كان هناك فرح في السماء بخلاص نينوى.
لقد فرح الله. وفرح الملائكة، وكانوا يهنئون بعضهم قائلين: لقد آمنت نينوى، وقد تابت، وقد أنضم إلى ملكوت الله 000ر120 من الناس في يوم واحد.
ووسط أفراح السماء وتهليل الملائكة، كان هناك إنسان واحد حزين بسبب هذا الخلاص العظيم، ذلك هو يونان النبي.
لقد حزن جدا لأن الله غفر لهؤلاء الناس ورحمهم ولم يهلكهم. وقد عبر الكتاب عن حزن يونان بعبارة مذهلة أو بعبارة مخجلة. قال فيها " فغم ذلك يونان غما شديدا فاغتاظ" (4: 1). يا للهول!! أيغتم النبي من أجل خلاص الناس، وغما شديدا، ويغتاظ!! كل ذلك لآن هذه الآلاف كلها قد نجت من الهلاك..
إذن ما هو عمل النبي، إن لم يكن هو خلاص الناس؟! وما هو فرح النبي إن لم يكن هو الفرح بخلاصهم؟!
يذكرني يونان في تصرفه هذه بالابن الكبير عندما حزن ورفض أن يدخل، لآن أخاه كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوجد.. وقد قبله أبوه فرحا فاغتنم هذا الابن الكبير غمًا شديدًا وأغتاظ، كيونان.. وحاول بغضبه أن يعكر صفو تلك البهجة.. تمامًا كيونان.
فما هو السر المختفي وراء غيظ يونان النبي؟
لقد كان يونان ما يزال متمركزا حول ذاته، لا يفكر إلا فيها.
لم يكن يفكر في نينوى، ولا في توبتها، ولا في هذا الخلاص العظيم الذي تم، ولا في ملكوت الله وبنائه. وإنما كان يفكر في شيء واحد فقط هو ذاته.. تمامًا كما فكر الابن الكبير في ذاته: كيف أنه خدم أباه سنين طويلة وكيف أنه لم يأخذ جديا، ولم يفرح مع أصدقائه.. (لو 15)
وعلى أسلوب أقل في الاهتمام بالذات، كان تعب مرثا بسبب جلسة التأمل الجميلة التي تمتعت بها مريم تحت قدمي المسيح.. كانت تفكر في راحتها الخاصة وعدم حصولها على مساعدة من أختها...
أما يونان، فقد كان تفكيره في ذاته من نوع أخطر. كان ما يزال يفكر في كرامته وفي كلمته التي نزلت إلى الأرض.
إنه نفس التفكير السابق القديم، الذي دفعه قبلًا إلى الهروب من وجه الرب.. وبسبب هذا الفكر، حرم نفسه من الاشتراك في أفراح السماء، وفصل نفسه من الانضمام إلى جماعة الملائكة المبتهجين بخلاص نينوى. وبرهن بغيظه هذا، على أن طريقة تفكيره ذاتية غير روحية، وبرهن على أن مشيئة الأب السماوي الذي "يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4).
وبهذا الغيظ برهن يونان على أنه لم يستطع أن يستفيد من تجربته السابقة. نسى الثمن الذي دفعه في بطن الحوت وفي السفينة المهددة بالغرق..
لم يؤثر فيه ذلك الدرس المؤلم الذي تلقاه من الله. وإن كان قد أطاع الله ظاهريا بعد تلك التجربة، إلا أنه ظل في الداخل كما هو لم يتغير، ولم يتخلص من طبيعته المحبة لذاتها وكرامتها المتمركزة حول هذه الذات. لم تكن خدمة الرب في أعماقه، ولم تكن في أعماقه محبة الناس.. كانت كل هذه الأمور تطفو على سطح تفكيره. أما العمق ففيه الذات والكرامة أكثر من أي شيء أخر!!
والعجيب أن يونانوهو في هذا السقوط الروحيصلى إلى الرب.. بأي وجه كان يصلى وهو مختلف مع الله في الوسيلة والأهداف؟! بأي وجه كان يصلىوهو بهذا القلب الخالي من المحبة المغتاظ من تصرفات الله؟! لست أدرى. ولكن يكشف الآمر ويزيده عجبا، أنه كان يصلى ليشكو الله ويبرر ذاته، ويتذمر على هذه المعاملة. طالبا لنفسه الموت، فالموت عنده أفضل بكثير من ضياع كرامته...
