الصليب ضرورة لأنه أظهر للإنسان حقيقة قيمته وأوضح له أسرار حياته
وقف داود فوق مراعي الأرض المقدسة يتطلع إلى الشمس والكواكب والنجوم التي خلقها الله , وإذ غمره الشعور بالجمال والجلال هتف مردداً ((أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض حيث جعلت جلالك فوق السموات إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده ؟)) مز 1:8 و3 و4
وسؤال داود الذي نطق به وهو يتأمل جلال السموات كثيراً ما يخطر على بال الإنسان وهو يشعر بحقارة نفسه إزاء هذا الكون العظيم , فأرضنا تحمل على سطحها أكثر من بليونين وربع بليون إنسان , يموت منهم 50 مليونا كل سنة , أو.986 136كل يوم , أو 5707 كل ساعة , أو 95 شخصا كل دقيقة ! فما قيمة الفرد في هذا العدد العديد ؟ أجل ! من هو الإنسان الواحد وسط هذه البلايين ؟
ثم لنأت إلى الإنسان في صفاته ! من هو ؟ انه مجموعة من المتناقضات والنقضات , ففيه ضراوة الأسد , ومكر الثعلب , ونعومة الحية , وكبرياء الطاووس , وغباء الحمار و ووحشية النمر وهو في شره وانحطاطه وفيه النقاء , والصفاء , والحب , والوفاء , عندما يتجدد قلبه ويقترب إلى الله ! ولقد وصفه أحد رجال الله فقال : ((إن حياة الإنسان مليئة بالأنهار والبحار والكهوف والوديان , والجبال والسهول , والنسيم والعواصف , فميوله أنهاره , ومطامحه بحاره , وأسراره كهوفه , ومعلناته وديانه وعزائمه جباله , وأمانيه سهوله , وخياله نسيمه , وعواطفه عواصفه)) فهو أكثر المخلوقات تعقيداً في شخصيته.
والآن ! من هو الإنسان بالنسبة للنظام الشمسي الذي يحيط به في روعة وإبداع !!
قص علينا خادم وقور قصة عن عالم جليل تحدث إلى رجل غني مغرور أراد أن يريه حقيقة نفسه فقال : ((دعني أريك حقيقتك أيها الرجل الغني ! بين الأكوان العظيمة التي خلقها الله يوجد شيء اسمه ((المجرة)) أي النظام الشمسي وفي ((المجرة)) توجد بقعة سوداء صغيرة اسمها الأرض , وعلى الأرض يعيش ملايين من ذرات الكربون الحقيرة القذرة اسمهم البشر. فيا صاحبي أنت ذرة كربون حقيرة قذرة)) هذا هو الإنسان بالقياس إلى ما يحيط به من عوالم وأكوان , وهو إذ تصدمه هذه الحقيقة كثيراً ما يرفع عينيه إلى الأعالي ويقول : أحقاً يهتم بي الله أنا المخلوق التافه الضعيف؟!
والجواب الشافي عن قيمة الإنسان لا نجده إلا في الصليب , إذ هناك شخص نظير بولس الذي كان قبلا مجدفاً ومضطهداً ومفترياً أن يهتف ولهيب الحب يهز عواطفه , إذ يرى المسيح معلقا على الصليب قائلا ((ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي)) غلا 29:2 وإذا كان ابن الله قد أسلم نفسه لأجل الإنسان , فقيمة الإنسان اذاً , عظيمة بهذا المقدار
حدثنا رجل جليل من رجال الله عن شخص عاش عيشة التشرد , وسار تقذفه مدينة وتتلقاه أخرى , وانتهى به المطاف إلى مدينة ((لومبارديا)) حيث أصيب بمرض خطير وحملوه إلى المستشفى العام , وهناك أحاط به الأطباء وفحصوه , ثم قال بعضهم لبعض بلغة علمية صعبة ((دعونا نجري عملية لهذا المخلوق التافه الوضيع)) ولم يخطر ببالهم أن يفهم الرجل المريض كلماتهم , فهو في نظرهم متشرد جاهل وضيع !! لكن الرجل المريض رفع عينيه إلى من أحاط به من أطباء وقال ((كيف تقولون عن شخص مات المسيح من أجله أنه مخلوق تافه وضيع))
وحقا ! إن شخصا مات المسيح لأجله , هو أعظم من كل العوالم وأضخم من كل كوكب يدور في الأفلاك , بل أعلى من السماك
لكن سؤالا يخطر ببالنا حين نصل إلى هذا الحق الجميل هو : إذا كان الإنسان كريماً , ثميناً بهذا المقدار الذي كلف الله بذل ابنه الوحيد لأجله على الصليب : فلماذا يسمح الله بآلام الإنسان ؟ بل لماذا يرضى بآلام الأبرار والقديسين؟
وفي الصليب يكشف لنا الله أسرار الحياة , فعلى الجلجثة , تمثلت أعمال العناية التي تبدو أمام عيوننا غامضة , فرأينا هناك المسيح القدوس البريء يتألم لأجل شر الأشرار , ويحترق قلبه من فرط العار , ويموت وهو في ريعان الشباب , مع أنه سمع صوت السماء يناديه في مستهل خدمته ((هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت))
فإذا كانت قلوبنا تحترق من الحزن على فقد عزيز , فكذلك احترق قلب المسيح , وإذا اغتصب الأشرار ميراثنا , وأخذوا ظلما ًمالنا , فكذلك اقتسم الجنود الرومان ثياب المسيح , وعلى لباسه ألقوا قرعة !! وإذا مات أحد أعزائنا ميتة شنيعة , فكذلك مات المسيح ميتة العار على صليب الهوان ! وإذا ما خطر ببالنا أن نتساءل عن قصد الله في آلامنا , أجابنا ((الصليب)) بأن كل ألم في حياة أولاد الله مرتب بمشورة الله المحتومة لغاية عليا , وقصد جليل ! وإذا تعجبنا كيف رضى الله أن يأخذ فلذة كبدنا وهو في ربيع حياته , وعنفوان شبابه ؟ رأينا على الصليب مسيح الله الذي قضى وهو في الثلاثين ؟؟؟
وهكذا تتوضح لنا أسرار الألم في حياتنا
لكن ما يعزينا , هو أن الموت لم يكن خاتمة المسيح , ولا كان القبر نهاية كفاحه وخدمته وآلامه ؟؟ كلا !! فبعد الموت أشرق فجر القيامة , ويعد ظلمة القبر ارتقى المسيح إلى عرشه المجيد , وبعد الصليب حمل السيد تاج المجد التليد.
فيليق بنا أن نفرح ونبتهج , إذ بعد آلام الحياة وأحزانها , سوف نتمتع بتاج الخلود السعيد.
فيا نفسي لا تجزعي ولا تفزعي
بل انحني في خضوع عند الصليب
ففيه أظهر الله لك حقيقة قيمتك
وفيه الحل الأوحد لمشاكل حياتك
وفيه أعلن الله حبه المريح لبني الإنسان
وعنده يستريح المتعبون
|