سلسلة الخدمة (9)
مقاييس الخدمة ونجاحها
بقلم- البابا شنودة الثالث
* إن مقاييس الله غير مقاييس الناس. الله هو فاحص القلوب والكلي. والعارف بحقائق الأمر. هو الذي يستطيع أن يقيم خدمة كل أحد ويعرف مدي فاعلية الخدمة أو روتينيتها. حقيقة الخدمة أو مظهرها.. ولا شك أننا في الأبدية سنجد أمورا عجيبة ما كنا نتخيلها إطلاقا.
ربما نري في الأبدية خداما ما كنا نسمع عنهم !! وربما بعض الخدام الظاهرين الآن, لا نراهم هناك !!.
حقا إن مقاييسنا في تقديم الخدمة غير مقاييس الله.. وهنا نريد أن نفحص ما هي مقاييس الناس في نجاح الخدمة, وما حكم الله عليها. وندرس ما هي المقاييس الخاطئة, وما هي المقاييس السليمة.
أو لمقياس للناس, هو مقدار المسئوليات.
مقدار المسئوليات
يقيس الناس الخدمة بحجم المسئوليات الملقاة علي الخادم, بينما الله له مقياس مختلف
* خذوا مثلا إسطفانوس أول الشمامسة:
إنه مجرد شماس, لم ينل رتبة أعلي من ذلك.
فهل نقيس خدمته برتبته؟! كلا, بلا شك. فإن الكنيسة المقدسة تضع اسمه في مجمع القديسين قبل جميع البطاركة. وتقاس خدمتها بعمقها. وكيف أنه كان مملوءا من الروح القدس والحكمة والإيمان (أع6:3, 5) وإذ كان مملوءا إيمانا وقوة, كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب (أع6:8).
ووقف أمام ثلاثة مجامع وأمام الذين من كيليكيا وآسيا, يحاورونه ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به (أع6:10). لهذا رأينا أنه بعد وضع اليد عليه كشماس (كانت كلمة الله تنمو, وعدد التلاميذ يتكاثر جدا في أورشليم, وجمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان (أع 6:7).
هكذا كانت خدمة هذا الشماس وفاعليتها, حتي أن اليهود لم يحتملوا خدمته, فقبضوا عليه ورجموه.
وفي رجمه رأي السموات مفتوحة وابن الإنسان قائما عن يمين الله (أع7:56). ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك (أع6:15).
إن الإنسان في خدمته أمام الله, يوزن مجردا من صفاته الخارجية ووظائفه. فيوزن في عمق عمله, وفي عمق قلبه, وفي قيمة خدمته.
* خذوا مثالا آخر: القديس مار أفرام السرياني:
وما قام به من جهد كبير في الخدمة وفي مقاومة الأريوسية وفي دفاعه عن الإيمان, حتي قبل أن يرسم أغنسطسا (أي قارئا) من يد القديس باسيليوس الكبير. هذه الرتبة التي يحصل عليها الآن عشرات الآلاف من خدام مدارس الأحد, والتي كان يري نفسه غير مستحق لها.
ولكن الأغنسطس ما أفرام كان له وزنه الجبار في الكنيسة الجامعة, حتي أسموه قيثارة الروح القدس وأسموه الملفان أو المعلم, في أشعاره وكتاباته الروحية ذات التأثير أو العمق العجيب..
أترانا نقيس خدمته برتبة الأغنسطس؟! أم بأثره البارز في خدمة الإيمان وفي التعليم, ليس في جيله فقط, وإنما في أجيال عديدة وحتي الآن.
* خذوا مثالا آخر: الشماس أثناسيوس في مجمع نيقية المسكوني المقدس
في ذلك الوقت كان مجرد شماس, في أول مجمع مسكوني يضم 318 من الآباء الكبار, بطاركة وأساقفة, يمثلون كنائس العالم كله. ولكن عمله حينذاك لم يكن يقاس برتبته كشماس, وإنما بوقوفه ضد أريوس الهرطوقي, والرد علي كل أدلته, في قوة, وفي فهم عميق للكتاب والمعني السليم لنصوصه ودلالاتها اللاهوتية..
حتي أنه -وهو شماس- قام بصياغة قانون الإيمان المسيحي في مجمع نيقية, القانون الذي تؤمن به كل كنائس العالم.. هنا الخدمة لم تكن تقاس بالرتبة, وإنما بأثرها وفاعليتها.
* مثال آخر هو القديس سمعان الخراز
ماذا كانت رتبته؟! لا كاهن, ولا شماس, ولا حتي أغنسطس.. إنما عامل بسيط ربما لا قيمة له في المجتمع, ولا وظيفة له في الكنيسة.
ولكن قيمة خدمته كانت في عمق عمله, وعمق صلواته, وفي إنقاذه الكنيسة كلها بمعجزة نقل جبل المقطم أيام البابا إبرآم ابن زرعه وفي حضوره. هنا نوعية الخدمة, وليس علو الرتبة..
