رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دخول يسوع الإحتفالي الآخير إلى أورشليم (مر 1:11-16) قال أشعيا: لقد سيق للذّبح ولم يفتح فاه! دخول يسوع الإحتفالي الآخير إلى أورشليم (مر 1:11-16) اليوم نبدأ أقدس أسبوع عرفه التّاريخ. الأيام والأسابيع، كلها مُقدّسة، لأنها أيام وأسابيع الله. لكن ما حدث مع يسوع في هذا الأسبوع، يُلزِمُنا على تسميتها، بأسبوع التّاريخ المقدّس؛ الأسبوع هو أقل من نقطة في البحر، بالنسبة للأيام وملايين السنين في برنامج الله تعالى، لكن ما فعل الله معنا ولنا في هذا الأسبوع، فهو فوق الوصف، حتَّم علينا تسميتَها بالأسبوع المقدّس في التاريخ. وها نحن نحتفل بأول يوم فيه وهو دائماً أحدُ الشّعانين، أي يومُ دخول يسوع الإحتفاليِّ الآخير، إلى مدينته المحبوبة أورسليم، ترافقه الجماهير الغفيرة، الّتي كانت تنتظره، رافعة أغصان النخيل والزيتون، كما كانت ترافق الفاتحين، حين عودتهم مُنتصرين سالمين. رافقته الجماهير إلى باب الهيكل، حيث ترجّل، وابتدات بينه وبين رؤوساء الكهنة وحراس الهيكل، سلسلةٌ من النقاشات والمجادلات، حول قُدسيّة الهيكل، الذي جعلوه قاعة تجارة، وحول دفع الضرائب والطلاق ورجم الزانية. وبما أن هذه الجدالات، هي قمّة ما حدث معه ومع الفريسيين والكهنة حتى الآن، كانت نهايتُها، تشويهَ سُمعتهم أمام الشعب، القادم في ذلك الوقت، من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، للإحتفال بعيد التحرير من يد فرعون، لذا قرّر هؤلاء التخلُّصَ منه، وطالبوا بقتله، لأنه، لمّا سألوه بأيِّ سلطة تدافع عن الهيكل؟ وبأيِّ سلطة تصنع العجائب؟ قال: هذا هيكل أبي، واضعا نفسه بنفس مرتبة أبيه، كما وأنّه يصنع العجائب بإصبع أبيه، جاعلا نفسه إلها، كأنّه لم يكن يعرف، أنه حسب توراتهم، من يدّعي أنه إله، فهو مستحقٌّ الموت. لكنَّ هذا التهديد منهم، لم يُخيفَه، لأنه لهذا أتى، ليشهد للحق. هذا حدث يعرفه الجميع. وها نحن نحتفل بذكرى هذا الحدث، كلّ سنة من جديد، وفي كل أنحاء العالم، بطريقةٍ تُشبه طريقة دخوله الحقيقي، وتيمُّناً بذاك الدّخول التاريخي، الّذي لا يُنتسى. ففي كل كنيسة في العالم، يحتفل المسيحيون بهذا الحدث، فيجعل من كل كنيسة أو قرية أو مدينة، أورشليم الصغيرة، التي، بصلواتها واحتفالاتها مع مؤمنيها، طيلة هذا الأسبوع، تُجدِّد موت يسوع لخيرهم وخير العالم. نبدأ بمباركة الشعانين، ثمّ نسير كلُّنا في موكبه وننادي: هوشعنا لابن داؤد. مبارك الآتي باسم الرّب. أمّا وكيف تمّ هذا الدّخول، فقد وصفه لنا الإنجيل الذي سمعناه قبل قليل (مر 11: 1-16). نقدر أن نسمّي هذا الأسبوع، أسبوع محبّة الله، التي لا تُقارن، بما نعرفه تحت إسم محبّة، إذ المحبة، التي يَكنُّها الله للبشر، لا مثيل لها، فهي وحيدة فريدة في الدّيانات، إذ إله من إله، وإله حق من إلهٍ حق، يُفضّل الموت على الحياة، يُفضِّل البشر على نفسه، يموت من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، وبالتالي هو ينتصر على الموت بقيامته. أخر عدوٍّ يُبْطَل هو الموت (1 كور 26:15). فبحق يهلّل بولس: أين شوكتك يا موت؟ أين انتصارك يا موت؟؟ قمّة احتفالنا اليوم بعد الدورة الرمزية بالنّخيل والشعانين في أيدينا، هي المؤشِّر أنَّ الكنيسة ابتدأت احتفالات الأسبوع المقدّس، حيث سنعيش أكبر حوادث تاريخ ديانتنا، التي يعجز اللّسان عن وصفها، وهي: موت يسوع ،بأبشعِ طريقةِ موتٍ في التّاريخ، ولكن أيضا بقيامته المُمجَّدة، التي هي أساس ديانتنا، التي تُميِّزها عن باقي الدّيانات، بحيث أنّ مؤسِّسها يموت عن الشّعب كلّه: إنه لأفضلُ، أن يموت رجلٌ واحدٌ عن الشعب ولا تهلك الأمّةُ كلُّها. هكذا بذل الله بابنه الوحيد، كي لا يهلك من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. وهذه من أجمل الكلمات، التي نسمعها عن يسوع في هذا الأسبوع. هي تُشعُرنا، ليس فقط بقرب شخصٍ منا، وإنّما بشخض يحبُّنا حتى النّهاية، وإلّا لما قبل بإذلال نفسه سدىً. هم رفضوه، لأنه جاء ليبثّ السّلام على الأر ض، لذا فَهُم لم يعرفوا السّلام حتى اليوم، لا في أورشليم خاصة، ولا في أي بقعة من العالم عامّة. يسوع في مثل هذا اليوم وقبل أكثر من ألفي سنة، دخل أورشليم كملك سلام، لكن الشعب الّذي كان ينتظره هناك، رفض السّلام، لأنه كان ينتظر قائداً حربيًا، يقود جيشا بالسّلاح، لطرد المُستعمِر الرّوماني من هذه البلاد. لقد رفضوه ورفضوا سلامه: دمه علينا وعلى بنينا. لذا فَهُم لم يعرفوا السّلام حتّى اليوم. احتفالنا اليوم يصل قمّته، بسماعنا لقصّة آلام يسوع، من الإنجيلي مرقس،: وهي أوّلُ وأقدمُ مخطوطة مكتوبة بهذا الموضوع. لكن وقبل كل شيء، ما يلي للتوضيح: مرتين في السنة، الأولى هي اليوم أحد الشعانين، والثانية هي الجمعة الحزينة، نسمع فيهما أطول مقاطع إنجيل في السنة كاملة، تصف لنا أخر حياة يسوع وآلامه. كلُّ سنة، يوم أحد الشعانين، نسمع هذه القصّة حسب إنجيليٍّ آخر. وأما يوم الجمعة الحزينة فنقرأ سنويا قصة الآلام حسب الإنجيلي يوحنا. قصة الآلام اليوم، هي إذن حسب الإنجيلي مرقس. كِمّيَّةً هذه القصّة، هي خُمْس إنجيله. والّذي نقدر أكتشافَه هو، ان الأربع أخماس الباقية، هي بمحتواها، تهيأة لِلْخُمْس الآخير هذا. بكلمة لا يمكن فهم الأربع أخماس، بدون الخُمْس الآخير. والعكس أيضا صحيح: فلا نقدر فهم الخُمس الآخير، لولا وصف مجرى حياة يسوع، في الأربع أخماس قبله. من هنا، أجمع عُلماء التوراة على القول، إن إنجيل مرقس، مع قصة الآلام، المسبوقة بمقدّمة طويلة، أي كل الفصول السابقة، التي تُلقى على مسامعنا، أحدا بعد أحد، طيلة هذه السنة، مع التلميح المتكرِّر عن ساعة ألام يسوع وموته، هو أقدم الأناجيل المخطوطة، لكن ليس أوفاها. فمثلا لا ذكرُ لحادث غسل الأرجل، ساعة العشاء الآخير، كما ولا ذكرُ لعرق يسوع في بستان الجتسمانية، والذي بدا كالدّم لكثافته، كما لا ذكر لمناقشته مع بيلاطس. وآخر ما آخر لا ذكرُ لكلمات يسوع السّبعة الآخيرة، فقط الكلمة المقتضبة: إلهي! إلهي! لماذا تركتني؟! أمّا كيف تمّ َموتُ يسوع، فيصفه مرقس بشكل مسرحي درامّاتيكي. يسوع يترك مريم المجدلية الخاطئة تغسل رجليه وتمسحهما بالطّيب، وتجفِّفُهما بشعر رأسها وترشُّهما بالطيب الغالي الثمن، ممّا أغضب الفريسيّين حوله، خاصة يهوذا، المُحبِّ للمال. ويهوذا نفسُه، هو الذي يخونه، لحفنة من الفضة. أصحابه ينامون، بدل ما يقفون إلى جانبه في حزنه. وعندما يُقبَضُ عليه، يهرب أصحابه، وبطرس ينكره. الثائر برأبا يُطْلَق سراحُه، بينما هو المسالم، يُحكم عليه بالموت. هذا وأثناءُ تعليقه على الصّليب، يُصبح عُرضة للإستهزاء من الجنود والجلّادين، واللّص المصلوب جنبَه. وأمّا ردَّةُ الفعل المؤلمة عنده، فطلعت بآية المزمور 22 التي يضع فيها كل الثّقة بالله أبيه، الّذي يبدو، وكأنَّهُ غائب عن الساحة. من ناحية ثانية، نفتقد كلَّ كلمة تعزية من فم يسوع، كما في لوقا، مثل: يا أبت إغفر لهم، لأنهم لا يدرون ما يفعلون. أو الحق أقول لك، اليوم ستكون معي في ملكوت أبي. أو يا أبتِ! في يديك أستودع روحي! كما