رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
معمودية يوحنا ومعمودية المسيح إضافةً إلى المُناداة بالتَّوبة، كان يوحنَّا المعمدان يعمِّد بالماء أيضاً، على ماذا يدلّ هذا الأمر؟ ولماذا اعتمدَ المسيح من يوحنَّا؟ هذا ما سنجيب عنه في مقالنا التَّالي. المياه في العبادة اليهودية من الضَّروري في البداية أن نوضِّح الخلفيَّة الدِّينيَّة لمُمارسة المعموديَّة قبل المسيحيّة لكي نفهم معموديَّة يوحنَّا والهدف منها. كان للمياه دلالة هامَّة في الطُّقوس اليهوديَّة، وذلك أوَّلاً لارتباطها بمراحل مهمَّة من التَّاريخ اليهودي، وثانياً لكَون الشَّريعة تفرض التَّطهُّر بالمياه قبل الشُّروع في العبادة. ففي سِفر التَّكوين والإصحاح الأوَّل منه الذي يتحدَّث عن الخَلق، نرى أنَّ روح الله كان يَرِفّ على وجه المياه التي هي أساس الخليقة، ثمَّ في الإصحاح 14 من سِفر الخُروح نرى كيف أنَّ الرَّب فلقَ المياه للشَّعب لكي يمرُّوا بها، وفي ذلك إشارة إلى الانتقال من حالة العبوديَّة في مصر نحو الطَّريق التي تؤدي إلى أرض الموعد، وقد ربطَ بولُس هذا الأمر بالمعموديَّة (1 كورنثوس 2:10)، أيضاً فلقَ الرَّب المياه للشَّعب مرَّة أُخرى قبل الدُّخول لأرض الموعد أيَّام يشوع بن نون (يشوع 3). كما أنَّ الكهَنة واللَّاويِّين كانوا يغتسِلون بالمياه قبلَ شُروعهم في أعمال الخدمة وذلك إشارة للتَّطهير الذي كان يجب أن يسبق تقديم الذَّبائح ومُمارسة طقوس العبادة في محضَر الله (سِفر اللَّاويِّين 13). استمرَّت المياه في اكتساب أهميَّة في العبادة اليهوديَّة حتى أيَّام المسيح حيث نلاحظ أنَّ غسل اليدَين والأواني أيضاً أصبحَ جزءاً من العبادة عند الفرِّيسيِّين (إنجيل مَرقُس 3:7)، بالإضافة إلى تجهيز الهَيكل الثَّاني الذي رُمِّمَ أيَّام هيرودُس عبرَ وضع حمَّامات على مدخَل الهَيكل لأجل الدَّاخِلين للعبادة، وهكذا نرى مرَّة أُخرى أنَّ الدُّخول إلى محضَر الله في الفِكر اليهودي كان يجب أن يتمّ عبر الماء. كما أنَّ التَّغطيس بالمياه شملَ أيضاً الدَّاخلين الجُدد على الدِّيانة اليهوديَّة، ففي ذلك إشارة إلى انتقالهم من كَونهم غُرباء عن شعب الرَّب ليُصبحوا من أبناء الرَّعيَّة. لذلك فإنَّ كل ما ذكرناه يوضح لنا السِّياق التَّاريخي والدِّيني للمعموديَّة التي كان يقوم بها يوحنَّا المعمدان في القرن الميلادي الأوَّل. معمودية يوحنا المعمدان يقول المؤرِّخ أندرو ماكغوين في دراسة له لتاريخ مُمارسة المعموديَّة: “كل طُقوس الاغتسال هذه كانت تُشير لانتقال رمزي من حالة إلى أُخرى… من الحياة اليوميَّة الاعتياديَّة إلى الخدمة في الهَيكل…كما في أيَّام الخُروج، فإنَّ دَور المياه كان خطّ الانتقال من حالة سابقة لحالة أُخرى… “¹ وهذا يُشبه كثيراً ما قامَ به يوحنَّا المعمدان الذي كان يكرِز بمعموديَّة التَّوبة ومغفرة الخطايا. فالذي كان يَعتمِد من يوحنَّا كان يَعتمِد لكي يُصبح مُستعدّاً لرسالة المسيح. كان يوحنَّا يُنادي باقتراب الدَّينونة، الأمر الذي تمَّ بدَمار أورشَليم والهَيكل وتشتُّت اليهود سنة 70م، وبحسب نبوءات العهد القديم فإنَّ دَور يوحنَّا كان تهييء الطَّريق للمسيح عبر تجهيز الشَّعب لكي يُحضِّرهم لمجيء المسيح وللخَلاص من القضاء الزَّمني والدَّينونة الأبديَّة على حدٍّ سواء. بما أنَّ معموديَّة يوحنَّا لم تكُن غريبة عن المُمارسة اليهوديَّة، لذلك فإنَّها لم تكُن مُستغرَبة من الشَّعب، إلَّا