رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام 2009 فضيلة التدقيق الإنسان الصالح يحرص أن يكون مدققًا في كل تصرفاته، في علاقته مع الله ومع الناس ومع نفسه. ويتدرب على ذلك، حتى يصبح التدقيق جزءًا من حياته ومن طباعه. والإنسان المدقق لا يكون تدقيقه فقط أمام الناس، إنما حتى حينما يكون وحده في غرفته الخاصة. أقول هذا لأن التدقيق في التصرف قد يكون سهلًا نوعًا ما في حضرة الناس. لأننا بطبيعتنا لا نحب أن ينتقدنا الناس، ونخشى أن ننكشف أمامهم، وتظهر أمامهم عيوبنا وأخطاؤنا. ولهذا فأن المقياس الحقيقي لتدقيقنا يظهر حينما نكون وحدنا لا يبصرنا أحد. وفي هذه الحالة يبعد التدقيق تمامًا عن الرياء. إن الإنسان المستقيم يصبح التدقيق تلقائيًا عنده، كجزء من طبعه. وليس مجرد محاولة منه، أو مجرد تدريب. أو هو قد تعود على أن يكون مدققًا في كل شيء، بدوافع داخلية فيه تمثل بعضا من مبادئه وقيمه. وهو يحب دائمًا أن يكون بلا لوم أمام الله الذي يراه، وأمام الملائكة الذين يرونه، وأمام أرواح الأبرار في العالم الآخر. فهل أنت يا أخي مدقق بهذا المقياس، بغض النظر عن أحكام الناس؟ التدقيق هو احتراص من أقل خطأ. أو هو سعى نحو أكمل وضع ممكن، بغير تراخٍ أو إهمال، وفي بُعد عن التبريرات التي تدافع عن بعض الأخطاء. إنه خطوة نحو الكمال... فالذي يكون مدققًا محترسًا من الصغائر، من الصعب عليه أن يقع في الكبائر. والذي يحترص بكل جهده من الوقوع في الخطيئة بالفكر، ليس من السهل عليه أن يقع في الخطيئة بالعمل. ولكن على الإنسان أن يحترص في تدقيقه، حتى لا يقع في التزمت أو في الوسوسة، أو في الحرفية. ففي التزمت والوسوسة، يظن المُتزمِّت وجود الخطأ حيث لا يوجد خطأ، أو أنه يُضخِّم من قيمة الأخطاء فوق حقيقتها، أو تحاربه عقدة الإثم بدون سبب معقول، أو هو في سبيل الدفاع عن الحق يصل إلى التطرف الذي يؤثم تصرفات سليمة. مثل أولئك الذين يُحمِّلون الناس أحمالًا ثقيلة عثرة الحمل. ويغلقون ملكوت السموات قدام الناس. فلا يدخلون هم ولا يدعون الداخلين يدخلون!! إنما التدقيق -بمعناه الحقيقي السليم- هو الوضع الذي لا يشوبه خطأ من أي نوع، ما بين التَّسيُّب والتَّزمُّت. إنه يُذكِّرنا بميزان الصيدلي: بحيث كل مادة تدخل في تركيب الدواء. إن زادت عن الحد فإنها تضر، وإن نقصت تضر أيضًا. فالمدقق إذن له مبادئ يُحافظ عليها، بحيث لا يبالغ فيها ولا يهمل. الإنسان المُدقِّق يكون حريصًا على وقته باعتباره جزءًا من حياته. يستخدم الوقت بطريقة سليمة لا يضيع شيئًا منه فيما يندم عليه، أو فيما لا يستفيد منه. وهو يوزع وقته توزيعًا عادلًا على جميع مسئولياته. وكما يكون مدقِّقًا من جهة وقته، يكون أيضًا مُدقِّقًا من جهة وقت غيره. أقول هذا لأن البعض قد يعتبر وقت غيره رخيصًا عنده فيزور الغير في موعد غير مناسب، أو يطيل الزيارة، أو