إنه أخطأ، ولم يعترف بخطئه، بل على العكس تذمر!! وهكذا صلى وقال "آه يا رب.." بل آه منك أنت يا يونان الذي لا تهتم سوى بنفسك وكرامتك! ماذا تريد أن تقول؟ يتابع يونان صلاته فبقول "آه يا رب، أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضى؟! لذلك بادرت بالهرب إلى ترشيش،لآني علمت أنك اله رءوف ورحيم بطيْالغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر" (يون 4: 2).
وماذا يضيرك يا يونان في أن يكون الله رحيما؟! ثق أنه لولا رحمته لهلكت أنت أيضًا.. إن رحمته قد شملت الكل. كما شملت أهل نينوى التائبين المتذللين أمامه كذلك قد شملتك أنت أيضًا الذي لم تتب بعد، ولم تتذلل، وحتى صلاتك فيها تبرير ذات، وفيها شكوى، وفيها تذمر..
ويصرخ يونان في تذمره "فالآن يا رب خذ نفسي مني، لأن موتي خيرٌ من حياتي"!!
هل إلى هذا الحد وصل غيظك من سقوط كلمتك يا يونان، لدرجة أنك ترى الموت خيرًا من حياتك؟! قبل كل شيء، ينبغي أن تعلم أنها كلمة الله وليست كلمتك. انك مجرد مبلغ رسالة، وصاحب الرسالة هو الله ذاته. فأن كان الله في كل علوه وسموه وسلطانه، قد قبل هذا الوضع، فلماذا لا تقبله أنت، وأنت مجرد تراب ورماد...
ثم من قال أن كلمة الله التي قمت بتبليغها قد سقطت أو تغيرت أو نزلت إلى الأرض؟! أن الله أصدر حكم الهلاك والانقلاب على نينوى الخاطئة، وليس على نينوى التائبة.
كانت نينوى الخاطئة تستحق الموت حسب عدل الله، لآن "أجرة الخطية هي موت". ولكن نينوى الخاطئة ليس لها وجود الآن، حتى يعاقبها الله بالانقلاب....أنها قد انقلبت فعلا عندما تحولت إلى هذا الوضع الجديد. ونينوى الجديدة لا علاقة لها إطلاقا بنيوي الخاطئة، التي ماتت فعلا واختفت صورتها عن أعين الناس. نينوى الجديدة هي مخلوق جديد قد ولد من الروح القدس، مخلوق طاهر نقي، بطبيعة جديدة وروح جديدة، وصفات جديدة. وليس من العدل أن يحكم على هذا المخلوق الجديد بالموت. أذن فإنقاذ الله لنينوى عمل من أعمال عدل الله، وليسفقط من أعمال رحمته..
لو كانت نينوى قد استمرت في خطيئتها وشرها، وأبقاها الله على هذه الحالة ولم ينفذ فيها حكمه، لأمكن القول أن كلمة التهديد قد سقطت ولم تنفذ.
على أن يونان لم يفهم هذا المنطق، وأهتم بحرفية الحكم لا بروحه! لذلك اغتاظ، ولم يكن له حق في غيظه.
ومن الأمور التي تدعو إلى الدهشة، أن يونانبعد صلاته التي عاتب فيها الرب وتذمر مما حدثكان ما يزال يراوده أمل في أن يعود الله فيهلك المدينة، إكرامًا لنبيه وإرضاء لهذا القلب المغتاظ!!. وهكذا يقول الكتاب أن يونان صنع له مظلة خارج المدينة وجلس تحتها " حتى يرى ماذا يحدث في المدينة"!! (يون 4: 5).
رأى الله آن يونان مغتم ومغتاظ، فأراد أن يعمل معه عمل محبة. بينما كان يونان يفكر في ذاته، كان الله يفكر في خلاص الناس. الله لم يفكر في كرامته، كيونان. لم يفكر كيف أن يونان عصاه وخالفه وتذمر على أحكامه، وإنما فكر كيف يريح يونان ويخلصه من غمه. عجيبة هي محبة الله هذه...
كان لله عمل كبير مع يونان لا بُد أن يعمله...
