رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار الحية النحاسية للأنبا إبيفانوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار في مجرى حديث الرب يسوع مع نيقوديموس عضو السنهدريم عن الولادة الثانية، سأله نيقوديموس عن كيفية هذه الولادة؟ وهل يستطيع الإنسان أن يدخل بطن امه ثانية وهو شيخ ويولد؟ عندئذ شرح له الرب يسوع أن الولادة الثانية ليست ولادة جسدية، لأن: “المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو3: 6). ثم عقب الرب على هذا الحديث مباشرة، أنه “كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان» (يو3: 14). فما هي الحية التي رفعها موسى، ولماذا اتخذها الرب يسوع مثالاً لارتفاعه على الصليب؟ حية موسى النحاسية: بينما كان بنو إسرائيل مرتحلين من جبل هور في طريق البحر الأحمر (خليج العقبة) ليدوروا بأرض أدوم، وهم في طريقهم لدخول الأرض التي وعدهم الله بها، عادوا إلى عادتهم القديمة وبدأوا يتذمرون عل الله وعلى نبيه موسى: “وتكلم الشعب على الله وعلى موسى قائلين: لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية؟ لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف (المن)!» (عدد21: 5). لقد نسى الشعب المعجزات التي أجراها الله أمامهم على يدي موسى النبي منذ أن طالب فرعون بالسماح للشعب بالخروج من مصر، مروراً بانشقاق البحر الأحمر تحت أرجلهم، ونزول المن لهم من السماء، والسلوى التي ساقتها إليهم الريح، والماء الذي خرج لهم من صخرة صماء؛ نسي الشعب ذلك كله في لحظة ضيق، وتذمروا على الله وعلى البركات التي منحها لهم. فكان عقاب الله لهم شديداً: «فأرسل الرب عل الشعب الحيات المحرقة (ها نحشيم ها سرافيم)، فلدغت الشعب، فمات قوم كثيرون من إسرائيل» (عدد21: 6). والاسم: “الحيات المحرقة”، يشير إلى نوع من الأفاعي المنتشرة في صحراء سيناء، والتي تتميز في شكلها ببقع حمراء لامعة وخطوط متموجة عل جلدها. وهي من الأنواع التي كان يخشاها البدو جداً بسبب سمها المميت. وكلمة “المحرقة” المستعملة كوصف للحيات هي نفس الكلمة التي استعملها إشعياء النبي في (إش6: 2و6) لوصف إحدى الرتب السمائية التي راها في رؤياه، وهي تنطق “سرافيم”: “السرافيم واقفون فوقه، لكل واحد ستة أجنحة… فطار إلي واحد من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومس بها فمي”. وكلمة “سرافيم” تصف مظهر هذه الكائنات السمائية النورانية اللامعة والتي تحيط بعرش الله؛ مما يعني أن هذه الكلمة “المحرقة” عندما استعملت لوصف الحيات، فإنها كانت تشير إلى مظهر الحيات بلونها ذي البقع الحمراء اللامعة أكثر من وصفها لسمها القاتل. عندما هاجمت الحيات القاتلة الشعب، وبدأ القتلى يسقطون فرادى وجماعات، صرخ الشعب وأعلنوا توبتهم حتى يرفع الله عنهم هذا الشر المميت: “فَأَتَى الشَّعْبُ إِلَى مُوسَى وَقَالُوا: «قَدْ أَخْطَأْنَا إِذْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَيْكَ، فَصَلِّ إِلَى الرَّبِّ لِيَرْفَعَ عَنَّا الْحَيَّاتِ». فَصَلَّى مُوسَى لأَجْلِ الشَّعْبِ. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا». فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى الرَّايَةِ، فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَانًا وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا.” (عدد21: 7-9). حاول بعض المفسرين إيجاد تفسير لتمثال الحية المرفوع فوق الراية، فربطوه ببعض الأفكار الوثنية القديمة المرتبطة بالحيات وبالشفاء، ومن بعض ما قالوه: ١- هناك اعتقاد قديم عند تلك الشعوب الوثنية أن كل ما له قدرة على إحداث المرض له القدرة أيضاً على منح الشفاء، بمعنى أن فيه “الداء والدواء”. وما زال هذا الاعتقاد منتشراً في بعض الأوساط الشعبية حتى اليوم. ٢- يرى البعض في قدرة الحيات عل سلخ جلدها القديم لتظهر بالجلد الجديد المتكون تحته، أن لها أيضا القدرة عل تجديد الحياة . ٣- الاعتقاد القديم أن بعض أجزاء جسم الأفاعي له القدرة على إحداث الشفاء، لذلك استعمل الأطباء القدامى أجسام الحيات في تكوين بعض الأدوية. وأكثر الأمثلة ارتباطا بين الحيات وبين القدرة على