أنَّ الهدَف منها كان غير مسبوق بالنِّسبة لهم، كيف لا والحدَث الذي سوف يلي خدمة يوحنَّا هو حدَث غير مسبوق، وهو تجلِّي لذروة أعمال الله للبشر في تجسُّد اِبن الله. حيث أنَّ المعموديَّة قبل يوحنَّا المعمدان كانت تتمّ فقط للدَّاخلين الجُدد على اليهوديَّة وليس لليهود أنفسهم، ممَّا يُؤكِّد حاجة الجميع للتَّوبة سواء كانوا يهوداً أم أُمَم، وهذا ما كان من الممكن أن يُثير استغرابهم. وقد كان ليوحنَّا المعمدان تأثيراً كبيراً على الشَّعب بحيث أصبحَ نبيّاً عندهم (إنجيل متَّى 26:21). تأثير يوحنَّا جعل المؤرِّخين يذكرونه أمثال “يوسيفوس” المؤرِّخ اليهودي²، وقد مات يوحنَّا محكوماً عليه بالإعدام بأمر من هيرودُس المَلِك. معمودية يسوع حين كان يوحنَّا يُعمِّد كما المعتاد في نهر الأردن، أتى يسوع ليعتمد منه. سبب هذه المعموديَّة يتَّضح لنا من خلال الحوار الذي دار بين يوحنَّا والمسيح. إنَّ استِغراب المعمدان في البداية يُظهر لنا معرفة يوحنَّا بعدم حاجة المسيح للمعموديَّة كَونه الإله الصَّالح البارّ، والكامل الذي لا خطيَّة له. لكن جواب المسيح يُخبرنا عن السَّبب الحقيقي. “لكِنَّ يُوحَنَّا حَاوَلَ مَنْعَهُ قَائِلاً: «أَنَا الْمُحْتَاجُ أَنْ أَتَعَمَّدَ عَلَى يَدِكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» وَلكِنَّ يَسُوعَ أَجَابَهُ: «اسْمَحِ الآنَ بِذلِكَ! فَهكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُتِمَّ كُلَّ صَلاحٍ». عِنْدَئِذٍ سَمَحَ لَهُ.” (إنجيل متَّى 14:3-15) المسيح كان يريد أن يتمِّم كل ما كُتِبَ عنه في الأنبياء، ففي سِفر دانيال نقرأ أنَّ المسيح سيُعيَّن للخدمة (دانيال 24:9)، وانطلاقة خدمة المسيح كانت عبر المعموديَّة، تارِكاً لنا بذلك مثالاً مُهمّاً نحتذي به، وهو إن كان المسيح قد اعتمدَ قبل بداية خدمته فكَم بالحَريّ تكون المعموديَّة أساسيَّة لنا نحن الذين آمنَّا بالمسيح! المسيح كان يريد أن يتمِّم كل ما كُتِبَ عنه في الأنبياء يُعلِّق القسّ سُهيل سَعود على هذه الحادثة بالقول: “لقد أقبلَ المسيح للمعموديَّة ليُقدِّم نموذجاً عن حاجة الإنسان إلى الله، وللتَّضامُن مع النَّاس في هذه اليَقظة الرُّوحيَّة الجديدة، لكي يؤكِّد على حاجتهم وحاجة كلّ إنسان لاختبار حضور الله في حياته مِن خلال توبته واعترافه بخطاياه.”³ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ أعمال المسيح كلّها تُعلِّمنا دُروساً جمَّة، وتُمهِّد أمامنا طريق تبعيَّتنا للمسيح. يقول بولُس الرَّسول أنَّ كل من يَعتمِد للمسيح قد لَبِسَ المسيح، لذلك يجب أن تُصبح حياته مُشابهة لحياة المسيح، فِكراً وسُلوكاً. يقول القسّ سُهيل أيضاً: ” فالمسيح الرَّب لَم يكُن يُفكِّر في نفسه بمَعزل عن النَّاس، بَل كان كلّ همّه التَّفكير في جميع النَّاس، وتلبية حاجاتهم، ولاسيَّما الرُّوحيَّة منها. لهذا اعتمدَ معهم واعتمدَ لأجلهم، ليُقدِّم في معموديَّته دَرساً لاهوتيّاً عميقاً تُعبِّر عنه معنى معموديَّتنا، ألا وهو حاجتنا القُصوى إلى حضور الله في حياتنا.”⁴ معموديَّة المسيحي هي شهادة حيَّة عن إيمانه أمام الله وأمام جماعة المؤمنين، هي الباب الذي منه يدخُل الإنسان حيِّز الخدمة والتَّكريس لعمَل الرَّب، في المعموديَّة نُعلن أنَّ جسدنا الشِّرِّير ماتَ مع المسيح، وأنَّنا صرنا خليقة جديدة في المسيح نَعيش الآن كما يَليق بمن دُعِيَ عليهم اِسم الرَّب. |
|