منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 10 - 07 - 2012, 01:12 PM
الصورة الرمزية مريم فكرى
 
مريم فكرى
| غالى على قلب الفرح المسيحى |

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  مريم فكرى غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 61
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 1,297



يا أبانا السماوي _ غريغوريوس النيسي

يا أبانا السماوي _ غريغوريوس النيسي   يا أبويا السماوي  القديس غريغوريوس النيسي   "متى صلّيتم فقولوا


يا أبويا السماوي

القديس غريغوريوس النيسي



"متى صلّيتم فقولوا أبانا الذي في السموات".




يقول داود النبي "ليت لي جناحين كالحمامة" (مز55: 6)، وأنا أيضًا أقول ذلك بجراءةٍ مستخدمًا نفس الكلمات: مَنْ يعطيني تلك الأجنحة حتى يطير عقلي محلِّقًا في أعالي تلك الكلمات السامية؟


حينئذٍ سأترك ورائي الأرض برمتها وأجتاز الهواء متطلِّعًا للوصول إلى عنان السماء وأبلغ إلى النجوم وأعاين ترتيبها ونظامها. ولكنني حتى هناك لن أتوقف بل أعبر إلى ما ورائها وأصير غريبًا عن كل ما يتحرك ويتغير، وأدرك الطبيعة الثابتة والقوة غير القابلة للتحرُّك الكائنة بذاتها، والتي تقود وتحفظ وجود كل الأشياء، لأنّ كل الأشياء تعتمد على إرادة الحكمة الإلهية التي لا توصف. فيجب أن يصير عقلي أولاً بمعزل عن أي شيء قابل للتحول والتغيير، ويستقر بهدوء في راحةٍ روحيةٍ خاليةٍ من الحركة، وذلك حتى يصير قريبًا من ذاك الذي هو غير قابل للتغيير بالكلية، وحينئذٍ يمكنه أن يخاطبه بهذا الاسم الأكثر أُلفةً: " بابا ".


أي روح يجب أن تكون للإنسان ليقول هذه الكلمة؟!


أيّة ثقةٍ، وأي نقاوةٍ للضمير؟!


فلنفرض أنّ الإنسان يحاول أن يفهم الله بقدر المستطاع من الأسماء التي يُدعَى بها وينقاد بذلك إلى فهم المجد الذي لا يوصف، فهو سيتعلّم أنّ الطبيعة الإلهية مهما كانت فهي في ذاتها خيرٌ مطلق وقداسة وفرح وقوة ومجد وطهارة وأبدية، بشكل قاطع دائماً لا تتغير. هذه الصفات وأي صفاتٍ أخرى يمكن أن تخطر على البال ويمكن للإنسان أن يعرف منها عن الطبيعة الإلهية - سواء من الأسفار المقدسة أو من تأملاته - هل يمكنها أن تجعله يتجاسر على أن ينطق داعيًا هذا الكائن الأعظم أبوه؟




إن كان له أي إحساس فلن يجرؤ على أن يدعو الله أبًا طالما أنه لا يرى في ذاته نفس الأمور التي يراها في الله. لأنه يستحيل من الناحية الطبيعية أنّ الصالح في جوهره يكون أبًا لمشيئةٍ شريرة، والقدوس أن يكون أبًا لذي الحياة النجسة. ولا يمكن لمن لا يتغير أن يكون أبًا لمن يتقلّب من جانبٍ إلى آخر، ولا لأبي (منشأ) الحياة أن يكون له ابن خاضع للموت بسبب الخطية. إنّ الكلّي الطهارة لا يمكن أن يكون أبًا للذين أخزوا أنفسهم بأهواء غير لائقة، ولا للذي يسكب النافعات أن يكون أبًا لمن يطلب ما لذاته. وباختصار، فإنّ ذاك الذي هو الصلاح النقي لا يمكن أن يكون أبًا للمنهمكين بكليتهم في الشر. فإذا كان الإنسان عندما يمتحن نفسه يجد أنه لا زال يحتاج إلى أن يتطهّر لأنّ ضميره ممتلئ بوصمات شريرة، فهو لا يستطيع أن يُقحم نفسه في عائلة الله حتى يتنقّى من جميع الشرور. الإنسان الظالم والنجس لا يستطيع أن يقول "بابا" لمن هو بارٌ وطاهرٌ، حيث إنّ ذلك يعني أنه يدعو الله أبًا لشرِّه، وهذا ليس إلاّ كبرياء وتهكم. لأنّ كلمة "أب" تشير إلى السبب أو العلّة لما هو موجود بواسطته.



