفضل، والأنفع. إنه لأمر مستحيل أن يسعى الإنسان نحو الله، ولكن الأمر العملي والأجدر به كخالق قدير أن يسعى نحو خليقته المسكينة بالإعلان، والدعوة عن ذاته؛ بل أيضًا بإنارة أذهان كل من يريد أن يعرفه.. وهذا ما تمناه معلمنا بولس الرسول لأهل أفسس في صلاته قائلًا: "مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ، وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِه" (أف1: 18-19).
الله يدعو:
إعلان الله عن ذاته هو للخليقة كلها ولا يمكن أن يستثني منه أحدًا، وإلا كيف سيحاسب الله البشر على ما لم يعلنه لهم.
ويؤكد الوحي الإلهي في سفر الأمثال على شمولية إعلان الله لجميع البشر دون استثناء قائلًا: "اَلْحِكْمَةُ تُنَادِي فِي الْخَارِجِ. فِي الشَّوَارِعِ تُعْطِي صَوْتَهَا. تَدْعُو فِي رُؤُوسِ الأَسْوَاقِ، فِي مَدَاخِلِ الأَبْوَابِ. فِي الْمَدِينَةِ تُبْدِي كَلاَمَهَا" (أم1: 20-21).
وما يؤكد ذلك قول الرب في مثل عرس ابن الملك: "فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَادْعُوهُ إِلَى الْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولئِكَ الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَارًا وَصَالِحِينَ. فَامْتَلأَ الْعُرْسُ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ" (مت22: 9- 10). يجب ملاحظة أن الملك (يرمز لله) لم يستثن أحدًا.
الله المترفق ببني البشر:
إن كمال معرفة الله مستحيل على البشر الضعفاء، كقول الله لموسى النبي: "فَقَالَ:"أَرِنِي مَجْدَكَ"... وَقَالَ:"لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ" (خر33: 18- 20).
معروفٌ أن البشر متباينون في قدراتهم، وفي معرفتهم، وفي ظروف، وملابسات حياتهم عمومًا، ولهذا يعلن الله عن ذاته لكل أحد على قدر ما طاقته، وهو يحاسب كل أحد على قدر ما أُعلن له من نور إلهي، وهذا ما أكده الرب في مثل الوزنات قائلًا: "فَأَعْطَى وَاحِدًا خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ..." (مت25: 15).
طرق إعلان الله عن ذاته:
الله دائم الإعلان عن ذاته بطرق كثيرة، وبدرجات متفاوتة بقدر شوق، واحتمال الإنسان لمعرفته.. وذلك بطرق متعددة تناسب كل إنسان، أو كل أمة، أو جماعة.. وأيضًا بطرق مناسبة لظروف كل عصر كقول الوحي: "مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا" (أع14: 17). فيما يلي نذكر بعضًا من طرق إعلان الله عن ذاته للبشر:
1. من خلال الطبيعة والمخلوقات كقول الكتاب: "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ، لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ" (رو1: 19- 20).
2. الظهورات والرؤى الإلهية، والتي نذكر منها على سبيل المثال ظهورات الله لأبينا إبراهيم وإسحق ويعقوب، وظهوره لمعلمنا بولس الرسول وهو في طريقه لدمشق كقول الرسول: "فَحَدَثَ لِي وَأَنَا ذَاهِبٌ وَمُتَقَرِّبٌ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّهُ نَحْوَ نِصْفِ النَّهَارِ، بَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلِي مِنَ السَّمَاءِ نُورٌ عَظِيمٌ. فَسَقَطْتُ عَلَى الأَرْضِ، وَسَمِعْتُ صَوْتًا قَائِلًا لِي: شَاوُلُ، شَاوُلُ،! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟" (أع22: 6- 7).
3. يشهد الله لنفسه من خلال عمل خدامه الأتقياء، أو أنبياءه كقول الكتاب المقدس: "إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لاَ يَصْنَعُ أَمْرًا إِلاَّ وَهُوَ يُعْلِنُ سِرَّهُ لِعَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ" (عا3: 7). وأيضًا بإرساله تلاميذه القديسين، ورسله الأطهار للكرازة.
4. تدخله بالرعاية وحضوره في حياة البشر اليومية بطريقة عملية، وإرشاده لهم وقيادتهم في طريق الحياة والحق، وتتميمه لوعوده لهم بالحفظ والرعاية.. ومن أجمل الأمثلة التي تؤكد ذلك ظهور الله ليعقوب أب الآباء وقوله له: "وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ" (تك15:28).
5. تجسد الله وظهوره في الجسد وسكناه بين البشر أعظم إعلان لله عن ذاته كقول معلمنا يوحنا الحبيب: "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يو18:1).
6. حلول روح الله القدوس وسكناه في المؤمنين، والذي يعلم المؤمنين كل شيء عن الله، والذي قيل عنه: "كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ" (أف17:1).
استمرارية، وتدرج الإعلان الإلهي طوال حياة الإنسان:
يظل الله يعلن عن ذاته لمن آمن به طيلة حياته لعله ينمو في معرفته اللانهائية، وكلما عرف الإنسان الله بصورة أعمق كلما تمتع بالفرح والسلام، وبعمل نعمة الله فيه فينال حكمة، ويمتلئ من معرفة مشيئة الله الصالحة، التي تهيء له النجاح في كل ما تمتد إليه يديه كقول الكتاب: "وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ، وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ" (أف3: 18- 19).
قوة الإعلان الإلهي:
المسيحية ليست حكمة كلام بشري يعجب به الناس -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- كقول الوحي الإلهي: "وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ الْحِكْمَةِ الإِنْسَانِيَّةِ الْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالْقُوَّةِ" (1كو2: 4). وقوله أيضًا: "أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِالْكَلاَمِ فَقَطْ، بَلْ بِالْقُوَّةِ أَيْضًا، وَبِالرُّوحِ الْقُدُسِ، وَبِيَقِينٍ شَدِيدٍ، كَمَا تَعْرِفُونَ أَيَّ رِجَال كُنَّا بَيْنَكُمْ مِنْ أَجْلِكُمْ" (1تس1: 5).
إنها قوة داخلية تعمل في باطن الإنسان.. لقد شهد التاريخ عن قوة المسيحية التي تجلت في تمسك المؤمنين بالمسيح بإيمانهم، وخير دليل على ذلك أعداد الشهداء، التي قدمها المسيحيون، والتي لا يوجد مثيل لها في ديانات العالم كله. لقد انتشر الإيمان المسيحي بسرعة عجيبة في وسط اضطهاد اليهود، والرومان وبطشهم ضد المسيحيين، وهذا بعكس ديانات الشعوب، التي كانت ولا زالت محلية.
الخاتمة:
إننا مسيحيون ليس لأننا ولدنا هكذا؛ بل لأننا قبلنا إعلان الله عن ذاته فآمنا به ربًّا ومخلصًا، وصرنا أبناءه. لقد صدقنا دعوته لنا بالحياة الأبدية، وما زلنا نقبل إعلانات الله، وننمو في معرفته على الدوام، منتظرين سرعة مجيئه لنحيا معه في السماء على الدوام.