إبليس يطلب من المسيح أن يسجد له
(تجربة الشرك بالله)
"ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، وَقَالَ لَهُ: "أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي". حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ". ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا مَلَائِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ" (متى 4:8-11).
بعد فشل إبليس في خُطة البساطة ثم الاحتيال، لجأ إلى خطة الوقاحة، فنراه يغيّر نوع الطلب ويدعو المسيح إلى أمر منكر، هو السجود له، ويقدم مقابل ذلك شيئاً لا تُقدَّر قيمته. لأنه على كيفية نجهلها أصعده إلى جبل عالٍ جداً، وأراه جميع ممالك المسكونة ومجدها في لحظة من الزمان وقال له: "لك أعطي هذا السلطان كله، وهذه جميعها ومجدهنَّ، لأنه إليَّ دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد. فإنْ خررْتَ وسجدتَ لي يكون لك الجميع".
ليس في جواب المسيح على هذه التجربة أقل إشارة إلى أن اقتراح إبليس كاذب ومواعيده فارغة، مع أن باستطاعة المسيح أن يرغم إبليس على القيام بما وعد، إن شاء ذلك. بل بنى رفضه على نوعية ما كلّفه إبليس به، وهو أن يقدّم السجود لغير الله، أو أن يقدم هذا السجود من باب النفاق لشخص لا يسجد له قلبياً. وأن يتخذ لأجل غاية حسنة وسيلةً سيئة، متساهلاً مع الشر القليل لأجل الخير الجزيل. وهذه على الدوام خدعة شيطانية تضيِّع على المتساهل كل ما يريده من الخير، وتجلب على رأسه ويلاً وبيلاً عقاباً على تساهله، فالغاية لا تبرِّر الوسيلة أبداً.
كانت هذه التجربة الشيطانية الثالثة تطلب من المسيح أن يتبنَّى خطة المجد العالمي في أمور الدين، كما يفعل رجال الدين جميعاً، حتى رسله، ويوحنا المعمدان، الذين كانوا يشتهون ويتوقَّعون ملكوتاً زمنياً مجيداً يقيمه المسيح متى جاء. وتعهد إبليس للمسيح أن يسهّل له إتمام هذه الرغائب اليهودية السائدة عند الجميع. وفي الوقت ذاته يغنيه عن الأتعاب والإهانات والآلام والصلب، وعن الصبر طويلاً مئات السنين لتأييد سلطته على البشر مكان سلطة إبليس. فينال المسيح غايته السامية بسرعة وسهولة.
ولا يُستبعَد أن هيئة إبليس في هذه التجربة أيضاً لم تكن شيطانية ظاهرة تولّد النفور منه مباشرة والاشمئزاز من تقديم السجود له. لكن وقاحة اقتراحه في طلبه من المسيح الطاهر أن يفعل أمراً منكراً في الدين، تكفي لتكشف عن حقيقة شخصه. لذلك قابله المسيح بالرفض القوي، وانتهره بقوله: "اذهب يا شيطان". ومع ذلك لم يمسك عنه قوة البرهان، بل سرد له عبارة من نفس خطاب موسى الذي اقتبس منه سابقاً: "مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (تثنية 6:13، 10:20).
لما أمر المسيح إبليس بالذهاب، ولَّى مخذولاً. ولكنه فارقه إلى حين فقط. وحالما تقرر فوز زعيم البر على زعيم الإثم وهرب إبليس خاسراً، ظهرت مراقبة أهل السماء لهذا العراك الفاصل الخطير. لأنه يُقال: "وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه". كأنها تنقل إليه التهاني السماوية على فوزه، وبشائر الرضى الإلهي الممتاز، لأن الملائكة هم "أَرْوَاحٌ خَادِمَةً مُرْسَلَةٌ لِلْخِدْمَةِ لِأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلَاصَ" (عبرانيين 1:14). فكم يكون فرحهم وافتخارهم أن يخدموا الآن - ليس ورثة الخلاص - بل رئيس الخلاص ورئيس الإيمان ومكمّله.
في هذه البرية هاجمت المسيح أنواع التجربة الثلاثة "شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ" (1 يوحنا 2:16) تجربة للجسد في أمر الطعام، وتجربة للعقل في أمر إعجاب الناس، وتجربة للنفس في أمر المجد العالمي. وفي هذه كلها تجرَّب مثلنا لكي يرثي لضعفاتنا. وبها تزكَّى وتقوى وتمجد، وشهد له إبليس شهادة ضمنية قوية، لأنه لم يقدم له أول الأمر تجربة في أمر شرير رديء، لكنه أتاه أولاً بتجارب ظاهرها شريف، حتى إذا سقط فيها يجذبه تدريجياً إلى ما وراءها من المنكرات.
وتعتبر تجربة المسيح في البرية معمودية المسيح الثالثة، وهي معموديته بالنار، بعد أن تعمد بالماء ثم بالروح القدس. وبقيت عليه معمودية رابعة هي المعمودية بالدم على الصليب.
في آدم الأول تمثَّل الجنس البشري كله، فلما تجرب وسقط، هوى مع كل نسله إلى الجحيم، فهبطوا جميعاً من الجنة وصاروا بعضهم لبعض عدو. وفي آدم الثاني (المسيح) تمثَّل الجنس البشري مرة ثانية، فلما تجرب ثبت ليصعد جنسُه معه إلى النعيم. بسقوط آدم الأول تحولت جنة عدن إلى برية، وبثبات آدم الثاني تتحول البرية جنة، فإذا برية الشر تصبح جنة البر، وبرية الخصام جنة السلام، وبرية السخط الإلهي والدينونة الأبدية جنة الرضى الإلهي والرحمة والحياة الأبدية، وبرية العداوة لله جنة البنوَّة لله، وبرية اليأس والهلاك جنة الرجاء والخلاص.