فإذا كان الإنسان الذي يلومه ضميره على الشر يدعو الله أباه، فهو يؤكد بأنّ الله هو بالضبط سبب وأصل شروره. إلاّ أنّ "أيّة شركةٍ للنور مع الظلمة" (2 كو6: 14) كما يقول الرسول؟ ولكن النور يقترن بالنور، والبر بما هو بار، والجمال بما هو جميل، وعدم الفساد بما هو غير فاسد. "لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا رديئة" (مت7: 18)، فإذا كان واحدًا قد »تثقّل قلبه ويبتغي الكذب« (مز4: 2) كما يقول الكتاب، ومع ذلك فهو يتجاسر على استعمال كلمات الصلاة، فليعلم أنه لا يدعو الآب السماوي أباه بل إنه يدعو الجهنمي (أي الشيطان)، الذي هو نفسه كذاب وأبو كل كذب، والذي هو خطية وأبو الخطية (اُنظر يو 8: 44). ولذلك فإنّ الرسول يسمي الخاضعين للأهواء: »أبناء الغضب« (أف2: 3)، والرب يسمي الذي خسر الحياة الحقيقية »ابن الهلاك« (يو17: 12)، ويوصَف الكسول والمخنث بأنه "ابن الجواري" (اُنظر يهوديت 16: 12). هكذا وبنفس الطريقة، فإنّ ذوي الضمير النقي يُدعون، على العكس، "أبناء نور وأبناء نهار" (1تس5: 5؛ أف5: 8)، والذين يتوقون إلى القوة الإلهية يُدعون "أبناء القوة".


فإذا كان الرب يعلّمنا في صلاته أن ندعوا الله أبًا، فيبدو لي أنه لا يفعل سوى أنه يضع أمامنا أسمى نوع من الحياة كناموس لنا. لأنّ "الحق" لا يعلّمنا أن نكذب ونصف أنفسنا بما ليس هو حالنا، وأن نستعمل اسمًا ليس لنا حق فيه. ولكننا إذا دعونا ذاك الذي هو غير فاسد وبار وصالح أبًا لنا فعلينا أن نثبت بحياتنا أنّ هذه القرابة حقيقية.


أَتُرى كم نحتاج إلى استعداد، وأي نوع من الحياة علينا أن نعيش؟


وأيّة حرارةٍ يجب أن تكون عليها غيرتنا، حتى تحقق ضمائرنا نقاوةً تعطينا شجاعةً أن نقول لله »يا بابا«؟


لأنك إذا قدّمت مثل هذه الصلاة بشفتيك وأنت مولعٌ بحب المال ومشغول بخداعات العالم، وأنت تجري وراء الشهرة بين الناس، أو مستعبَدٌ للشهوات الجسدية، فماذا تظن فيما سيقوله الله الذي يرى حياتك ويعلم حقيقة صلاتك؟ يبدو لي أنّ الله سيقول لمثل هذا الإنسان شيئًا مثل هذا:



أنت ذو الحياة الفاسدة تدعو ينبوع عدم الفساد أبًا لك؟

لماذا تنجِّس الاسم الطاهر بنطقك الدنس؟

لماذا تنافق بهذه الكلمة وتشتم الطبيعة غير الدنسة؟

لو كنتَ ابني لكانت حياتك تتسم بصفاتي الصالحة.

إنني لا أتعرّف على صورة طبيعتي فيك.

إنّ صفاتك هي على العكس تمامًا مني.

"أيّة شركةٍ للنور مع الظلمة"؟

أيّة صلةٍ بين الموت والحياة؟

كيف يمكن أن توجد ألفة بين الطهارة والنجاسة؟

إنّ معطي الصالحات لَهو أبعد ما يكون عن الإنسان الطماع،

ولا يمكن أن توجد علاقة بين مَنْ هو رحيم ومَنْ هو قاسي.

الشرور التي فيك لها أبٌ آخر، لأنّ ذرّيتي يجعلها صلاح أبيها جميلة ورائعة.

ابن السيد الرحيم والطاهر يكون هو نفسه رحيماً وطاهراً،

والفاسد لا علاقة له بغير الفاسد.