وينقص بالتالي عدم ذكر إعتراف القائد، الذي طعنه بالحربة، ليتأكد من موته. وأيضاً لا ذكرى لكلمة يوحنا المهمة: لقد تم! أي أن الإنتصار قد تمّ. فما نقص في مرقس، قد ذكره لنا باقي الإنجيليّون. فهم إذن، يكمِّلون بعضهم بعضاً. وهكذا عندنا منهم صورة كاملة، ونفهم تصميم الله، وكيف تمَّ خلاصُنا. فمن هذه الأوصاف الواسعة والمختلفة، عن آلام هذا الإنسان، الذي نعتزّ ونعترف به، نستخلص أنّه ابنُ الله. تُرى، سواء مرقس او باقي الإنجيليين، لمن كتبوا أناجيلهم؟ ممّا لا شكّ فيه، أن الأربعةَ أناجيل غيرُ مرتبطة بزمن معيّن، لأنها جاءت بإيحاء من الروح القدس، أي هي كتب موحاةُ المحتوى، الذي ينفع الكل. لكن، وهذا هو المهم، إن نشؤها، كان مرتبطا بالبيئة والوقت، الذي كُتِبَت فيه. فكل إنجيلي كان له قُرّاؤُه ومستمعوه ورعيّته، التي يخاطبها، ويريد أنْ يُعرّفها على المسيح المخلِّص. إذن مرقس أيضاً. فما أعجبهم في المسيح، قد تدفّق في أناجيلهم. فنجد أنَّ أربعتهم، أعجبتهم قوَّتُه الخارقة بصنع العجائب، وهم يؤمنون بها وبصحّتِها، لذا فهم ذكروا الكثير منها، بحجة أن قوّته كمنتصر على الموت، ستتجلّى أيضا في الرّعايا، التي أسّسوها وهم يُديروها. وهذا تفكير مرقس أيضا. أمّا ما كان يزعجهم، فهو اكتشاف نقطة ضعف في يسوع على الصليب، وما كانوا يقبلون بها: ساعد آخرين لكنه لا يقدر أن يساعد نفسه. هنا تدور في مُخيّلتهم كل المواقف، التي أظهر فيها قوّته على صنع العجائب. لذا فهم يخافون أن يفهم النّاس موقفه هذا على الصليب، أنه موقف ضعف فيه. وينسيهم "أن جهالة الله أحكم من النّاس. وضعفَ الله أقوى من النّاس.... اختار الله ضعفاء العالم ليُخزي الأقوياء" (اكور 1: 25 و 27). فهذا، ما يقصد الإنجيلييون تفهيمه، بل إيصاله لقرّائهم أو مستمعيهم: الإيمان والإعتراف بأن يسوع هو ابن الله المخلِّص، يجرُّ إلى الصليب، يفرض القبول بالصليب، وبتحمّل الآلام: كما اضطهدوني، سيضطهدوكم أنتم أيضا. لكن لا تخافوا! ثقوا، فإني قد غلبت العالم. قال أشعيا: لقد سيق للذّبح ولم يفتح فاه! هذا لا يعني، أنه مغلوب على أمره، وإنّما في هذا الموقف، هو يتمِّم إرادة أبيه: إنّ طعامي هو أن أعمل مشيئة أبي. لذا هو لم يُعِر استهزاءَ المارّين أيَّ انتباه: خلّص آخرين ولا يقدر أن يُخلِّص نفسه، لأنّه هكذا أراد الله أن يموت ابنُه، على الصليب فداءً عنّا، وهذا ما أراد مرقس أن يُبرِزه، في قصة حياة يسوع، للرعايا التي أسسها، والتي عمل فيه، أب أن يفهموا، أن تصرُّفَ يسوع هو ما طلبه الآب منه، وذلك كي يُفهمَهم، ليس فقط عِظَم بل وصِدْقَ محبّتِه، التي تجعل السامعين يقتنعون، بأنَّ الإيمان بأُلوهية يسوع، يقود إلى القبول بالصّليب. فهذي هي رسالة مرقس، كما وهي رسالة باقي الإنجيليين، كل واحد بأسلوبه ولمستمعيه، التي أرادوا أن يُوصِلوها لمعاصريهم، ولنا، وللأبد، من هذه القصّة، أي، أَنَّ خلاصَنا ما تمَّ إلا بألم وموت يسوع. فهذا الأسبوع سيذكرنا بما احتمل يسوع من أجلنا. لذا نسميه بالأسبوع المقدس، إذ كلُّ ما حدث فيه هو من الله ولتقديسنا. إن الخطيئة التي فصلتنا عنه تعالي، هي التي قرّبتنا إليه بالأكثر، لأنه لِمَحْوها من العالم ومنّا، قد اختار طريقا عجيبا غريباً. بدمه قد شُفينا. نعم بمونه ودمه قد قدّس هذا الأسبوع، حتى صار أقدس أسابيع السنة. شاكرين لما قدّم يسوع لخلاصنا، دعونا نتبعه ونتأمّل بحب وشكر ما احتمله لأجلنا هذا الأسبوع، حتى نحصل على الخلاص، حيث قال: وأنا إن ارتفعت على الصليب، جذبت إليَّ الجميع. آمين |
|