الشفاء، العصاة الرمزية التي كان يمسكها في يده اسكليبيوس إله الطب الإغريقي، والتي كانت عبارة عن قضيب يحيط به أفعى. وفي عصور لاحقة اختلط هذا الرمز بالعصاة التي كان يحملها الإله الإغريقي “هرمس”، والتي كانت عبارة عن قضيب يحيط به اثنان من الأفاعي، وهي تعرف باسم: كادوسيوس Caduceus”. وهذه العصا كانت ترمز إلى السلام، وليس إلى الشفاء. ونتيجة لهذا الخلط، صارت عصاة هرمس ذات الثعبانين رمزا للأطباء، كما صارت شعاراً لسلاح الطب الأمريكي. لا يمكن تطبيق هذه الرموز والأفكار الوثنية بأي حال من الأحوال على الحية النحاسية التي صنعها موسى النبي. والأساطير المرتبطة بإله الطب الإغريقي بعيدة كل البعد عن تاريخ شعب إسرائيل، لأنها من الأساطير التي نشأت بعد خروج بني إسرائيل من مصر بأجيال طويلة. كما لا يمكننا أن نبحث عن أية ممارسات وثنية تخص إقامة تمثال الحية النحاسية، وبالأخص في أيام موسى النبي، لأن أمر الله للشعب في تلك الفترة كان واضحاً جداً؛ إذ أن الوصية الثانية من الوصايا العشر نهت عن إقامة أية تماثيل أو أي صور لأي كائن كان: «لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من أسفل وما في الماء من تحت الأرض» (خر20: 4). كما أن الله أيضاً أوصى الشعب وأمره بألا يتمثل بالشعوب الوثنية المجاورة، وبعدم مجاراتهم في أية عوائد أو تقاليد يتمسكون بها: “مثل عمل أرض مصر التي سكنتم فيها لا تعملوا، ومثل عمل أرض كنعان التي انا آت بكم إليها لا تعملوا، وحسب فرائضهم لا تسلكوا» (لا18: 3). وأكثر من ذلك، فإن الحية النحاسية لم تكن من بنات أفكار موسى النبي، لكنها كانت أمراً مباشراً من الله لموسى النبي (عدد21: 8). لذلك علينا أن نبحث عن معنى الحية النحاسية في الكتاب المقدس وليس في الأساطير الوثنية. حيث إن الله حذر الشعب قديماً من الالتفات إلى السحر أو التعاويذ أو ما شابه ذلك، فبالتأكيد لم يكن قصد الله عل الإطلاق أن يفهم الشعب أن الحية النحاسية في حد ذاتها لها القدرة على الشفاء من سم الأفاعي القاتلة. ومجرد النظر إلى الحية النحاسية المعلقة عل الراية ليس له معنى سوى أن الله أمرهم أن ينظروا للحية. فالإيمان بكلام الله هو المقصود هنا، وليس الحية في حد ذاتها. كل ما كان يحتاجه الشعب هو الثقة في الله. فالإيمان كان الحل الوحيد لمعاناتهم وتمردهم وعصيانهم. كما أن الإيمان أيضا هو الذي أعطى الله الإمكانية للدخول في حياتهم ومنحهم الشفاء. كما أن طاعة الشعب للخروج والنظر إلى الحية المرفوعة على الراية يشبه طاعة المولود أعمى الذي أمره الرب يسوع أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام. فلم يكن لماء بركة سلوام القدرة عل إعطاء البصر للأعمى، بل الإيمان بأمر الرب يسوع هو الذي منحه البصر (يو9: 6و7). في الحالتين كان الخروج لرؤية الحية أو الذهاب للاغتسال في البركة تأكيداً للإيمان بأمر الله، والإيمان أعطى الله إمكانية منحهم الشفاء في أيام حزقيا ملك يهوذا، كان الشعب قد وقع فريسة لعادات وثنية كثيرة. ومن هذه العادات تقديس الآثار الدينية. وكانت الحية النحاسية ما زالت موجودة حتى ذلك الوقت، فأخذ الشعب يقدمون لها البخور. وهكذا صارت الحية النحاسية وثناً يتعبد له الشعب. ففي اللحظات التي لا يحس فيها الشعب بحضور الله بينهم، يبحث له عن أية رموز بديلة، مهما كانت مقدسة، فيتقرب لها بالعبادة والتبجيل، ناسياً أن الله روح، والسجود له ينبغي أن يكون بالروح والحق (يو4: 24). وهكذا تحول القصد تماماً من عمل الحية النحاسية؛ فبدلاً من أن كانت رمزا للشفاء والحياة، صارت سبباً للخطية والموت. اضطر الملك حزقيا – وقد كان ملكا باراً – إلى اتخاذ قرار عنيف ليوقف به هذه العبادة الوثنية: فقد «أزال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ودعوها نحشتان (أي من نحاس)» (2مل18: 4). عندما سأل نيقوديموس الرب يسوع عن كيفية الولادة الثانية، رد عليه الرب بمثال توضيحي. فقال لكي يولد الإنسان مرة ثانية، أو من فوق، ينبغي أولاً أن يرفع ابن الإنسان كما رفع موسى الحية في البرية (يو 3: 14). وقد أوضح إنجيل القديس يوحنا أن المقصود بارتفاع ابن الإنسان هو الموت عل الصليب: «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ.» (يو12: 32و33). واضح من عبارة الرب لنيقوديموس عن ارتفاع ابن الإنسان أنه يؤكد على حتمية الصليب والموت. وربما فهم نيقوديموس من تعبير الارتفاع عن الأرض أيضا “الصليب”. فلم يكن هناك وسيلة أخرى في ذلك الوقت يمكن أن يموت بها الإنسان وهو معلق فوق الأرض – عل شبه الحية النحاسية – غير الصليب. يرى البعض أن المقصود بالارتفاع عن الأرض، ليس مجرد الارتفاع على الصليب، بل الصليب هو المرحلة الأولى من عملية واحدة ذات ثلاث خطوات، كان الصليب أولها، يتبعها القيامة والصعود. إذ لا يمكن فصل الصليب عن القيامة والصعود، وإن لم تكن الآية قد تضمنت صراحة الإشارة إليهما . أكد الرب في حديثه مع نيقوديموس عل حتمية ارتفاعه، لكنه لم يشرح له أسباب هذه الحتمية. لقد أوضح أنه ينبغي أن يُصلب، لأنه بدون الصليب ما خلص بشر. لقد قال الرب يسوع إنه كنتيجة لارتفاعه، فإن كل من يؤمن به سيكون له الحياة الأبدية: «يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، 15لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. » (يو3: 14و15). فبعد أن رفع موسى الحية النحاسية على الراية، كان على كل من تلدغه الحيات المحرقة ويصاب بسمها القاتل، أن يطيع أمر الرب ويؤمن بكلامه، فيخرج وينظر إلى الحية المعلقة فيشفى؛ هكذا بعد أن ارتفع الرب يسوع على الصليب، فإن كل من ينظر إليه بإيمان فإنه يحيا. إن الرب الذي أعلن قديماً حبه لبني إسرائيل: “لما كان إسرائيل غلاماً أحببته» (هو11: 1)، ومن ثم في ضيقهم أمر أن تصنع لهم الحية النحاسية حتى يحيا كل من ينظر إليها بإيمان؛ هكذا كشف لنيقوديموس عن محبة الله من نحونا: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16). وجدير بالذكر هنا أن الرب يسوع حين ذكَّر نيقوديموس بالحيه النحاسية التي رفعها موسى في البرية لكي يُشفى بالنظر إليها كل من لدغته الحيات المحرقة؛ إنما أراد أن يبين له أنها كانت رمزاً لارتفاعه على الصليب وموته من أجلنا تكفيراً عن خطايانا التي حملها في جسده المقدس. لأن الحية قديماً كانت ترمز للخطية والشر، والرب يسوع رغم أنه لم يفعل خطية ولا وجد في فمه غش (إش 53: 9)، إلا أنه أق في شبه جسد الخطية (رو8: 3)، وحمل خطايانا في جسده على الخشبة، كما قال القديس بطرس الرسول (1بط 2: 24)؛ بل وصار خطية لأجلنا كما قال القديس بولس الرسول (2 كو5: 21). فما أشار إليه الرب يسوع هو أن تعليق الحية عل الراية كان إشارة لارتفاعه على الصليب حاملاً خطايانا. وفي ذلك يقول القديس كيرلس الكبير: [لأن الحيات كانت تهاجم بني إسرائيل في البرية، وهم إذ يتساقطون كسنابل الحنطة، وقد أحاق بهم خطر داهم مميت لم يتوقعوه، كانوا يصرخون متألمين طالبين الخلاص من فوق من الله، ولكن لأنه صالح وممتلى رأفة، فهو كإله، يأمر موسى أن يرفع حية نحاسية، ويوصيهم أن يكون لهم تفكير مسبق عن الخلاص بالإيمان، لأن علاج من لدغته الحية، أن ينظر الى الحية المرفوعة أمامه، والإيمان مع النظر (للحية) كان سبب خلاص لكل الناظرين…. لهذا إذا صار كلمة الله “في شبه جسد الخطية” (رو8: 3)، لكي “يدين الخطية في الجسد” كما هو مكتوب. وبالنسبة لأولئك الذين يتفرسون فيه في إيمان راسخ او يفحصون التعاليم الإلهية، يكون هو واهب الخلاص الذي لا ينتهي، لكن إذ ترفع الحية عالية على قاعدة مرتفعة، فإنها تشير إلى أن المسيح كان ساطعاً وظاهراً حتى لا يكون هناك من يجهله، أو أن كيانه قد “رفع عن الأرض” (13: 33) بواسطة آلامه على الصليب، كما يقول هو نفسه]. (شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الكبير على الآية ١٤:٣). فالمسيح على الصليب: «إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ.(أي في الصليب)» (كو2: 14و15). إن على من لدغته الخطية وسرى سمها القاتل في جسده، أن يرفع عينيه إلى من مات لأجله مرة واحدة، وهو الآن حي ومعطي الحياة؛ فسوف يشعر برعشة الحياة الجديدة تسري في عروقه، تجدد أفكاره وعواطفه وآماله وطموحاته. لقد كشف الرب يسوع في حديثه مع نيقوديموس سر الحياة الجديدة التي منحها له ولكل من يؤمن به، وكل ما ينقصنا الآن هو أن ننظر إلى الرب يسوع بإيمان، فننال الحياة الأبدية. |
|