وباختصار فإنّ الصلاح يأتي من الصلاح، والبر من البر؛

أمّا بخصوصك فلا أعلم من أين أنت.




بناء على ذلك، من الخطر أن يتجاسر الإنسان ويستعمل هذه الصلاة ويدعو الله أبًا له قبل أن تتطهّر حياته.




ولكن دعنا نصغي مرةً أخرى إلى كلمات الصلاة، فربما بكثرة تكرارها نُعطَى أن نفهم بعضًا من معانيها المستترة: "أبانا الذي في السموات". واضح مما قلناه أنّ الإنسان ينبغي أن يكتسب رضى الله بحياته الفاضلة، ولكن يبدو لي أنّ كلمات الصلاة تشير إلى معنى أعمق، لأنها تذكّرنا بوطننا الأصلي الذي سقطنا منه وحق بنويتنا النبيل الذي فقدناه. ففي قصة الشاب (الابن الضال) الذي ترك بيت أبيه وذهب بعيدًا ليعيش بطريقة الخنزير، نجد أن الكلمة الإلهي يُظهِر بؤس الإنسان في مَثَل يحكي لنا عن رحيله وحياته الخليعة، وأنه لا يُعيده إلى حياته السعيدة السابقة قبل أن يصير على درايةٍ واعيةٍ بسوء حالته الحاضرة، ويرجع إلى داخل نفسه مردِّدًا كلمات التوبة.


نجد أن كلمات التوبة هذه تتفق مع كلمات الصلاة الربانية، لأنه قال: "يا أبي، أخطأتُ إلى السماء وقدامك" (لو15: 21). إنه ما كان ليضيف إلى اعترافه أنه أخطأ إلى السماء لو لم يكن قد اقتنع أن الوطن الذي تركه عندما أخطأ كان هو السماء. ولذلك فقد منحه هذا الإعتراف عبورًا سهلاً إلى الآب الذي أسرع نحوه واحتضنه وقبّله. وهذا يعني نير كلمة الله التي وُضِعت على عاتق الإنسان بواسطة الفم، أي بواسطة تقليد الإنجيل، بعد أن طرح عنه نير الوصية السابق بتحريره من الناموس القديم. وقد ألبسه حُلّةً، ليست أخرى، بل الحلّة الأولى التي حُرم منها بعصيانه، بعد أن ذاق من الثمرة المحرَّمة ورأى عُريه الذاتي. كما »جعل خاتمًا في يده« (لو15: 22) لأنّ النقش على الخاتم يعني استعادة صورة الله فيه مرةً أخرى. ولكنه أيضًا ألبسه »حذاءً في رجليه« وذلك حتى إذا اقترب من رأس الحيّة لا تلدغه في كعبه العاري.


وعلى ذلك فرجوع الشاب إلى بيت أبيه صار له فرصة لاختبار عطف أبيه ومحبته، لأنّ هذا البيت الأبوي هو السماء التي أخطأ إليها كما قال لأبيه. وبنفس الطريقة يبدو لي أنه إذا كان الرب يعلّمنا أن ندعو الآب الذي في السماء فهو يقصد أن يذكّرنا بوطننا الأصلي الجميل، وهو بذلك إذ يضع في أذهاننا رغبةً أقوى لتلك الصالحات فهو يضعنا على الطريق الذي يقودنا، عائدًا بنا إلى وطننا الأصلي.







إن الطريق الذي يعود بالطبيعة البشرية إلى السماء، ليس سوى تجنُّب شرور العالم بالهروب منها. ومن الناحية الأخرى، فإنّ الغرض من الهرب من الشرور يبدو لي أنه هو تمامًا تحقيق مشابهة الله فينا. أن نصير مثل الله يعني أن نصير أبرارًا وقديسين وصالحين وما شابه ذلك. فإذا تجلّت في إنسان سمات هذه الفضائل سوف يعبر آليًا وبدون جهدٍ من هذه الحياة الأرضية إلى حياة السماء، لأنّ البعد بين الحياتين الإلهية والبشرية ليس بُعدًا مكانيًا حتى إنه يحتاج إلى آلة ميكانيكية ينتقل بها هذا الجسد الأرضي الثقيل إلى الحياة المعقولة المجرّدة من الجسد. فإذا كانت الفضيلة منفصلة حقًا عن الشر فهي توجد في مجال حرية اختيار الإنسان بحيث يكون حسب رغبته. وطالما أن اختيار الصلاح لا يتبعه أي جهدٍ - لأنّ امتلاك الأمور التي يختارها الإنسان يتبع فعل الاختيار - فإنّ الإنسان يُخوَّل له أن يكون في السماء في الحال، لأنه يكون قد أمسك بالله بقلبه.