* خذوا أيضا مثال القديس الأنبا رويس
لم يكن أسقفا ولا قسا ولا شماسا, ولم تكن له أية وظيفة رسمية في الكنيسة, ولا أية خدمة معينة. ومع ذلك دعته الكنيسة من آبائها., وكانت له خدمات تظهر يد الله فيها بكل وضوح.
* كذلك يمكن أن نذكر: إبراهيم الجوهري
كان علمانيا, وله وظيفة علمانية في الدولة, أي أنه لم يكن مكرسا للرب. ومع ذلك كانت له محبته العميقة للكنيسة, وخدماته التي لا يمكن أن تنسي التي قام بها من أجل عمارة الأديرة والكنائس, وفي العناية بالفقراء بأسلوب يضعه في مرتبة الخدام, بل أنه يفوق الكثيرين منهم.
* مثال خارج الكنيسة القبطية هو ميشيل أنجلو
كان فنانا. ولكن خدماته في محيط الأيقونات الكنسية, سجلت له اسمه في التاريخ وبخاصة في كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان.
وهنا لا نسأل عن درجته الكنسية أو عن رتبته, إنما عن عمق خدمته, والناس يعرفون ميشيل أنجلو, وربما الملايين لا تعرف اسم البابا الذي عاش أنجلو في أيامه. وإن عرفوا اسمه يقولون إنه البابا المعاصر لميشيل أنجلو.. !
* نقطة أخري نذكرها في مقاييس البشر الخاطئة بالنسبة إلي الخدمة, وهي شرف وعظمة المكان
عظمة المكان
ققد ينسبون أهمية الخادم إلي أهمية وعظمة المكان الذي يخدم فيه, كإنما خدمته تستمد قدر عظمتها من المكان, وليس من الشخص, ولا من عمق ونوعية الخدمة. والواقع غير ذلك:
* ومن أمثلة ذلك القديس غريغوريوس النيازنيزي
ينتسب إلي بلدة نيازنيزا التي صار أسقفا لها, وربما لا يعرف أحد تحديد مكانها بالضبط, غير أنه كانت إحدي مدن قيصارية كبادوكية التي تتبع للقديس باسيليوس الكبير.
غير أن القديس غريغوريوس لم يستمد عظمته وشهرته من عظمة المدينة التي يخدمها, وإنما من شخصيته اللاهوتية ومحاضراته العميقة التي ألقاها عن الثالوث القدوس, حتي أن الكنيسة منحته لقب الناطق بالإلهيات. إيبارشيته لم تمنحه الشهرة إنما هو الذي منح الشهرة لبلده نيازنيزا المجهولة بالنسبة إلي الكثيرين.
* ومثله أيضا: القديس أوغسطينوس
وكان أسقفا لمدينة هبو Hippo. وكثيرا ما سألني البعض أين توجد هبو هذه؟. وكنت أجيبهم أنها ضمن إيبارشية قرطاجنة في شمال أفريقيا. وكان يرأسها القديس أوريليوس وقتذاك.
ولكن أوغسطينوس النابغ في التأملات, وفي التفسير وفي اللاهوت. وفي الدفاع عن الإيمان ضد البيلاجيين والمونتانيين وغيرهم, هو الذي أعطي الشهرة لمدينة هبو. ولولاه لنسيها التاريخ.
* مثله أيضا القديس غريغوريوس أسقف نيصص
وهو أخو القديس باسيليوس الكبير. وقد رسمه أخوه علي نيصص, التي لا يعرف الكثيرون مكانها.
ولكنها ضمن إيبارشية قيصارية كبادوكية. هي بلدة غير مشهورة, الذي سجل اسمها في التاريخ هو أسقفها القديس غريغوريوس, الذي كتب كثيرا ضد الأريوسيين وله تأملات كثيرة, وكتاب عن التطويبات.
لا يقل أحد إذن إن خدمتي فقدت قيمتها لأنها في بلدة صغيرة أو في قرية!! ولو أنني خدمت في مدينة كبيرة, لكان لي شأن آخر!!.
* إن السيد المسيح ولد في قرية صغيرة هي بيت لحم الصغري في يهوذا (متي2:6).
وانتسب إلي مدينة الناصرة, التي كان يعجب البعض هل يخرج منها شئ صالح!! (يو1:46). ولكنه مع ذلك أعطي الناصرة شهرة في التاريخ. وكان يدعي يسوع الناصري (مت26:71). وفي نفس الوقت أيضا منح شهرة لقرية بيت لحم, فصارت مزارا مقدسا..
* خدام آخرون يقيسون (عظمتهم) في الخدمة بطول مدة هذه الخدمة. ويعتبرون هذا نوط تقدير للخدمة!
طول مدة الخدمة
البعض يقيس قوة الخادم بطول مدة خدمته.
ومن هنا جاء تعبير (الخدام القدامي). وفي الحقيقة ليس هذا مقياسا سليما. فقد يوجد خدام لهم مدة أقصر من غيرهم, ولكنها أكثر إنتاجا وأعظم أثرا.
* يوحنا المعمدان: خدم سنة أو سنتين بالأكثر
ولكنه استطاع خلال تلك الفترة القصيرة أن يهيئ الطريق أمام الرب, ويعد له شعبا مستعدا ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته (لو1:17).