يطيل الكلام، بحيث يشغله مضيعًا وقته! بينما هذا الآخر لا يعرف في خجله أن يهرب من هذا المتطفل. إن الشخص المُدقِّق يحترم حياته ووقته، وأيضًا حياة الآخرين ووقتهم. . كما أنه لا يسمح لنفسه أن يضيع وقته في التوافه، أو يعطي أيَّة مشغولية وقتًا فوق ما تستحق. والإنسان المُدقِّق يكون مُدقِّقًا في كلامه. فهو يزن كل كلمة قبل أن يقولها، سواء من جهة معنى الكلمة أو قصدها، أو مناسبتها للمجال أو للسامعين. أمَّا الذي يتكلَّم ثم يندم على قوله، فهو غير مُدقِّق في الحديث. وكذلك الذي يتكلَّم ثم يعاتبونه على معنى كلامه، فيقول ما كنت أقصد ذلك. فالإنسان المُدقِّق يقول ما يقصد، ويقصد ما يقول. وأيضًا الذي يتكلَّم فيجرح شعور غيره بغير حكمة، هو إنسان غير مُدقِّق. إن السرعة في التَّكلُّم، هي من الأسباب التي تؤدي إلى عدم التدقيق. سواء السرعة في إبداء الرأي، أو السرعة في الحكم على الآخرين، أو السرعة في الاستسلام للغضب. كل ذلك يُعرِّض الإنسان للخطأ، فلا يكون مُدقِّقًا في كلامه. أمَّا الذي يتباطئ، ويزن الكلمة قبل أن يقولها، فإنه يكون أكثر تدقيقًا. لأنه يتروَّى في تفكير متزن يمكنه أن يتخيَّر الألفاظ المناسبة، ويحسب ردود فعلها. فلا تحسب عليه كلمة يقولها. وكما يُدقِّق الإنسان في كلامه، ينبغي أن يُدقِّق في مزاحه وضحكه. بحيث أنه في دعاباته، لا يخرج عن حدود اللياقة والأدب. كما لا يجوز أن تتحول دعابته إلى لون من التهكم على الغير أو الاستهزاء به. أو جعله مادة للسخرية. ولا يجوز له في الدعابة أن يجرح شعور غيره. فمن حق كل إنسان أن يضحك مع الناس، لا أن يَضْحَك على الناس. وليس له أن يهين غيره ولو في مجال المزاح، ولو عن غير قصد. والإنسان المُدقِّق يكون مُدقِّقًا أيضًا في نقده وفي عتابه. فالنقد السليم ليس هو التجريح بالغير. إنما هو لون من التحليل، تُذكر فيه النواحي الطيبة، أمَّا المآخذ فتُذكر بطريقة موضوعية غير شخصية، وبأسلوب غير هدام. نلاحظ أيضًا أن كثيرين يستخدمون كلمة الصراحة في غير معناها الدقيق. فتتحوَّل الصراحة إلى مهاجمة وتجريح، ولا تأتي بنتيجة. والإنسان المُدقِّق لا يكون قاسيًا حينما يُعاتب غيره. فليس من الحكمة أن يحطم غيره بالعتاب أو الصراحة، فيخسرهم. الإنسان المُدقِّق تظهر دقته أيضًا في كل عمله ومسئولياته. فالدقة في العمل تقود إلى النجاح والإتقان وإلى احترام الناس وثقتهم. والإنسان المُدقِّق لا يحتاج إلى مَن يراجعه في عمله. فهو بذاته يبعد عن كل خطأ. وتكون دقته في العمل نموذجًا لغيره. وإن أخطأ لسبب ما لا يحاول أن يبرر ذلك بأعذار... إن كثيرين يدققون في محاسبة غيرهم، ولا يدققون في محاسبة أنفسهم. والإنسان المُدقِّق يُدقِّق أيضًا في حياته الروحية، في كل تفاصيل علاقته مع اللَّه. ويكون مُدقِّقًا في سلوكه بحيث لا يخطأ. كما يدقق كثيرًا في محاسبته لنفسه. |
|