وإذا كان »الله في السماء« حسب الكتاب (مز115: 3)، وأنت كما يقول النبي: »تقترب إلى الله« (مز73: 28)، فيتبع ذلك أنك لا بدّ أن تكون حيث يوجد الله لأنك تكون متحدًا به. وطالما أنه أوصى أن تدعو الله في الصلاة أبًا، فهو يخبرك ألاّ تفعل أقل من أن تصير مثل أبيك السماوي بحياةٍ جديرةٍ بالله، مثلما يأمرنا بوضوح أكثر قائلاً: »كونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الذي في السموات هو كامل« (مت5: 48).






فإن كنا قد فهمنا الآن معنى هذه الصلاة، يكون الوقت قد حان لنعدّ نفوسنا لكي ننطق بدالة الثقة بتلك الكلمات: »أبانا الذي في السموات«. لأنه كما توجد صفات واضحة لمن يكون بشبه الله، تلك التي بها يصير الإنسان ابنًا لله. (لأنه يقول: »أمّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله« (يو1: 12)، فالذي يقبل الصلاح الكامل يقبل الله). هكذا أيضًا توجد علامات أكيدة تخص الشخصية الشريرة التي لا يمكن أن يكون حاملها ابناً لله، لأنه موسوم بصورة الطبيعة المضادّة.




أَتريد أن تعرف صفات الشخصية الشريرة؟ إنها الحسد والحقد والافتراء والخداع والجشع والشهوة والطموح الجنوني. بهذه وما شابهها يمكن التعرُّف على شخصية العدو، فالإنسان - المشبّعة نفسه بمثل هذه الوصمات - إذا دعا أباه، فأي نوع من الآباء يسمعه؟ واضح أنه لا بدّ أن يكون شبيهًا بمن يدعوه، وهذا طبعًا لن يكون هو الآب السماوي، بل الجهنمي، لأنّ الذي يحمل ملامح أسرته يتعرّف بالتأكيد على شبيهه. وعلى ذلك، فطالما أنّ الإنسان الشرير يداوم على سيئاته فصلاته تكون مجرد استدعاء للشيطان، ولكنه عندما يتخلّى عن سيئاته ويعيش حياة صالحة فإنّ صلاته تكون دُعاءً للآب الصالح. لذلك، فقبل أن نقترب من الله يجب أن نمتحن أنفسنا إن كان لنا في أنفسنا شيء جدير بقرابتنا لله، وهكذا تكون لنا دالة أن نستعمل كلمة “أبانا”.




ذاك الذي أوصانا أن نقول: “أبانا” لم يسمح لنا أن ننطق بالكذب. فالذي يعيش بطريقةٍ جديرةٍ بالسمو الإلهي له الحق في أن يتطلّع إلى المدينة السماوية داعيًا ملك السماء أبًا له والسعادة السماوية وطنه الأُمّ، لأنه ما هو الغرض من هذه المشورة؟ هو أن يفكّر الإنسان في الأمور الفوقانية حيث يوجد الله. هناك ينبغي أن توضع أساسات البيت، هناك تُكنَز الكنوز، والقلب يثبت، »لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا« (مت6: 21). فعلينا أن نداوم على النظر إلى جمال الآب ونُشكل جمال نفوسنا على جماله.




»ليس عند الله محاباة« (رو2: 11) كما يقول الكتاب. فليكن جمالك أيضًا خاليًا من هذا اللوم، فاللاهوت نقي من الحسد ومن كل وصمة هوى، وعلى ذلك فلا تدع مثل تلك الأهواء تدنّسك، لا حسد ولا أمور باطلة ولا أي من هذه الأمور التي تلوث الجمال الإلهي. فإذا كنتَ هكذا فيمكنك أن تخاطب الله بدالةٍ باسمٍ حميم وتدعو رب الكل أبًا لك. إنه سينظر إليك بعيني أبٍ، إنه سيُلبِسك الرداء الإلهي، ويزينك بخاتم، إنه سيجعل في رجليك حذاء الإنجيل لأجل الرحلة الصاعدة، وسوف يعيدك لوطنك السماوي، في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين آمين.