يسعى لخلاصه هو أيضًا، لئلا بعد ما كرز لآخرين، يكون هو نفسه مرفوضًا أمام الله (كو 9: 27).. كان هذا الذي كرز للناس بالتوبة يحتاج هو أيضًا إلى توبة، يحتاج أن يتخلص من قسوته ومن كبريائه ومن اعتزازه بكرامته. وكدأب الله دائما، بدأ هو بعمل مصالحة، فلما رأى يونان مغتما، أعد يقطينة ارتفعت فوق رأس يونان "لتكون ظلًا على رأسه، لكي يخلصه من غمه" (يون 4: 6).
ما أكثر ما تتعب يا رب من أجلنا! من أجل راحتنا، ومن أجل إصلاحنا، ومن أجل مصالحتنا. كنا نظن انك استرحت منذ اليوم السابع، ولكنك ما تزال تعمل من أجلنا، استرحت من خلق العالم. أما من جهة رعايته فما تزال تعمل.
أنت تريد أن تريح يونان من غمه؟! ولكنه هو الذي يجلب لنفسه الغم بأسلوبه الخاطئ، نعم، الأمر كذلك، ولكنى أريد أن أريحه من الأمرين معًا، من غمه ومن أسلوبه الخاطئ.. إنه ابني على أي حال....
سأخرج القساوةمن قلبه بأعمال الرحمة التي اعملها معه، لكي يرى ويتعلم. وكما أشفقت على نينوى، أنا أشفق عليه أيضًا، لان الشفقة هي طبيعتي. لقد أشفقت عليه عندما القي في البحر، وأشفقت عليه وهو في جوف الحوت، وأشفقت عليه في كل أخطائه وأحاسيسه. والآن أشفق عليه في غمه. لقد أعددت له اليقطينة لتظلل عليه، لآني أعرف أنه سيفرح بها جدا. وأنا أبحث عن فرحه، مهما تذمر على أحكامي، ومهما أغتاظ من عملي..
وكان كما شاء الله "وفرح يونان من أجل اليقطينة فرحًا عظيمًا" (يون 4: 6). صدقوني أنني عندما قرأت من الفرح العظيم الذي فرحه، يونان باليقطينة انذهلتجدًا... أنها ولا شك عبارة مخجلة..
هل تفرح يا يونان فرحًا عظيمًا من أجل اليقطينة التي ظللت عليك، ولا تفرح ولو قليلًا، بل تغتاظ من أجل رحمة الله التي ظَلَّلَت على 120 ألف نسمة؟! ألم يكن الأجدر أن تفرح هذا الفرح العظيم من أجل خلاص نينوى؟!
ولكنك فرحت باليقطينة، لأنك تفكر في راحتك الشخصية، في ذاتك، وليس في ملكوت الله على الأرض..! والله رأى في أن يفرحك بهذا الأسلوب الذي تفرح به. لكي يريك أنه مهتم بك، وأنه لا يعاملك حسب أعمالك، بل حسب وفر حنانه.. ينزل الله إلى مستواك المادي، لكي يرفعك إلى المستوى الروحي اللائق بنبي.. انه يعاملك بهذه الشفقة وأنت خاطئ، لكي يغرس في قلبك الشفقة نحو الخطاة. وهكذا يعالج قسوتك على أهل نينوى وعدم رحمتك نحوهم.
واليقطينة التي أعدها الله ليونان، كانت تحمل هدفين:
الأول هو إظهار الشفقة نحو يونان إذ تظلل عليه، والهدف الثاني أن يتعلم من قصتها درسًا روحيًا نافعًا لحياته. بنمو اليقطينة يعمل الله عمل رحمة نحو يونان، وبهلاك اليقطينة في يبسها، يعمل الله عمل تعليم وإرشاد ليونان، لكي ما تستفيد ماديًا ونفسيًا وروحيًا.
داخل نينوى كان يعمل مع الله في نشر ملكوته بالكرازة، وخارج نينوى كان الله يعمل لآجل يونان لتخليص نفسه، ولتخليصه من غمه..
واستمر الله يعمل، في هدوء وصمت، دون أن يحس يونان بعمله. عندما فرح يونان باليقطينة، فرح بظلها،ولكنه لم يفرح بدرسها، إذ لم يكن قد تلقاه بعد. فرح باليقطينة، ولم يفرح بالله الذي كان يعمل وراء اليقطينة من أجله.
وإذ بدأت خطة الله تأتي بثمرها، ضرب اليقطينة فيبست، أعد لها دودة فضربتها. وانتهى الدور الذي قامت به اليقطينة وبقى أن يتخذها الله مادة للتعليم!