* والسيد المسيح نفسه كانت خدمة تجسده قصيرة!
حوالي ثلاث سنوات وثلث, قال عنها للآب: العمل الذي أعطيته قد أكملته (يو17:4) وقال عنها أيضا: أنا مجدتك علي الأرض.. أتم الفداء, والتعليم, وقدم القدوة, وصحح الأخطاء, وأعاد الصورة الإلهية للناس.
* البابا كيرلس الرابع, مدة حبريته أقل من 8 سنوات
ومع ذلك منحته الكنيسة عن هذه الفترة لقب (أبو الإصلاح) من أجل عمق الخدمة التي قدمها.
ويعوزنا الوقت إن تكلمنا عن بعض الآباء الكهنة:
*القس منسي يوحنا كاهن ملوي مثلا:
تنيح وعمره 30 سنة, واستطاع في تلك الفترة أن يقدم آلافا من العظات, وكتاب يسوع المصلوب, وطريق السماء, وتاريخ الكنيسة الذي ألفه وهو شماس. وكان له تأثير روحي واسع النطاق علي الرغم من قصر مدة خدمته.
* والقس أنطونيوس باقي خادم كوينز
وهو أول كاهن أرسلته إلي أمريكا سنة .1972 لم يخدم في أمريكا سوي خمسة أشهر. ولكن خدمته توجت بعبارة قالها له الشعب هناك: لقد عرفنا الرب يوم عرفناك.
الخدمة إذن لا تقاس بطول مدتها, وإنما بعمقها..
* قد يأتي إنسان إلي كنيسة كضيف ويلقي عظة.
وتكون هذه هي كل خدمته في هذه الكنيسة.
وتمر سنوات طويلة, والناس لا ينسون تلك العظة وتأثيرها, بينما يخدم غيره في نفس الكنيسة سنوات طويلة يلقون خلالها عظات عديدة, ولكن ليس بنفس التأثير.
إن يوما واحدا يخدمه بولس الرسول, لهو أعظم وأعمق من سنوات طويلة يخدمها آخرون.
* مقياس آخر يقيس به البعض نجاح الخدمة وهو:
كثرة المخدومين
كما تتميز عظمة قائد في جيش, بأنه قائد مائة أو قائد ألف. وهكذا كلما زاد عدد المخدومين, يعتبرون هذا دليلا علي نجاحها ونموها. وقد يكون الأمر كذلك فعلا, ولكنه ليس مقياسا ثابتا بصفة مطلقة..
فليس نجاح الخدمة في كثرة عدد المخدومين, وإنما في الذين غيرت الخدمة حياتهم, وأوصلتهم إلي الله.
* السيد المسيح كان يعظ الآلاف كما في الخدمة الروحية التي سبقت معجزة الخمس خبزات والسمكتين. وكانت له خدمة أخري مرتكزة في الاثني عشر, وكانوا أهم من تلك الآلاف بكثير, بل هم الذين جذبوا إلي الإيمان مدنا وأقطارا فيما بعد.
وجميل قول الكتاب في نجاح خدمة هؤلاء
وكان الرب في كل يوم يضم إلي الكنيسة الذين يخلصون (أع2:47)
إذن ليس نجاح الخدمة في عدد الذين يسمعون, إنما في عدد الذين يقبلون الكلمة بفرح, وتثمر فيهم, وتقودهم إلي التوبة, وإلي حياة القداسة والكمال.
ومن هنا كنا ننادي بفصول مدارس الأحد المحدودة العدد, التي يستطيع فيها المدرس أن يهتم بكل تلميذ, ويخدمه خدمة حقيقية ناجحة, ويفتقده ويرعاه وبنفس الوضع عملنا علي تقسيم الإيبارشيات إلي مناطق محدودة يستطيع الأسقف أن يرعاها ويزورها, ويهتم بكل مدينة فيها وكل قرية, ولا تضيع تلك المدن والقري وسط المسئوليات الضخمة التي كان يكلف فيها المطران برعاية بضع محافظات!!.
وقد أرانا الرب بأمثلة عديدة أهمية العناية بالفرد الواحد في الخدمة, كما فعل مع زكا (لو 19) وأيضا مع نيقوديموس (يو3). ومع المولود أعمي (يو9) وغيرهم.
* البعض يضع مقياسا آخر لنجاح الخدمة هو:
كثرة الإنتاج
كالقيام بعدد كبير من الخدمات, أو إنشاء عدد كبير من فروع الخدمة, أو من الأنشطة.
وقد يتوه في كل ذلك, ولا يحسن الإشراف علي كل تلك الأنشطة, أو يضطر إلي تعيين عدد من الخدام بغير إعداد. وتفقد الخدمة روحياتها بكثرة اتساعها وقلة عمقها..
إذن ما هي المقاييس السليمة لتقييم الخدمة؟ وما هي عناصر القوة في الخدمة؟
هذا ما نود أن نحدثك عنه في العدد المقبل إن أحبت نعمة الرب وعشنا.