يا أبانا السماوي _ غريغوريوس النيسي   يا أبويا السماوي  القديس غريغوريوس النيسي   "متى صلّيتم فقولوا


يا أبويا السماوي

القديس غريغوريوس النيسي



"متى صلّيتم فقولوا أبانا الذي في السموات".




يقول داود النبي "ليت لي جناحين كالحمامة" (مز55: 6)، وأنا أيضًا أقول ذلك بجراءةٍ مستخدمًا نفس الكلمات: مَنْ يعطيني تلك الأجنحة حتى يطير عقلي محلِّقًا في أعالي تلك الكلمات السامية؟


حينئذٍ سأترك ورائي الأرض برمتها وأجتاز الهواء متطلِّعًا للوصول إلى عنان السماء وأبلغ إلى النجوم وأعاين ترتيبها ونظامها. ولكنني حتى هناك لن أتوقف بل أعبر إلى ما ورائها وأصير غريبًا عن كل ما يتحرك ويتغير، وأدرك الطبيعة الثابتة والقوة غير القابلة للتحرُّك الكائنة بذاتها، والتي تقود وتحفظ وجود كل الأشياء، لأنّ كل الأشياء تعتمد على إرادة الحكمة الإلهية التي لا توصف. فيجب أن يصير عقلي أولاً بمعزل عن أي شيء قابل للتحول والتغيير، ويستقر بهدوء في راحةٍ روحيةٍ خاليةٍ من الحركة، وذلك حتى يصير قريبًا من ذاك الذي هو غير قابل للتغيير بالكلية، وحينئذٍ يمكنه أن يخاطبه بهذا الاسم الأكثر أُلفةً: " بابا ".


أي روح يجب أن تكون للإنسان ليقول هذه الكلمة؟!


أيّة ثقةٍ، وأي نقاوةٍ للضمير؟!


فلنفرض أنّ الإنسان يحاول أن يفهم الله بقدر المستطاع من الأسماء التي يُدعَى بها وينقاد بذلك إلى فهم المجد الذي لا يوصف، فهو سيتعلّم أنّ الطبيعة الإلهية مهما كانت فهي في ذاتها خيرٌ مطلق وقداسة وفرح وقوة ومجد وطهارة وأبدية، بشكل قاطع دائماً لا تتغير. هذه الصفات وأي صفاتٍ أخرى يمكن أن تخطر على البال ويمكن للإنسان أن يعرف منها عن الطبيعة الإلهية - سواء من الأسفار المقدسة أو من تأملاته - هل يمكنها أن تجعله يتجاسر على أن ينطق داعيًا هذا الكائن الأعظم أبوه؟




إن كان له أي إحساس فلن يجرؤ على أن يدعو الله أبًا طالما أنه لا يرى في ذاته نفس الأمور التي يراها في الله. لأنه يستحيل من الناحية الطبيعية أنّ الصالح في جوهره يكون أبًا لمشيئةٍ شريرة، والقدوس أن يكون أبًا لذي الحياة النجسة. ولا يمكن لمن لا يتغير أن يكون أبًا لمن يتقلّب من جانبٍ إلى آخر، ولا لأبي (منشأ) الحياة أن يكون له ابن خاضع للموت بسبب الخطية. إنّ الكلّي الطهارة لا يمكن أن يكون أبًا للذين أخزوا أنفسهم بأهواء غير لائقة، ولا للذي يسكب النافعات أن يكون أبًا لمن يطلب ما لذاته. وباختصار، فإنّ ذاك الذي هو الصلاح النقي لا يمكن أن يكون أبًا للمنهمكين بكليتهم في الشر. فإذا كان الإنسان عندما يمتحن نفسه يجد أنه لا زال يحتاج إلى أن يتطهّر لأنّ ضميره ممتلئ بوصمات شريرة، فهو لا يستطيع أن يُقحم نفسه في عائلة الله حتى يتنقّى من جميع الشرور. الإنسان الظالم والنجس لا يستطيع أن يقول "بابا" لمن هو بارٌ وطاهرٌ، حيث إنّ ذلك يعني أنه يدعو الله أبًا لشرِّه، وهذا ليس إلاّ كبرياء وتهكم. لأنّ كلمة "أب" تشير إلى السبب أو العلّة لما هو موجود بواسطته.