ضاعت اليقطينة، وضاع الظل، وضربت الشمس على رأس يونان فذبل، واشتهى لنفسه الموت. كل ذلك كان بتدبير من الله، لكي يعطى يونان درسا نافعا لخلاص نفسه.
حقا أن الله يدبر كل شيء للخير. الظل للخير، وضربة الشمس للخير أيضًا.
يمكن أن يذبل الجسد، ويكون هذا خيرا، لكي تنتعش الروح. ويمكن أن يتضايق يونان وتتعب نفسه ويشتهى الموت، وتكون ضيقته وتعبه جزءًا من الخطة الإلهية صالحا لتخليص روحه وتنقية قلبه...
ان الله يريد لنا الخلاص، وهو مستعد أن يستخدم كافة السبل النافعة لخلاصنا، حتى لو كانت تحمل أحيانًا تعبًا للجسد، أو تعبًا للنفس.
وفى خلال كل هذه التدابير الروحية كان يونان غارقًا في تفكيره المادي. يفرح من أجل اليقطينة، ويحزن من أجل ضياعها، دون أن يفكر في خلاص نفسه، ودون أن يهتم بالمصالحة مع الله..
وإذ ذبل يونان من ضربة الشمس، "طلب لنفسه الموت وقال موتى خير من حياتي" (4: 8). وكانت هذه هي المرة الثانية التي يطلب فيها الموت لنفسه: الأولى عندما تضايق من أجل كرامته وسقوط كلمته، والثانية عندما تضايق بسبب ضربة الشمس وسقوط اليقطينة. الأولى لسبب جسدي، دون أن يكون للروح شأن بالموضوع...
كثيرون اشتهوا الموت لأسباب روحية مقدسة، أما يونان فطلب الموت لأسباب تافهة تحمل معنى التذمر وعدم الاحتمال.
بولس الرسول لم يخطئ عندما قال "لي اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح، فذاك أفضل جدا" (في1:23). وسمعان الشيخ لم يخطئ عندما قال "الآن يا رب تطلق عبدك بسلام لآن عيني قد أبصرتا خلاصك" (لو 2: 29).
أما يونان فقد أخطأ عندما قال لله "الآن خذ نفسي لآن موتي خير من حياتي".
قالها عن تذمر، في وقت لم يكن فيه مستعدا للموت. ولو سمع الله صلاته في ذلك الوقت واخذ نفسه منه، لضاع يونان. أليس رحمة من الله بنا، انه لا يستمع أحيانا لصلواتنا في جهالة طلباتنا التي تضرنا. وصدق الرسول حينما قال "تطلبون ولستم تأخذون، لأنكم تطلبون رديًا" (يع4: 3).
وإذ وصل يونان إلى طلب الموت، بدأ الله يتفاهم معه، فقال له "هل اغتظت بالصواب؟" هل اغتظت بسبب حكمة الله ورحمته؟ وأجاب يونان: "نعم اغتظت بالصواب حتى الموت"! أتضيع كلمتي وكرامتي، ثم تحرمني من ظل يقطينتي ولا تنتظر مني بعد ذلك أن أغتاظ. نعم اغتظت "بهذا الذي تسميه صوابًا" حتى الموت...
ومع أن هذا الأسلوب من يونان لم يكن لطيفًا من الناحية الروحية، آلا انه على أية الحالات يدل على صراحته مع الله وكشفه لدواخله كما هي..
وبأ الله يتفاهم معه ويقنعه. قال له الرب " أنت أشفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، التي بنت ليله كانت وبنت ليله هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس.."؟!
أما من جهة كلمتك التي تظن أنها سقطت، أو بالأحرى كلمتي، فاعلم أنها لم تسقط، وأنا لم أتغير. فالله ليس عنده تغيير ولا ظل دوران (يع 1: 17).
إنني لم اقصد إهلاك أهل نينوى، وإنما إهلاك الشر الذي فيهم. لقد حكمت عليهم بالهلاك عندما كانوا ممتزجين بالشر، بحيث صاروا هم والشر شيئًا واحدًا أما وقد انفصلوا عن الشر، فلا معنى بهلاكهم، لأنه ليس فيهم الآن شر يستحق الهلاك. لقد انضموا إلى صفي، وصاروا ضد الشر معي.