فإذا كان الإنسان الذي يلومه ضميره على الشر يدعو الله أباه، فهو يؤكد بأنّ الله هو بالضبط سبب وأصل شروره. إلاّ أنّ "أيّة شركةٍ للنور مع الظلمة" (2 كو6: 14) كما يقول الرسول؟ ولكن النور يقترن بالنور، والبر بما هو بار، والجمال بما هو جميل، وعدم الفساد بما هو غير فاسد. "لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا رديئة" (مت7: 18)، فإذا كان واحدًا قد »تثقّل قلبه ويبتغي الكذب« (مز4: 2) كما يقول الكتاب، ومع ذلك فهو يتجاسر على استعمال كلمات الصلاة، فليعلم أنه لا يدعو الآب السماوي أباه بل إنه يدعو الجهنمي (أي الشيطان)، الذي هو نفسه كذاب وأبو كل كذب، والذي هو خطية وأبو الخطية (اُنظر يو 8: 44). ولذلك فإنّ الرسول يسمي الخاضعين للأهواء: »أبناء الغضب« (أف2: 3)، والرب يسمي الذي خسر الحياة الحقيقية »ابن الهلاك« (يو17: 12)، ويوصَف الكسول والمخنث بأنه "ابن الجواري" (اُنظر يهوديت 16: 12). هكذا وبنفس الطريقة، فإنّ ذوي الضمير النقي يُدعون، على العكس، "أبناء نور وأبناء نهار" (1تس5: 5؛ أف5: 8)، والذين يتوقون إلى القوة الإلهية يُدعون "أبناء القوة".


فإذا كان الرب يعلّمنا في صلاته أن ندعوا الله أبًا، فيبدو لي أنه لا يفعل سوى أنه يضع أمامنا أسمى نوع من الحياة كناموس لنا. لأنّ "الحق" لا يعلّمنا أن نكذب ونصف أنفسنا بما ليس هو حالنا، وأن نستعمل اسمًا ليس لنا حق فيه. ولكننا إذا دعونا ذاك الذي هو غير فاسد وبار وصالح أبًا لنا فعلينا أن نثبت بحياتنا أنّ هذه القرابة حقيقية.


أَتُرى كم نحتاج إلى استعداد، وأي نوع من الحياة علينا أن نعيش؟


وأيّة حرارةٍ يجب أن تكون عليها غيرتنا، حتى تحقق ضمائرنا نقاوةً تعطينا شجاعةً أن نقول لله »يا بابا«؟


لأنك إذا قدّمت مثل هذه الصلاة بشفتيك وأنت مولعٌ بحب المال ومشغول بخداعات العالم، وأنت تجري وراء الشهرة بين الناس، أو مستعبَدٌ للشهوات الجسدية، فماذا تظن فيما سيقوله الله الذي يرى حياتك ويعلم حقيقة صلاتك؟ يبدو لي أنّ الله سيقول لمثل هذا الإنسان شيئًا مثل هذا:



أنت ذو الحياة الفاسدة تدعو ينبوع عدم الفساد أبًا لك؟

لماذا تنجِّس الاسم الطاهر بنطقك الدنس؟

لماذا تنافق بهذه الكلمة وتشتم الطبيعة غير الدنسة؟

لو كنتَ ابني لكانت حياتك تتسم بصفاتي الصالحة.

إنني لا أتعرّف على صورة طبيعتي فيك.

إنّ صفاتك هي على العكس تمامًا مني.

"أيّة شركةٍ للنور مع الظلمة"؟

أيّة صلةٍ بين الموت والحياة؟

كيف يمكن أن توجد ألفة بين الطهارة والنجاسة؟

إنّ معطي الصالحات لَهو أبعد ما يكون عن الإنسان الطماع،

ولا يمكن أن توجد علاقة بين مَنْ هو رحيم ومَنْ هو قاسي.

الشرور التي فيك لها أبٌ آخر، لأنّ ذرّيتي يجعلها صلاح أبيها جميلة ورائعة.

ابن السيد الرحيم والطاهر يكون هو نفسه رحيماً وطاهراً،

والفاسد لا علاقة له بغير الفاسد.

وباختصار فإنّ الصلاح يأتي من الصلاح، والبر من البر؛

أمّا بخصوصك فلا أعلم من أين أنت.




بناء على ذلك، من الخطر أن يتجاسر الإنسان ويستعمل هذه الصلاة ويدعو الله أبًا له قبل أن تتطهّر حياته.




ولكن دعنا نصغي مرةً أخرى إلى كلمات الصلاة، فربما بكثرة تكرارها نُعطَى أن نفهم بعضًا من معانيها المستترة: "أبانا الذي في السموات". واضح مما قلناه أنّ الإنسان ينبغي أن يكتسب رضى الله بحياته الفاضلة، ولكن يبدو لي أنّ كلمات الصلاة تشير إلى معنى أعمق، لأنها تذكّرنا بوطننا الأصلي الذي سقطنا منه وحق بنويتنا النبيل الذي فقدناه. ففي قصة الشاب (الابن الضال) الذي ترك بيت أبيه وذهب بعيدًا ليعيش بطريقة الخنزير، نجد أن الكلمة الإلهي يُظهِر بؤس الإنسان في مَثَل يحكي لنا عن رحيله وحياته الخليعة، وأنه لا يُعيده إلى حياته السعيدة السابقة قبل أن يصير على درايةٍ واعيةٍ بسوء حالته الحاضرة، ويرجع إلى داخل نفسه مردِّدًا كلمات التوبة.


نجد أن كلمات التوبة هذه تتفق مع كلمات الصلاة الربانية، لأنه قال: "يا أبي، أخطأتُ إلى السماء وقدامك" (لو15: 21). إنه ما كان ليضيف إلى اعترافه أنه أخطأ إلى السماء لو لم يكن قد اقتنع أن الوطن الذي تركه عندما أخطأ كان هو السماء. ولذلك فقد منحه هذا الإعتراف عبورًا سهلاً إلى الآب الذي أسرع نحوه واحتضنه وقبّله. وهذا يعني نير كلمة الله التي وُضِعت على عاتق الإنسان بواسطة الفم، أي بواسطة تقليد الإنجيل، بعد أن طرح عنه نير الوصية السابق بتحريره من الناموس القديم. وقد ألبسه حُلّةً، ليست أخرى، بل الحلّة الأولى التي حُرم منها بعصيانه، بعد أن ذاق من الثمرة المحرَّمة ورأى عُريه الذاتي. كما »جعل خاتمًا في يده« (لو15: 22) لأنّ النقش على الخاتم يعني استعادة صورة الله فيه مرةً أخرى. ولكنه أيضًا ألبسه »حذاءً في رجليه« وذلك حتى إذا اقترب من رأس الحيّة لا تلدغه في كعبه العاري.


وعلى ذلك فرجوع الشاب إلى بيت أبيه صار له فرصة لاختبار عطف أبيه ومحبته، لأنّ هذا البيت الأبوي هو السماء التي أخطأ إليها كما قال لأبيه. وبنفس الطريقة يبدو لي أنه إذا كان الرب يعلّمنا أن ندعو الآب الذي في السماء فهو يقصد أن يذكّرنا بوطننا الأصلي الجميل، وهو بذلك إذ يضع في أذهاننا رغبةً أقوى لتلك الصالحات فهو يضعنا على الطريق الذي يقودنا، عائدًا بنا إلى وطننا الأصلي.







إن الطريق الذي يعود بالطبيعة البشرية إلى السماء، ليس سوى تجنُّب شرور العالم بالهروب منها. ومن الناحية الأخرى، فإنّ الغرض من الهرب من الشرور يبدو لي أنه هو تمامًا تحقيق مشابهة الله فينا. أن نصير مثل الله يعني أن نصير أبرارًا وقديسين وصالحين وما شابه ذلك. فإذا تجلّت في إنسان سمات هذه الفضائل سوف يعبر آليًا وبدون جهدٍ من هذه الحياة الأرضية إلى حياة السماء، لأنّ البعد بين الحياتين الإلهية والبشرية ليس بُعدًا مكانيًا حتى إنه يحتاج إلى آلة ميكانيكية ينتقل بها هذا الجسد الأرضي الثقيل إلى الحياة المعقولة المجرّدة من الجسد. فإذا كانت الفضيلة منفصلة حقًا عن الشر فهي توجد في مجال حرية اختيار الإنسان بحيث يكون حسب رغبته. وطالما أن اختيار الصلاح لا يتبعه أي جهدٍ - لأنّ امتلاك الأمور التي يختارها الإنسان يتبع فعل الاختيار - فإنّ الإنسان يُخوَّل له أن يكون في السماء في الحال، لأنه يكون قد أمسك بالله بقلبه.





وإذا كان »الله في السماء« حسب الكتاب (مز115: 3)، وأنت كما يقول النبي: »تقترب إلى الله« (مز73: 28)، فيتبع ذلك أنك لا بدّ أن تكون حيث يوجد الله لأنك تكون متحدًا به. وطالما أنه أوصى أن تدعو الله في الصلاة أبًا، فهو يخبرك ألاّ تفعل أقل من أن تصير مثل أبيك السماوي بحياةٍ جديرةٍ بالله، مثلما يأمرنا بوضوح أكثر قائلاً: »كونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الذي في السموات هو كامل« (مت5: 48).






فإن كنا قد فهمنا الآن معنى هذه الصلاة، يكون الوقت قد حان لنعدّ نفوسنا لكي ننطق بدالة الثقة بتلك الكلمات: »أبانا الذي في السموات«. لأنه كما توجد صفات واضحة لمن يكون بشبه الله، تلك التي بها يصير الإنسان ابنًا لله. (لأنه يقول: »أمّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله« (يو1: 12)، فالذي يقبل الصلاح الكامل يقبل الله). هكذا أيضًا توجد علامات أكيدة تخص الشخصية الشريرة التي لا يمكن أن يكون حاملها ابناً لله، لأنه موسوم بصورة الطبيعة المضادّة.




أَتريد أن تعرف صفات الشخصية الشريرة؟ إنها الحسد والحقد والافتراء والخداع والجشع والشهوة والطموح الجنوني. بهذه وما شابهها يمكن التعرُّف على شخصية العدو، فالإنسان - المشبّعة نفسه بمثل هذه الوصمات - إذا دعا أباه، فأي نوع من الآباء يسمعه؟ واضح أنه لا بدّ أن يكون شبيهًا بمن يدعوه، وهذا طبعًا لن يكون هو الآب السماوي، بل الجهنمي، لأنّ الذي يحمل ملامح أسرته يتعرّف بالتأكيد على شبيهه. وعلى ذلك، فطالما أنّ الإنسان الشرير يداوم على سيئاته فصلاته تكون مجرد استدعاء للشيطان، ولكنه عندما يتخلّى عن سيئاته ويعيش حياة صالحة فإنّ صلاته تكون دُعاءً للآب الصالح. لذلك، فقبل أن نقترب من الله يجب أن نمتحن أنفسنا إن كان لنا في أنفسنا شيء جدير بقرابتنا لله، وهكذا تكون لنا دالة أن نستعمل كلمة “أبانا”.




ذاك الذي أوصانا أن نقول: “أبانا” لم يسمح لنا أن ننطق بالكذب. فالذي يعيش بطريقةٍ جديرةٍ بالسمو الإلهي له الحق في أن يتطلّع إلى المدينة السماوية داعيًا ملك السماء أبًا له والسعادة السماوية وطنه الأُمّ، لأنه ما هو الغرض من هذه المشورة؟ هو أن يفكّر الإنسان في الأمور الفوقانية حيث يوجد الله. هناك ينبغي أن توضع أساسات البيت، هناك تُكنَز الكنوز، والقلب يثبت، »لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا« (مت6: 21). فعلينا أن نداوم على النظر إلى جمال الآب ونُشكل جمال نفوسنا على جماله.




»ليس عند الله محاباة« (رو2: 11) كما يقول الكتاب. فليكن جمالك أيضًا خاليًا من هذا اللوم، فاللاهوت نقي من الحسد ومن كل وصمة هوى، وعلى ذلك فلا تدع مثل تلك الأهواء تدنّسك، لا حسد ولا أمور باطلة ولا أي من هذه الأمور التي تلوث الجمال الإلهي. فإذا كنتَ هكذا فيمكنك أن تخاطب الله بدالةٍ باسمٍ حميم وتدعو رب الكل أبًا لك. إنه سينظر إليك بعيني أبٍ، إنه سيُلبِسك الرداء الإلهي، ويزينك بخاتم، إنه سيجعل في رجليك حذاء الإنجيل لأجل الرحلة الصاعدة، وسوف يعيدك لوطنك السماوي، في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين آمين.




رد مع اقتباس
 


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
القديس غريغوريوس النيصي
يا أبانا السماوي _ غريغوريوس النيسي
يا أبانا السماوي _ غريغوريوس النيسي
المسكن السمائي _ غريغوريوس النيسي
القديس غريغوريوس النيصي


الساعة الآن 06:54 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024